إسلام ويب

شرح الفتوى الحموية [6]للشيخ : عبد الرحيم السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ظهرت المذاهب الضالة والمنحرفة بسبب تبني كثير من أبناء المسلمين لعلم الكلام والفلسفة اليونانية وعلم المنطق، وأصبح لدى كثير من المفوضة فكرة أنَّ طريقة الخلف أعلم وأحكم، وهذا قول باطل، وقد عرف كثير من المتكلمين الحق ورجعوا إليه، لما في علم الكلام من شكوك وضلال وحيرة.

    1.   

    علم الكلام

    تعريف علم الكلام

    انتهينا في الدرس الماضي من موضوع بطلان مذهب أهل التفويض، وقلنا: إن مذهب أهل التفويض مبني على أن ظواهر النصوص الشرعية من الكتاب والسنة ليست مقصودة، وإنها ليست على ظاهرها، وإن ظاهرها غير مراد، ومبني أيضاً على أنها ليست لها معانٍ مفهومة يمكن أن يفهم الإنسان لها معانٍ توضحها وتبين حقيقتها.

    وأيضاً تحدثنا عن إبطال المقالة المشهورة وهي المقالة التي جاء بها أهل الكلام من المتأخرين، وهي قولهم: إن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وقرأنا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وبينا الرد على هذه الفرقة وعلى هذه الطائفة، وفي أثناء رد شيخ الإسلام رحمه الله تعالى على هذه الطائفة نبه إلى أن هؤلاء الخلف هم أهل الكلام الذي ذمه السلف الصالح رضوان الله عليهم، والذي فيه المقالات الباطلة المشهورة، والذي رجع كثير من أصحابه عن أقوالهم وعن عقائدهم، ومن هنا كانت هذه نقطة مهمة تحتاج إلى وقفة وتحتاج إلى تأمل، ولهذا اعتبرناها وحدة موضوعية مستقلة، وقد سبق أن قسمنا الكتاب إلى مجموعة من الوحدات الموضوعية، فمنها ضلال المتكلمين وحيرتهم وشكهم واضطرابهم.

    وأول ما ينبغي أن نبدأ به هو تعريف علم الكلام فنقول:

    علم الكلام: هو علم يبحث في أصول الدين بالطرق العقلية والجدلية، ويزعم أصحابه أنهم يصلون إلى اليقين من خلاله.

    والذين عَرَّفوا علم الكلام هم أصحابه؛ ولهذا مدحوه، فتجد أن الإيجي يعرف علم الكلام: بأنه علمٌ يبحث في أصول الدين بالدلائل اليقينية، ويعرفه غيره بقريب من هذا التعريف، كـالتفتازاني مثلاً في شرح العقائد النسفية، وأيضاً في شرح المقاصد، وغيرهم يعرفونه ويمدحونه ويثنون عليه.

    وهم في تعريفهم له على منهجين، منهج يصور علم الكلام بأنه علم العقائد وعلم أصول الدين وعلم التوحيد، ومنهج آخر يصور علم الكلام بأنه علمٌ للدفاع عن قضايا العقيدة بالمنهج العقلي.

    نشأة علم الكلام

    أما نشأة علم الكلام فإن أصحاب علم الكلام يقولون: إنه نشأ من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الآيات القرآنية، وإنه تطور بعد ترجمة الكتب اليونانية. هكذا يصورونه!

    والحقيقة أن علم الكلام علمٌ نشأ بسبب العلاقة التي حصلت بين أبناء البلدان المفتوحة من أصحاب الديانات المختلفة وبين بعض المسلمين، عندما انتشرت الفتوحات الإسلامية، ودخل الفرس والهند في دين الله، ودخلت ممالك كبيرة في دين الله عز وجل، كانت هذه الأماكن لها أديان وتصورات وأفكار ومناهج وعقائد، فبقي بعضهم على ما هم عليه، وآمن بعضهم بهذا الدين الحق والتزمه بصدق وعقيدة، وبعضهم أظهر الالتزام بالإسلام نفاقاً.

    فظهرت طائفة من المسلمين تناقش الطوائف والأديان والعقائد والفلسفات المختلفة التي واجهها المسلمون، فظهر من ناقش السومنية وهم طائفة من الهنود، وظهر من ناقش الزرادشتية مثلاً، وظهر من ناقش فلاسفة اليونان، وغيرهم من أصحاب المذاهب والفلسفات المختلفة، الذين ظهروا لمناقشة هؤلاء، وليس هم أهل الحديث وأهل العلم الأئمة الكبار الذين كان لهم قدم صدق في الأمة، وكانت الأمة ملتفة حولهم، وإنما هم مجموعات بسيطة من الذين يهوون العقليات، وتأثروا بالجلوس مع أبناء البلدان المفتوحة، ولم يكونوا من أهل العلم.

    وبرز منهم أشخاص اشتهروا اشتهاراً كبيراً مثل الجعد بن درهم ، وكان ذلك في أوائل المائة الثانية تقريباً وفي أواخر الدولة الأموية، فـالجعد بن درهم هو شيخ مروان بن محمد الأموي آخر ملوك الدولة الأموية، وأنتم تعلمون أن الدولة الأموية سقطت في سنة مائة واثنين وثلاثين.

    و الجعد بن درهم أظهر القول بخلق القرآن وأظهر إنكار الرؤية، وأظهر أن الله عز وجل ليست له الصفات المثبتة، وأيضاً أظهر عقائد متعددة أخذها عنه مجموعات أيضاً، لكن أشهرهم الجهم بن صفوان ، واشتهر الجهم بن صفوان بعد ذلك، وانتسبت له الطائفة المشهورة بالجهمية، وساعد على الأمر ترجمة الكتب اليونانية في زمن الدولة العباسية قبل زمن المأمون ، وساعدها بشكل كبير المأمون ، وكان المأمون رجلاً ذكياً متكلماً، فقد كان المأمون من أهل الكلام الذين يعرفون المنطق ويعرفون الفلسفة اليونانية بشكل دقيق، فظهرت كما قلت هذه المجموعات وهذه الطوائف التي انتحت منحىً عقلياً في دراسة أصول الدين بعيداً عن النصوص الشرعية تأثراً بالفلسفات المختلفة، ويحتجون على ذلك كما ذكر التفتازاني أن المخاصم والمعاند لا يقر بالأحكام الشرعية ولا يقر بالنصوص الشرعية، فأنت إذا أردت أن تتكلم مع الخصم وقلت له: قال الله تعالى، لا يقر لك بأن قول الله عز وجل يقيني وأنه حجة في ذاته، ولهذا فنحن بحاجة -كما يقولون- إلى أن نخترع وأن نبتكر دلائل عقلية لإقناع الخصوم.

    وإلى هذا الحد ليست هناك مشكلة، ولكنَّ المشكلة جاءت من عدة أمور:

    الأمر الأول: أنهم ليسوا من أهل العلم بالشريعة، ولهذا اخترعوا أدلة تناقض الأحكام الشرعية.

    الأمر الثاني: أن هؤلاء اخترعوا أدلة عقلية وجعلوها أصولاً اعتقادية، وجعلوها ملزمة، وكل النصوص الشرعية المخالفة لهذه الأصول العقلية كما يسمونها، والتي هي في حقيقتها شبهات أولوه أو حرفوه أو ردوه بأي وسيلة من الوسائل.

    ومن هنا ظهرت هذه الطائفة مخالفة لمنهج عامة الأمة، التي كانت تعظم الكتاب وتعظم السنة، وإذا وجدت ملحداً - وعدد الملحدين قليل جداً في تاريخ الأمة المسلمة - يناقشه أهل العلم بما يقنعه، وبما يؤثر فيه، وبما يصلحه، خصوصاً أن القرآن والسنة امتلأت بالأدلة العقلية المقنعة للمنكر والمعاند، ولا يشترط أن يقول: قال الله تعالى كذا؛ لكن يمكن أن يستنبط من الآيات ومن الأحاديث النبوية أدلة عقلية يمكن أن يقنع بها أي خصم من الخصوم، لكن هؤلاء لم يكونوا من أهل العلم ولم يشتغلوا به ولم يدرسوه؛ ولهذا اخترعوا أدلة معقدة بشكل غريب.

    وقد تأثروا في أدلتهم هذه بأدلة الفلسفة اليونانية أو الهندية أو غيرها، فإن اليونان أمة وثنية ما كانت تدين لله عز وجل، وظهر فيها حكماء وأذكياء، أرادوا أن يستدلوا على الأمور الغيبية ويسمونها الميتافيزيقيا، وليس عندهم أداة من أدوات كشف الغيبيات إلا العقل، وأرادوا أن يستدلوا بالمحسوس على الغائب، ويسمونه الاستدلال بالشاهد على الغائب، فأرادوا الاستدلال بهذه الطريقة فوقعوا في أمور كثيرة تعثروا فيها، وإذا كانت هناك إصابة خفيفة جداً، فهي ليس لها أي قيمة أمام الأخطاء الفادحة الكبيرة التي أخطئوا فيها، في مسائل الألوهية، وفي مسألة النبوة، وفي مسألة اليوم الآخر، وغيرها من المسائل العقدية المهمة التي تصح بها عقيدة العبد أو تفسد، ولهذا عندما نأتي للحديث عن الأصول العقلية التي نفى أهل الكلام من أجلها الصفات، سنجد أنهم تأثروا تأثراً كبيراً بأدلة الفلاسفة وغيرهم من الأمم الأخرى.

    إذاً: هذه الطائفة الجديدة التي سميت بأهل الكلام، هم كما قلت لكم طائفة ليست من أهل العلم بالحديث ولم يطلبوا الحديث ولم يشتغلوا به، وإنما هم أشخاص تناقشوا مع أصحاب الأديان والملل الأخرى من أبناء البلاد المفتوحة، فتأثروا أثناء المناقشات بأسلوبهم العقلي الجدلي، وأرادوا أن يخترعوا أدلةً لأصول الإسلام تثبت أن هذا الإسلام صحيح وأنه حق، فاخترعوا أدلة فوقعوا في كثير من المخالفات للنصوص الشرعية، فأولوا وحرفوا النصوص الشرعية حتى تسلم لهم الأدلة التي استدلوا بها، وتطور الأمر فيما بعد، فأصبحت هذه الأدلة عندهم ملزمة لعامة المسلمين، كما سيأتي معنا في الكلام عن النظر العقلي عندهم لإثبات وجود الله عز وجل.

    تعريف ابن تيمية الدقيق الصحيح لطائفة المتكلمين

    هذا بالنسبة لهذه الطائفة الجديدة التي هي طائفة أهل الكلام أو من يسمى بالمتكلمين، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعريفاً دقيقاً صحيحاً للمتكلمين فقال: المتكلمون: مصطلح عرفي لكل من تكلم في الدين بغير طريق المرسلين].

    قوله: (مصطلح عرفي) يعني أنه لغوي لا شرعي، وإنما هو عرفي تعارف عليه أصحاب هذه الأفكار وغيرهم، على أن هذه الطائفة التي لها هذه السمات ولها هذه الطبيعة يسمون بالمتكلمين، وهم الذين يتكلمون في قضايا الدين بغير طريق المرسلين، ويمكن أن نضيف إليها: بالأسلوب الجدلي العقلي.

    أسباب تسمية أهل الكلام بالمتكلمين

    لماذا سمي أهل الكلام بالمتكلمين؟

    ذكروا أسباباً كثيرة جداً تصل إلى عشرة أسباب تقريباً، منها: أنهم يقولون: لما أرادوا تصنيف الكتب بدءوها بقولهم: فصل الكلام في الصفات، فصل الكلام في القدر، فصل الكلام في كذا، وهذا قول.

    والقول الثاني: أن أول مسألة أثارها هؤلاء هي مسألة كلام الله عز وجل، وهل هو مخلوق أو ليس بمخلوق؟ وهذا القول رد عليه ابن تيمية رحمه الله وقال: إن هناك أشخاصاً ينسبون إلى الكلام مع أنهم ظهروا قبل أن تظهر قضية كلام الله عز وجل، والقول بخلق القرآن.

    القول الثالث: أنهم يتكلمون كلاماً جدلياً ليس فيه شيء عملي، فقيل: هؤلاء من المتكلمين، بمعنى: أن كلامهم كلامٌ نظري.

    وقيل: إن المتكلمين سموا بهذا الاسم لأن الكلام الذي يذكرونه كلام مفيد، وهذا يذكره أصحاب هذا الشأن حتى يمدحوا مذهبهم، فيقولون: إنه علم الكلام سمي بهذا الاسم لأنه كلام دقيق، كأنك تقول: هذا هو الكلام المقبول.

    وذكروا عدة أسباب أخرى يمكن مراجعة هذه الأسباب جميعاً في كتاب شرح العقائد النسفية للتفتازاني فقد ذكرها كاملة.

    والحقيقة أنه ليس هناك سبب واحد مباشر تستطيع أن تقول هو السبب الأساسي في التسمية، لكن تعارفوا على أن هؤلاء اشتغلوا بالكلام في القضايا العقدية، وأنه لما اشتغلوا بذلك وردد على الأفواه كثيراً، على هذه الطائفة التي سبق أن أشرنا إليها.

    طوائف علم الكلام

    إنَّ أهل الكلام ليسوا طائفة واحدة، وليسوا متفقين اتفاقاً تاماً في العقائد، فمن أهل الكلام المعتزلة، ومن أهل الكلام الأشاعرة، ومن أهل الكلام الماتريدية، ومن أهل الكلام السالمية، ومن أهل الكلام الجبرية، ومنهم القدرية، والقدرية تعود إلى المعتزلة.

    والحقيقة أن كثيراً من هذه الأسماء يتداخل بعضها مع بعض، يعني: أول ما نشأت الفرق سميت بأسماء، إما بأسماء من أظهر البدعة مثل الجهمية، أو بأسماء الموضوع الذي ناقشوا فيه مثل القدرية، أو بصفة من الصفات مثل المعتزلة؛ لأنهم اعتزلوا مجلس الحسن البصري ، اعتزله واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد .

    المهم أن هذه الأسماء لا ينبغي أن تشغل بال الباحث؛ لأنها لأوصاف متعددة، أحياناً قد تكون طائفة واحدة ويمكن أن توصف بأكثر من وصف، خذوا على سبيل المثال المعتزلة، يمكن أن نسميهم المعتزلة، ويمكن أن نسميهم القدرية، ويمكن أن نسميهم المعطلة، لأنهم يعطلون الصفات، وهذه الأسماء هي التي يرددها أهل السنة كثيراً، ويمكن أن يسموا مثلاً بمتأخري الشيعة، فالشيعة المتأخرون معتزلة تماماً، وممكن أن يسموا بالأباضية والخوارج؛ لأن المتأخرين من الأباضية والخوارج معتزلة تماماً، فتجدون أكثر من اسم مع أن المسمى واحد، وممكن أن يسموا متكلمين؛ لأن هذه الأوصاف مجتمعة فيهم، فينبغي أن لا تشغل الإنسان كثرة هذه الأسماء، فإنها يرجع بعضها إلى بعض.

    مصنفات علم الكلام

    هناك مصنفات كثيرة جداً صنفت باسم هذا العلم (علم الكلام)، فهناك مصنفات للمعتزلة، فمن أشهر المصنفات: رسائل العدل والتوحيد، وهي مجموعة رسائل جمعها الدكتور محمد عمارة ، وهو من العصريين، وأيضاً هناك كتاب اسمه: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني ، وهو من كتب المعتزلة التي يرجع العامة إليها، ومنها: المغني في أبواب العدل والتوحيد وهو كتاب كبير جداً يصل إلى العشرين مجلداً تقريباً للقاضي عبد الجبار الهمداني أيضاً.

    ومن كتب المعتزلة أيضاً كتب الشيعة المتأخرين، فكتاب التوحيد لـابن بابويه القمي يعتبر من كتب المعتزلة.

    ومن كتب علم الكلام أيضاً كتب الأشاعرة، مثل كتاب المواقف في علم الكلام لـعضد الدين الإيجي ، ومنها كتاب نهاية الإقدام في علم الكلام لـأبي الفتح الشهرستاني ، ومن هذه الكتب أيضاً كتاب العقائد النسفية وما دار حوله من شروح وحواشٍ، مثل شرح التفتازاني عليه، وهناك حواش كثيرة ومتعددة على شرح التفتازاني لعلماء الأحناف، ومنها كتاب الإنصاف للقاضي أبي بكر الباقلاني ، ومنها كتاب التمهيد لعلم التوحيد له، ومنها أيضاً كتب الجويني مثل الشامل في أصول الدين، ومثل كتاب الإرشاد، ومنها كتاب الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ، والمقدمة التي طبعت مع إحياء علوم الدين في البداية هي كلها من كتب هؤلاء المتكلمين.

    وهناك كتب منهجية تدرس مثل شرح الموقف الخامس تقريباً من مواقف الإيجي في الإلهيات، فالشرح للجرجاني والمواقف للإيجي كما سبق، وحققها الدكتور أحمد المهدي ، وهو كتاب يدرس لطلاب أصول الدين في مصر، وأيضاً كتاب كبرى اليقينيات الكونية للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ، وهو من كتب علم الكلام والأشاعرة المتأخرين، وأيضاً كتاب الله جل جلاله لـسعيد حواء وهو من كتب أهل الكلام المتأخرين أيضاً، وكتاب أركان الإيمان لـوهبي غاووجي الألباني ، وهو من كتب أهل الكلام المتأخرين، وهناك كتب متعددة ألفت على شكل مناهج مدرسية للطلاب، وأيضاً هي من كتب علم الكلام.

    ذم السلف الصالح لعلم الكلام

    إن هذا العلم علم مذموم ذمه السلف رضوان الله عليهم، والسبب في ذم السلف الصالح رضوان الله عليهم لهذا العلم، ليس هو كون هذا العلم جاء باصطلاحات جديدة ليست معروفة، مثل اصطلاح الأعراض والجواهر، والجوهر الفرد، وغيرها من المصطلحات الحادثة الجديدة، وليس هذا هو السبب، وإنما السبب هو أن هذه المصطلحات تتضمن عقائد بدعية؛ ولأن المسائل التي ذكرها أهل الكلام هي مسائل مخالفة لنصوص الوحيين، ولأن الأدلة التي استدلوا بها هي أدلة مبتدعة، وليس قولنا: أدلة مبتدعة يعني أنها أدلة مخترعة، فإنه أحياناً قد يكون الدليل مخترعاً لكن يكون صحيحاً، لكن هذه أدلة مخترعة وباطلة في نفس الوقت، مثل دليل حدوث الأجسام، وغيره من الأدلة التي استدلوا بها، وهي أدلة باطلة تتضمن عقائد باطلة.

    إذاً: السلف رضوان الله عليهم لم يذموا علم الكلام لأنه علم جاء بمصطلحات جديدة، وإنما ذموه لأنه يتضمن عقائد باطلة ومخالفة للحق ولهذا ذموه، وكذلك عندما ذموا التصوف هم لم يذمو لأن فيه عبارات وإشارات غير معروفة لم يستعملها الصحابة، وإنما ذموه لأن هذه العبارات وهذه الإشارات تتضمن عقائد معنوية، وهذه العقائد المعنوية عندما نزنها بالكتاب والسنة نجد أنها إما في قاموس البدعة، وإما أن توضع في الشرك.

    نقل ما ذكر عن السلف الصالح في ذم أهل الكلام

    وبناءً على هذا فإن السلف رضوان الله عليهم أجمعوا على ذم علم الكلام.

    ويمكن أن أنقل كلام الحافظ أبي عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى في كتابه جامع بيان العلم وفضله، يقول أبو عمر : أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ ولا يعدون عند الجميع في طبقات الفقهاء، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والفهم. انتهى كلامه.

    ونقل أيضاً إجماع السلف الصالح على ذم علم الكلام الغزالي في إحياء علوم الدين، مع أنه من أهل الكلام، إلا أنه نقل إجماعهم على ذمه لأنه كان في مرحلة التصوف.

    و الغزالي كما تعلمون له مراحل، فقد كان رجلاً ذكياً فاشتغل في العقليات حتى وصل إلى درجة الفلسفة، ثم ترك ذلك واتجه إلى علم الكلام، ثم ترك ذلك واتجه إلى التصوف، ثم في آخر أمره رجع إلى السنة كما قال شيخ الإسلام رحمه الله أنه توفي وصحيح البخاري على صدره رحمه الله، لكنه لم يؤلف شيئاً بعد أن رجع إلى السنة، وكتابه إلجام العوام عن علم الكلام ألفه في مرحلته الصوفية؛ لأنه رأى أن أدلة علماء الكلام لا توصل إلى اليقين، وأن الذي يوصل إلى اليقين هو تجريد النفس لله عز وجل والتعلق بالله عز وجل، عن طريق الأذكار التي اخترعها ويخترعها الصوفية، وملأ بها كتابه الإحياء، لكنه نقل إجماع السلف على ذم علم الكلام.

    ويمكن أن ننقل ذم الأئمة الأربعة لعلم الكلام، وهذا كافٍ في حد ذاته؛ لأن عامة المتأخرين ينتسبون إلى واحد من هؤلاء الأئمة، إما يكون حنفياً أو يكون مالكياً أو يكون شافعياً أو يكون حنبلياً، فالمتأخرون أكثرهم ينتسبون إلى الأئمة في الفقهيات ويخالفونهم في العقائد.

    فمن أقوال الأئمة قول لـأبي حنيفة رحمه الله، خصوصاً أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله كان متخصصاً في علم الكلام وعرفه، وكان يوماً من الأيام يقول بخلق القرآن ثم رجع عنه وتاب رحمه الله تعالى، سئل الإمام أبو حنيفة : ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟ - هذه مصطلحات عند أهل الكلام وهي متعلقة بدليل الحدوث، وهو أكبر دليل موجود عندهم، عطلوا من أجله الصفات - فقال: مقالات الفلاسفة؟! عليك بالأثر وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة فإنها بدعة!

    هذا قول الإمام أبي حنيفة ، ففيه رد على الماتريدية الذين ألفوا الكتب في علم الكلام، وهم ينتسبون إليه في الفقهيات والفروع.

    وأما الإمام مالك رحمه الله فروى عبد الرحمن بن مهدي قال: دخلت على مالك وعنده رجلٌ يسأله عن القرآن، فقال: لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد !

    و عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء هما أول المعتزلة الذين خرجوا عن منهج السلف عندما ناقشا الحسن البصري رحمه الله تعالى في مسألة الفاسق الملي وقالا: إنه في منزلة بين المنزلتين، ثم اعتقدوا عقائد الجهمية بعد ذلك في موضوع الصفات، قال مالك : لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد ، لعن الله عمراً فإنه ابتدع هذه البدعة من الكلام، ولو كان الكلام علماً لتكلم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشرائع، ولكنه باطل يدل على باطل.

    وهذا رواه أبو إسماعيل الهروي في كتابه ذم الكلام وأهله.

    وأما الشافعي فقد تواتر عنه ذم علم الكلام، منها مقولته المشهورة: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وذهب إلى علم الكلام.

    ويقول: لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه كما يُفَرُّ من الأسد.

    وهذا رواه أبو عمر بن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله.

    وأما الإمام أحمد فإنه مشهور في ثباته في موضوع خلق القرآن، والذين جاءوا بذكر خلق القرآن هم أهل الكلام، وعندما كان القاضي أحمد بن أبي دؤاد قريباً من المأمون أقنعه بفتنة الناس على خلق القرآن، فأخر المأمون قوله، يعني: أخر فتنة العلماء في قضية خلق القرآن إلى آخر عمره، مع أنه كان يعتقد هذا الاعتقاد من فترة مبكرة، والسبب في هذا أن شيخ الإمام أحمد وهو يزيد بن هارون رحمه الله تعالى كان إماماً محبباً إلى العامة، فقال المأمون يوماً لجلسائه: لولا منزلة يزيد بن هارون لأعلنت القول بخلق القرآن، وامتحنت الناس عليه، فقال له أحد جلسائه: ومن يزيد بن هارون حتى يمنع أمير المؤمنين من إعلان ما يريد؟ فقال: ويلك أخشى أن يعارضني، فتكون فتنة وأنا لا أحب الفتنة، فقال: دعني أجرب ذلك مع يزيد بن هارون !

    فذهب هذا الجليس إلى يزيد بن هارون فجاءه وقال له: إن أمير المؤمنين يريد أن يعلن القول بخلق القرآن، فقال له: إذا حضر الناس واجتمع الناس قل هذا إن كنت صادقاً، فجعل الناس حتى اجتمعوا وكان يحضر مجلسه ألوفٌ مؤلفة من أهل بغداد في تلك الفترة، فرفع صوته وقال: إن أمير المؤمنين يريد أن يعلن القول بخلق القرآن، فقال: كذبت إن أمير المؤمنين لا يريد ذلك؛ ثم بين خطورة القول بخلق القرآن، ثم قال: لأنه إن قال ذلك فستكون فتنة، وأمير المؤمنين لا يريد الفتنة، فرجع إلى المأمون ، فذكر له المأمون أن هذا من ذكاء يزيد بن هارون حيث استطاع أن يحمي الناس، فلم يستطع أن يعلن المأمون القول بخلق القرآن إلا بعد وفاة يزيد بن هارون ، فامتحن الناس على ذلك، وكان ذلك في آخر أيامه في سنة مائتين وثماني عشرة تقريباً.

    وأول من امتحنهم المأمون ستة من أهل العلم فأجابوا جميعاً، وكان فيهم يحيى بن معين وغيره من أئمة الحديث في تلك الفترة، إذْ خافوا فأجابوه، ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله عندما كان يتذكر هذا الموقف يحزن حزناً شديداً ويقول: لو أن هؤلاء ثبتوا لخافهم الرجل -ويقصد المأمون - يقول: لو أن هؤلاء ثبتوا ورفضوا القول بخلق القرآن وقالوا: إن هذا كفر ونحن لا نقول به فلم يتقوا ولم يتأولوا، لخافهم فتردد.

    ولهذا لما أجاب هؤلاء تجرأ على البقية، فنادى الإمام أحمد ونادى غيره من أهل العلم، وضرب الإمام أحمد أسواطاً كثيرة أثرت فيه حتى مات رحمه الله تعالى، ولعل الحديث عن محنة الإمام أحمد والقول بخلق القرآن تحتاج إلى مناقشة مفصلة؛ لأن فيها دروساً دعوية مفيدةً لنا جميعاً.

    الشاهد في هذا الأمر أن موقف الإمام أحمد واضح جداً، فإن أهل الكلام هم الذين جاءوا بهذه الفرقة الشنيعة وهذه الفتنة الكبيرة التي وقعت في الأمة، ومعروف موقف الإمام أحمد ، وقد رد عليهم في كتاب سماه الرد على الزنادقة والجهمية، ويقول الإمام أحمد رحمه الله: أهل الكلام زنادقة، ويقول: لا تجالسوا أهل الكلام وإن ذبوا عن السنة، يعني: وإن أظهروا الذب عن السنة.

    وكلام السلف رضوان الله عليهم في علم الكلام كثير جداً ويمكن أن يراجع كتاب ذم الكلام وأهله لـأبي إسماعيل الهروي ، وأيضاً كتاب صون المنطق والكلام عن علم المنطق والكلام للسيوطي ، وأيضاً يمكن أن يراجع كتاب تحريم النظر في كتب الكلام لـابن قدامة المقدسي رحمه الله، وكل هذه الكتب مطبوعة.

    السمات الظاهرة من خلال اشتغال المتكلمين بعلم الكلام

    هناك سمات وأمور ظهرت من خلال اشتغال هؤلاء بعلم الكلام، منها: التناقض، فتجد أنهم يتناقضون، أي: يقول القول ثم ينقضه في وقت آخر، وأضرب لكم مثالاً على هذا، فإنك تجد أن الأشاعرة ينفون الجهة ويقولون: الله عز وجل ليس في جهة، وإنما هو في كل مكان، ومع هذا يثبتون الرؤية ويقولون: الله عز وجل يُرى يوم القيامة، وهذا تناقض صريح.

    وأيضاً يقولون بأن العقل لا يعرف حسن الأشياء، ولا يعرف قبحها، وإنما يكون ذلك بالشرع، ومع هذا يجعلون العقل هو الأصل في العقائد، ويرون أن الشرع تابع له وليس أصلاً فيه.

    وأيضاً: الغلو في تعظيم العقل، ولهذا فإن الرازي ألَّف كتاباً سماه أساس التقديس، ذكر فيه قانوناً في رد النصوص الشرعية، وقال: إن الأصل في تلقي العقائد العقل، والشرع تابع له، فإذا افترضنا تعارض العقل والنقل، فإننا نقدم العقل على النقل ونرد النقل، أو نؤوله على سبيل التبرع كما يقول.

    ومن ذلك أيضاً عدم تعظيم النصوص الشرعية، ولهذا يروى عن عمرو بن عبيد وغيره من المعتزلة أنه قال عندما رأى قول الله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] قال: وددت أني حككتها من المصحف، يعني: قوله: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ لأن قوله: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ أكثر تأثيراً فيهم من قوله: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [إبراهيم:4] وهم يريدون: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لأن: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ فيه إثبات مباشر للصفات الذاتية، ولهذا تمنى أن يحكها، عليه من الله ما يستحق!

    ومن ذلك كثرة الشك والحيرة والاضطراب، وسننقل في ذلك نصوصاً ذكرها ابن تيمية رحمه الله في هذا الكتاب.

    ومن جهلهم بالسنة فإن كثيراً منهم لا يميز بين الآية والحديث، حتى إنك ربما تعترض عليه بآية فيقول: لا نسلم بصحة الحديث، يظن أنه حديث، فهم لا يفرقون لأنهم لا يشتغلون بذلك، ولهذا لو قلبت بعض كتبهم لا تجد الاستدلال فيها بالنصوص إلا قليلاً جداً، وأكثر هذه الكتب مبنية على قولهم: إن قالوا كذا فنقول كذا، ولنا كذا، فإن قالوا قلنا، وهكذا، هذه طريقتهم في مناقشة قضايا الاعتقاد.

    نكتفي بهذا التعريف العام لأهل الكلام وللمتكلمين، وبالمناسبة فإنَّ عامة كتب شيخ الإسلام رحمه الله في الرد على هؤلاء، ومنها هذا الكتاب، والصراع بين أهل السنة وأهل الكلام صراع طويل جداً، سواء في موضوع إثبات وجود الله، أو في موضوع أول واجب على المكلف، أو في موضوع التوحيد، أو في موضوع الأسماء والصفات، أو في موضوع الحكمة والتعليل، أو في موضوع الإيمان، فالخلاف بيننا وبينهم متعدد الجهات ومتعدد النواحي.

    1.   

    الحيرة والشك من صفات المتكلمين

    اعتراف الشهرستاني

    يقول المؤلف رحمه الله: [ثم هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة بل في غاية الضلالة].

    المقصود بالقول هو قولهم: إن منهج السلف أسلم ومنهج الخلف أعلم وأحكم.

    قال رحمه الله: [كيف يكون هؤلاء المتأخرون؟ لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضربٍ من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهايات إقدامهم بما انتهى إليه مرامهم حيث يقول:

    لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالمِ

    فلم أر إلا واضعاً كف حائرٍ على ذقنٍ أو قارعاً سـن نادمِ ]

    قائل هذا القول لم يذكره ابن تيمية رحمه الله صراحةً، لكن هو الشهرستاني ، فإنه ذكر هذا في بداية كتابه نهاية الإقدام من علم الكلام، وبعض العلماء ينسب هذا القول للشهرستاني ، وبعضهم ينسبه إلى غيره كما ذكر المحقق، وهو أنهما لـأبي بكر محمد بن باجة والله أعلم بالصواب، وهذه الأبيات رد عليها العلامة الصنعاني اليماني رحمه الله، فقال:

    لعلك أهملت الطواف بمعهد الر سول ومن والاه من كل عالمِ

    فما حار من يهدي بهدي محمد ولست تراه قارعاً سن نادمِ

    وواضح من خلال البيتين السابقين للشهرستاني أنه في حيرة، لأن علم الكلام علم يحير في الحقيقة، إذْ يأتون بأدلة عقلية، وأحياناً تتكافأ عندهم هذه الأدلة، ولهذا يروى عن بعضهم أنه التقى برجل فقال: هل أنت مرتاح لما تعتقد؟ - يعني: من قضايا وجود الله وإثبات الصفات له واليوم الآخر وغيرها - قال: نعم، فبكى، وقال: والله إنني لا أجد ذلك - يعني: في نفسه - لأن الأدلة العقلية خصوصاً إذا كانت من شخص غير مهيأ للاستدلال تتكافأ عنده.

    فهذا الآمدي مثلاً، والغزالي أيضاً يحارون في المسائل الكبار، إذْ يأتون إلى مسألة كبيرة جداً مثل موضوع إثبات وجود الله، فيرتبون المسائل بعضها على بعض، حتى يأتوا إلى نقطة يحتارون فيها، فإذا احتاروا فيها توقف الآمدي في إثبات وجود الله!

    فانظروا كيف يتورطون، فهو يرتب إثبات وجود الله على دليل الحدوث، ويرتب دليل الحدوث على تماثل الأجسام، ويرتب مسألة الأجسام على الجوهر الفرد، ثم يأتي إلى الجوهر الفرد ويجد فيه إشكالاً، فإذا وجد فيه إشكالاً توقف واحتار، لكنْ إذا احتار هل معنى هذا أن الأصل الكبير الذي هو وجود الله عز وجل لا يثبته؟ ولهذا يشعرون بالحيرة ويشعرون بالتعاسة والنكادة؛ بسبب هذه الطرق التي اشتغلوا بها.

    والحقيقة أن مرد هذه الأشياء، يعود إلى أمرين: عدم طلب العلم الشرعي من بداية الحياة - يعني: من بداية النشأة - والسبب الثاني: عدم تعظيم الله عز وجل، وعدم تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، بحيث إنه يهتدي بالكتاب ويهتدي بالسنة، ولهذا تجدون أن كل من يعتمد على نفسه في قضايا العقائد أو قضايا الأعمال يضل.

    وانظروا الآن إلى الحياة المعاصرة الموجودة، فالذين يعتمدون في تشريعاتهم على غير الله عز وجل، يأتون إلى قضية الإنسان ويقولون: كيف نحكم الإنسان؟ والمقصود جنس الإنسان، فيقولون: كيف يمكن إذا تخاصم اثنان أن نحل المشكلة بينهما، سواء في العقار أو في الميراث أو في التجارات أو في الديون أو في أي باب من الأبواب، فبدءوا يخترعون لأنفسهم قانوناً، وهو عبارة عن تشريعات جاهلية يأتون بها، ولهذا تجد أن بعضهم يجورُ على بعض، وبعضهم يظلم بعضاً، وتجد أن هذه التشريعات لا تحقق راحة الإنسان في الدنيا، مع أنها وضعت له في الدنيا، فالبلاء الذي وقع فيه أهل الكلام هو في موضوعات نظرية.

    وكذلك وقعوا في موضوعات عملية في محاولة إراحة الإنسان بأنه هو الذي يشكل القانون لنفسه، والإنسان كما تعلمون ظلوم جهول، لا يمكن أن يحل الأزمات التي تعترضه لضعف علمه ولرغبته في البغي، وتسلط الناس بعضهم على بعضهم، ولهذا لا يمكن أن يحل هذه الأزمة إلا التشريع الرباني من الله عز وجل، والعقائد الربانية من الله عز وجل، وحينئذٍ يسير الناس في وئام وفي راحة، دنيونية وانبساط قبل الراحة الأخروية والانبساط الأخروي.

    اعتراف الرازي

    قال رحمه الله: [وأقروا على نفوسهم بما قالوه، متمثلين به أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم، كقول بعض رؤسائهم].

    المقصود بهذا القائل: هو الفخر الرازي ، وهو إمام عظيم من أئمة الأشاعرة يعظمونه كثيراً، وذكر هذا في كتابه أقسام اللذات، ونقله ابن تيمية رحمه الله في درء التعارض في غيره.

    قال رحمه الله: [ نهاية إقدام العقول عِقَالُ وأكثر سعي العالمين ضلال].

    سبحان الله! تأملوا نهاية إقدام العقول، وعندما تريد أن تصل إلى عقائد صحيحة أو تشريعات صحيحة فنهايتها عقال، يعني: أنها مكبلة؛ لأنها محدودة وضيقة وصغيرة لا يمكن أن تسعى للكمال ولا يمكن أن تصل إليه.

    قال رحمه الله: [وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا وغاية دنيانا أذىً ووبال

    ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سِوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

    لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن.

    اقرأ في الإثبات: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10]، واقرأ في النفي: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي].

    قول الرازي هذا فيه عبرة لكل من سار على نهجه وطريقته، فإن الرازي اشتغل بدراسة المعقولات في حياته كلها، وأمضى حياته بأكملها في هذا الموضوع، وانظروا في آخر الأمر ماذا يقول!

    إذاً: كان الواجب على المشتغلين بعلم الكلام المتأخرين أن يعتبروا، فهذه الكلمات خلاصة لعمر كامل نهايته حيرة وشك وشعور بالضلال، وشعور بالوحشة وعدم الارتياح، ولهذا صدق عندما قال: (لقد تأملت الطرق الكلامية)، فـالرازي كان من الكبار، وله كتب كبيرة جداً في علم الكلام، منها كتاب الأربعين في أصول الدين، ومعالم في أصول الدين، وله أيضاً كتاب المطالب العالية في العلم الإلهي، وله مجموعة كثيرة من الكتب في قضايا الكلام.

    اعتراف إمام الحرمين الجويني

    قال المؤلف رحمه الله: [ويقول الآخر منهم: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمة منه فالويل لفلان، وهاأنذا أموت على عقيدة أمي].

    قائل هذا الكلام هو إمام الحرمين الجويني ، وتلاحظون أن ابن تيمية رحمه الله لا يصرح بأسمائهم، والسبب أن الجو الذي كان يعيشه ابن تيمية عندما كتب هذا الكتاب - وخصوصاً أن هذا الكتاب من بواكير كتب ابن تيمية - كان ملغماً بأهل الكلام بشكل كبير فلم يصرح بأسمائهم، ومع هذا أوذي وامتحن كما سبق أن أشرنا إليه في المقدمة.

    قول الغزالي

    قال المؤلف رحمه الله: [ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكاً عند الموت أصحاب الكلام].

    القائل هو الغزالي .

    استحالة أن يكون الخلف أعلم من السلف

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم هؤلاء المتكلمون المخالفون للسلف، إذا حقق عليهم الأمر، لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة به خبر، ولم يقفوا من ذلك على عين ولا أثر، كيف يكون هؤلاء المحجوبون المنقوصون المسبوقون الحيارى المتهوكون أعلم بالله وأسمائه وصفاته].

    المقصود بالمتهوك: الذي يتكلم بدون علم، وإنما يتكلم بالظن فقط.

    قال المؤلف رحمه الله: [كيف هؤلاء المحجوبون المنقوصون المسبوقون الحيارى المتهوكون أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكم في باب آياته وذاته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل، وأعلام الهدى ومصابيح الدجى، الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، فضلاً عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم، وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة، ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة - لا سيما العلم بالله وأحكام آياته وأسمائه - من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم؟ أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان، وورثة المجوس والمشركين وضلال اليهود والنصارى والصابئين وأشكالهم وأشباههم، أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان؟!].

    هذا الكلام سبق معناه، وسبق ما يدل على ما تضمنه من تعظيم السلف رضوان الله عليهم، عندما تحدثنا في النقطة الأولى وهي عصمة منهج السلف رضوان الله عليهم، وقلنا: إن أهل الكلام لا يعظمون السلف، بل إن بعضهم يحتقر علوم السلف، ويرى أنهم من السطحيين والنصيين الذين لم يشتغلوا بالعقليات، ولم يمحصوا فيها، وأن العقليات انفرد بها هؤلاء المتأخرون، وبعضهم يجعل السبب في كون السلف لم يشتغلوا بالعقليات أنهم كانوا يشتغلون بالجهاد في سبيل الله، فيقول: إنهم انشغلوا بالجهاد، ويرى أنهم كعوام الصالحين الذين يصلون في المسجد في الصف الأول ويعتنون بالعبادة.

    مع أن السلف أكثر حكمة وعلماً وإدراكاً وفهماً واستنباطاً وتحليلاً للقضايا ومناقشةً لها أكثر من هؤلاء بمراحل كثيرة متعددة، ولهذا فإن هؤلاء لم يأتوا بشيء جديد، إنما قرءوا تراث الأمم الأخرى، وناقشوه واحتاروا فيه، ثم رجع بعضهم إلى السنة مرة أخرى، أما أهل الإسلام وأهل العلم وأهل الحديث والصحابة والتابعون، فاستطاعوا أن يدلوا الأمة ويرشدوها في قضايا العقائد الكبرى إلى أوضح دليل وأصح منهج، ولم يتناقض منهجهم منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا، ولا يستطيع أحد أبداً أن يشير أو يذكر تناقضاً وقع فيه الصحابة أو التابعون أو من جاء بعدهم.

    حتى في مسائل الفقهيات ما يحصل من خلاف إلا وله ما يبرره، وله قواعده التي تنظمه وتضبطه، بينما هؤلاء ليس لديهم قواعد تضبطهم، وليس لديهم انضباط في النظر، ولهذا تجدهم يختصمون، فتجد بعضهم ينقض أصل قوله من أساسه وهو لا يشعر، فـالرازي مثلاً في كتابه الأربعين في أصول الدين ناقش مسألة أفعال الله الاختيارية، وعامة مذهب أهل الكلام هو نفي أفعال الله عز وجل وصفاته الاختيارية، ويقولون: إن السبب في ذلك هو أنه يلزم من إثبات أفعال الله الاختيارية حلول الحوادث بذاته.

    فـالرازي تكلم في كتابه الأربعين وقال: إن حلول الحوادث بذات الله لازم لكل طائفة، ثم ذكر المعتزلة وبين لزومهم له، وذكر الأشاعرة وبين لزومهم له، وذكر غيرهم من الطوائف، وهذا يدل على أنهم متناقضون، ولهذا عندما ذكر الرازي هذه المقالة أخذ ينسف أصلاً عظيماً جداً من أصولهم وهو دليل حدوث الأجسام الذي استدلوا به على وجود الله عز وجل، فإما أن تبطل الدليل، وإما أن ترجع عن هذا الكلام الذي ذكرته، وهو أن كل طائفة يلزمها حلول الحوادث بذات الله عز وجل.

    ولهذا تجد بعض هؤلاء يذكر المسائل ولا يذكر لها جواباً، يعني: لا يذكر فيها اختياراً، بل ينقل وينقل ثم يهمل الموضوع ويتركه، مع أنه موضوع حيوي وحساس يتعلق بقضايا العقائد وفي موضوع الله عز وجل ذاتاً ووجوداً وأسماءً وصفاتٍ وألوهيةً وعبوديةً.

    قول شيخ الإسلام رحمه الله: (أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس والمشركين وضلال اليهود والنصارى والصابئين وأشكالهم وأشباههم أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان)، هذا فيه إشارة مهمة إلى أن كثيراً من عقائد الفرق الضالة لها أصول من الأديان السماوية المحرفة، أو الأديان التي هي من أديان المشركين، كأديان الهند واليونان وغيرهم، سواء كان هذا التأثر في الأقوال والعقائد نفسها، أو كان في الطريقة التي اتبعوها، أو كان ذلك في التعامل مع الكتب المقدسة، فمثلاً نجد أنهم تأثروا بالمتفلسفة في الاعتماد على العقل واتخاذه مصدراً للتلقي، وتهوين النصوص الشرعية، وأيضاً اعتمدوا عليه في شبهة كبيرة من شبهاتهم في نفي الصفات، وهي شبهة التركيب، ولهذا يقول ابن تيمية : إن هذه الشبهة شبهةٌ فلسفية اعتزالية.

    وقوله: (ورثة المجوس والمشركين)، نلاحظ أن مذهب القدر مأخوذ من المجوس الذين كانوا ينكرون القدر، ويعتقدون أن المخلوقات مكونة من النور والظلمة، وأن للظلمة خلقاً وللنور خلقاً، فتعدد الخالق عندهم، وأثَّر ذلك في المعتزلة، وجعلهم يقولون بأن المخلوق يخلق فعل نفسه، ولهذا يقسم ابن تيمية رحمه الله القدرية إلى قسمين، قدرية مجوسية وقدرية شركية أو مشركية.

    والتشبيه من أكبر العقائد عند اليهود، وقد تأثر بها بعض المسلمين.

    ومنها أيضاً الجرأة على تحريف الكتاب المنزل، فتجد أن اليهود تجرءوا على تحريف الكتاب وكلام أنبيائهم، وكذلك المتكلمون تجرءوا على تحريف معاني القرآن الكريم، وأيضاً عطلوا الصفات فقالوا: يد الله مغلولة، وكذلك عطل هؤلاء الصفات، ونفوا صفة اليد لله عز وجل، وكذلك الحال في النصارى وفي غيرهم، وكثير من الأحيان يشير ابن تيمية رحمه الله إلى هذا المعنى في كثير من كتبه.

    1.   

    خلاصة الرد على من فضل طريقة الخلف على طريق السلف

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما قدمت هذه المقدمة لأن من استقرت هذه المقدمة عنده علم طريق الهدى أين هو في هذا الباب وغيره، وعلم أن الضلالة والتهوك إنما استولى على كثير من المتأخرين بنبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإعراضهم عما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى، وتركهم البحث عن طريق السابقين والتابعين والتماسهم علم معرفة الله ممن لم يعرف الله بإقراره على نفسه، وبشهادة الأمة على ذلك، وبدلالات كثيرة، وليس غرضي واحداً وإنما أصف نوع هؤلاء، ونوع هؤلاء].

    هذا الكلام الذي ذكره رحمه الله يدل على أن جميع ما سبق هو عبارة عن مقدمة أراد أن يبين فيها طريقة السلف وطريقة الخلف باختصار، وهذه المقدمة تنقسم كما سبق أن أشرنا إلى ثلاثة أقسام:

    الأول: يقينية منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم وأنه معصوم، وأن السلف تكلموا في العقائد بكلام مغنٍ كافٍ واضح.

    والأمر الثاني: بطلان التفويض، وقد سبق أن أشرنا إليه.

    والأمر الثالث: شك المتكلمين وحيرتهم واضطرابهم وتناقضهم، وقد سبق الإشارة إلى ذلك.

    وبهذا الكلام ينتهي إبطال شيخ الإسلام رحمه الله لمقولة أن منهج السلف أسلم، ومنهج الخلف أعلم وأحكم، ويمكن أن نلخص الرد الذي سبق أن أشار إليه في ثلاث نقاط:

    النقطة الأولى: أن منهج السلف إثبات الصفات، وفهم معانيها، وليس كما يظنه هؤلاء من أن منهجهم الإيمان بألفاظها مجردة، وهذا يدل عليه نصوص السلف رضوان الله عليهم التي تثبت إيمانهم بهذه الصفات، وأنهم يثبتون ظواهرها ولا يغيرون معناها.

    النقطة الثانية: أن طريقة الخلف مخالفة لنصوص الوحي، وتعطيلهم لمعانيها الظاهرة بدعة منكرة.

    النقطة الثالثة: أن الخلف الذين هم أهل الكلام صرحوا بأنهم حيارى مضطربون لم يوصلهم علم الكلام إلى شيء، فكيف يكون هؤلاء أعلم وأحكم من السلف الصالح أهل العلم والجهاد والإيمان والصدق والتقوى؟

    هذه ثلاث نقاط تلخص ما سبق أن أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله.

    وقوله: (وليس غرضي واحداً وإنما أصف نوع هؤلاء، ونوع هؤلاء) المقصود بقوله (نوع هؤلاء) الأول: السلف، (ونوع هؤلاء): الآخر يعني: الخلف، ومقصوده بهذه الفقرة أن المقدمة هي في الوصف العام للسلف الصالح رضوان الله عليهم، والوصف العام للخلف المتكلمين، وأنه لا يريد التفصيل في هذه الأمور وليس هذا موطنه.

    1.   

    الأسئلة

    الفرق بين أهل الكلام وأهل الفلسفة

    السؤال: ما الفرق بين أهل الكلام وأهل الفلسفة؟

    الجواب: كنت أحب أن أنبه إلى الفرق بين أهل الكلام وأهل الفلسفة: علم الكلام وعلم الفلسفة وعلم المنطق:

    الفرق هو: أن علم الفلسفة المقصود بكلمة فيلسوف يعني: عاشق الحكمة، أو محب الحكمة، وهي كلمة يونانية، وعلم الفلسفة علم نشأ عند اليونان، واليونان هم أمة كانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم وقبل عيسى عليه السلام، وهؤلاء اليونان وثنيون لا يعتمدون على الرسالة السماوية كما هو الحاصل عند اليهود أو النصارى، وإنما هم وثنيون، لكنهم حاولوا أن يحركوا عقولهم وأذهانهم في الاستدلال على ما وراء الطبيعة التي يسمونها الميتافيزيقيا كما قلت سابقاً، فتكلموا في قضايا الغيبيات كثيراً، وتكلموا في خالق هذا الكون، وتكلموا في هذا الكون هل يبعث مرة أخرى؟ وهل يعود الناس؟ والعلاقة بين الذي يخلق هذا الكون، وبين المخلوقات سواء الإنسان أو غيره؟ تكلموا كثيراً في هذا الموضوع وأطالوا، ولهم مقالات محددة ومعينة.

    وأبرز هؤلاء الفلاسفة أرسطو ، وقد نقل ابن سينا الملحد مقالات أرسطو ولخصها وهذبها ونشرها في صفوف المسلمين في كتاب سماه النجاة، وفي كتاب سماه الإشارات والتنبيهات، وفي كتاب سماه الشفاء، وهو مرض، ولهذا يقولون: إن الغزالي أمرضه الشفاء، يعني: أمرضه كتاب الشفاء لـابن سينا ، أمرضه في عقيدته، هذا ما يتعلق بعلم الفلسفة في بدايته.

    ثم لما ظهر سقراط تحدث عن الإنسان، وتحدث عن النفس الإنسانية، وتحدث عن الأخلاق، وتحدث عن الآداب، وتحدث عن الطباع، وتحدث عن القضايا التي يعايشها الإنسان، سواءً قضايا نفسية أو اجتماعية، ولهذا يقولون: إن سقراط أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، فيقصدون أنه نقل الفلسفة - من حيث الموضوع - من الكلام في قضايا الغيبيات السماوية: الملائكة، النبوة، الله، البعث... إلى غير ذلك؛ إلى الكلام عن الإنسان وأخلاق الإنسان وآداب الإنسان، إذاً: هذا ما يتعلق بالفلسفة.

    الفلسفة اليونانية نقلها مجموعة من المنتسبين إلى الإسلام مثل الفارابي وابن سينا والكندي وابن النفيس وابن رشد وغيرهم، نقلوها كما هي واعتقدوا مقتضاها مع وجود تغييرات وتحسينات ومحاولة للربط بين هذه الفلسفة وبين النصوص الشرعية، فظهرت طائفة من المنتسبين للإسلام يعتقدون عقائد هؤلاء الوثنيين تماماً، ومثلهم مثل أصحاب المذاهب الفكرية المعاصرة، والآن ألَاَ يوجد في منتسبي الإسلام شيوعيون وأناس يعتقدون عقائد الوجودية، وأناس يعتقدون عقائد الحداثة، وأناس يعتقدون العقائد الأوروبية تماماً؟! مع أن الأوروبيين كفار مثل اليونان.

    فهؤلاء جاءوا بهذه العقائد وأرادوا تنزيلها على المسلمين، لكن كانوا عدداً محصوراً وقليلاً ليست لهم صولة وجولة اجتماعية، مثل الواقع المعاصر لأصحاب المذاهب الفكرية الآن، فقام مجموعة من المسلمين وردوا على هؤلاء الفلاسفة المنتسبين للإسلام، وردوا على فلاسفة اليونان بعلم قليل كما سبق، وتكون من هؤلاء من خلال الحوارات والمناقشات طائفة جديدة يمكن أن نسميها بأهل الكلام مثل العصريين الآن، فالعصريُّون الآن هم عبارة عن مجموعة من المتحمسين لقضايا الدين، ومن أصحاب الدعوة الإسلامية، أرادوا الرد على الذين نقلوا المذاهب الفكرية الأوروبية إلى المجتمعات الإسلامية، وأرادوا تعميمها على المجتمعات في قضايا السياسة والاقتصاد والاجتماع والنفس والمرأة مثلاً إلى غير ذلك، فقام مجموعة من الدعاة للرد على هؤلاء كما قام المتكلمون للرد على الفلاسفة ابن سينا والكندي والفارابي .

    أولئك ليس عندهم علم شرعي فتأثروا وجاءوا ببدع، وهؤلاء العصريُّون أيضاً ليس عندهم علم شرعي، فقاموا للرد على هؤلاء فتأثروا ببعض مناهجهم، وقالوا بمقالات خطيرة ليست موافقة للسنة ولا لمنهج السلف الصالح رضوان الله عليهم.

    فأنت إذا قارنت بين القديم والحديث تجد أن اليونان يشابهون الأوروبيين الآن، وأن الفلاسفة الإسلاميين -كما يسمونهم- ابن سينا والكندي والفارابي يشابهون العلمانيين أصحاب الطروحات الفكرية، الذين يتبنون مذاهب الغرب فيها، مثل الحداثة ومثل العلمانية في السياسة والاقتصاد، ومثل الوجودية، ومثل أي مذهب من المذاهب الفكرية، فهؤلاء مثل هؤلاء.

    فأهل الكلام الذين ردوا على الفلاسفة الإسلاميين، ردوا على ابن سينا ، وردوا على الفارابي ، فهم مثل العصريين في الواقع المعاصر، الذين ردوا على أصحاب المذاهب الفكرية، مثل الأستاذ محمد الغزالي المتوفى رحمه الله، هذا رد على أصحاب المذاهب الفكرية، لكنه لوجود الضغط الحضاري الكبير على الأمة المسلمة من خلال الغرب ومن خلال العلمانيين الذين ينتسبون إلى الإسلام؛ ولَّد هذا عنده كثيراً من القضايا، وكثيراً من الآراء، وكثيراً من الأفكار خالف فيها السنة، وحكم العقل في النصوص الشرعية، إلى غير ذلك من الأمور التي ناقشه فيها بعض أهل العلم، هذا ما يتعلق بالفرق بين علم الفلسفة وعلم الكلام.

    أما المنطق: فهو علم مثل علم النحو كما يقولون، فالنحو يعصم اللسان من الخطأ، والمنطق يعصم العقل من الخطأ في الفكر، وألفه في بداية أمره أرسطو للرد على الشكاك الذين يسمون بالسفسطائية.

    فقد ظهرت طائفة في اليونان يسمون السفسطائية ينكرون حقائق الأشياء، يقولون: الحس يخطئ، والنظر يخطئ، والعقل يخطئ، والشعور يخطئ، فكيف نقنعهم إذا كان كل شيء يخطئ عندهم؟ لا بد من إقناعهم، فظهر أرسطو بعلم المنطق لإقناع هؤلاء، وأنه يستطيع أن يقنعهم بجدليات وطرق معينة في قضايا التصور، وفي قضايا التصديقات، لكن هذا العلم علم استخدمه الفلاسفة في عقائدهم، واستخدمه أهل الكلام في عقائدهم، وهو من حيث كونه علماً فيه قضايا كاذبة، كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله في كتابه الرد على المنطقيين، وليس هذا المقام مقام تفصيل لهذا الكلام.

    تحريم مشاهدة وقراءة بعض الكتب والبرامج التي تبث الشبه في الدين

    السؤال: قول العلماء وتحريمهم في ذم الكلام وأهله، وتحريم مطالعته لما له من أثر على العقيدة سلباً، ألا يدل هذا على تحريم مشاهدة وقراءة بعض الكتب والبرامج التي تبث الشبه في الدين؟

    الجواب: بلى، لا شك أن البرامج الإعلامية أو الكتب التي تبث التشكيك في قضايا الدين وتنشر الشبهات، لا يجوز الاستماع إليها ولا النظر إليها.

    يحيى بن معين من أهل السنة وليس من المعتزلة

    السؤال: هل يعد يحيى بن معين من المعتزلة؟

    الجواب: لا يعد من المعتزلة، فـيحيى بن معين من أهل السنة، لكنه امتحن وابتلي، إذْ جيء به إلى مخفر الشرطة، فطلب أن يقر بأن القرآن مخلوق، أو يضرب ويجلد، فاتقى؛ ولهذا جاء إلى الإمام أحمد رحمه الله واستدل بقصة عمار رضي الله عنه عندما ابتلي بالمشركين فتكلم بالكفر، فذكر له الإمام أحمد أن عماراً ضرب وهو لم يُضرب، فهو استعجل في مسألة الاتقاء، لكنه ليس من المعتزلة.

    حكم التحذير ممن يحلل أموراً ليست محل خلاف

    السؤال: إنه مما لا يخفى وجود بعض من ينتسبون إلى العلم، ويفتون ويحللون أموراً ليست محل خلاف مثل الغناء والخلوة، هل الأفضل التحذير من أشخاصهم، أم نكتفي بإبطال كلامهم بدون ذكر أسمائهم؟

    الجواب: هذه المسألة في الحقيقة مسألة راجعة إلى الحالة التي يتكلم فيها الشخص، فقد يكون من المصلحة أن يسمي الإنسان بعض هؤلاء للتحذير من قوله ومقالته، ويرد عليه ويبين خطأه، وربما يكون من المصلحة عدم ذكر اسمه، كما فعل ابن تيمية رحمه الله في هذا الكتاب حيث أخفى أسماء المتكلمين، فهي راجعة إلى اعتبار المصلحة والمفسدة، وهنا أحب أن أنبه إلى قضية مهمة جداً، وهي أن كثيراً من الناس بالغ مبالغة كبيرة جداً في قضية الموازنة بين الحسنات والسيئات في تقويمه للأشخاص، فتجد أن كل شخص يريد أن يوازن بين حسناته وسيئاته، ويقول: بناءً على هذا فهذه أخطاء تحتمل وهي بسيطة، ويكون هناك تساهل في الرد على المبتدعة أو أصحاب المقالات الباطلة.

    والحقيقة أن هذه المقالة -مقالة الموازنة بين الحسنات والسيئات- هي مقالة عامة فضفاضة ليست مقالة محددة ومنضبطة، وإذا كان المقصود الموازنة بين الحسنات والسيئات في تقويم شخص ملتزم بمنهج أهل السنة والجماعة عقيدة وعملاً، إلا أنه لديه أخطاء اجتهادية، وقد تكون هناك زلات في بعض الأحيان، فمثل هذا يمكن أن نقول بالموازنة بين الحسنات والسيئات، لكن لا يصح أبداً أن نأخذ أهل البدع ونوازن بين حسناتهم وسيئاتهم؛ لأن أهل البدع نهجوا منهجاً مخالفاً لمنهج أهل السنة، ولهذا عندما ترجعون إلى كتاب الرد على الجهمية للدرامي رحمه الله، أو رد الإمام الدارمي نفسه على بشر المريسي ، فإنه لما جاء للرد على بشر المريسي لم يذكر حسنات بشر المريسي ، وإنما ذكر الأمور التي خالف بها السنة لتحذير الناس منها وتعليم الناس خطورة هذه الأقوال، وهكذا الحال في شأن الطوائف وفي شأن الرموز، التي تظهر على أنها تتبنى قولاً مخالفاً لأصول العقيدة الصحيحة، فمثل هذا يجب أن يرد عليه، وكثيراً من الأحيان لا يكون من الحكمة أن تذكر حسناته؛ لأن المجال ليس مجالاً لذكر الحسنات، وإنما هو مجال لبيان الخطأ الذي أخطأ فيه لإصلاحه، وعدم اعتقاده بالنسبة للناس، ولهذا تجد أن مثل من يقول هذا القول قد يتناقض في تقويمه لأمور أخرى، وشخصيات وهيئات ومؤسسات أخرى.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755802987