إسلام ويب

تفسير سورة الجاثية [14-18]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كان الله قد كرم بني إسرائيل وفضلهم على العالمين، وأرسل إليهم رسلاً وآتاهم الكتاب والحكم والنبوة، لكنهم اختلفوا وتناحروا من بعد ما جاءتهم البينات.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ...)

    قال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الجاثية:14] .

    هذه السورة مكية، ولم يشرع القتال بعد، وقد أمر الله المؤمنين طيلة سكناهم في مكة أن يتحملوا ظلم الكفار وأذى الكفار ويصبروا على ذلك، فلعل منهم من يؤويهم ويقوى به جانب الإسلام، وهكذا ابتدأ الإسلام مدة ثلاثة عشر عاماً في مكة المكرمة بلا قتال ولا جهاد.

    وكان صلى الله عليه وسلم قد أوذي بالقول، وأوذي بالفعل، ومع كل ذلك كان يأتي إليه المؤمنون يريدون الكفاح والجلاد ومقاومة الشر بالشر، فيقول لهم: (لم أومر بالقتال بعد)، وكان يمر على أسرة كاملة -وهم عمار بن ياسر وأبوه ياسر وأمه سمية - تعذب العذاب الأليم، ويرى ذلك، فلا يزيد على قوله لهم عليه الصلاة والسلام: (صبراً آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة)، وهكذا حتى استشهدت سمية ، وكانت أول شهيدة في الإسلام.

    وتلك مفخرة للمرأة في الإسلام، فأول شهيد في الإسلام كانت امرأة تحمّلت العذاب وتحمّلت المكر وتحمّلت ما لا يتحمله الرجال الأقوياء، فصبرت إلى أن لقيت الله شهيدة موحدة.

    قوله: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية:14].

    أي: قل -يا محمد- للمؤمنين: (يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ)، أي: الكافرين الذين لا يخافون أيام الله، ولا يخافون عذابه، ولا يخافون نقمته، ولا يؤمنون بكتابه، ولا يؤمنون برسوله، ولا يؤمنون بالرسالة.

    فأمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بأن يأمر المؤمنين ليغفروا وليصفحوا ولا ينتقموا ولا يعاملوا الكفار بالمثل، وكان هذا قبل فرض الجهاد، ولم يفرض الجهاد إلا في المدينة المنورة، وكانت أول آية نزلت من الله جل جلاله في ذلك هي قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج:39-40] فشرع القتال وأُذن فيه.

    ومعنى ذلك أنهم استأذنوا رسول الله في الكفاح والجلاد والحرب، فلم يأذن لهم إلا في المدينة حيث أصبح لهم موطئ قدم في الدولة الإسلامية لتكوين الجيش، ولتكوين القوة، فلذلك أُذن لهم، كما أنهم كانوا في مكة قلة، وكانوا ضعافاً، فلو قاتلوا لقاتلوا من هم أكثر منهم بآلاف المرات، وهذا أمر لا يتم.

    وبهذا نعلم أن في القرآن رداً على ما زعمه الكفرة والمنافقون من أن الإسلام انتشر بالسيف، فنحن نرى أن الفترة المكية على طول دعوة الإسلام فيها لم يكن فيها قتال ولا كفاح ولا جلاد، بل آمن الصحابة وأسلموا وهم تحت العذاب، وكل منهم كان معرّضاً صباحاً ومساءاً للقتل مع العذاب الشديد.

    وقد قال أحد فلاسفة الغرب الكفرة: من زعم أن محمداً نشر إسلامه ودينه بالسيف فكأنه يقول: خرج رجل وحده في صحاري جزيرة العرب وحمل السيف وأخذ يقتل هذا ويضرب هذا ليدخلوا في دينه، ولا يقول مثل هذا الكلام إلا مريض العقل. والأمر كذلك، والحق ما شهدت به الأعداء.

    فقوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية:14] أي: يصفحوا عنهم ويسامحوهم.

    وقوله تعالى: لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الجاثية:14] (قوماً) نكرة، وهي تدل على العموم، أي: ليجزي كل قوم بما كسبوا، والباء سببية، أي: بسبب كسبهم وأعمالهم يدخلون الجنة إن كانوا مؤمنين، وإن كانوا كافرين فالنار والعذاب الأليم، وهذا تهديد ووعيد لهؤلاء، أعلمهم أن الله تعالى يتولى جزاءهم بما كسبوه من كفر وشرك وظلم.

    وقد فعل ربنا، فما كاد النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنون ينتقلون إلى المدينة المنورة حتى أذن الله بالقتال، فقاتلوا ومكروا بأعدائهم في غزواتهم التي لا تزال مسجلة على التاريخ وإلى أبد الآباد منذ غزوة بدر إلى غزوة حنين، وهذا في الغزوات النبوية المحمدية، ودعك من الغزوات الأخرى التي كانت أيام الخلفاء الراشدين التي فتحوا بها العالم خلال خمسين عاماً، فصار المسلمون معلمي الناس وحكام الناس، وكانت السلطة بأيديهم دون جميع الناس.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ...)

    قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [الجاثية:15] .

    يقول الله للناس: من كان عمله عمل الصالحين فلنفسه قدم الصلاح وقدم الرحمة وقدم الجنة وحفظها وصانها من اللعنة والعذاب الأليم، ومن أساء في الدنيا فعلى نفسها جنت براقش، فنفسها ظلمت، ولنفسها أساءت، وعليها كان العذاب الأليم.

    فقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ[الجاثية:15] أي: من عمل العمل الصالح؛ فمآله وأجره وثوابه لنفسه.

    وقوله تعالى: وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا[الجاثية:15] أي: ومن أساء من الخلق فعمل سوءاً وخالف وأشرك وعصى فنفسه أهان، ونفسه عذّب، ونفسه أخضع لعذاب الله الخالد يوم القيامة.

    قال تعالى: ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ[الجاثية:15]، فبعد أن يحسن إلى المحسن بالرحمة والجنة، ويساء إلى المسيء باللعنة والعذاب المقيم، سيكون الرجوع إلى الله، فسترجعون يوم القيامة إلى الله وإلى حسابه وإلى العرض عليه إما إلى جنة وإما إلى نار.

    فمن تردد في يوم القيامة أو أنكره البتة فهو كافر حلال الدم، ومن أشرك بكلمة التوحيد ولم يقل: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فقد أذنب في حق نفسه وأساء عليها.

    وهذه الدنيا قد يغتر فيها الحي ويقول فيها ما أملاه عليه هواه وشيطانه، ولكن يوم القيامة سيبعث كل الناس وسيعودون إلى ربهم لحسابهم في أعمالهم فإما إلى جنة وإما إلى نار.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ...)

    المعنى الإجمالي للآية

    قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الجاثية:16].

    إن الله جل جلاله كثيراً ما يذكر في الكتاب بني إسرائيل وما أعطاهم في أيامهم وأيام أنبيائهم وحكمهم، وذاك عظة للمسلمين الذين جعلهم الله خير أمة أخرجت للناس، فإذا فعلوا فعل اليهود وتركوا ربهم وتوحيده، ونبيهم وسنته، والقرآن وتحكيمه فسيفعل الله بهم كما فعل ببني إسرائيل.

    وكما عاقب اليهود رغم أنهم كانوا يوماً أفضل الأمم، وأعطاهم الله من الأرزاق والحكم والكتاب، وأعطاهم ما لم يعطه لأحد في عصرهم، ولما بدّلوا وغيّروا وحرّفوا وتلاعبوا بالتوراة والإنجيل ورجعوا إلى الكفر بعد الإيمان، وعبد النصارى عيسى ومريم، وعبد اليهود عزيراً وعبدوا العجل، وقالوا جميعاً: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ[المائدة:18] كان شركهم طامّاً عاماً بلية شاملة، فلعنهم الله وأخزاهم وطردهم عن رحمته وعن بابه، وأصبحوا أذل الأمم وأحقر الأمم.

    قال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ[المائدة:78].

    وقال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا[آل عمران:112].

    وقال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ[الأعراف:167]، فلعنوا على ألسنة أنبيائهم كما لعنوا على لسان نبينا، ولم يفدهم أنهم كانوا يوماً أفضل الناس، وعندهم الأرزاق الطيبة وعليهم أنزلت الكتب السماوية، فعندما بدّلوا وغيروا بدّل الله عليهم نعمته وبدّل إفضاله.

    وكذلك المؤمنون من هذه الأمة إذا بدّلوا وغيروا -مع أنهم أفضل الأمم وأكرم الأمم- سيعاقبهم الله ويلعنهم الله كما لعن اليهود قبلهم، ونحن نرى أنفسنا واقعين في هذا التهديد والوعيد، فقد سلّط الله علينا هؤلاء اليهود أنفسهم؛ لأننا خرجنا عن هدي كتاب الله، وعن سنة رسول الله ورسالته، فعاقب الله المؤمنين بما هددهم به في عشرات الآيات، بل عشرات السور، فنسأل الله أن يعيدنا إلى رحمته، وإلى اتباع الصراط المستقيم السوي بفضل الله وكرمه.

    معنى قوله تعالى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة)

    يقول تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الجاثية:16] إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق، وإسحاق هو ابن إبراهيم، وإبراهيم كان له ولدان أحدهما نبي رسول والثاني نبي، فكان له إسماعيل، وكان نبياً رسولاً، وكان له إسحاق، وكان نبياً غير رسول، وكلاهما طيب ابن طيب، ونبينا عليه الصلاة والسلام ينتسب إلى إسماعيل بن إبراهيم، فهو نبي الله ابن نبي الله إسماعيل ابن خليل الله ونبي الله ورسول الله إبراهيم، وكل أنبياء بني إسرائيل هم أبناء إسحاق، ولذلك نسبوا إليه.

    قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ [الجاثية:16].

    فقد أنزل تعالى التوراة على موسى، وأنزل الإنجيل على عيسى، وعيسى هو آخر أنبياء بني إسرائيل، والتوراة أنزلت على موسى، وهو من الخمسة أولي العزم من الرسل، ولكنهم مع ذلك بدّلوا وغيّروا، وقد كانوا يوماً حكّاماً، فكان منهم ملوك أنبياء، وكان منهم ملوك صالحون، ثم بدّلوا وغيّروا فغير الله عليهم نعمته ورحمته، فشرّدهم وشتتهم إلى أبد الآباد، ولم تقم لهم قائمة إلى اليوم.

    وأما ما هم عليه اليوم فهو من استدراج الله لهم، وتأثر المؤمنين الذين تأثروا بهم ودانوا بمذاهبهم وبحضارتهم فقالوا: نحن شيوعيون، وما يدير الشيوعية إلا ماركس ، وهو يهودي ابن حاخام، وكذلك بقية المذاهب التي يؤمنون بها من ماسونية ووجودية وقاديانية وبهائية، وبقية ملل الكفر جميعها مذاهب يهودية.

    فعندما ترك المسلمون شريعة ربهم وجروا خلف هذه المذاهب الضالة المضلة عاقبهم الله وسلط عليهم اليهود جزاء وفاقاً إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، فإذا غيّرنا ما بنا من هدى الله غيّر الله ما بنا، والبلاء لا يزال شديداً، ونسأل الله الحفظ والسلامة.

    يقول تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ [الجاثية:16] فأكثر الله فيهم الأنبياء، فإسحاق نبي، ويعقوب نبي، ويوسف نبي، وداود نبي، وموسى نبي، وهارون نبي، وعيسى نبي.

    وقد روي في حديث غير صحيح (علماء أمتي أنبياء بني إسرائيل) قال المحدثون: هو حديث لا يصح لفظاً، ولكن معناه قائم، فعلم علماء المسلمين هو بمثابة علم هؤلاء الأنبياء، إلا أنه لا نبي بعد محمد، فهو خاتم الأنبياء وخاتم الرسل، ويكفي العالِم الصابر الصادق العالِم بالله وبدين الله أن يكون وارثاً محمدياً، فهو أحد ورثة علم النبي صلى الله عليه وعلى آله، وكفى بذلك مكسباً وكفى بذلك مفخراً.

    معنى قوله تعالى: (ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين)

    قوله تعالى: وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ [الجاثية:16].

    رزقهم الله تعالى الحلال الطيب الذي لا حرام فيه، ورزقهم من المن ومن السلوى ومن صيد البحر ومن صيد البر ومما عملته أيديهم ومما كسبوه، فكان ما كسبوه وما رزقوه حلالاً طيباً، كان ذلك عندما كان بنو إسرائيل متمسكين بالكتاب، ومتمسكين بطاعة أنبيائهم، ومتمسكين بالله ورسله، أما عندما بدّلوا وغيّروا فقد انتقلوا من الإسلام إلى الشرك.

    قوله تعالى: وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الجاثية:16].

    أي: فضّلهم ربنا على عالمي زمانهم وعصرهم؛ لأن الله قال لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] فهي خير الأمم عموماً، وهي خير أمة أخرجت منذ آدم عليه السلام.

    فالأمة المحمدية خير الأمم، ونبيها خير الأنبياء، وكتابها خير الكتب، ولذلك عندما نزلت هذه الآية نزلت متأخرة في آخر الكتب وعلى آخر نبي، فكان ما مضى في أيام التوراة وأيام موسى تاريخاً قد انتهى، فبنو إسرائيل كانوا خير أهل عصرهم، أما خير الأمم قبل وبعد بني إسرائيل وبقية الشعوب الأخرى فهي الأمة المحمدية.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وآتيناهم بينات من الأمر ...)

    معنى قوله تعالى: (وآتيناهم بينات من الأمر)

    قال تعالى: وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الجاثية:17] .

    قوله تعالى: وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ [الجاثية:17] أي: كذلك آتى الله تعالى بني إسرائيل بينات وعلامات وأدلة وبراهين على صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى صدق كتاب الله المنزل على نبينا، وهو القرآن الكريم.

    وقد أخبرت التوراة وأخبر الإنجيل بصفة نبينا وزمنه الذي سيظهر فيه، ولذلك كان اليهود يقولون للأوس والخزرج من عرب المدينة: سيظهر نبي وسنقاتلكم معه. وكانوا يتوهمون أنه من بني إسرائيل، فلما جاء من العرب حسدوه وكفروا به وأنكروا الأدلة القاطعة التي وردت في الإنجيل والتوراة وغيّروا ما في التوراة والإنجيل، وكذبوا على الله.

    ولذلك قال عيسى -كما في الإنجيل وكما قص القرآن- يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6]، فقد صرّح باسمه وبنعته، وأنه يظهر في جبال فاران، وجبال فاران هي جبال مكة كما تقول كتب علم الجغرافيا ودواوينها العربية والأعجمية.

    ولأحد العلماء الذين في رتبة مشايخ مشايخنا كتاب اسمه (الحق) أو (صوت الحق)، جرّد فيه من نسخ التوراة، ومن نسخ الإنجيل ما ورد فيه صفة نبينا عليه الصلاة والسلام، وهو يزيد المؤمن إيماناً، ويلقم اليهود والنصارى حجراً لكفرهم بذلك وحقدهم على الفضل الذي آتاه الله للعرب ولسيد العرب نبينا صلى الله عليه وعلى آله.

    قال تعالى: وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ [الجاثية:17] أي: أمر رسالته وأمر الكتاب المنزل عليه، آتيناهم آيات ودلائل واضحات، وحججاً وبراهين.

    معنى قوله تعالى: (فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم)

    قال ربنا: فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [الجاثية:17].

    فقد كانوا مجمعين على ظهور رسول يأتي بعد عيسى، وإذا بهم يختلفون عندما ظهر وكان العلم به واضحاً، قال ربنا عنهم: فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [الجاثية:17] ظلماً وتعدياً وبغياً بينهم.

    وبعض منهم -وهم قلة- آمنوا وأسلموا، وفي طليعة هذه القلة عبد الله بن سلام، أسلم بمحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعلن إيمانه رسول الله، وكان قد طلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن لا يخبر اليهود بإسلامه إلا بعد أن يسألهم عنه، فقال لهم وقد جمعهم وجمع رهبانهم وأحبارهم: (كيف عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: عالمنا وسيدنا وأفضلنا، فقال لهم: إنه أسلم فقالوا: لن يكون هذا. فأعلن عبد الله بن سلام شهادته وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فعند ذلك شتموه وجهّلوه)، وهكذا كشفوا عن نفاقهم وعن كذبهم وعن بهتانهم وعما لا يليق بإنسان.

    قال تعالى: فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [الجاثية:17] فجاءهم الحق على صدقه، وجاء بعد ذلك العلم اليقيني، فسألوه عن معجزات فأجاب عنها، وسألوه عن أنبيائهم فأجاب عنهم، وبعد كل هذا أبوا إلا حرباً وقتالاً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاهدهم فغدروا، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يقاتلهم ويحاربهم ويطردهم ويوصي بمن لم يطرد بعد أن يطرد، فقتل من قتل، وشرّد من شرّد.

    قال تعالى: فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [الجاثية:17] فاعتدى بعضهم على بعض، اعتدى من بقي على كفره على من آمن، وطغى عليه وكذّبه ولم يؤمن بإيمانه.

    قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الجاثية:17].

    سيقضي الله بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون، وهذا فيمن أصر على الكفر، أما من هداه الله وآمن بهدى الله وآمن برسول الله وآمن بالكتاب المنزل عليه فقد أراه الله الحق في دار الدنيا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ...)

    قال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الجاثية:18] .

    أي: بعد إرساله تعالى الرسل من بني إسرائيل وما آتاهم من كتب وحكمة وما آتاهم من نبوة، ختم الله الأنبياء بنبينا صلى الله عليه وسلم، وختم الرسل برسولنا صلى الله عليه وسلم، وختم الكتب بكتاب الله المنزل عليه، وهو القرآن قال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا [الجاثية:18] أي: يا رسول الله! قد أرسلك الله وجعلك على شريعة، وعلى طريقة، وعلى حكم، وعلى شريعة من الأمر فاتبعها.

    والشريعة: القانون، والشريعة المشرع، يقال لممر الماء: مشرع، ويقال للطريق: شارع، ويقال للمذهب كذلك: شريعة، فالأنبياء يؤمنون بإله واحد، ورسالة الأنبياء جميعاً جاءت بـ (لا إله إلا الله)، وبالإيمان باليوم الآخر، أما الشرائع فهي مختلفة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (نحن معاشر الأنبياء أولاد علات).

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755948423