إسلام ويب

تفسير سورة ص [29-40]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كان سيدنا داود عليه السلام قد أُعطي الحكمة وفصل الخطاب، وقد وهبه الله تعالى ولداً مجتبى وهو سيدنا سليمان عليه السلام الذي آتاه الله الملك والحكمة وعلمه منطق الوحش والطير وسخر له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب)

    قال الله جل جلاله: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29].

    يصف ربنا جل جلاله كتابه الذي أنزله على خاتم أنبيائه صلى الله عليه وعلى آله بأنه كتاب مبارك، فيه خير الدنيا والآخرة، وفيه أحكام الناس حلالها وحرامها، وفيه ما ينفع الناس في دنياهم وأخراهم، وأنه كتاب الله المنزل على رسوله وليس كما زعم أعداء الله من المشركين والكافرين.

    فقوله: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29].

    البركة: هي النماء والزيادة، فالله تعالى يبارك للمؤمن في دراسة كتاب الله وفهمه وتعلمه وتعليمه.

    وأنزل الله كتابه ليتدبره الناس وليتفكروا فيه، وليتعلموا أحكامه وقصصه وتوحيده وعقائده، وما فيه من أخبار الأولين والآخرين، وأمور الدنيا والآخرة، وليعملوا بما فيه.

    يقول الحسن البصري : ليس تدبر القرآن حفظه وتعلم حروفه فقط، ولكن تدبره العمل به والقيام بما جاء فيه.

    إذاً: الحفظ وحده لا يكفي، والمدارسة بلا عمل لا تكفي، بل لا بد من حفظه ورعايته وتعلم أحكامه، وما يمكن أن يقوم الناس به في دنياهم وأخراهم، فقوله: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29] أي: ليعملوا ما فيه من آيات كريمات تحمل معاني الخير في الدنيا والآخرة، وما فيه مما ينفع البشر في دنياهم ويعود عليهم في الآخرة بالفلاح والسعادة ورضا الله، والعمل بما أمر به.

    وقوله: وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، أي: ليتذكر أولوا العقول، والألباب جمع لب، فهم الذين أكرمهم الله بعقول نيرة يتدبرون بها هذا القرآن، ويفكرون في معانيه وأحكامه وإعجازه؛ ليكون لهم ذكرى، ولم يفعل هذا إلا ذو لب وذو عقل وذو فهم وإدراك، بخلاف الذين فقدوا عقولهم قبل أن يفقدوا أديانهم، ولذلك العاقل هو من كان متديناً بما أمر الله به خلقه، أي: بهذا الكتاب الكريم والإيمان والإسلام الذي نزل به، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ووهبنا لداود سليمان ...)

    لقد أعاد سبحانه ذكر قصص بعض أنبيائه ورسله تسلية للنبي عليه الصلاة والسلام مما لقيه من عنت الكفار، وهو كذلك تسلية لخلفائه من أئمة العدل ومن العلماء والدعاة إلى الله، فقال ربنا: وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:30].

    أي: أن ربنا جل جلاله، وهب لداود ولده سليمان عطية وكرامة ومنحة، وهو لم يهب له سليمان وحده، بل له أولاد كثيرون، ولكن سليمان كان نبي الله وكان رسول الله، وكان الوارث لهذه النبوة والرسالة من داود، ولم يكن أولاده الآخرون كذلك، ولذلك خص سليمان بالذكر والإشادة وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:30] أي: كان سليمان عبداً لله صالحاً، وكان عبداً لله نبياً، وكان عبداً لله منذراً وبشيراً وداعياً إليه بإذنه، وكان يعود إلى الله إذا أخطأ وإذا صدر عنه ما لا يليق، فهو كثير الأوبة، وأواب صيغة مبالغة فعال، فهو كثير الرجوع إلى الله، وكثير التوبة فيما يصدر عنه.

    وذكر الله لنا عن سليمان فيما استغفر فيه الله، أحدهما: كان ابتلاء واختباراً من الله، والثاني: ما ذكره ربنا سبحانه في قوله: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ [ص:31-33]، أي: اذكر يا محمد سليمان هذا العبد الصالح، هذا العبد الذي حسنت أخلاقه وحسن عمله، وحسنت دعوته، وقام للناس بما أمر الله به، اذكر قصته إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ [ص:31]، أي: إذ استعرض سليمان الجياد، والجياد جمع جواد وهي الخيل الأصيلة السريعة القوية.

    وقوله: (الصافنات) جمع صافنة، أي: الواقفة على ثلاث أرجل، والرابعة على جنب منها، أو القائمة مطلقاً.

    فاذكر حالة سليمان إذ استعرض في عشية من العشايا وفي أمسية من الأمسيات خيله وجنده، وكانوا عشرين ألف جواد، فخرج يستعرض خيله فنسي حال استعراضه لها صلاة العشي، وهي الصلاة التي نسميها في شريعتنا بصلاة العصر، فسليمان نسي ولم يذكرها حتى غابت الشمس واختفت تحت الحجاب، وخرج وقت تلك الصلاة، فآلمه ذلك، فعاقب نفسه وذلك بأن طفق يضرب هذه الخيل بالسيف أعناقاً وسيقاناً، فقطع رقابها وعرقب سيقانها فقتلها؛ لأنها شغلته عن ذكر الله وعن عبادة الله وصلاته.

    إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [ص:31-32] أي: عندما وجد نفسه قد أغفل صلاة العشي حتى غابت الشمس وسترت عنه بالحجاب، قال: شغلت بحب الخيل، والخيل من الدنيا والمال، فآثرت حب الخيل وحب الملك وحب الجاه فشغلني ذلك عن ذكر ربي، وعن عبادة ربي في الصلاة.

    حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [ص:32]، حتى حجبت عنه، رُدُّوهَا عَلَيَّ [ص:33] أي: قال لجنده: أعيدوا علي الخيل، أعرضوها علي، فأخذ يمسحها ويضربها بالسيف بالسوق والأعناق، والسوق جمع ساق، والأعناق: جمع عنق، وأمر من معه بمثل فعله حتى أتى على تلك الخيل كلها بأعدادها العشرين ألفاً فقطع رقابها وعرقب سيقانها؛ لأنها كانت سبباً في تركه للصلاة في وقتها، فاتهم نفسه بأن الدنيا وخيرها شغله عن ذكر الله وعبادته، فعاقب نفسه بأن أخسرها هذا المال وهذا الخير الجزيل.

    وكان ذلك جائزاً في شريعته، وإلا ففي شريعة الإسلام ضياع المال وقتل الحيوان بغير مصلحة لا تجوز، وماذا صنعت الخيل لتعاقب بذلك؟!

    على أن ابن جرير وجمعاً من المفسرين قالوا: (طفق مسحاً) أي: مسح أعناقها ومسح سيقانها حباً لها، لأنه عليه السلام لم يكن ليعذب حيواناً بالعرقبة ويهلك مالاً من ماله بغير سبب، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها، ولا ذنب لها باشتغاله بالنظر إليها، ولكن هذا يخالفه ما ورد في الصحاح: من أن سليمان ترك صلاة العشي حتى غابت الشمس، وكذلك بما ورد في سنن أبي داود عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فوجدها تلعب يصور فيها خيل، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: ما هذه الخيل؟ قالت: هي من صنع يدي ومن عملي، قال: ما ذاك بجانبيها؟ قالت: أجنحة، فقال: فرس بجناح؟ قالت: له: ألم تسمع أن نبي الله سليمان كانت خيله ذوات أجنحة، فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه).

    ولذلك قالوا: بأن هذه الخيل كانت ذوات أجنحة، واستدلوا بهذا الحديث.

    وأما غروب الشمس فقد كانت مرت على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ورأس رسول الله على فخذه وقد جاءه الوحي أثناء ذلك فاضطر علي للوقوف حتى انتهى الوحي ورفع رأسه صلى الله عليه وسلم وقد غربت الشمس وفاتته صلاة العصر فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (هل صليت العصير يا علي ! قال: لا)، فروي في الكثير من السنن أن الله تعالى أمر بعودة الشمس حتى صلاها، صحح ذلك الإمام الطحاوي وأنكره ابن الجوزي ولكن الحافظ رد على ابن الجوزي وأكد بأن الشمس ردت لـعلي حتى صلى صلاة العصر في وقتها.

    وتحدث النبي عليه الصلاة والسلام بأن هذا قد كان من سليمان، مما يؤكد معنى قوله: فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [ص:32]، حتى غطاها في حجاب الليل وغابت.

    رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا أي: ضرباً بالسيف، و(مسحاً) مفعول مطلق اكتفي به عن ذكر الفعل.

    فأخذ يضرب بالسيف على أعناقها وسوقها، وكان ذلك منه كفارة على عمله، ولكي لا يعود لذلك من بعد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب)

    قال الله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ص:34].

    فقوله: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ [ص:34] أي: اختبرناه وابتليناه، وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا [ص:34] أي: جعلنا على كرسيه شيطاناً يجلس عليه ويحكم منه.

    (ثم أناب) أي: ثم تاب سليمان وعاد لربه ورجع، واستغفر ربه.

    قالوا: بأن سليمان حارب ملكاً من ملوك جزائر البحار وأسر ابنته وأخذها جارية، وقالوا: إنها أبت أن تسلم، فصنعت لنفسها صنماً في بيت سليمان وأخذت تسجد له وتعبده.

    وقال قوم: بل أسلمت -واسمها جرادة حسب زعمهم-، ولكن سليمان شغل بها زمناً وهو يراها حزينة ويريد منها أن تسر وتفرح، فتقول له: ذكرى أبي في نفسي تمنعني السرور والراحة، فأمر لي شياطين يصورون لي صورة أبي كما أعرفها ففعلوا، فألبست تلك الصورة الأردية والألبسة التي كانت تراها عليه، ومع الأيام أخذت تسجد له وتعبده، والمعنى واحد.

    وفي يوم من الأيام جاء أحد الجن من المؤمنين -وزعموا أن اسمه صخر- فقال: يا سليمان! إني أرى في دارك أن الأوثان تعبد من دون الله، قال: أيكون ذلك؟ قال: سل فستجد هذا صحيحاً.

    وقالوا: وكان لسليمان خاتم وبهذا الخاتم يأمر وينهى ويتصرف في الجن والإنس، وكان إذا دخل الخلاء أو مس نساءه ينزعه ويعطيه إحدى جواريه، فجاء صخر هذا وقد نزع خاتم سليمان وجاءها متلبساً بصورة سليمان، فقال: هاتي الخاتم فأعطته إياه وهي تعتقد أنه سليمان، فلبسه، وخرج سليمان، وجاء إلى الجارية فقال لها: أين الخاتم؟ قالت: أعطيته لسليمان، قال: أنا سليمان، قالت: أتكذب؟ وإذا بسليمان يهيم على وجهه، وأخذ يقول: أنا سليمان، وكل من قال له: أنا سليمان كان يضربه ويؤذيه ويقول له: أتكذب على نبي الله، وبقي على هذا أربعين يوماً، وإذا بهذا الشيطان الذي أخذ الخاتم جلس على كرسيه وأخذ يحكم ويأمر وينهى على أنه سليمان.

    قالوا: هذا معنى قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا [ص:34] أي: ذاتاً، وكان هذا الجسد هو هذا الشيطان، وإذا بهذا الشيطان يأمر وينهى بما لا يتفق مع التوحيد والإيمان، فأخذ بعض أتباعه من بني إسرائيل من تحت الكرسي كتابات تدل على سحر وكفر، فأخذوا يقولون: كفر سليمان، وكذبهم الله وقال: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة:102] إلى أن قال: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102]، وتلك إشارة لهذا المعنى في هذه الآية.

    وقالوا: ودعا يوماً ولم يجد طعاماً، وهو في هذه الحالة جاء فقراء المؤمنين من بني إسرائيل وفقراء المؤمنين من الجن، فقالوا: لقد أنكرنا على سليمان أشياء ما كان يفعلها قبل، فدخلوا على نسائه وسألوهن: أأنكرتن شيئاً من سليمان، والقصة من الكذب والافتراء، فقلن: نعم، أصبح لا يغتسل من جنابة ويأتينا ونحن حيض، ومعاذ الله وحاشا الله أن يكون هذا من نساء نبي صادق مصدق، ولكنها أكاذيب اليهود، ولولا أن هذا ذكر في كتب المسلمين نقلاً عن كعب الأحبار ووهب بن منبه ، وأمثالهما، وعمن يروي عنهما من التابعين المسلمين، بل ومن بعض الصحابة كما صح أن يذكر هذا بما فيه من الطعن والتجريح لمقام النبوة والرسالة المعصومة التي لا يغفل عنها مثل هذا، ولا تهان عند الله بأن تمس نساء النبوة بمثل هذا قط.

    وقالوا بعد ذلك: عندما جاع سليمان عرض نفسه على صياد قد اصطاد حوتاً، فأعطاه سمكة منتنة، فأخذها سليمان وذهب يغسلها في الماء وشق بطنها وإذا به يجد الخاتم في بطن السمكة؛ لأن صخراً كان قد قذفه في البحر، فلما وجده سليمان لبسه، وبمجرد أن لبسه إذا بالطير تقف وتسجد له، وإذا القوم يقفون عند رأسه جناً وإنساً ويقولون له: يا نبي الله! يا رسول الله! فعاد لكرسيه، وعاد لملكه وعاد لنبوته، واستغفر الله وأناب ورجع إليه تائباً مما صدر عنه.

    وذاك معنى قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ص:34] أي: ثم عاد إلى الله تائباً منيباً إليه.

    وفي وصف هذا الكرسي غرائب وعجائب فقد وصفه كعب الأحبار لـمعاوية وقال: هو كرسي من ذهب قوائمه من زمرد على غلال من أنواع الحرير، ومن أنواع اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، ويكون تارة على شكل الطواويس وتارة على شكل النسور وتارة على شكل الأسود.

    وحكوا من الغرائب أن الطيور والحيوانات كان إذا جاء سليمان وصعد على الكرسي أنابت ثم حركت أجوافها وقذفت من العنبر ومن أنواع الطيب ما تنشره على سليمان وكرسيه والحاضرين.

    وكل ذلك من مختلقات اليهود وأكاذيبهم، فاغتر بهم من حاول أن يفسر بعض الآي وخاصة قصص أنبيائهم، وسليمان وداود من أنبيائهم.

    ولذلك محققو المفسرين عندما أتوا إلى هذه الإسرائيليات طرحوها ولم يلتفتوا إليها ألبتة، ولم يكذبوها ولم يصدقوها، ولكن البعض كان يذكرها ثم يعود فيطعن فيها، ولكنه ينقل بعضها عن الصحابة من مثل عبد الله بن عباس وهو ممن كان يجتمع بـكعب ويروي عنه، وعن مثل أبي هريرة فقد كان يجتمع بـكعب ، وكعب هذا كان بلاء للمؤمنين، ابتلوا به أيام عمر رضي الله عنه، وقد حسم الرأي فيه بأن الصحابة شككوا في صدق إيمانه وهو من أصل يهودي، عايش رسول الله وهو رجل كبير، وما جاء إلا بعد أن ولي عمر الخلافة فسأله مرة العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم: (يا كعب في مثل علمك وعقلك ودينك لم لم تأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حال حياته، فقال كلاماً غير مقبول).

    وقال عنه معاوية: (وإني لأبلو عنه الكذب) وكذبته عائشة .

    وقال عنه عمر في قصة: لقد ضاهيت اليهودية يا كعب .

    وقال عنه ابن مسعود : لقد أشبهت اليهود يا كعب.

    إذاً: الذي نعتقده ونوقنه أن سليمان لم يصدر عنه شيء، وحتى قصة الخاتم التي أصبح الناس يقولون: خاتم سليمان، وهذا الخاتم لا يوجد له ذكر في صحيح الحديث وفي القرآن من باب أولى وأحرى.

    ولكن الذي في الآية أن الله ابتلى سليمان واختبره فألقى على كرسيه شيطاناً، فأخذ هذا الشيطان يحكم بحكمه ويأمر بأمره، وفي هذه الحالة كان سليمان قد زالت هيبته وزال ما كان عليه من مظاهر النبوة والرسالة والملك، اختبر بذلك زمناً وصبر واعترف بذنبه وتاب إلى الله ودعاه واستجاب الله له، فقال الله عنه: (ثم أناب) أي: تاب وأناب وعاد إلى الله جل جلاله، بما فيه من طاعة ودين وتقوى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي ...)

    قال الله تعالى: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص:35].

    أي: اغفر لي ما صدر عني مما ابتليتني به وعاقبتني عليه، ولم يكتف سليمان بطلب المغفرة بل طلب المزيد مما عنده سبحانه، قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص:35]، استغفر ربه مما صدر عنه وطلب منه أن يهبه ملكاً وسلطاناً لا ينبغي ولا يتم لأحد من الإنس والجن بعده.

    (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) أي: كثير الهبات والعطايا الذي لا يعجزه شيء سبحانه، فأنا أطلب كريماً عنده كل شيء.

    وإذا بالله الكريم يستجيب له فيقول: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ص:36-39].

    فاستجاب الله له وأعطاه ما لم يعط أحداً قبله ولا أحداً بعده، قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص:35].

    وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم يوماً اختلطت عليه بعض آيات في الصلاة وأخذ يتقدم ويتأخر ويمد يده، فعندما سلم قالوا له: يا رسول الله! رأيناك تصنع شيئاً لم يسبق أن صنعته قبل، قال: نعم، جاءني شيطان وأنا أصلي بشهاب من نار، يريد قذفه على وجهي، وأنا ألعنه بلعنة الله وأقول له: أعوذ بالله منك، وهو يأبى إلا الإصرار، فقبضته وشددت عليه، حتى وجدت برد ريقة في يدي، وكدت أربطه في سواري المسجد ليصبح صبيان المدينة فيتلاعبون به، ولكنني تذكرت قول سليمان: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص:35] فتركته).

    على أن نبينا فعل ذلك أدباً وإلا فقد تمكن من الجني وقبضه وكاد يقتله خنقاً، ثم تذكر طلب سليمان فتركه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خير بين أن يكون نبياً عبداً أو نبياً ملكاً، فاختار أن يكون نبياً عبداً، وهو أفضل وأنبل وأكرم، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام مع تسخير الجن له آمنت به وأسلمت، وفي القرآن سورة اسمها سورة الجن، وفي مكة المكرمة مسجد اسمه مسجد الجن، قالوا: هو في المكان الذي أوحي إليه فيه بسورة الجن: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الجن:1].

    فآمن من آمن منهم كالبشر، وكفر من كفر منهم كالبشر، وأعان الله نبيه على أن أسلم شيطانه، وكان لا يأمره إلا بخير، هذا الشيطان المكلف بكل نفس بشرية يوسوس لها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فسخرنا له الريح تجري بأمره ...)

    قال الله تعالى: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [ص:36].

    في الحديث النبوي: (أن بدوياً جاء إلى مكة فسمع النبي عليه الصلاة والسلام يقول: من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه) فسليمان جاء إلى هذه الخيل الصافنات فذبحها وعاقبها بأن قدم خير الدنيا على الصلاة في وقتها، فعندما فعل ذلك لله عوضه الله بما هو خير من الخيل، عوضه بالريح تجري بأمره رخاء لينة بغير واسطة، ( حيث أصاب ) أي: حيث أراد.

    كان يضع البساط ويحمل على هذا البساط جنداً وبشراً وخلقاً فتذهب به الريح مسافة سنة، وشهر، وهذه الريح في الصباح والمساء كالطيران اليوم.

    فقوله: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ [ص:36] أي: أصبحت الريح هي مركبه وجواده وعليها يتنقل ويرحل.

    تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً [ص:36] أي: بغير عواصف، وإلا لو كانت عاصفة لقلبته وقلبت جنده، وإنما كانت رخاء لينة بغير عواصف، فتذهب به حيث أراد وقصد من أرض الله.

    يقول أحد كبار العارفين من أئمة المسلمين: لن تقوم الساعة حتى يصبح جميع ما ذكر في القرآن معجزة، يصبح شيئاً عادياً؛ لأنه لا حاجة للمعجزات بعد نبينا عليه الصلاة والسلام، وتبقى الكرامات، وهي لا يتحدى بها، كما يتحدى بالمعجزات.

    وكان من صدق ما قال هذا العارف بالله لم يكن في عصره؛ لأنه كان في القرن السادس، ونحن الآن في أواخر القرن الرابع عشر، أي: منذ ثمانمائة عام، ولم يكن للطيران ذكر، فها نحن الآن نرى أن الريح الرخاء التي سخرت لسليمان أصبح يستعملها جميع خلق الله في الأرض، سخرت لهم الريح فحملوا عليها الطائرات بأنواعها وأشكالها، وهؤلاء الذين صنعوا ذلك ليسوا بمؤمنين ولا بموحدين، فلم يكن ذلك معجزة ولا كرامة، ولكنه سر من أسرار الطبيعة التي خلقها الله، اكتشفوها واطلعوا عليها، فسخروها لخدمة الإنسان، والمخترع الأول لذلك هو عربي أندلسي اسمه عباس بن فرناس ، صنع لنفسه جناحين وطار بهما محلقاً زمناً، ولكنه نسي أن الطائر عند النزول يستعين بذيله، فلم يصنع لنفسه شيئاً يقوم مقام الذيل، فعندما أراد النزول عجز، فبقي يدور ويدور إلى أن كل ومل فسقط.

    واليوم يبحثون ويسعون في أن يصنعوا الأجنحة للإنسان كما صنعوها للجماد، وليس نجاح ذلك ببعيد؛ فبساط سليمان الذي كان معجزة لسليمان الآن يصنعه الناس، ولو وقفت الريح سقطت الطائرة، فهي الريح قد سخرت لسليمان والآن حمل على الطائرات من الأثقال ما كان في عصر سليمان وزيادة، فنحن نرى اليوم وخاصة آخر طائرة صنعت حديثاً التي تسمى (الكونكورد) عبارة عن مدينة محلقة في الأجواء، فيها طبقات، وتحمل ما يزيد على ألف راكب، وتقطع ما بين المشرق والمغرب في أقل من ثلاث ساعات، والأمر لا يزال يزداد، كما قال ربنا جل جلاله: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53].

    تلك من معجزات كتاب الله، ومن أنباء وحي الله، ومما دل على صدق نبي الله وخاتم رسله سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله.

    قال الله تعالى: وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [ص:37].

    أي: سخر له الشياطين، والشيطان الجني الكافر، وقد يكون الشيطان مؤمناً، كما قد يكون الجني كافراً، وهم مردة الجن وأكثرها عتواً وأكثرها قوة، وأكثرها طغياناً، فسخرها الله لسليمان، فقوله: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ [ص:36] (والشياطين) عطفت على الريح، وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ [ص:37]، (بناء) صيغة مبالغة، فهم كانوا يبنون له من كل قصور وقدور راسيات ومن كل ما يريده سليمان من المعسكرات والمدن والقصور.

    (وغواص) أي: كل شيطان شديد الغوص في البحر، فيأتيه من البحر بأنواع اللآلئ والزمرد وكنوز البحر، وفي البحر من الكنوز ما لا يكاد يخطر على بال إنسان.

    والكثير من مواطن البحر من قعره لا يتم الوصول إليه إلا بعد مئات الكيلو مترات، والإنسان كلما غاص أكثر يحس بثقل الماء على ظهره وكأنه الحديد والفولاذ.

    ولذلك الغواص الذي يغوص لالتقاط اللؤلؤ يكون دائماً عند مظهر الماء، لا يستطيع الغوص في أعماق البحار فيهلك.

    قال تعالى: وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ [ص:38] أي: آخرين غير بنائين وغير غواصين من المردة العصاة لسليمان.

    (مقرنين) أي: مسلسلين بالسلاسل والأكبال نتيجة خلافهم وعصيانهم لأوامر سليمان.

    فِي الأَصْفَادِ [ص:38] جمع صفد، وهي السلاسل والأكبال والحديد، فيربطون بالأعناق والأيدي والأرجل.

    إذاً: فربنا عندما طلب منه سليمان أن يهب له ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده استجاب له، فوهب له من الشياطين البنائين والغواصين والمردة، وسخر له الريح تجري به حيث يشاء.

    وقال الله لعبده سليمان: هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ص:39] أي: هذا عطاء الله لسليمان أن يمنن ويتكرم وينعم على من يشاء من الخلق إنساً أو جناً، أو ليمسك، فله أن يعطي ما شاء لمن شاء، ويمنع من شاء مما شاء؛ لأن ذلك مما خصه الله به، وذاك مما استجاب لدعوته بأن يهبه ملكاً لا ينبغي ولا يليق لأحد من بعده.

    قال الله تعالى: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص:40] أي: مهما أعطاه الله في الدنيا من الملك والنبوة والسلطان، ومن التصرف في الخلق جناً وإنساً، فهو مع ذلك له عند الله يوم القيامة زلفى وقربى منه سبحانه، وَحُسْنَ مَآبٍ [ص:40]، المآب الحسن: هو العودة الحسنة الطيبة لرحمة الله ودخول الجنان، وأنه سيعطيه في الجنة أكثر مما أعطاه في الدنيا.

    وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا [ص:40] أي: في الآخرة، ( لزلفى ) أي: لقربى، وَحُسْنَ مَآبٍ [ص:40] أي: عودة حسنة وطيبة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755909632