إسلام ويب

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - البعث والنشورللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أخبر الله تعالى بالبعث من بعد الموت، ودلل على ذلك بأدلة هي في الأصل أقيسة عقلية كقياس الأولى وقياس المثل ودليل المشاهدة وغيرها لتقوم على الناس الحجة في ذلك، وبين سبحانه أحوال الناس بعد البعث وعند العرصات، وأصناف الناس عند العرض عليه سبحانه وتعالى، فعلى المرء أن يؤمن بذلك، وأن يستعد له بالأعمال الصالحة.

    1.   

    الخلاف في عدد النفخات في الصور

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    أما بعد:

    ففي كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للعلامة اللالكائي تكلمنا عن مسألة الاحتضار ثم النزول إلى القبر وسؤال الملكين والاختلاف في ذلك وترجيح أن في القبر أسئلة من الملائكة، وأنه يكون فيه العذاب والنعيم، وبينا اختلاف العلماء في مسألة: هل العذاب والنعيم على الروح أم على البدن أم على الروح والبدن؟ ثم تكلمنا عن المنزلة الثانية من منازل الآخرة ألا وهي منزلة النفخ في الصور التي هي بداية الآخرة، وتكلمنا عن اختلاف العلماء في مسألة: هل النفخ نفختان أو ثلاث أو أربع؟ وذكرنا أن فيها ثلاثة أقوال:

    القول الأول: قول من قال بنفختين.

    القول الثاني: قول شيخ الإسلام أنها ثلاث نفخات.

    القول الثالث: قول ابن حزم ، فإنه قال بأربع نفخات، والصحيح: أن النفخ في الصور نفختان.

    1.   

    أدلة إثبات البعث

    البعث والنشور هو قيام الناس من القبور. ولعظم هذه المسألة وخطرها نوع الله وصنف الأدلة في كتابه الكريم، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما من أحد إلا وسيقف أمام ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، كل أعماله في صحائفه مسطرة، لا يغيب عن الله شيء منها ألبتة، وسيقف كل امرئ منا أمام ربه جل وعلا المحسن يجازى بإحسانه والمسيء يجازى بما عمل، ونسأل الله جل وعلا أن يجعلنا جميعاً من المحسنين.

    والأدلة على البعث متنوعة، منها: الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، فكل هذه الأدلة تدل على أن الله جل وعلا يبعث من في القبور، قال الله تعالى: قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن:7]، ثم بين الله جل وعلا ونوع الأدلة للناس حتى يستيقنوا أن البعث لا بد أن يكون للناس أجمعين، وهذه الأدلة كلها ضروب وأقيسة عقلية؛ ليطمئن القلب أن المرء لا بد أنه سيقف أمام ربه.

    النوع الأول من الأدلة التي هي ضروب وأقيسة عقلية: قياس الأولى أو القياس الجلي، فإن الله جل وعلا أمر العباد أن يسيروا في الأرض فينظروا كيف خلق هذا الخلق الذي أبهر به العقول، فالسماء رفعها بغير عمد، والأنهار أجراها في هذه الأراضي، وأرسى الجبال الشم الشوامخ، كل هذه تدل على قدرة الله جل وعلا، وأمرنا الله أن نتدبر أخلق الإنسان أكبر أم خلق السماوات والأرض؟ أي عاقل لا يحتاج إلى أن يفكر ويتدبر؟ فخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، ولذلك قال الله تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ [غافر:57] ، ثم بين الله جل وعلا هذا الخلق العظيم الذي خلقه الله، فإذا خلق الأعظم فمن باب أولى أن يخلق الأقل منه، ولذلك قال الله جل وعلا: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى [الأحقاف:33]؛ لأنه خلق الأعظم، فالأدنى أسهل أن يخلقه، وأيضاً قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ [الإسراء:99] ، فهذا يثبت أن البعث قائم، وأن الناس سيقومون حتماً من القبور إلى الله جل وعلا، وخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، فالله جل وعلا إذا خلق الأكبر فمن باب أولى أنه يستطيع أن يخلق الأقل والأصغر.

    النوع الثاني من الأدلة على البعث: قياس المثل، فإن الله جل وعلا ضرب لنا مثلاً عقلياً أيضاً، فالإنسان الصانع لو صنع سيارة بعقل مدبر ورسم الرسم التصويري لها ثم أخذ الآلات وركب هذه السيارة فجاءت بصورة معينة، وهو الذي ابتدأها وتعب حتى ابتدأها، فإذا هدمت هذه السيارة هل يسهل عليه أن يعيد مثلها أم لا؟

    في الواقع المشاهد أن الذي ابتدأ شيئاً يسهل عليه أن يعيده، فالله جل وعلا قرب لأذهاننا هذا المثل العظيم، فقال الله تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104]، وقال الله تعالى أيضاً مبيناً لنا ذلك: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الإسراء:51]، وقال جل وعلا: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:78-79]، فضرب لنا قياساً بديعاً هو: أن الإعادة مثل الابتداء، بل هو أسهل؛ لأن الذي ابتدأ شيئاً يسهل عليه أن يعيده.

    النوع الثالث من أنواع الأدلة التي تدل على البعث، وأننا سنقوم أمام الله جل وعلا: واقع مشاهد، بين لنا الله جل وعلا أمراً مشاهداً وقال: أنتم ستقومون مثل هذا الأمر المشاهد، كما قال عز وجل: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122]، وقال (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87] ؛ فبين الله لنا أن الأرض القحلة الميتة إذا نزل عليها المطر اهتزت وربت وأنبتت، فهذه دلالة على أننا سنقوم بعد الموت، قال الله تعالى: وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5]، وقال الله تعالى: إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت:39].

    إذاً: الله سيحيي الموتى كما أحيا الأرض، ولكن كيف سيحيي الموتى؟ يبين الله لنا هذا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم تمطر السماء مطراً كالطل، أو كالظل أو كالظِل) وفي رواية : (كمني الرجل)، فالسماء هنا بدل أن تمطر ماءً ستمطر يوم القيامة ما هو أشبه بمني الرجل، فتمطر كمني الرجل مطراً، فينزل على عجب الذنب، وهو العظم الذي لا يبلى أبداً في الإنسان، فكل شيء في الإنسان يبلى بعد موته إلا عجب الذنب، فهذا العظم ينبت منه الإنسان عندما ينزل المطر، فكما ينزل المطر في الأرض، فتحيا الأرض والنبات فكذلك الإنسان ينزل عليه المطر كالمني فينبت من عجب الذنب، فيقوم الإنسان كما قامت هذه النبتة من الأرض.

    النوع الرابع: أن الله جل وعلا قال: أميت واحداً أمامكم وأحييه، حتى تستيقنوا أن هذه الإماتة والإحياء هي التي ستحدث يوم القيامة، فالله جل وعلا ضرب هذه الأمثلة الواقعة أمام بني إسرائيل، قال الله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:56] ، وأيضاً في حادثة البقرة لما قتل الرجل عمه وألقاه على قرية وذهب إلى أهل القرية وقال: قتله اليهود، فقتل عمه ليستعجل الميراث، ثم أخذ جثته وألقاها في قرية، وقال: أريد دم عمي، أو الفدية، أو دية عمي، فأنتم الذين قتلتموه، فحاروا فيه، فأوحى الله إلى موسى أن يأمرهم بأن يذبحوا بقرة، إلى أن قال الله تعالى: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى [البقرة:73]، فقام الرجل وقال: قتلني ابن أخي. فأحياه الله أمامهم عياناً، فهذه دلالة أيضاً على البعث.

    فهذه أدلة متنوعة تثبت لنا أن الله جل وعلا سيبعث من في القبور، وكل منا سيقف أمام ربه، قال الله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ [البقرة:259]، وأهل الكهف أيضاً جعلهم الله مثلاً مضروباً ليتبين لنا أن الله جل وعلا سيبعث من في القبور، إذاً: فالبعث قائم، والدليل عليه من الكتاب والسنة قائم جلي كالشمس الساطعة في رابعة النهار، فيستلزم منا ذلك أن نؤمن بهذا البعث، ونخلص أعمالنا لله جل وعلا حتى نقف أمامه بنظافة من كل دنس ومن كل رجس ومن كل سيئة.

    1.   

    هل البعث خلق جديد أم إعادة للخلق القديم؟

    يتعلق بالبعث أمر مهم جداً، ألا وهو : هل البعث هو نفس الخلق أم يتغاير؟

    أقول: البعث خلق جديد، يتفق في الجنس ويختلف في السمة والنوع والصفة، فيتفق معه في الجنس فهو نفس الخلق، فأنت محمد مثلاً، مت وسيبعثك الله محمداً، لكن صفاتك وطبيعتك تختلف عن صفاتك وطبيعتك في الدنيا، والدليل على ذلك ما جاء عن ابن عباس أنه قال: (ليس بين ما في الجنة وبين ما في الدنيا إلا الاسم) موز موز، عنب عنب، اسم فقط، لكن يختلف في الطعم والرائحة، وإنما الاسم مشترك والجنس واحد.

    وأيضاً أنت محمد في الدنيا وأنت محمد في الآخرة متفق في الجنس وفي الهيئة، لكن الصفة والسمة مختلفة تماماً، والذي يدلنا على ذلك هو أنك إذا أخذت رجلاً فألقيته في النار فسيحرق ويموت، وتخرج روحه، فهذه ليست الآخرة، أما في الآخرة فإنه إذا ألقي في النار فإنه لا يموت -أقصد الكافر- فإنه كما قال معاذ : الأرواح تسكن أجساداً لا تموت، فهذا أول تغاير بين الدنيا الآخرة، فالإنسان الكافر يحترق ويبقى في النار ولا يموت، وصور الله لنا هذه الصورة الهائلة فقال: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ [إبراهيم:17]، يعني: أسباب الموت كلها موجودة: جوع.. عطش.. حر.. برد.. إهانة.. تنكيل.. كل ذلك من أسباب الموت، وهي موجودة ولكنه لا يموت، قال: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ أي: يحيط به الموت مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ [إبراهيم:17]؛ لأن الله جل وعلا أبقاهم، والطبيعة قد تغيرت.

    وأيضاً في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضرس الكافر يوم القيامة كجبل أحد)، فضرس الكافر في الآخرة يكون كجبل أحد، حتى ينكل به أشد النكال، فهذه دلالة أيضاً على أن خلقك يوم القيامة يكون مغايراً في طبيعته لخلقك وأنت في الدنيا، فأنت في الآخرة أوضح وأجلى وأرقى من ذلك، أسأل الله أن نكون كلنا من هؤلاء عندما ننظر إلى ربنا.

    وموسى لما طلب رؤية الله جل وعلا في الدنيا ما استطاع؛ لأن طبيعته البشرية لا تستطيع ولا تحتمل أن تنظر إلى الله جل وعلا، ولذلك قال الله جل وعلا: وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143]، فلا الجبل يحتمل ولا طبيعة موسى عليه السلام تحتمل، لكن أنت في الآخرة قال الله عنك: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22]، فستنظر إلى أنوار سبحات وجه الله جل وعلا يوم القيامة، ولكن لن تنظر إلى الله جل وعلا بطبيعتك هذه، بل الطبيعة ستتغير، كما قال عز وجل: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22]، ولذلك في عرصات يوم القيامة ترى الملائكة وترى الجن وأنت في الدنيا لا تراهم، كما قال عز وجل عن الدنيا: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]، فأنت لا ترى الجن، لكن يوم القيامة على عرصاتها تقف أنت وبجانبك الجن، وتنظر إلى الملائكة فالله جل وعلا ينادي: فلان بن فلان فيأتيه ملكان، ويأخذانه إلى العرض على الله جل وعلا وهو ينظر إليهما، وينظر أيضاً إلى الجن والشياطين، وينظر إلى الكل، فهذه دلالة على أن الطبيعة تتغاير، والعبد يرى ربه يوم القيامة في الجنة ويتمتع أكبر المتعة وأحسن المتعة برؤية ربه جل وعلا، كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبر على وجهه في جنات عدن)، فإذا نزع رداء الكبر فكل منا سيرى ربه جل وعلا.

    فهذه الأدلة تدل دلالة واضحة على أن الطبيعة متغايرة، فأنت في الخلق الأول في الدنيا غير ما تكون عليه في الخلق الثاني في الآخرة، نسأل الله جل وعلا أن يجعل خلقنا في الآخرة على أحسن صورة، وأن تكون على أتم ما يكون في يوم البعث، وأن يجعلنا ممن ينظرون إلى المليك المقتدر.

    1.   

    كيفية الحشر وبيان مكانه

    يقوم الشخص من القبر إلى أرض المحشر التي قال عنها الله جل وعلا: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ [إبراهيم:48]، وهي كالقرص النقي أي كالعجينة البيضاء التي ليس فيها ثمة شيء، أرض لم يعص فيها الله جل وعلا قط، ولم يرق فيها دم قط، كلها بيضاء عفراء نقية، يقف عليها الأشخاص، ويحشرون جميعاً لا يتخلف أحد عن الله جل وعلا، قال الله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:93-95]، وقال جل وعلا: لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:52] .

    فكل إنسان سيقف أمام ربه جل وعلا، ولا يتخلف أحد عن الحشر إلى أرض المحشر، وستحشر على هيئة بينها النبي صلى الله عليه وسلم، فقد بين أنك ستحشر كما ولدت عارياً غير مكسي ولا مختون، كما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم محشورون حفاة عراة غرلاً)، فالكل سيحشرون حفاة عراة غرلاً، يعني: غير مختونين، وأي شيء نقص منك سيأتيك يوم القيامة.

    فهذا الحديث لما سمعته عائشة اندهشت، فقالت: يا رسول الله! الرجال والنساء عراة ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة ! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض) هذا اليوم يشيب له الولدان، كما قال عز وجل: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]، وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث الثابتة في الصحيحين أن الشمس تدنو من الرءوس، فيبلغ الكرب والغم من الناس مبلغاً، لا يطيقونه ولا يحتملونه.

    ثم يحشرون إلى المليك المقتدر، يقف المرء على عرصات يوم القيامة فينادى: فلان بن فلان، فيأتي ملكان فيأخذانه، وكأنه ذاهب إلى محكمة، بل هي محكمة، لكن الله جل وعلا هو الحاكم وهو القاضي سبحانه وتعالى إن صح أن نطلق على الله هذه الألفاظ، فإن هذا من باب الأخبار لا من باب الصفات ولا الأسماء، فالله جل وعلا هو الذي سيقضي في أمرك أو سيحكم في أمرك، ولا يغيب عنه شيء.

    قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر الله الناس أجمعين الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو منهم الشمس ...) الحديث، قال عز وجل: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18] .

    1.   

    العرض على الله وأصناف الناس فيه

    قال الله تعالى: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:48-49]، الناس في ذلك اليوم على ثلاثة أصناف:

    الصنف الأول: صنف يرخي الله عليه ستره وكنفه، ثم يعرفه ذنوبه، فيقول: عبدي أما عملت ذنب كذا يوم كذا؟ أما انتهكت حرمة كذا يوم كذا؟ والعبد يقول: أي رب، أعرف ذلك وأقره، فيرخي عليه ستره، ويقول: عبدي قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. وذلك من رحمة الله ومن كرم الله.

    الصنف الثاني: صنف يناقش الحساب، وهذا الصنف هو الذي يعذبه الله على ذنوبه، ويقول: فعلت كذا وكذا وكذا، ولا يغفر ذنباً من هذه الذنوب بحال من الأحوال، وهذا الذي لا يغفر له الذنب، قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (قد هلك) وسيأتي بيان ذلك.

    الصنف الثالث: صنف مفضوح -نسأل الله أن يرخي علينا ستره في الدنيا والآخرة- والفضيحة الكبرى إنما تكون على عرصات يوم القيامة وليست في الدنيا؛ لأن في الدنيا قد تكون على مجموعة خمسين شخصاًً أو عشرين شخصاً أو بلدة بأكملها أو على الإنترنت، لكن الفضيحة هذه لا تساوي شيئاً بالنسبة للفضيحة الكبرى يوم القيامة، فليس هناك فضيحة من لدن آدم عليه السلام إلى آخر الخليقة إلى آخر مخلوق سيخلق عندما لا يقال: الله الله إلى قيام الساعة تعادل الفضيحة الكبرى.

    والفضيحة أنواع أيضاً: فضيحة لأهل الإيمان الذين هم من الفسق بمكان، وهم لا يخلدون في النار، وفضيحة لأهل الكفر، أما فضيحة أهل الإيمان فكل غادر ينشر له لواء، فيقال: هذه غدرة فلان، يقرؤها القارئ وغير القارئ، واللواء: علم، فكما أن الناس يسيرون بأعلام يعرفون بلادهم بهذه الأعلام، هذا الرجل أيضاً الغادر له لواء منشور أمام الخلائق أجمعين، يراه رسول الله ويراه آدم ويراه نوح، وينظرون إليه، وأفاضل الخلق سيرون هذه الفضيحة، هذا لأهل الإيمان، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار.

    وأما الكافر فهذا بالقول وبالفعل، فيقال عنه على رءوس الأشهاد: هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18]، لعنة من الملائكة ومن الله ومن أهل الإيمان، يقال: ألا لعنة الله على الظالمين.

    وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله جل وعلا ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يجد إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يجد إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) أي: أن صدقة واحدة يمكن أن تنجيك من عذاب الله يوم القيامة.

    وأيضاً في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: يدنو المؤمن من ربه فيرخي عليه ستره وكنفه ثم يعرفه يقول: عبدي ! هل تعرف كذا؟ يذكر له الذنب الذي أذنبه، وانتهاك الحرمة التي انتهكها، فيقول: أي رب أعرف، فيقر ولا يعترض، فيقول: عبدي! هل تعرف ذنب كذا؟ يقول: نعم رب أعرف، فيقول: عبدي تعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم رب أعرف، فيقر ولا يعترض على ربه، وهذا هو العبد الذي غلبته شهوته، وغلبه هواه، ولكنه خاضع مسكين، يعلم أن أمره بيد ربه، فيقول: رب نعم أعرف، فيقول: (عبدي! سترتها عليك في الدنيا، وأنا أسترها عليك اليوم) وفي رواية: (أغفرها لك اليوم) فيغفرها الله، فهذا المؤمن المذنب.

    وأما المنافق -نعوذ بالله من النفاق- والكافر فيقال على رءوس الأشهاد: هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18].

    الصنف الثالث: صنف يناقشون الحساب وتعدد سيئاتهم -والعياذ بالله-، وهؤلاء لا بد أن يدخلوا نار جهنم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب)، وفي رواية أخرى: (من نوقش الحساب هلك)، فـعائشة -وهي فقيهة- اعترضت بدليل، فرد عليها النبي صلى الله عليه وسلم وبين لها الحجة، ولذلك ما أنكر عليها أنها اعترضت؛ لأن عندها دليل، فإنها قالت: يا رسول الله! أوليس الله قد قال: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق:8]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذلك العرض) أي: يعرض على الله، فيعرفه ذنوبه ويقول: عبدي! تعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم رب، فيقر، فيقول الله: (أغفرها لك اليوم).

    وقوله: (ذاك العرض، من نوقش الحساب فقد هلك) لا بد لهذا من تفسير، وقد فسره علماؤنا فقالوا: مناقشة الحساب أن يعدد عليه ذنوبه كلها، ذنباً ذنباً، ولا يغفر له منها ذنباً واحداً، كما روى اللالكائي في هذا الكتاب العظيم عن الحسن البصري أنه سئل: ما هو سوء الحساب؟ فقال: أن تعد السيئات أو الذنوب ولا يغفر ذنباً واحداً منها أبداً.

    فهذا الذي إذا نوقش الحساب عذب يدخل الجنة وقت ما يشاء الله جل وعلا.

    فإذا حشروا وسئلوا ووفاهم الله أعمالهم، أدخل الله أهل الجنة الجنة، وأدخل أهل النار النار.

    ثم ذكر المصنف رحمه الله الميزان، وما الذي يوزن: الأعمال أم الأشخاص؟ وذلك بعد أن بين لنا أصناف أهل الجنة وأصناف أهل النار.

    1.   

    مصير اليهود والنصارى إذا ماتوا على غير ملة الإسلام

    بوب المصنف باباً من أهم الأبواب؛ لأن كثيراً ممن ينتسبون إلى الإسلام ضيعوا عقائد الناس وميعوها، هذا الباب هو باب ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن اليهود والنصارى إذا ماتوا على غير ملة الإسلام يدخلون النار. فهذا واضح وهل يحتاج النهار إلى دليل؟

    وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل

    فعندنا من قال بوحدة الأديان، وعندنا من قال: أخي بطرس ، وعندنا من يقول: بيني وبينهم خلة، والله عز وجل يقول: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، فهو مع ذلك يقول: الأديان السماوية.. والتسامح في النصرانية.. والتسامح في اليهودية.. فسنبين لهم لعلهم يتركونها، أو نبين لنا حتى نثبت على عقيدتنا ونعلم أن هذا الكلام هراء، وأن هذا الكلام يصل بالمرء إلى الكفر، فإن قائل هذا الكلام إن لم يتق الله في نفسه يكفر هو أيضاً، فيحشر معه، والمرء مع من أحب.

    قال الله تعالى مبيناً أنه لا يقبل أبداً من أحد إلا الإسلام: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، فالدين معرف بالألف واللام فيفيد العموم، فالأديان كلها التي نزلت تساوي الإسلام، فحصر كل الأديان وقال: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، وتفسيها بلآية الأخرى، من باب تفسير القرآن بالقرآن، قال الله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85] أي: لا يقبل منه بحال من الأحوال، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود:17] . قال سعيد بن جبير : هم اليهود والنصارى.

    وأوضح من ذلك ما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي جئت به، إلا كان من أصحاب النار) ، فالنصراني الذي لا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به محمد يكون من أصحاب النار، واليهودي الذي لم يؤمن بمحمد وبما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يكون من أصحاب النار، بنص الحديث، وأيضاً في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى عمر يقرأ في التوراة، فقال: (أمتهوك فيها يا ابن الخطاب ؟! والذي نفسي بيده! لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني) أي: يكون خلفي، ولذلك قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81] .

    فكل إنسان وكل نبي وكل أحد رأى رسول الله لا يسعه غير أن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كرامة من الله لهذه الأمة، حتى عيسى عليه السلام إذا نزل آخر الزمان لا يحكم إلا بشريعة محمد، بل لا يؤم أمة محمد؛ كرامة لهذه الأمة، فإنه ينزل عيسى على جناح الملك، فيجد الصلاة قد أقيمت والمهدي سيكبر، فيراه المهدي أو يشم رائحته، فإن عيسى عليه السلام ينزل وكأن حب اللؤلؤ يتقاطر منه عليه السلام، فيرجع المهدي ؛ لأنه يعرف مقامه، ويريد أن يقدم النبي، فيقول عيسى: لا، تقدم؛ إمامكم منكم؛ تكرمة الله لهذه الأمة.

    ولذلك أول أمة تحاسب هي هذه الأمة، لكرامة نبيها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يأتي تحت العرش ويقول: (يا رب أمتي أمتي، أمتي أمتي) .

    وفي حديث أبي هريرة في الصحيحين قال: (لكل نبي دعوة مستجابة، وإني قد خبأت دعوتي شفاعة لأمتي) ، فكرامة هذه الأمة واسعة جداً، فهذه الأمة لا بد لكل الأمم أن تنزل تحت لوائها، ولا بد أن تتبعها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).

    حكم من لم يكفر اليهود والنصارى

    اليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم هم أهل كفر، وهم أهل ضلال، ومن لم يكفرهم ويعتقد خلودهم في نار جهنم إذا ماتوا على الكفر بعد إقامة الحجة عليهم، وبعد بيان حالهم من الكتاب والسنة فهو كافر خارج من الملة، خالد مخلد في النار.

    إذا رأيت الرجل يقول: النصراني دينه دين سماحة، أو هذا أخونا في الدين، فهذا على خطر عظيم، فمن كان هذا حاله فقل له: النصارى ألا يقولون: باسم الله.. باسم الأب.. باسم كذا.. باسم كذا؟! فسيقول: نعم، فقل له: ألا يقولون في عيسى: إنه إله وإنه ابن الله وإنه ثالث ثلاثة؟

    فالنصارى يقولون بألوهية عيسى، فمنهم من يقول بالأقانيم الثلاثة، ويقولون: فيه شيء من الناموس وشيء من اللاهوت، وعقيدة النصارى كلها كذلك، فهم يقولون عن عيسى: ابن الله، فأنت ائت بالمصحف وقل له: قال الله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73]، فهل تكفرهم أم لا تكفرهم؟ إذا قال: لا، هم إخواننا في العقيدة، فقل له: أنت كافر؛ لأنه كذَّب الله جل وعلا؛ لأن الله -ومن أصدق من الله حديثاً، ومن أصدق من الله قيلاً- قال: إنهم كفار، فكيف يقول: هم مسلمون؟!

    فهذه دلالة على أن من لم يكفرهم يكفر بعد إقامة الحجة عليه، وأيضاً الله جل وعلا قال: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ [الأعراف:157] ، فهذا مسطر عندهم: محمد صلى الله عليه وسلم، مسطر في التوراة والإنجيل، وهم ينكرون، فالذي لا يكفرهم بعد إقامة الحجة عليه فهو كافر خالد مخلد في نار جهنم إن لم يتب ويموت على التوبة.

    إذاً: هذا الباب من أهم الأبواب، ومنه يتبين لنا أن الذين يميعون العقائد عند الناس هم أضل الناس، ولذلك قال سفيان بن عيينة : كنا نقول عن علمائنا الذين يضلون: إنهم أشبه ما يكون باليهود؛ لأنهم يضلون على علم، فالذين يميعون العقيدة عند الناس هم في ضلال مبين إن لم يكونوا على كفر.

    فإذا قيل: إنهم لا يقولون ذلك، بل يعتقدون كفرهم، لكن يقولون ذلك حفاظاً على الكراسي، فنقول: مآلهم إلى الله، لكن الظاهر عندنا أنه إذا كفر اليهود أمامهم، ثم لم يكفرونهم كفروا، وأيضاً النصارى، وعندنا حديث جلي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد، فينادى اليهود فيقول الله تعالى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عزيراً ابن الله - حاشا لله- فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، ما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقول الله تعالى مبكتاً إياهم: اشربوا، فيتساقطون في نار جهنم ، ثم يؤتى بالنصارى فينادى على النصارى: ما كنتم تعبدون، فيقولون: كنا نعبد المسيح وينسبونه إلى الله جل وعلا - حاشا لله - فيقول الله تعالى: كذبتم، لم يتخذ الله صاحبة ولا ولداً، فيقول الله جل وعلا: ما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقول الله تعالى مبكتاً لهم: اشربوا، فيتساقطون في نار جهنم) والعياذ بالله .

    فهؤلاء هم أكثر أهل الأرض وأضل أهل الأرض، نعوذ بالله أن نقول بقولهم، ونعوذ بالله أن نعمي على الناس، وأن نميع عقائدهم فلا يعرفون الكافر من المسلم.

    وأشد ما يكون على الناس ألا يفرقوا بين الكافر وبين المسلم؛ لأن للكافر أحكاماً وللمسلم أحكاماً.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755921205