إسلام ويب

وما قدروا الله حق قدرهللشيخ : خالد الراشد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن حقيقة تقدير الله حق قدره وتعظيمه حق عظمته يتحقق بأمرين: الأمر الأول: أخذ العبر والدلائل على عظمة الله من آياته في هذا الكون الفسيح. والأمر الآخر: الإيمان باليوم الآخر وما فيه من الأهوال العظام، فينبغي الحرص على هذين الأمرين حتى نقدر الله حق قدره، ونخشاه حق خشيته.

    1.   

    حاجة القلوب إلى المواعظ القرآنية

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    معاشر الأحبة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله وبياكم وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته إخواناً على سرر متقابلين، وأسأله سبحانه أن يحفظني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين.

    وأسأله سبحانه أن يجمع شمل أمة محمد، وأن يعلي شأنها، ويوحد صفها، ويصلح ولاة أمورها، وأن ينصرها على القوم الكافرين.

    فأهلاً بكم أحبتي في ليلة قرآنية عنوانها: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67].

    فمواعظ القرآن توقظ القلوب النائمة، وتذكر الأنفس اللاهية، وما أحوجنا في ظل انشغالاتنا في طلب دنيانا أن نقف مع أنفسنا، ونعرض أنفسنا على مواعظ القرآن التي لا تخلو منها صفحة من صفحات كتاب الله جل في علاه.

    إن الأنفس في أمسّ الحاجة إلى قطر السماء القرآني كما أن الأرض في أمس الحاجة إلى قطر السماء المائي، فالأرض إذا انقطع عنها ماء السماء يبست وقحطت، ثم إذا تنزل عليها الماء تبدل حالها وانقلب رأساً على عقب، قال الله جل في علاه: وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً الحج:5] يعني: ميتة، فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5]، وهذا دليل ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحج:6]، وهذا دليل وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج:7].

    أرأيت كيف يتبدل حال الأرض عند نزول القطر؟ كذلك يتبدل حال القلوب إذا تنزلت عليها المواعظ القرآنية، فإن كانت الأرض في أمسّ الحاجة إلى قطر السماء فالقلوب في أمس الحاجة إلى تذكيرها بعلام الغيوب جل في علاه، فلا حياة للأرض إلا بالماء، ولا حياة للقلوب إلا بذكر الله جل في علاه.

    فالقلب الذاكر قلب حي ينبض حياة في كل حين، والقلب اللاهي قلب قاس بعيد عن ذكر الله، وقد قست القلوب اليوم حين ابتعدت عن المواعظ القرآنية والمواعظ النبوية، والمطلوب عرض هذه القلوب على مواعظ القرآن وعلى المواعظ النبوية.

    1.   

    بيان عظمة الله في سورة الزمر

    هناك آية عظيمة ساقها الله في سورة الزمر، وما أدراك ما سورة الزمر؟! بدأها الله ببيان عزته وحكمته: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر:1]، فالله عزيز في ملكه، وعزيز في قهره، وعزيز في صفاته وأسمائه جل في علاه، وحكيم في أفعاله وفي تصرفاته، ومرد ذلك إلى علمه الذي وسع كل شيء، فهو عزيز جل في علاه، ومن عزته وحكمته أنه أنزل علينا هذا الكتاب، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ [الزمر:1-2].

    فانطلقت هذه السورة بأول سطورها تبين عزة الله وحكمته، ثم بينت ما هو المطلوب من العباد وهو تحقيق العبودية لله، وعدم الإشراك بالله جل في علاه، فقال: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ الزمر:2-3].

    عدم تعظيم الناس لربهم حق التعظيم

    ما قدر العباد الله حق قدره يوم أن عبدوا سواه، وما قدروا الله حق قدره يوم أن أشركوا في عبادته، وما قدروا الله حق قدره يوم أن قالوا: اتخذ الله صاحبة وولداً، وما قدروا الله حق قدره يوم خالفوا أوامره وارتكبوا نواهيه، وما قدروا الله حق قدره يوم أن قالوا: إن قدرة الله ليست بمطلقة، والله قد بين لهم أنه على كل شيء قدير، ثم جاءت آية عظيمة بين الله فيها عظمته وقدرته، فقال عن الذين أشركوا وخالفوا أوامره: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].

    قوله: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي: ما عظموا الله حق تعظيمه وفي الأرض آياته وبيناته التي تدل على وحدانيته وعلى قدرته، فهلا سرتَ في الأرض لترى الدلائل والعلامات على قدرة الله جل في علاه، فكل ما في الأرض يدل على أنه واحد، فكيف يعصيه العاصي أو يجحده الجاحد.

    مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي: ما عظموه حق تعظيمه، وقد جاءت الرسل لتبين لأقوامها هذه الحقيقة، حتى نبينا صلى الله عليه وسلم بيّن للناس هذه الحقيقة وهي: أن الله عظيم في قدرته، وعظيم في قوته، وعظيم في كل اسم من أسمائه وفي كل صفة من صفاته.

    قال نوح عليه السلام لقومه: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:13] أي: مالكم لا تعظمون الله حق تعظيمه فتخافون من عذابه وأليم نقمته؟!

    ثم بين لهم عظمة الله في أنفسهم، وفي آياته التي تحيط بهم يمنة ويسرة فقال: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح:14] يعني: أوجدكم من عدم هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1].

    فمن أنت يا ابن آدم! حتى أوجدك الله وأخرجك إلى هذا الوجود؟! وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا يعني: طوراً بعد طور: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم أخرجكم طفلاً، ثم لتبلغوا أشدكم، وهكذا خلق الإنسان، فما عظَّم الله حق تعظيمه وما قدر الله حق قدره من لم يتأمل في هذه الآيات.

    ثم أمرهم نبيهم صلوات ربي وسلامه عليه أن ينظروا في ملكوت السماوات والأرض، وأن ينظروا في آيات الله يمنة ويسرة حتى يروا عظمة الله جل في علاه: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا [نوح:15-20].

    قال سبحانه: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].

    ولدتك أمك يا ابن آدم باكياً

    والناس حولك يضحكون سروراً

    فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا

    في يوم موتك ضاحكاً مسروراً

    ولن يكون هذا إلا إذا قدرت الله حق قدره، فما قدروا الله حق قدره يوم تخلفوا عن أوامره وتساهلوا في نواهيه، وما قدروا الله حق قدره من ناموا عن الصلوات المكتوبة، وما قدروا الله حق قدره من تطاولوا على الربويات، وما قدروا الله حق قدره من ملئوا ليلهم ونهارهم بالعكوف أمام الشاشات والقنوات، وما قدروا الله حق قدره يوم لم يستشعروا عظمته وأنه في كل مكان يراهم ويعلم سرهم ونجواهم.

    فما عصى عاصي وما خالف مخالف إلا لأنه لم يقدر الله حق قدره، وما تخلف متخلف عن أوامر الله إلا لأنه ما قدر الله حق قدره.

    1.   

    قرب يوم القيامة

    إن الله سبحانه يري العباد الآيات في أنفسهم، وسيريهم الآيات في السماوات وفي الأرض، وأي خطب أعظم وأجل من ذلك اليوم الذي تكون فيه الأرض في قبضة الجبار قال سبحانه: وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ، وهنالك سيعرف أولئك الذين ما قدروا الله حق قدره أنهم كانوا خاطئين، فإن الله سيريهم في ذلك اليوم من الآيات العظام ما الله به عليم.

    وكل خطب عظيم تسبقه أمور عظام، لذلك من حكمته جل في علاه ومن رحمته بنا أن جعل لذلك اليوم علامات تدل على وقوع ذلك اليوم العظيم، وهي أمارات صغار وأمارات عظام.

    فأما العلامات الصغار فقد ظهرت إلا قليلاً منها، قال الله: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ * فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد:18-19].

    والحقيقة التي يجب ألا تغفل عنها أننا في هذه الدنيا ضيوف وعما قليل سينادي المنادي بالرحيل، فأما الذين قدروا الله حق قدره فهم على أتم الاستعداد ليوم الرحيل، وأما المفرطون الذين لم يقدروا الله حق قدره فليلهم ونهارهم سواء، قال الله عنهم: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3].

    يا عجباً للناس لو أبصروا

    حاسبوا أنفسهم إذا قصروا

    وعبروا الدنيا إلى غيرها

    فإنما الدنيا لهم معبرُ

    لا فخر إلا فخر أهل التقى

    غداً إذا ضمّهم المحشرُ

    ليعلمنّ الناس أن التقى

    والبر كانا خير ما يُذْخرُ

    فمن قدر الله حق قدره فليستعد لذلك اليوم.

    تفاوت الناس في الإيمان بيوم القيامة

    يتفاوت الناس في الإيمان الذي وقر في قلوبهم ما بين مؤمن قوي وضعيف، ويختلف الناس لاختلاف ذلك الإيمان الذي وقر في قلوبهم، ويظهر ما وقر في القلب هذا في التصرف والسلوك والأخلاق والمعاملات.

    وقد بين الله لنا في كتابه أنه سيجمع الأولين والآخرين في يوم لا يغادر الله فيه صغيرة ولا كبيرة.

    والإيمان باليوم الآخر قدمه الله على كثير من أركان الإيمان، فقال الله جل في علاه: ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:232]، فقدم الله الإيمان بالله وباليوم الآخر على سائر أركان الإيمان؛ والسبب: أن الإيمان بذلك اليوم هو الذي يحرك الإنسان في حياته، فمن علم أنه عبد لله، وعلم أنه سيقف بين يدي ربه جل في علاه، وعلم أنه سيسأل عن كل صغيرة وكبيرة فكيف يكون حاله في دنياه؟ وكيف يكون حال من قدر الله حق قدره، واستشعر عظمة الله، واعلم أن الله مطلع عليه ويعلم سره ونجواه؟! كيف يؤثر ذلك في سلوكه وفي تصرفاته؟ وانظر في واقع الناس اليوم فإنهم يدعون أنهم يؤمنون بالله وباليوم الآخر لكن لا ترى لإيمانهم أثراً واقعاً ملموساً في حياتهم، بل تراهم يتهاونون في الطاعات ويتساهلون في المحرمات! فلماذا هذا؟

    لأنهم ما قدروا الله حق قدره.

    وقبل هذا اليوم العظيم أمور عظام، فكيف أنت إذا أشرقت الشمس من مغربها؟ وكيف أنت إذا سار المسيح الدجال في الأرض؟

    وكيف أنت إذا خرجت الدابة تكلم الناس وتقول لهم: إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون؟

    وكيف أنت إذا فتحت يأجوج ومأجوج وظهرت هذه الآيات العظام؟! فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا [محمد:18].

    فالمؤمن الذي قدر الله حق قدره إذا رأى هذه الآيات الصغار التي تدل على قرب الآيات العظام استعد أشد الاستعداد لملاقاة الله جل في علاه، فأنت قد تصبح ولا تدرك المساء، وأنت قد تمسي ولا تدرك الصباح، فلا بد من الاستعداد، ومن مات فقد قامت قيامته، واسمع إلى قول أولئك الذين ما قدروا الله حق قدره إذا رأوا آيات الله العظام يوم يقفون بين يدي الجبار جل في علاه: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27].

    فقال الله راداً عليهم: بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28].

    فكيف كان حالهم في دنياهم؟ قالوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ * وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:29-33].

    1.   

    أهوال يوم القيامة

    يجمع الله الخلق أولهم وآخرهم في يوم لا يغادر الله فيه صغيرة ولا كبيرة، فكيف سيكون حالي وحالك في ذلك اليوم العظيم؟!

    سيبدأ ذلك اليوم بنفخة في الصور كما قال الله جل في علاه في سياق تلك الآيات: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:67-68].

    وقال سبحانه: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:13-18].

    فكيف سيكون حال أولئك الذين لم يقدروا الله حق قدره؟! إن الأهوال ستبدأ ببعث، ثم حشر، ثم شفاعة، ثم نزاع، ثم حساب، ثم تتطاير صحف.

    فأسألك بالله العظيم: كم قرأت مثل هذه الأخبار في كتاب الله؟! أما يتكرر ذلك في كل صفحات القرآن؟! أما أعاد الله أمثال هذه الصور مرات ومرات في كتابه؟

    إن المؤمن حقيقة يستعد لذلك اليوم، ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود:103-105].

    وقد أنكر الكفار قضية البعث والحشر والحساب، زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7].

    إن من حكمة الله البالغة أن يجمع الناس الأولين والآخرين، وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31]؛ حتى يثاب المحسن على إحسانه وحتى يعاقب المسيء على إساءته، فهذه من حكمة الله في جمع الناس في ذلك اليوم العظيم الذي لا يغادر الله فيه صغيرة ولا كبيرة، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [المعارج:43-44].

    أما تكرر هذا الحديث في القرآن وأن الله سيجمع الأولين والآخرين، فقال سبحانه: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ [الواقعة:41-43]، لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ * قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة:41-50].

    فكيف سيكون حال الناس في ذلك اليوم؟! وكيف سيكون حال أولئك الذين ما قدروا الله حق قدره في ذلك اليوم؟!

    وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12].

    وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا [الأنعام:30].

    إن أمنية كل واحد منهم: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]، فيجمع الله الأولين والآخرين في مكان واحد تبدل فيه الأرض غير الأرض والسماوات، فلا هي بالأرض التي نعرفها، ولا هي بالسماء التي كنا نستظل بها، وحال الناس لا يعلم به إلا الله، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج:43].

    إنّ اليوم العظيم تسبقه أهوال عظام، وقد تكررت تلك المشاهد في القرآن مرات ومرات لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

    وقد سمى الله ذلك اليوم القارعة؛ لأنه يقرع الآذان ويقرع القلوب، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:3-5].

    فكيف سيكون حالي وحالك إذا صارت الجبال كالعهن المنفوش، وصار الناس كالفراش المبثوث؟!

    وكيف سيكون حالنا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:21-22]؟!

    فإذا نفخ في الصور خرج من في القبور يزيلون التراب من على رءوسهم ويقولون: قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:52-53].

    وسمى الله ذلك اليوم يوم التلاق، فيلتقي فيه آدم مع ذريته، ويلتقي فيه أهل الأرض مع أهل السماء، ويلتقي فيه الظالم مع المظلوم.

    وسماه الله يوم الجمع، حيث يجمع الله فيه الأولين والآخرين.

    فلا تخلو صفحة من صفحات القرآن من صورة ومشهد من ذلك اليوم العظيم، وهي صور تحيي القلوب، لكن ما قدروا الله حق قدره، فغفلوا عن الاستعداد لذلك اليوم العظيم.

    وإذا خرج الناس من قبورهم صاروا إلى محشرهم كما ولدتهم أمهاتهم حفاة عراة، وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:94]، تقول عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: (الرجال والنساء حفاة عراة ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: يا عائشة ! الأمر أعظم من أن ينظر بعضهم إلى بعض).

    إنه يوم الفرار، فيه يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].

    فالقلوب واجفة، والأبصار خاشعة، ولا يدرون ماذا يفعل بهم، ولا يدرون إلى أين المصير، فيشتد الموقف على العباد في ذلك اليوم، وتدنو الشمس من رءوسهم، فأين الفرار في ذلك اليوم إذا أدنيت الشمس من رءوس العباد مقدار ميل؟!

    قال الراوي: والله ما أدري هل أراد ميل المسافة أم ميل المكحلة؟! فيغرق الناس في عرقهم كل على قدر أعماله، فمنهم من يأخذه العرق إلى كعبيه، ومنهم إلى ركبتيه، ومنهم إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً.

    الشفاعة في أرض المحشر

    بينما الناس في ذلك الموقف العظيم إذ نظر بعضهم إلى بعض فقالوا: ألا ترون ما نحن فيه؟! ألا ترون ما قد بلغنا من الهم والغم؟! ألا ترون من يشفع لنا عند ربنا؟!

    روى مسلم عن أبي هريرة قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في وليمة فأدنيت منه الذراع وكان يحبها، فنهش منها نهشة ثم قال: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، أتدرون لم ذلك؟ يجمع الله الأولين الآخرين فلا يغادر منهم أحداً، فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، حتى إذا استووا في موقف أدنيت الشمس من رءوس العباد مقدار الميل، فيغرق الناس في عرقهم) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وفي ذلك اليوم لا يتكلمون إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه:109].

    وتأمل هذه الأمور العظام التي تحدث بين يدي ذلك اليوم العظيم وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا [طه:105-111].

    فينظر الناس بعضهم إلى بعض، ويقولون: (ألا ترون ما نحن فيه؟ ألا ترون ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا ترون من يشفع لنا عند ربنا؟ فيقولون: اذهبوا إلى آدم .

    فيأتون آدم فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسكنك جنته، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول آدم: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني نهيت عن تلكم الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى نوح.

    فيأتون نوحاً فيقولون: أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم.

    فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم! أنت نبي الله وخليله، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله؟ ولن يغضب بعده مثله، وإني كذبت ثلاث كذبات -لو عددناها لعددناها من صالح أعمالنا- ثم يقول: نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى موسى.

    فيأتون موسى فيقولون: أنت نبي الله وكليمه، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى.

    فيأتون عيسى فيقولون: أنت نبي الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولا يذكر ذنباً ويقول: نفسي نفسي نفسي) .

    أتدري من هؤلاء الذين يقولون: نفسي نفسي نفسي؟ هؤلاء هم أولو العزم من الرسل، وهؤلاء أحب الخلق إلى الله، وأخوفهم من الله، وأتقاهم لله، فكيف يكون حالي وحالك؟! وكيف سيكون حال أولئك الذين ما قدروا الله حق قدره؟! وكيف سيكون حال المفرطين والعصاة؟!

    قال: (فيقول عيسى: اذهبوا إلى محمد، فيأتون محمداً -وفي رواية فيأتيهم- فيقولون: يا محمد! أنت نبي الله وخاتم المرسلين، غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فأقول: أنا لها، فأنطلق إلى العرش فأخر ساجداً، ثم يفتح الله علي من محامده ما لم يفتحه على بشر من قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي، يا رب! أمتي)، فما تخلى الحبيب عن أمته، ولم ينس الحبيب أمته في أشد المواقف، بل نادى بأعلى صوته: (أمتي أمتي) فأين أمة محمد اليوم عن نصرة دينه؟ وأين أمة محمد اليوم عن اتباع سنته؟ وأين أمة محمد اليوم عن الذب عن شريعته، والجهاد في سبيله؟

    قال: (فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من ليس عليه حساب من الباب الأيمن من الجنة، وهم شركاء الناس في سائر الأبواب).

    ثم قال صلى الله عليه وسلم: (والله! إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، وليأتين عليها يوم وهي كضيض من الزحام).

    العرض

    وهل تظن أن الموقف قد انتهى؟ كلا، بل ينتقل الناس من شدة إلى شدة، وينتقل الناس من أمر عظيم إلى أمر جسيم، فيأذن الله بالشفاعة، ويأذن الله بالحساب، فتصف الصفوف وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف:48].

    فتقام الصفوف، وتطأطأ الرءوس، وتشخص الأبصار، وتتطاير الصحف، وتوضع الموازين، وتوزن الأعمال، ويتمنى الإنسان حسنة واحدة في ذلك المقام، فالأم تقول لابنها: حملتك في بطني تسعة أشهر، وفعلت لك ما فعلت، يا بني! حسنة واحدة لمثل هذا اليوم العظيم، وكذلك يقول الأب لأبنائه، فينادي كل منهم: نفسي نفسي نفسي.

    تقول عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: (أيعرف الناس أهليهم في ذلك اليوم؟ قال: نعم إلا في ثلاثة مواقف، يوم تتطاير الصحف فلا يدري الإنسان أيأخذ كتابه بيمينه أم بشماله، ويوم تنصب الموازين فلا يدري أترجح كفة الحسنات أم كفة السيئات، وإذا نصب الصراط فلا يدري أيتجاوزه أم يهلك مع الهالكين). أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

    ويأذن الله بالشفاعة ويأذن بالحساب، فيبدأ يوم عسير مقداره خمسون ألف سنة، سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:1-4].

    فلا يأكلون ولا يشربون ولا يتكلمون في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة!

    فكيف سيكون حالي وحالك؟! وكيف سيكون حال أولئك الذين ما قدروا الله حق قدره؟! وفي شدة الموقف والأهوال يظل الله من قّدروه حق قدره في ظل عرشه، وفي ذلك اليوم العظيم أصناف سبعة يستظلون بظل عرش الرحمن الرحيم، فأين أنت منهم؟

    قال الحسن البصري : كيف أنت بأقوام وقفوا على أقدامهم مدة خمسين ألف سنة، لا يأكلون ولا يشربون ولا يتكلمون، وبينما هم على ذلك الحال وقوف إذ جيء بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها؟ إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [الفرقان:12-13]، سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان:12]، تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [الملك:8].

    وقد أمرنا الله بتقواه والاستعداد لذلك اليوم العظيم، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2].

    فتتقطع الأحساب والأنساب، ثم يأمر الله بالحساب، فكيف أنت بمحكمة قاضيها الملك الديان، وشعارها لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر:17].

    قرأ قارئ: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَالَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [الزلزلة:1-7] فبكى وقال: والله إنه حساب شديد، سنحاسب فيه بالذرة! فكم نظرة نظرتها ستعرض عليك ذلك اليوم! وكم كلمة قلتها ونسيتها ستعرض عليك ذلك اليوم! وكم من أعمال عملتها ستصبح هباء منثوراً في ذلك اليوم!

    الحساب

    يبدأ الحساب بعد ذلك، فتخيل الموقف إذا قيل: فلان بن فلان استعد للعرض!

    فلو ينادى عليك بين يدي ملك من ملوك الدنيا لارتعدت فرائصك، ولو أمرت أن تقف بين يدي مسئول لارتعدت فرائصك، فكيف وأنت ستقف بين يدي من الأرض في قبضته، والسماوات مطويات بيمينه، يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104].

    وستقودك الملائكة من بين الصفوف والبشر كلهم ينظرون إليك، وأنت لا تدري ماذا يفعل بك، ولا تدري إلى أين المصير!

    فأما الذين قدروا الله حق قدره فاسمع كيف يكون حسابهم، قال ابن عمر : يدني الله العبد منه يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه -يعني ستره- ثم يقرره بذنوبه: تذكر يوم صنعت كذا وكذا، حتى إذا ظن العبد أنه هلك قال الله أرحم الراحمين: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أسترها عليك اليوم، فيؤتى كتابه بيمينه، فيخرج بين الملأ ضاحكاً مسروراً ينادي بأعلى صوته هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ [الحاقة:19-22].

    وأما حال الذين لم يقدروا الله حق قدره: فإذا وقف بين يدي ربه وقرره الله بذنوبه قال له الله: عبدي! أما استحيت أن تعصيني؟! أتختفي عن جميع الناس وتنساني؟! فينادي الله جل في علاه لزبانيته وملائكته: يا ملائكتي! خذوه، ومن عذابي أذيقوه، فقد اشتد غضبي على من قل حياؤه معي، فيعطي كتابه بشماله، فيخرج بين الملأ حسيراً كسيراً مطاطئ الرأس، يقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:25-29].

    فينادي الجبار ملائكته: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [الحاقة:30-37].

    الميزان

    بعد ذلك توضع الموازين وتوزن الأعمال، وهي دليل على عدل الله وحكمته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة).

    وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].

    فتوزن الأعمال حتى يعلم كل إنسان أن مكانته عند الله على قدر أعماله، والميزان عدل لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، (فيؤتى برجل سيئاته مثل الجبال، حتى إذا ظن العبد أنه قد هلك قال الله: لا ظلم اليوم، هل لعبدي من حسنة؟ فيؤتى ببطاقة مكتوب فيها: لا إله إلا الله، فيقول العبد الذي ظن أنه هلك: وما تصنع هذه البطاقة مع أعمالي التي كالجبال من الآثام؟! فتوضع البطاقة في كفة، والسيئات في كفة، فتطيح لا إله إلا الله بالسيئات! فترجح كفة الحسنات)، فاحفظوا هذه الكلمة: لا إله إلا الله، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19]، فلن ينجو في ذلك اليوم إلا أهل لا إله إلا الله، ولا من تحقيق شروطها من علم وصدق ويقين وانقياد وقبول ومحبة للا إله إلا الله، فماذا حققنا من شروط هذه الكلمة؟!

    الصراط

    لا يزال البشر ينتقلون من موقف إلى موقف، ومن شدة إلى شدة، ومن هول إلى أهوال، لا يدرون إلى الجنة أم إلى النار يكون المصير، فينصب الصراط وهو أدق من الشعر، وأحد من السيف، ويؤمر الناس بالمرور، ومن تجاوز فإلى دار النعيم، ومن سقط فإلى العذاب المهين، فيعطى الناس نوراً في ذلك اليوم حتى يتجاوزوا ذلك الصراط، فمنهم من نوره يسعى من بين يديه ومن خلفه، ومنهم من يعطى نوراً كالجبل، ومنهم من يعطى نوراً كالكوكب الدري، ومنهم من يعطى نوراً في إصبع إبهام رجله، فيضيء له مرة فيقدم قدمه على الصراط، ويظلم مرة فيقف، والكلاليب تتخطف الناس وتهوي بهم إلى جهنم وبئس المصير، فناج مسلم، وناج مخدوش، ومكردس على وجهه في جهنم، والنبي صلى الله عليه وسلم على الصراط يقول: (اللهم سلم سلم)، فهل أعددت لذلك اليوم عدته؟

    واسمع إلى أحوال أولئك الذين قدروا الله حق قدره فاستعدوا لذلك اليوم العظيم، بكى عبد الله بن رواحة يوماً وهو مضطجع على فخذ امرأته، فبكت المؤمنة من بكائه، فقال لها: ما الذي يبكيك؟ قالت: ما بكيت إلا لبكائك، فما الذي أبكاك؟ قال: تذكرت قول الجبار جل في علاه: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71]، يعني: وارد الصراط، لا يدري إلى الجنة يؤخذ به أم إلى النار، قال: تذكرت الصراط، وذلة الناس في ذلك اليوم العظيم، فبكيت عندما تذكرت ذلك، فهل أبكانا مثل ذلك اليوم؟ إنه يوم عظيم صوره الله فقال عنه: وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا * فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا * وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:66-71]، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:72]، فهل نحن من المتقين؟

    واسمع بعض صفاتهم في كتاب الله: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32]، فالمتقون هم الناجون في ذلك اليوم، ومن صفاتهم: وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [الأنعام:92]، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19] ، وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج:26-35].

    فهذه صفات الناجين الذين قدروا الله حق قدره.

    فريق في الجنة وفريق في السعير

    ينتهي ذلك اليوم وينقسم الناس إلى قسمين: فريق في الجنة وفريق في السعير، فمن الذي سيفوز؟ ومن الذي سيخسر؟ إنه فوز لا خسارة بعده، وإنها خسارة لا فوز بعدها.

    عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، ودخل أهل النار النار، جيء بالموت على صورة كبش أقرن أملح بين الجنة والنار، فينادى: يا أهل الجنة! أتعرفون هذا؟ فيشرئبون فينظرون فيقولون: نعم، هذا الموت، فينادى: يا أهل النار! أتعرفون هذا؟ فيشرئبون فينظرون فيقولون: نعم هذا الموت، فيأمر به فيذبح، ثم ينادى: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت).

    فتأمل مقدار السعادة، وتأمل مقدار الحسرة والندامة في قلوب الخاسرين، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:39-40].

    وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ [الزمر:67-70].

    فينقسم الناس إلى قسمين: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:71-72].

    والفريق الآخر: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:73-74]، فكيف هو استعدادنا لذلك اليوم، يوم يجمع الله الأولين والآخرين؟ وكيف هو حال أولئك الذين قدروا الله حق قدره؟ وكيف هو حال أولئك الذين ما قدروا الله حق قدره؟

    فاتقوا الله عباد الله! واستعدوا لذلك اليوم، قال الحسن البصري : إن أقواماً غرتهم الحياة الدنيا فخرجوا منها بلا حسنات، يقولون: إننا نحسن الظن بالله، وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل. ولكنهم ما قدروا الله حق قدره، وسوف نعرف قيمة العمر وقيمة الحياة إذا فارقنا الأهل والأحباب، فنصيح بأعلى الصوت: رباه! ارجعون، فلا يستجاب لنا.

    أما آن الأوان أن نقدر الله حق قدره، ونعلم أن الحياة مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي عند الله حقيرة، فاتقوا الله عباد الله! ومن تقوى الله الاستعداد لذلك اليوم العظيم، واقرءوا القرآن وتدبروا آياته، ففيه آيات لو تنزلت على الجبال لرأيتها خاشعة متصدعة من خشية الله.

    والموفق من وفقه الله للاستعداد، ولو علم الله خيراً في الفريق الآخر لأسمعهم.

    (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين)، مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، اذكروا الله يذكركم، انصروا الله ينصركم، وأوفوا بعهد الله يوفي بعهدكم، وحافظوا على أوامر الله يحفظكم في دينكم ودنياكم.

    اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

    اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا -يا ربنا- من الراشدين.

    اللهم استر في ذلك اليوم عوراتنا، وأمن فيه روعاتنا، وثقل فيه موازيننا، وبيض فيه وجوهنا، وزحزحنا فيه عن النار، وأدخلنا الجنة يا عزيز يا غفار!

    اللهم اجمع شمل المسلمين، ووحد صفهم، وأعل شأنهم، وأصلح ولاة أمورهم، وانصرهم -يا قوي يا عزيز- على القوم الكافرين.

    وأستغفر الله العظيم، وصلى الله على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755998792