إسلام ويب

تفسير سورة الشرحللشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ألم نشرح لك صدرك)

    سورة الشرح هي السورة الرابعة والتسعون، وهي سورة مكية، وقيل: مدنية، وهذا أقوى، فإن استقرار هذه النعم المعدودة فيها إنما كان بالمدينة النبوية كما لا يخفى، وآيها ثمان. قال تبارك وتعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1]. قوله: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)، أي: ألم نوسعه بإلقاء ما يسره ويقويه، وإظهار ما خفي عليه من الحكم والأحكام، حتى علم ما لم يعلم، وصار مستقر الحكمة، ووعاء حقائق الأنباء. والهمزة لإنكار النفي، ونفي النفي إثبات، ولذا عطف المثبت عليه وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ [الشرح:2]. ما معنى قوله: نفي النفي إثبات؟ معنى ذلك: أن الهمزة نفسها فيها معنى النفي، ثم أتت بعدها أداة نفي وهي (لم)، فنفي النفي إثبات، كما قال الله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، وقال أيضاً على لسان فرعون: (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا [الشعراء:18]. وقال الشاعر: ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح إذاً: هذا استفهام معناه التقرير، فقوله: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) فيكون معنى الآية: قد شرحنا لك صدرك، فلذلك عطف على هذا قوله: وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ [الشرح:2]. وأصل الشرح بسط اللحم ونحوه مما فيه توسيع مستلزم لإظهار باطنه وما خفي منه. واستعمل في القلب الشرح والسعة؛ لأنه محل الإدراك لما يسر وضده، فجعل إدراكه لما فيه مسرة، يزيل ما يحزنه فرحاً وتوسيعاً؛ وذلك لأنه بالإلهام ونحوه مما ينفس كربه ويزيل همه، وبظهور ما كان غائباً عنه وخفياً عليه مما فيه مسرته، كما يقال: شرح الكتاب: إذا وضحه، ثم استعمل الشرح في الصدر، والصدر محل القلب؛ لأن اتساع الشيء يتبعه اتساع ظرفه، ولذا تسمع الناس يسمون السرور بسطاً ثم سموا ضده ضيقاً وقبضاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك)

    قال تبارك وتعالى: وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ [الشرح:2-3]. الوزر: هو الحمل الثقيل، ووضعه: إزالته عنه؛ لأنه إذا تعدى بـعلى كان بمعنى التحميل، وإذا تعدى بمن كان بمعنى الإزالة، مثلاً تقول: وضعت على الجمل الأثقال. هذا بمعنى التحميل، لكن وضعت عنه هذه الأثقال بمعنى الإزالة. قوله: (الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ) الإنقاض: هو حصول النقيض بالضاد، والنقيض هو صوت فقرات الظهر. وقيل: صوت الجمل أو الرحل أو المركوب إذا ثقل عليه، فالإنقاض التثقيل في الحمل حتى يسمع له نقيض، أي: صوت. وقال ابن عرفة : هو الأثقال يجعل ما حمل عليه نقضاً، أي: مهزولاً ضعيفاً، وقد مثل بذلك حاله صلى الله عليه وسلم مما كان يثقل عليه ويهمه من كثرة المستهزئين بدعوته، وضعف من سبق إلى الإيمان به، وشيوع الشرك والضلال في جزيرة العرب، وقوة أهلها؛ ووضع الأثقال عنه هو كثرة من آمن به، ودخولهم في دين الله أفواجاً، وقوة أتباعه، وانمحاء الشرك والجاهلية من الجزيرة، وذل أهلها بعد العز، وانقيادهم بعد شدة الإيذاء. وقيل: الآية كناية عن عصمته وتطهيره من دنس الآثام، كما قال الله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [الفتح:2]. والوجه الأول أقوى؛ لأن الوزر هو حال النبي عليه الصلاة والسلام مما كان يثقل عليه من تألمه بحال المستهزئين به، وعدم استجابتهم له، وضعف أتباعه.. إلى آخره. وسبق أن تكلمنا بالتفصيل في سورة الفتح، في تفسير قوله تعالى: (( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ )) وبينا أن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم من المعاصي، وأن الأنبياء كلهم معصومون من المعاصي والآثام، وأن ما ورد في الكتاب أو السنة مما يفهم منه خلاف ذلك فهو محمول على أحد أمرين: إما أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ما هو خلاف الأولى، فيكون هذا في حقه كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فعد معصية بالنسبة إلى مقامه العالي الشريف وعوتب عليه. وإما أن يكون عليه الصلاة والسلام اجتهد في هذا الأمر وظن أنه يوافق مرضاة الله، ثم بعدما فعله اتضح أنه بخلاف ذلك، فعد ذنباً بهذا الاعتبار، لكن تعمد مخالفة أمر الله لا تصدر عنه. والقاعدة المقررة عند أهل السنة: هي عصمة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ورفعنا لك ذكرك)

    قال عز وجل: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4] يعني: بالنبوة، وفرض الاعتراف برسالتك. ولذلك: يجب على كل إنسان من البشر أن يؤمن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإيمان به شرط في قبول الإيمان وصحته؛ ولأنه لا يمكن أبداً أن يدخل أحد الجنة بعد بعثته صلى الله عليه وسلم إلا من طريقه. وقال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة عليه الصلاة والسلام، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. وقال مجاهد : لا أُذكر إلا ذكرت معي. قال الشهاب : وهذا -أي: قول مجاهد - إن أخذ كلية خالف الواقع؛ فإنه كم ذكر لله وحده، وكم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وحده، وإن عين موضعاً فهو ترجيح بلا مرجح، وإن جعلت القضية مهملة فلا يخفى ما في الإهمال من الركاكة. فينبغي لمن كان من أهل العلم أن يناقش الكلام بتمحيص، فهنا مجاهد رحمه الله فسر قوله: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) بقوله: لا أُذكر إلا ذكرت معي. فيفهم منها على إطلاقها أنه لا يمكن أن يذكر الله إلا ويذكر معه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا لا يوافق الواقع؛ لأن ما أكثر ما يقول المسلم: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، دون أن يذكروا معه النبي صلى الله عليه وسلم، وكم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وحده. ثم قال الشهاب : وقد أمعنت فيه النظر حتى لاح لي أن الجواب الحق أن يقال: الذكر محمول على الذكر في مجامع العبادة ومشاهدها، فإن ذكره صلى الله عليه وسلم مقرون بذكره في الصلوات وفي الخطب، فلا ترى مشهداً من مشاهد الإسلام إلا وهو كذلك، فلا ينفك ذكره صلى الله عليه وسلم عن ذكره تعالى في يوم من الأيام، ولا ليلة من الليالي، بل ولا في وقت من الأوقات المعتد بها فتتجه الكلية. وعلى هذا التفسير نقبل القاعدة الكلية التي أطلقها مجاهد في تفسير الآية بقوله: لا أُذكر إلا ذكرت معي، يعني: لا أذكر في مجامع العبادة ومشاهدها، كصلاة العيد وصلاة الجمعة. والتشهد في الصلاة مثلاً، وفي الأذان إلا ذكرت معي. في الأذان كما قال حسان بن ثابت وهو يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: أغر عليه للنبوة خاتم من الله من نور يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد صلى الله عليه وسلم. ويقول الإمام الصرصري : لا يصح الأذان في الفرض إلا باسمه العذب في الفم المرضي ويقول أيضاً: ألم تر أنا لا يصح أذاننا ولا فرضنا إن لم نكرره فيهما ويقول الشاعر أيضاً: يا آل بيت رسول الله حبكم من الله فرض في القرآن أنزله يكفيكم من عظيم المجد أنه من لم يصل عليكم فلا صلاة له صلى الله عليه وآله وسلم والمعنى: أنه لا يوجد وقت على الإطلاق إلا ويذكر فيه النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الأرض كروية، والليل هنا يكون نهاراً في مكان آخر، فتنتقل مسافات الزمن، ونحن الآن ندرك هذه الأمور بما اكتشف من العلوم الحديثة، بحيث لو اتصلت إلى أمريكا في الساعة الثامنة والربع مساءً فإن الوقت عندهم يكون الساعة الواحدة والنصف ظهراً؛ لأن الوقت يترحل باستمرار يقول عز وجل: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ [الزمر:5]. يقول: فلا ينفك ذكره صلى الله عليه وسلم عن ذكره تعالى، لا ينفصل عنه في يوم من الأيام، ولا ليلة من الليالي، بل ولا في وقت من الأوقات المعتد بها، فتتجه الكلية، أي: قول مجاهد: لا أذكر إلا ذكرت معي. فإن قلت: من أين لك هذا التخيير؟ فهل هو إلا ترجيح من غير مرجح؟ قلت: المقام ناطق بهذا القيد، فإن المراد التنويه بذكره صلى الله عليه وسلم وإشاعة قدره، الدال على قربه من ربه، كقرب اسمه من اسمه، وإنما يكون هذا بذكره في المحافل والمشاهد والجوامع والمساجد، وأي إشاعة أقوى من الأذان، لا في الأسواق والطرق التي يطرح فيها كل ذكر. ثم قال: واعلم أن تحقيق هذا المقام ما قاله الإمام الشافعي في أول رسالته الجديدة وبينه بالتفصيل، فقال رحمه الله تعالى: قول مجاهد في تفسير الآية: لا أذكر إلا ذكرت معي، أي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. يعني: ذكره عند الإيمان بالله، والأذان، ويحتمل ذكره عند تلاوة القرآن، وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية. قال السبكي : هذا الاحتمال من الشافعي جيد جداً، وهو مبني على أن المراد بالذكر الذكر بالقلب؛ لأن الفاعل للطاعة أو الكاف عن المعصية امتثالاً لأمر الله تعالى به ذاكر للنبي صلى الله عليه وسلم بقلبه؛ لأنه المبلغ لها عن الله، وهذا أعم من الذكر باللسان؛ فإنه -أي: الذكر باللسان- مقصور على الإسلام عند الدخول في الإسلام والأذان والتشهد والخطبة ونحو ذلك. قال الشافعي : فلم تمس بنا نعمة ظهرت ولا بطنت نلنا بها حظاً في دين أو دنيا، أو رفع عنا بها مكروه فيهما أو في واحد منهما إلا ومحمد صلى الله عليه وسلم سببها. فعلم من هذا أنه إن أبقى العموم والحصر على ظاهره، حمل الذكر على الذكر القلبي، فيشمل كل موطن من مواطن العبادة والطاعة، فإن العاقل المؤمن إذا ذكر الله تذكر من دل على معرفته وهداه إلى طاعته، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قيل: فأنت باب الله أي امرئ أتاه من غيرك لا يدخل ولك أن تقول: المراد برفع ذكره عليه الصلاة والسلام تشريفه بمقارنته بذكره في شعائر الدين الظاهرة، وأفضلها كلمتا الشهادة، وهما أساس الدين، ثم الأذان والصلاة والخطب كلها تنحصر في شعائر الدين. يقول الشيخ عطية سالم : وقد نص القرآن أن الله جعل الوحي ذكراً له ولقومه، فقال تعالى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف:43-44]. ومعلوم أن ذكر قومه ذكر له، كما قال الشاعر: وكم أب قد علا بابن ذرى رتب كما علت برسول الله عدنان فتبين أن رفع ذكره صلى الله عليه وسلم، إنما هو عن طريق الوحي، سواء كان بالوقوف على توجيه الخطاب إليه كمثل: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة:41]، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال:64]، يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1]، والتصريح باسمه في مقام الرسالة مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29]، أو كان في فروع التشريع كما في الأذان والإقامة، والتشهد والخطب والصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً)

    قال الله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5-6]. قوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ، إشارة إلى أن الذي منحه صلى الله عليه وسلم من شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر بعد ضيق الأمر، واستحكام حلقات الكرب في أول السير، كان على ما جرت به سنته تعالى في هذا النوع من الخليقة، وهو أن مع العسر يسراً، ولهذا وصل العبارة بالفاء التي هي لبيان السبب، فَإِنَّ سببية. و(أل) في قوله: (العسر) للاستغراق، يعني: مع كل عسر. ولكنه استغراق بالمعهود عند المخاطبين من أفراده وأنواعه، فهو العسر الذي يعرض من الفقر والضعف، ودهن الصديق وقوة العدو وقلة الوسائل إلى المطلوب، ونحو ذلك مما هو معهود ومعروف. فهذه الأنواع من العسر مهما اشتدت، وكانت النفس حريصة على الخروج منها ظافرة لكثرة شدتها، واستعملت من وسائل الفكر والنظر والعمل ما من شأنه أن يعد لذلك في معروف العقل، واعتصمت بالتوكل على الله، حتى لا تدركها الخيبة لأول مرة. ولا تضر عزيمتها بما تلاقيه عند الصدمة الأولى، فلا ريب في أن النفس تخرج منها ظافرة، وقد كان هذا حال النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ضيق الأمر عليه كان يحمله على الفكر والنظر، حتى آتاه الله ما هو أكبر من ذلك وهو الوحي والنبوة. ثم لم تكسر مقاومات قومه شيئاً من عزمه، بل ما يزال يلتمس الغنى في الفقر، والقوة في الضعف، حتى أوتي من ذلك ما زعزع أركان الأكاسرة والقياصرة، وترك منه لأمته ما تمتعت به أعصاراً طوالاً. ثم يذكر القاسمي لطيفة حول تنكير قوله: (يُسْرًا) يقول: فتنكير (يُسْرًا) للتعظيم، والمراد يسر عظيم، وهو يسر الدارين، وفي كلمة (مَعَ) إشعار في غاية سرعة مجيء اليسر، كأنه مقابل للعسر. يعني: أنها تفهم كما في قوله تعالى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق:7] يعني: الشدة أولاً، ثم يتبع ذلك الفرج. فأراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل لعباده الأمل في تفريج الكربات، بأن جعل اليسر مقارناً للعسر وليس قريباً منه. فاستعير لفظ (مع) بمعنى: بعد. وقوله تعالى: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) تكرير للتأكيد، أو عظة مستأنفة؛ لأن هذا العسر سيأتي بعده يسر آخر، كثواب الآخرة؛ ولذلك جاء في الأثر: (لن يغلب عسر يسرين). يقول أبو بكر : (إنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة، يجعل الله بعده فرجاً، وإنه لن يغلب عسر يسرين). إشارة إلى ما جاء في هذه الآية: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) فالعسر واحد؛ لأنه أتى بـ(أل) أما اليسر فأتى منكراًً فهو يسرين. فإن المعرف إذا أعيد، يكون الثاني عين الأول، سواء كان معهوداً أو جنساً. أما اليسر في الآية الأولى وفي الثانية فهو منكر (يُسْرًا) فيكون مغايراً لما أريد بالأول، فلذلك قالوا: لن يغلب عسر يسرين. يقول الشاعر: إذا اشتد بك العسر ففكر في ألم نشرح فعسر بين يسرين إذا ذكرته فافرح

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فإذا فرغت فانصب)

    قال عز وجل: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ [الشرح:7]، أي: إذا فرغت من عمل من أعمالك النافعة لك ولأمتك، فانصب، أي: خض في عمل آخر واتعب فيه، فإنك تجد لذة الراحة عقب النصب لما تجنيه من ثمرة العمل. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى بعدما بين أنه لا سبيل إلى الفراغ عند المؤمن الحق، يقول: المؤمن لا يعرف الفراغ، فموضوع ما يسمى ضبط الفراغ، وتجزية وقت الفراغ، حتى يقول قائلهم: أنا أقتل الوقت، وفي الحقيقة هو يقتل نفسه. النصب: هو التعب بعد الاجتهاد، يقول تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية:2-3] أي: أنها تعمل وتكد وتجتهد وتكدح فيترتب عليه النصب. وقد يكون النصب للدنيا أو للآخرة. فلذلك اختلف في المقصود من قوله هنا: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ)، فقال بعضهم: فانصب في الدعاء، أو في الذكر بعد الفراغ من الصلاة، وقيل: إذا فرغت من الفريضة فانصب في النافلة. يعني: فاجتهد فيه ما استطعت، والذي يشهد له القرآن، أنه توجيه عام للأخذ بحظ الآخرة، بعد الفراغ من عمل الدنيا، كما في مثل قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، وقال تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:6]، أي: لأنها وقت الفراغ من عمل النهار وسكون الليل، وقال تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [النصر:1-2]، يعني: أديت مهمة تبليغ الدين، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3]، فيكون وقته كله مشغولاً إما للدين وإما للدنيا. وفي قوله تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ) حل لمشكلة الفراغ التي شغلت العالم، حيث لم تترك للمسلم فراغاً في وقته؛ لأنه إما في عمل للدنيا وإما في عمل للآخرة. ولذلك مر بعض السلف بأناس يلهون فقال: ما بهذا أُمر الفارغ. يعني: من فرغ من العمل ما أمر باللعب واللهو، إنما أمر بالنصب وتلا قوله تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ). وعن عمر أنه قال: (إني لأكره لأحدكم أن يكون خالياً سبهللاً، لا في عمل دنيا ولا دين). لذلك السلف لم يعرفوا مشكلة الفراغ وضياع الوقت، فالوقت هذا أعظم نعمة كما قال عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ). فالفراغ رأس مال الإنسان وهو الوقت، فمن جمع الله له الأمرين: الصحة والفراغ، فهما أعظم نعمة، ومغبون من ضيع الصحة والفراغ، ممكن واحد معه صحة، لكن ليس عنده فراغ، ممكن واحد عنده فراغ، لكنه مبتلى بالأمراض والأوجاع، فلا يستطيع استثمار هذه النعمة، لكن إذا جمع الله لك هاتين النعمتين: الصحة والفراغ؛ فاعلم أنهما أعظم نعمة. فلذلك ينبغي على الإنسان أن يحافظ على الوقت والصحة. وقد ذكر الألوسي في قوله تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ قراءة شاذة: (فإذا فرغت فانْصِب) بمعنى التنصيب، يعني: عيِّن الإمام من بعدك. وهذا هو مذهب الشيعة الضلال، فالشيعة قالوا: (فَإِذَا فَرَغْتَ) إذا فرغت من أعباء النبوة وأديت ما عليك، فنصب علياً إماماً، هذا من إلحادهم في آيات الله وما أكثرها. وقال الألوسي : ليس الأمر متعيناً بـعلي . الألوسي يرد على الشيعة، يقول لهم: ليس الأمر متعيناً بـعلي ؛ لأن السني قد يقول: معنى قوله: (فانصب) يعني: نصب أبا بكر رضي الله عنه، كذلك إذا احتج الشيعي بما كان في غدير خم، احتج السني بأن وقته لم يكن وقت الفراغ من النبوة، بينما الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) وهذا كان بعد بعد حادثة غدير خم، وكان قرب فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من النبوة؛ لأنه كان في مرض موته صلى الله عليه وسلم، فأولى أن يكون هذا في حق أبي بكر. وعلى كل حال إذا كان الشيعة يحتجون بهذه القراءة، فيكفي لرد احتجاجهم أنها شاذة، وتتبع الشواذ قريب من التأويل المسمى باللعب عند علماء التفسير، وهو صرف اللفظ عن ظاهره لا لقرينة صارفة ولا علاقة رابطة. ولقد استطرد الشيخ عطية سالم وذكر صوراً أخرى من اللعب في التأويل في هذه الآية الكريمة، يقول: ومن اللعب في التأويل في هذه الآية ما يفعله بعض العوام، يقول: رأيت رجلاً عامياً عادياً قد لبس حلة كاملة من عمامة وثوب قصير وحزام جميل مما يسمونه نصبة -النصبة يعني: بدلة كاملة- فقال له رجل: ما هذه النصبة يا فلان؟ فقال له: لما فرغت من عملي نصبت كما قال تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ. وسمعت آخر يتوجع لقلة ما في يده، ويقول: يا فلان! ألا تعرف لي شخصاً أنصب عليه، يعني: أقترض منه، فقلت له: ولم تنصب عليه، والنصب كذب وحرام؟ فقال: إذا لم يكن عند الإنسان شيء، ويده خالية فلا بأس، إذا فرغت يدك من الأموال (فانصب) فلا بأس؛ لأن الله قال: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وهذا وأمثاله مما يتجرأ عليه العامة لجهلهم، أو أصحاب الأهواء لضلالهم. يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ)، أي: إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها فانصب إلى العبادة، وقم إليها نشيطاً فارغ البال، وأخلص لربك النية والرغبة، ومن هذا القبيل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدءوا بالعشاء).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإلى ربك فارغب)

    قال تبارك وتعالى: وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:8] يعني: وإلى ربك ترغب، التقديم هنا مشعر بالتخصيص، مثل قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] أي: لا نعبد غيرك، وهكذا هنا لا ترغب إلى غيره سبحانه وتعالى. كأنه يقول: الذي أنعم عليك بكل ما تقدم هو الذي ترغب فيما عنده لا سواه؛ لأنه سبحانه هو الذي أنعم عليك بكل هذه النعم المعدودة في سورة الضحى والشرح. فإذا كان كل هذه النعم هي من عند الله، فلا ينبغي أن ترغب إلا بما عند الله سبحانه وتعالى لا فيما سواه: (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ). يقول القاسمي : قوله: (فإذا فرغت) أي: من عمل من أعمالك النافعة لك ولأمتك. قوله: (فانصب) أي: خض في عمل آخر واتعب فيه، فإنك تجد لذة الراحة عقب النصب بما تجنيه من ثمرة العمل. قوله: (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) أي: في الدعوة إليه، ولا ترغب إلا إلى ذاته، دون توان أو غرض آخر، لتكون دعوتك ووجهتك إليه وحده. وقال ابن جرير : اجعل نيتك ورغبتك إليه دون من سواه من خلقه، إذ كان هؤلاء المشركون من قومك قد جعلوا رغبتهم في حاجاتهم إلى الأنداد. يقول القاسمي : والأظهر عندي اعتماداً على ما صححناه من أن الآية مدنية، وأنها من أواخر ما نزل، وأن يكون معنى قوله تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ) أي: إذا فرغت من مقارعة المشركين، وظفرت بأمنيتك منهم بمجيء نصر الله والفتح، فانصب في العبادة والتسبيح والاستغفار. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756548113