إسلام ويب

تفسير سورة التوبة [7-28]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله...)

    قال الله تبارك وتعالى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة:7]، في هذه الآية وما بعدها يبين الله سبحانه وتعالى الحكمة في البراءة من المشركين، وإنظاره إياهم أربعة أشهر، ثم بعدها السيف المرهف، فقال عز وجل: ((كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ )) أي: أمان. قوله: (( عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ )) يعني: وهم كافرون بهما، فهذا الاستفهام للإنكار والاستبعاد لأن يكون لهم عهد. قوله تعالى: (( إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ )) يعني بذلك: أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية على ترك الحرب معهم عشر سنين. ثم قال: (( فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ )) يعني: إذا لم يزالوا مستقيمين على عهدهم مراعين لحقوقكم فاستقيموا لهم على عهدهم. (( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ )) يعني: فاتقوه في نقض عهد المستقيمين على العهد الذي ثبت بينكم وبينهم. قال ابن كثير : وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك والمسلمون، فاستمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة سنة ست إلى أن نقضت قريش العهد، ومالئوا حلفاءهم -وهم: بنو بكر- على خزاعة، فقتلوهم في الحرم، وخزاعة كانوا أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة ثمان، ففتح الله على يديه البلد الحرام، ومكنه من نواصيهم ولله الحمد والمنة، فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم من أسلم منهم بعد القهر والغلبة عليهم، فسموا الطلقاء، وكانوا قريباً من ألفين. أما من استمر على كفره وفر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد بعث إليه بالأمان والتسليم في أربعة أشهر، فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة:2] أي: يذهب حيث شاء، ومنهم صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما، ثم هداهم الله سبحانه وتعالى إلى الإسلام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبون فيكم إلاً ولا ذمة...)

    قال تعالى: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ [التوبة:8] أي: كيف يكون لهم عهد والحال أنهم إن يظهروا عليكم -بعدما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق- لا يرقبون فيكم إلاً ولا ذمة؟! (إلاً) أي: قرابة، (ذمة) أي: عهد. وهذه الجملة مردودة على الآيات الأولى، فإنه قال أولاً: (كيف يكون للمشركين...) ثم قال رداً عليهم ثانياً: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبون فيكم إلاً ولا ذمة؟!) كيف يكون لهم عهد وحالهم ما ذكر؟! وفي هذا تحريض للمؤمنين على التبرؤ منهم؛ لأن من كان أسير الفرصة، مترقباً لها، لا يرجى منه دوام العهد، وهذه طبيعة المشرك الذي لا يخشى الله ولا يتقيه، وديدنه الغدر ونقض العهود والمواثيق. ثم استأنف تبارك وتعالى بيان حالهم المنافية لثباتهم على العهد، فقال عز وجل: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:8]، (يرضونكم بأفواههم) أي: بالكلام المعسول والكلام الطيب. (وتأبى قلوبهم) يعني: وتنفر قلوبهم. (وأكثرهم فاسقون) متمردون لا عقيدة تسعهم، ولا مروءة تردعهم. وقال: (وأكثرهم) ولم يقل: وكلهم فاسقون؛ لما في بعض الكفرة من التجافي عن الغدر والتعفف عما يجر إلى أحدوثة السوء، وقد كان كثير من المشركين يتصون ويتعفف عن كثير من الخصال المذمومة كالكذب والغدر والخيانة، كما قال أبو سفيان أيام كفره لما قابل هرقل: فوالله! لولا أن يؤثر علي كذب لكذبت عليه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً ...)

    قال تعالى: اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [التوبة:9] ( اشتروا ) أي: استبدلوا بآيات الله. ( ثمناً قليلاً ) يعني: من متاع الدنيا، والمقصود: أهويتهم الفاسدة. فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ [التوبة:9] أي: فعدلوا عنه أو صدوا غيرهم، إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [التوبة:9].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة...)

    قال تعالى: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ [التوبة:10] يعني: المجاوزون الغاية في الظلم والمساوئ، وهذه هي طبيعة الكفر، وطبيعة الشخص الذي لا يؤمن بالله ولا يتقي الله سبحانه وتعالى إذا أمكنته الفرصة، وفي هذه السنوات الأخيرة تتجلى لنا هذه الطبيعة بصورة فاجرة لم يسبق لها مثيل تقريباً، فأنت ترى العالم كله يتنادى بما يسمونه حقوق الإنسان والمواثيق والعهود الدولية وقرارات مجلس الأمن إلى آخر هذه الخزعبلات، ثم هذه الأشياء تطبق على كل الناس إلا مع المسلمين، يستثنى المسلمون فيها، فحينما تنتهك حرماتهم وتسفك دماؤهم فلا حقوق إنسان ولا قوانين ولا معاهدات دولية ولا أي شيء من هذا، مادام هؤلاء مسلمين! كان ياسر عرفات يتحدث مع بعض الصحفيين ومنهم يهود، فكانوا يقولون له: ما هذا الذي تفعله السلطة الفلسطينية من القتل والتعذيب، وإهانة الشعب الفلسطيني، واعتقال الناس وتعذيبهم، حتى أن كثيراً منهم يموت في السجون من التعذيب؟! فرد عليهم ياسر عرفات قائلاً: لا تنسوا أننا نتعامل مع الإرهابيين، يعني: يريد أن يذكرهم بهذه القاعدة المتفق عليها بينهم، وكان يقصد حماس! فهؤلاء المنافقون واليهود لا يتذكرون حقوق الإنسان إلا مع غير المسلمين، أو مع أهوائهم، أما مع المسلمين فيستعملون الغدر والخيانة ونقض العهود، وما رأيناه في البوسنة والهرسك، وما نراه الآن في الشيشان، وما يحصل في فلسطين من غدر اليهود ونقضهم العهود، كل ذلك مما يجعل لمثل هذه الآيات الكريمات وقع خاص في نفوسنا الآن بعد التجارب المريرة التي ذقناها، فكأنها تتحدث فيما نعيشه اليوم!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة ...)

    قال تعالى: فَإِنْ تَابُوا [التوبة:11] يعني: إن تابوا عما هم عليه من الكفر. قوله: وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11] يعني: لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، فعاملوهم معاملة الإخوان، وفيه من استمالتهم واستجلاب قلوبهم مالا مزيد عليه. قوله: وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [التوبة:11]، هذه جملة معترضة؛ للحث على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين، وعلى المحافظة عليها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ...)

    قال تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ [التوبة:12] أي: إن نقضوا أيمانهم. قوله: مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ [التوبة:12] يعني: فقاتلوهم، وإنما أوثرت هذه الصيغة وهي قوله تعالى: (( فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ))، للإيذان بأن الذين قاموا بذلك ذوو رياسة وتقدم في الكفر، فهم أحقاء بالقتل والقتال. وقيل: المراد بالأئمة : رؤساؤهم وصناديدهم، وتخصيصهم بالذكر: إما لأهمية قتلهم لكونهم مظنة لها، أو للدلالة على استئصالهم، فإن قتلهم غالباً يكون بعد قتل من دونهم، لأنه لا يوصل إلى الرءوس إلا بعد هلاك من دونهم من الحراس ومن حولهم كما هو معروف في الحروب، فإنه يصعب أن يوصل للقائد حتى يهلك من حوله. إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ [التوبة:12] (إنهم لا أيمان لهم) جمع يمين، يعني: لا عهود لهم على الحقيقة، حيث لا يراعونها ولا يعدون نقضها محذوراً، فهم وإن نطقوا بها لا عبرة بها، وفي قراءة: (إنهم لا إيمان لهم) يعني: لا إسلام ولا تصديق لهم حتى يرتدعوا عن النقض والطعن، فإن كان عندهم إيمان وإسلام فدين الإسلام يردع ويزجر الإنسان من الغدر والخيانة. (لعلهم ينتهون) يعني: عن الكفر والطعن ويرجعون إلى الإيمان.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم...)

    ثم حض الله على قتالهم بتهييج قلوب المؤمنين وإغرائهم بقوله سبحانه وتعالى: أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [التوبة:13] (نكثوا أيمانهم) يعني: الأيمان التي حلفوها في المعاهدة. ( وهموا بإخراج الرسول ) يعني: من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة، كما ذكر الله سبحانه وتعالى في قوله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال:30]، فهذا نعي عليهم بجنايتهم القديمة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى أيضاً: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ [الممتحنة:1]، وقال أيضاً: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ [محمد:13]، وقال عز وجل أيضاً: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ [التوبة:40]، وقال عز وجل: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا [الإسراء:76]. قوله تعالى: (( وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ )) يعني: بالقتل يوم بدر، حين خرجوا لنصر عيرهم، فلما نجت العير وعلموا بذلك استمروا في السير طلباً للقتال بغياً وتكبراً وقالوا: كلا، لابد أن نمكث، ونشرب الخمر، وتعزف القيان، وينتشر بين العرب أننا لا نخاف أحداً. وقيل: وهم بدءوكم أول مرة بنقض العهد، وقتالهم مع حلفائهم بني بكر خزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى صار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، وكان ما كان. وقال الزمخشري : قوله تعالى: (( وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ )) يعني: وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة -البداية لحن من حيث اللغة والفصيح البداءة- لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولاً بالكتاب المنير وتحداهم به، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال، فهم البادئون بالقتال، والبادي أظلم، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله، وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم؟! (( أَتَخْشَوْنَهُمْ ))، أهذا هو المانع من قتالهم؟! يعني: أتخافون أن ينالكم منهم مكروه حتى تتركوا قتالهم؟! (( فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ))، فالله أحق أن تخشوه لمخالفة أمره وترك قتالهم. (( إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ))؛ لأن الإيمان الصحيح هو الإيمان الذي يجعل صاحبه لا يخشى إلا ربه، ولا يبالي بمن سواه، كقوله تعالى: وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب:39].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم...)

    ثم أمر تعالى المؤمنين بالقتال مبيناً حكمته فقال سبحانه وتعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة:14]، ( قاتلوهم يعذبهم الله ) يعني: بآلام الجراحات والموت. ( بأيديكم ) يعني: ينصركم الله عليهم، ويغلبكم عليهم. ( ويخزهم ) بالأسر والاسترقاق، فيجتمع في حقهم العذاب الحسي: بالجراحات والموت، والمعنوي: بالرق. ( وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ) يعني: يشفي صدور قوم مؤمنين ممن لم يشهد القتال، فإنه إذا علم ذلك شفي صدره. وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:15]، ( ويذهب غيظ قلوبهم ) يعني: بما كابدوا من المكاره والمكايد. ( ويتوب الله على من يشاء ) أي: فيحصل لكم أجرهم. ( والله عليم حكيم ) أي: في أفعاله وأوامره. وقد أنجز الله سبحانه وتعالى لهم هذه المواعيد كلها، فكان إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك قبل وقوعه معجزة عظيمة، دالة على صدقه وصحة نبوته. وفي هذه الآيات بيان لبعض الحكم من تشريع الجهاد في الإسلام، (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) ولم يكن قبل موسى عليه السلام قد شرع الجهاد، وإنما كان العذاب يأتي على الكفار من السماء: إما بالصاعقة، وإما بالصيحة، وإما بالزلازل والخسف.. وغير ذلك، كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ [القصص:43]، (من بعد موسى) يعني: كانت القرون قبل موسى تهلك بعذاب من عند الله، لكن في شريعة موسى شرع الجهاد، لماذا؟ لما فيه من هذه الحكمة؛ لأن المؤمنين إذا أمروا بمقاتلة الكفار بأيديهم، فهذا يكون أشفى لصدورهم؛ حين ينتقمون من هؤلاء الذين أذاقوهم العذاب، وحاربوا دين الله سبحانه وتعالى، فهذه من حكم الجهاد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ...)

    قال تعالى مبيناً حكمة تشريع الجهاد: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا [التوبة:16] يعني: تتركوا على ما أنتم عليه دون أن تؤمروا بالجهاد، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [التوبة:16]، قوله: ( ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ) يعني: بطانة، يفشون إليهم أسرارهم، والمعنى: أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه، ولما يتبين الخلص من المجاهدين من غيرهم، بل لابد أن تختبروا حتى يظهر المخلصون منكم، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله ولوجه الله، ( ولم يتخذوا وليجة ) لم يتخذوا بطانة من الذين يضادون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. وفي الآية اكتفاء بأحد القسمين، وهذه من الأساليب الفصيحة عند العرب وهو: الاكتفاء بذكر أحد القسمين والإعراض عن الآخر؛ لوضوح الدلالة على وجوده، كما قال تعالى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل:81]، ولم يذكر البرد؛ لأن هذا مفهوم. كذلك هنا قال عز وجل: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً)، ولم يقل: من غيرهم وهم المقصرون، واكتفى بذكر أحد القسمين ولم يتعرض للمقصرين؛ لأنهم بمعزل من الاندراج تحت إرادة أكرم الأكرمين، وهذا كما قال الشاعر: وما أدري إذا يممت أرضاً أريد الخير أيهما يليني أي: أريد الخير أو الشر، وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى: آلم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3]، وقال تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179]، وكلها تفيد أن الجهاد شرع لاختبار المطيع من غيره.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله...)

    قال تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ [التوبة:17]، ( ما كان للمشركين ) يعني: ما صح لهم ولا استقام. ( أن يعمروا مساجد الله ) أي: المساجد التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له، ما كان لهم أن يعمروا شيئاً منها، ولا شك أن هذا يدخل فيه المسجد الحرام دخولاً أولياً، إذ نفي الجمع يدل على النفي عن كل فرد، فيلزم نفيه عن الفرد المعين بطريق الكناية. وقرئ: (ما كان للمشركين أن يعمروا مسجد الله) بالتوحيد، تصريحاً بالمقصود، وهو: المسجد الحرام، أشرف المساجد في الأرض، الذي بني من أول يوم على عبادة الله وحده لا شريك له، وأسسه خليل الرحمن. قوله: ( أن يعمروا مساجد الله ) إما أن العمارة هنا بمعنى: حفظ البناء، أو من العمرة؛ لأن العمرة معناها: الزيارة، يعني: يزوروا مسجد الله، أو من قولهم: عمرت بمكان كذا، يعني: أقمت به. (شاهدين على أنفسهم بالكفر) يعني: بلسان الحال وبلسان المقال. ( أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون )، وهذا كقوله تعالى: وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [الأنفال:34].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر...)

    قال تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18]، قوله: ( ولم يخش إلا الله ) يعني: ولم يعبد إلا الله. ( فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ) يعني: من المهتدين إلى الجنة، وإبراز اهتدائهم مع ما بهم من الصفات الحسنة في معرض التوقع والذي عبر عنه بكلمة عسى؛ لقطع أطماع الكفرة عن الوصول إلى مواقف الاهتداء والانتفاع بأعمالهم التي يحسبون أنهم في ذلك محصلون الكمالات، مع أن المؤمنين متصفون بالإيمان بالله واليوم الآخر، وهم متعلقون بالرجاء، ولا يقطع بنجاتهم أو اهتدائهم، فماذا يصنع الكافرون الذين لم يؤمنوا بالله ولا باليوم الآخر ولم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة ولم يخشوا الله سبحانه وتعالى؟! وفي هذا تنبيه للمؤمنين على ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء، ورفض الاغترار بالله تبارك وتعالى. والمقصود: أن حال هؤلاء المؤمنين حال مرجوة، والعاقبة عند الله معلومة: وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، والأعمال بالخواتيم، ولا يدري المؤمن -حتى لو تحلى بكل صفات الإيمان- بما يختم له! والأعمال الصالحة التي يقوم بها الإنسان هي إمارة تشير إلى أنه يرجى له أن يكون من أهل الجنة، لكن لا يقطع بذلك، فليست علة موجبة، لماذا؟ لأن الأعمال بالخواتيم، والخواتيم مغيبة. قال الزمخشري : العمارة تتناول رم ما استرم منها، والرم: الإصلاح. وقمها -أي: جمع القمامة- أيضاً من عمارة المساجد، وتنظيفها، وتنويرها بالمصابيح، وتعظيمها، واعتيادها للعبادة والذكر، ومن الذكر درس العلم بل هو أجله وأعظمه، وصيانتها مما لم تبن له المساجد كالبيع والشراء فيها، فينبغي على المؤمنين أن يراعوا حرمات بيت الله عز وجل، وكل ما يرغب الناس في الإتيان إلى المسجد للصلاة والذكر وحضور مجالس العلم فهو من عمارة المساجد، وكل ما ينفر من حضور المسجد وتعميره فهو من تخريب بيوت الله سبحانه وتعالى، وصد الناس عنها. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح) . وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله تعالى بنى الله له بيتاً في الجنة) .

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر ...)

    قال تبارك وتعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التوبة:19]، روى العوفي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المشركين قالوا: عمارة بيت الله والقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد، أي: نحن نعمل أعمالاً صالحة خير من الإيمان الذي تدعوننا إليه، فنحن نعمر مساجد الله ونسقي الحجيج، فكانوا يفخرون بالحرم ويتعالون على الناس بخدمة الحجاج، ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعماره، وكانوا يزعمون أنهم أولياء بيت الله، وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [الأنفال:34]، فخير الله سبحانه وتعالى الإيمان والجهاد مع رسوله على عمارة المشركين البيت وقيامهم على السقاية، وفضل الله سبحانه وتعالى هذا على ذاك، فقال: (( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ))، أجعلتم أيها المشركون. (( سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ))، فبين عز وجل أن ذلك لا ينفعهم مع الشرك، وأنهم ظالمون بشركهم، ولا تغني عنهم عمارتهم شيئاً، فالكافر قد يعمل أعمالاً حسنة لكن مع عدم الإيمان لا يمكن أن تنفعه في الآخرة أبداً. فشرط العمل الصالح الذي ينتفع به في الآخرة: أن يكون صاحبه وفاعله مؤمناً، هذا أولاً. ثانياً: أن يكون مخلصاً لله، لا مرائياً. ثالثاً: أن يكون موافقاً لهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والسقي هو الموضع الذي يعد فيه الشراب في المواسم وغيرها، وسقاية الحاج ما كانت قريش تسقيه للحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يليها العباس رضي الله تعالى عنه في الجاهلية والإسلام. روى الإمام مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: كنت عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي ألا أعمل بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، أي: بإسلامي وإعماري للمسجد الحرام أكون حزت الخير كله، وقال الآخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلته، فزجرهم عمر ، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله عز وجل: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .. إلى آخر الآية ، وعلى هذا يكون الخطاب هنا للمؤمنين حينما اختلفوا في ذلك، كما في صحيح مسلم . ورواه عبد الرزاق في مصنفه، ولفظه: أن رجلاً قال: ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام .. إلى آخره. فظاهر هذه الرواية أن المفاضلة كانت بين بعض المسلمين الذين كانوا يؤثرون السقاية والعمارة على الهجرة والجهاد، ونزلت الآية في ذلك، مع أن الرواية الثابتة عن ابن عباس تنافيه، لأنها تفيد أن هذا كان في حق المشركين، ومما يؤيد أنها نزلت للمفاصلة بين مؤمنين بالله وغير مؤمنين -كما هي رواية ابن عباس - قوله: (كمن آمن بالله)، فلو كان الفريقان مسلمين لما قال ذلك؛ لأن كليهما قد آمن. هذا أولاً. ثانياً: وصفهم بالظالم لأجل هذه التسوية المذكورة، (( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ))، مما يؤيد رواية ابن عباس . يقول القاسمي -مبيناً أنه لا منافاة بين ما رواه ابن عباس ، ولا بين ما ثبت في صحيح مسلم من حديث النعمان بن بشير -: حديث النعمان يظهر أنها نزلت في اختصام المسلمين في المفاضلة بين الأمور المذكورة، ورواية ابن عباس تدل على أنها في المخاصمة بين المشركين والمسلمين. وظاهر النظم الكريم فيما قاله ابن عباس لا يرتاب فيه، وأن الآية أول ما نزلت نزلت في المخاصمة بين المشركين والمسلمين، حينما فضل المشركون سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام على الإيمان بالرسول عليه السلام، والجهاد في سبيل الله عز وجل. وقوله تعالى: (( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ))، هل المقصود المفاضلة هنا بين السقاية والعمارة -وهما مصدران- وبين من آمن، أم هناك تقدير؟ هناك محذوف تقديره: أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، ( كمن آمن بالله واليوم الآخر )، ومثله ما جاء في سورة القتال: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ [محمد:15]، فإما أن نقدر: مثل أهل الجنة... كمثل أهل النار، أو نقدر: حال أهل الجنة... كحال من هو خالد في النار. كذلك هنا في هذه الآية الكريمة: (( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ )) المقصود: أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر؟ أو أجعلتم من سقى الحاج كمن آمن بالله؟ فيقول هنا: لا يخفى أن السقاية والعمارة مصدران لا يتصور تشبيههما بالأعيان، فلابد من تقدير مضاف في أحد الجانبين، أي: أجعلتم أهلهما كمن آمن بالله، ويؤيده قراءة من قرأ: (أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام) أو أجعلتموهما كإيمان من آمن.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله ...)

    ثم بين تعالى مراتب فضل المؤمنين إثر بيان عدم الاستواء وضلال المشركين وظلمهم، فقال عز وجل: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [التوبة:20]، ( أعظم درجة عند الله ) أعظم من أهل السقاية والعمارة، وهم وإن لم يكن لهم درجة عند الله -إذا قلنا أن الآية السابقة في الكافرين- فالتفصيل جائز هنا، وإن كان الأصل في أفعل التفضيل اشتراك الطرفين في الصفة، أحدهما يفوق الآخر فيها، كأن تقول: محمد أقوى من علي، فكلاهما مشترك في صفة القوة، لكن محمد أكثر من علي قوة، هذا هو الأصل. لكن أحياناً تأتي صيغة أفعل التفضيل مع عدم اشتراك الطرفين في الصفة، كما قال تبارك وتعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24]، يعني: من أصحاب النار، فهل معنى ذلك أنهما يشتركان في الحسن، ولكن أهل الجنة أحسن؟! الجواب: لا. إذاً: توجد هناك حالات لا تقتضي صيغة أفعل التفضيل وجود قاسم أو قدر مشترك في الصفة بين طرفي المفاضلة، كما في هذه الآية، على قول من يرى أن الخطاب إنما هو في حق المفاضلة بين المشركين والمسلمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. ( أعظم درجة عند الله ) يعني: أعظم من أهل السقاية والعمارة، وهم وإن لم يكن لهم درجة عند الله، لكن السياق هنا جاء على زعمهم ومدعاهم، على زعمهم أن لهم درجة عند الله، ودعواهم أن لهم درجة عند الله، فلذلك قال عز وجل: (( أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ )) في المؤمنين. ( وأولئك هم الفائزون ) هذا أسلوب حصر عن طريق المبتدأ والخبر، بمعنى: أنه لا أحد غيرهم يفوز، هم فقط الذين يفوزون، فهم مختصون بالفوز دونكم، فهم الفائزون لا أنتم، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التوبة:21-22].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء...)

    نهى الله تبارك وتعالى المؤمنين عن موالاة المشركين، وإن كانوا أقرب الأقربين، فقال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [التوبة:23]، (لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم) يعني: أقرب الأقربين إليكم من الآباء والإخوان، لا تتخذوهم أولياء وأصدقاء، تفشون إليهم أسراركم وتمدحونهم وتذبون عنهم. ( إن استحبوا الكفر ) يعني: إن اختاروا وفضلوا الكفر عن الإيمان. ( ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ) أي: لوضعهم الموالاة في غير موضعها؛ لأن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فمن والى أباه أو أخاه الكافر، واتخذه صديقاً وأحبه ودافع عنه، فهذا يكون وضع الموالاة في غير موضعها، والموالاة إنما تكون في الدين، فوصفهم فقال: (( فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ))، لتعديهم وتجاوزهم عما أمر الله سبحانه وتعالى به.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم ...)

    ثم أشار تعالى إلى أن مقتضى الإيمان ترك الميل الطبيعي إذا كان مانعاً من محبة الله، ومحبة واسطة الوصول إليه، ومحبة ما يعلي دينه، والمحبة محبتان: محبة طبعية ومحبة شرعية، أما المحبة الطبعية الفطرية فكمحبة الأب لابنه أو الابن لأبيه، أو الرجل لزوجته، وكمحبة أبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ابن أخيه، فهذا نوع من المحبة الطبعية أو الجبلية، لكن الإيمان يقتضي أن يترك المؤمن الميل الطبيعي إذا كان هذا الميل مانعاً وحائلاً دون محبة الله، ودون محبة واسطة الوصول إلى الله، وهو: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودون محبة ما يعلي دينه وهو الجهاد في سبيل الله، فإذا كان محبة هذه الأشياء المذكورة -خاصة محبة الآباء والإخوان- تحول دون محبة الله ومحبة رسول الله ومحبة الجهاد في سبيل الله، فالإيمان يقتضي ترك هذا الميل الطبيعي وتقديم الميل والحب الشرعي عليه. فقال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ [التوبة:24] يعني: أقاربكم الأدنون أو قبيلتكم، قال أهل اللغة: عشيرة الرجل: بنو أبيه الأدنون، أقرب الناس إليه من حيث أبيه، أو قبيلته، والعشير مأخوذ من العشرة أو المعاشرة؛ من العشرة -الذي هو العدد- لأنها عدد كامل، ومن المعاشرة؛ لاختلاطهم وتقاربهم من بعض. قوله: وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا [التوبة:24] يعني: اكتسبتموها. قوله:وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا [التوبة:24] أي: فوات وقت نفادها بفراقكم لها. قوله: وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا [التوبة:24] منازل تعجبكم الإقامة فيها من الدور والبساتين. قوله: أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ [التوبة:24] الذي هو المنعم لكم بكل هذه النعم، من الولد والمال والمسكن وغير ذلك، فإن كانت هذه الأشياء المنعم بها تتعارض مع محبة المنعم بها، فلا ينبغي أن تسترسلوا مع الميل إليها، وتؤثروها على مرضات الله عز وجل. قوله: وَرَسُولِهِ [التوبة:24]وهو واسطة نعمه. قوله: وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ [التوبة:24]أي: مما يعلي دينه. قوله: فَتَرَبَّصُوا [التوبة:24]أي: انتظروا. قوله: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة:24]يعني: بقضائه، وهو العذاب العاجل، أو العقاب الآجل، أو هو فتح مكة، وهذا أمر فيه تهديد وتخويف، يعني: فارتقبوا قهر الله؛ لأنكم تدعون محبة الله، ولكن في نفس الوقت واقعكم يكذب هذه الدعوى؛ لأنكم ترجحون محبة غيره على محبته سبحانه وتعالى. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24]أي: الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين، والمؤثرين لما ذكر على رضاه تبارك وتعالى. وفي الآيتين الكريمتين تحريم موالاة الكفار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:23-24]، فيحرم موالاة الكفار ولو كانوا أقرباء، وهذه الموالاة كبيرة؛ لوصف متوليهم بالظلم، في الآية أيضاً وجوب الجهاد وإيثاره على كل المشتهيات المعدودة، طاعةً لله ورسوله. قال الرازي : الآية الثانية تدل على أنه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين وبين جميع مهمات الدنيا وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا. ونحن نحتاج هذه الآية كثيراً في هذا الزمان؛ لكثرة ما يتعرض له الإنسان من مواقف فيها موازنة بين الدين والدنيا، كما تأتي أسئلة كثيرة من هذا القبيل مثل: ما حكم بناء الشاليهات لهؤلاء الذين يأتون ليفسقوا فيها؟ أو ما حكم من يعمل في وظيفة فيها إعانة للعاصي على عصيانه؟ أو ما حكم بيع ملابس للمتبرجات؟ وغير ذلك، فالله سبحانه وتعالى جعل كل أعراض الدنيا هذه في كفة، وجعل محبة الله ورسوله في كفة،(قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ). فنحن نحتاج في الحقيقة إلى تدبر هذا، والإنسان ينبغي عليه أن يستحضر أنه في حالة امتحان وابتلاء في هذه الدنيا من الله سبحانه وتعالى؛ لأن الإنسان خلق ليبتلى إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ [الإنسان:2]، فأنت إذا تركت شيئاً لله لا يمكن أن يضيعك الله، والله سبحانه وتعالى يعوضك، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]. فينبغي للإنسان أن يقدم الدين ولا يبالي بالدنيا؛ لأن الدنيا إذا فاتت تعوض، لكن الدين إذا جرح فلا عوض له أبداً، كما قال الشاعر: من كل شيء إذا ضيعته عوض وليس في الله إن ضيعت من عوض إذا فقد الإنسان الولد رزق غيره، وإن مرض زال المرض وأتته العافية، وإن ذهب المال فالمال غاد ورائح، لكن إذا خسرت الله فقد خسرت كل شيء، وإذا كان الله معك فإن معك كل شيء، فنحن نحتاج في هذا الزمان أن نعي هذا الكلام جيداً؛ لنحسن الموازنة والمفاضلة بين الدين والدنيا. لأننا نجد -وهذا كمثال- بعض الناس إذا أخذ منه شيء من أمور الدنيا فإنه مستعد أن يقاتل جميع من على وجه الأرض كي يستخلص حقه، فينكر هذا المنكر بالقلب وباللسان وباليد، وربما بغى على من يخاصمه، لكن في المقابل إذا رأى حدود الله سبحانه وتعالى تنتهك، أو رأى حرمات الله عز وجل يعتدى عليها؛ فلا يحرك ساكناً، ولا يتمعر وجهه غضباً لله سبحانه وتعالى! فهذه الآية تمتحن التزامنا وتمتحن تعظيمنا للدين؛ لأن أغلب الناس يميلون إلى ترجيح الدنيا على حساب الدين، ويغترون بحال أكثر الناس، ويقول لك: الناس كلهم يفعل هكذا، ويغتر بحال هؤلاء الذين لا يبالون بدينهم، وينبهرون بدنياهم، ولو أن إنساناً وجد الناس جميعاً يقفون في الحر الشديد، وأمامهم مكان آخر فيه ظل، فهل تراه سيقف معهم في ذاك الحر الشديد، ولا يأوي إلى ذلك الظل؟! فإذا لم يتابعهم في حر الشمس فكيف يتابعهم في حر جهنم والعياذ بالله؟! والدنيا ما هي إلا أيام تعد، وأنفاس تذهب إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [مريم:84]، والعد التنازلي في عدد الأنفاس المكتوبة لك يبدأ منذ ولدت، فأنت كل يوم أقرب إلى القبر من الذي قبله، في كل لحظة أنت أقرب إلى القبر من اللحظة السابقة عليها، فعلى الإنسان أن يتأهب للقاء الله سبحانه وتعالى، وألا يؤثر شيئاً على دينه؛ لأن من هان عليه دينه لم يعز عليه شيء، فعلى الإنسان أن يقدم دينه على كل شيء وإذا كان لابد أن يضحي فليضح بأي شيء ما عدا الدين، فإنه أعز ما ينبغي أن يعز عليه. يقول الرازي : في هذه الآية دليل على أنه إذا وقع تعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين وبين جمع مهمات الدنيا وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا. وفي هذه الآية وعيد وتشديد؛ لأن كل أحد قلما يخلص منها، وقيل: إنها أشد آية نعت على الناس ما هم عليه من رخاوة في الدين، نبه على ذلك الزمخشري في الكشاف بقوله: وهذه آية شديدة لا ترى أشد منها، كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين، واضطراب حبل اليقين، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دين الله ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والأخوات والإخوان والعشائر والمال والمساكن، وجميع حظوظ الدنيا، ويتجرد منها لأجله، أم يزوي الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته، فلا يدري أي طرفيه أطول، ويغويه الشيطان عن أجل حظ من حظوظ الدين فلا يبالي، كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره؟! يعني: أننا في مصائب الدين نتهاون بها جداً كأن ذباباً وقع على أنف أحدنا فقال به هكذا يطيره، وهذا كحال من يأتي بالدش -الستالايت- أو التلفاز أو الفيديو إلى منزله؛ ليفسد أولاده وزوجه ومن في البيت جميعاً، ثم لا يبالي بذلك الفساد العظيم، بل قد يكون مسروراً به، وهو يرى أهله وذويه يتلقون ما يفسد العقائد والأخلاق، والانحلال والفجور، ولا يحرك ساكناً، ولا يبالي بهذه المصيبة الكبيرة! لكن انظر إلى هذا إذا جرح في دنياه، كأن يتنازع مع شخص ما على قطعة أرض، أو إذا صدم رجل سيارته فأتلف له شيئاً منها، فتراه يثور ويهيج ولا يتركه حتى يصلح له ما أفسده، في الدنيا حاضر بقلبه وسمعه وبصره، ينافح عنها بكل ما يملك، أما جرح الدين فلا يبالي به، أولاده لا يصلون لا يبالي، بناته متبرجات لا يبالي!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة...)

    قال الله تبارك وتعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة:25]، (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) يعني: في مواقف وحروب كثيرة ووقعات شهيرة، كغزوة بدر وقريضة والنظير والحديبية وخيبر وفتح مكة، وكانت غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم -على ما ذكر في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم - تسع عشرة غزوة، زاد بريدة في حديثه: قاتل النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه الشريفة في ثمان من هذه التسع عشرة غزوة، ويقال: إن جميع غزواته وسراياه وبعوثه سبعون، وقيل: ثمانون. يقول تعالى: ((لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ)) يعني: لما أعجبتكم كثرتكم اعتمدتم على هذه الكثرة حيث قلتم: لن نغلب اليوم من قلة، (( فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا ))، هذه الكثرة لم تغن عنكم شيئاً من أمر العدو مع قلتهم، (( وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ )) يعني: مع أنها واسعة لكنها ضاقت عليكم، والباء للملابسة والمصاحبة، إما لأنهم لم يجدوا مكاناً يقرون فيه آمنين مطمئنين من شدة الرعب، أو لأنهم لا يجلسون في مكان كما لا يجلس في المكان الضيق. قوله: (( ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ )) يعني: منهزمين مع هذه الكثرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ...)

    قال سبحانه: ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [التوبة:26] ( ثم أنزل الله سكينته ) يعني: ما تسكنون به وتثبتون برحمته ونصره، ( ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) يعني: على المؤمنين الذين انهزموا، وإعادة حرف الجر -على- للتنبيه على اختلاف حاليهما، ( ثم أنزل الله سكينته على رسوله ) هذا جانب الوحي، ( وعلى المؤمنين ) لأن المؤمنين انهزموا، فمن أجل ألا يجمع الرسول عليه السلام مع المؤمنين الذين انهزموا، فصل بينهما بتكرار حرف الجر، فقال: (( ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ))، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام حاشاه من أن يكون مقراً لهذا أو حاله كحالهم. والتعرض لوصف الإيمان للإشعار بعلية الإنزال، يعني: رفق الله بكم وتلطف بكم؛ لأنكم مؤمنون، ( ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) ولم يقل: وعليهم، وإنما تعرض لوصف الإيمان، فالإيمان هو علية إنزال هذه السكينة وإنزال الملائكة. ( وأنزل جنوداً لم تروها ) وهي الملائكة. ( وعذب الذين كفروا ) بالقتل والأسر والسبي. ( وذلك جزاء الكافرين ) يعني: لكفرهم في الدنيا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ...)

    قال تعالى: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ [التوبة:27] يعني: على من يشاء منهم لحكمة تقتضيه، والمقصود أن الله يوفقه للإسلام. (( وَاللَّهُ غَفُورٌ ))، يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي. (( رَحِيمٌ )) أي: يتفضل عليهم ويثيبهم. وقصة غزوة حنين تبدأ بخروج الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة والتي تسمى بغزوة هوازن أو أوطاس أو حنين، وكان في الجيش جمع كبير من الطلقاء الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام، وفي الطريق وقعت حادثة ذات أنواط، وهي واقعة معروفة. ثم نهض حتى أتى وادي حنين من أودية تهامة، فتوسطوه في غبش الصبح، وقد كمنت لهم هوازن في جانبيه، فحملوا على المسلمين حملة رجل واحد، فولى المسلمون لا يلوي أحد على أحد، وقد كانوا قالوا من قبل لما رأوا كثرة عددهم وقلة المشركين: لن نغلب اليوم من قلة، إعجاباً بكثرتهم، وناداهم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرجعوا، يعني: بعدما فروا، وثبت معه أبو بكر وعمر وعلي والعباس وأبو سفيان بن الحارث والفضل وقثم بن العباس وجماعة سواهم، والنبي صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء (دلدل)، والعباس آخذ بشكائمها وكان جهير الصوت، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادي الأنصار وأصحاب الشجرة -قيل: والمهاجرين-: فلما سمعوا الصوت وذهبوا ليرجعوا صدهم ازدحام الناس عن أن يثنوا رواحلهم، ويعودوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فتناولوا سيوفهم، واقتحموا عن الرواحل راجعين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اجتمع منهم حواليه نحو المائة، فاستقبلوا هوازن والناس متلاحقون، واشتدت الحرب وحمي الوطيس، ولما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن بغلته، ثم قبض قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل به وجوههم، وقال: (شاهت الوجوه) فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه، ثم صدق المسلمون الحملة عليهم، وقذف الله في قلوب هوازن الرعب، فلم يملكوا أنفسهم فولوا منهزمين، ولحق آخر الناس، وأسرى هوازن مغلولة بين يديه، وغنم المسلمون عيالهم وأموالهم؛ لأنهم كانوا خرجوا بالعيال وبالأموال، واستمر القتل في بني مالك من ثقيف، فقتل منهم يومئذٍ سبعون رجلاً، وانحازت طوائف هوازن إلى أوطاس، واتبعتهم طائفة من خيل المسلمين الذين توجهوا من نخلة، وانهزم المشركون، وانفضت جموع أهل هوازن كلها، واستشهد من المسلمين يومئذٍ أربعة، ثم جمعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا حنين وأموالها، وكان عدد سبي هوازن ستة آلاف بين ذكر وأنثى، والإبل أربعة وعشرون ألفاً، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة، وقسم صلى الله عليه وسلم الأموال بين المسلمين، ونفل كثيراً من الطلقاء يتألفهم على الإسلام. وقد ذكر ابن القيم في زاد المعاد فصلاً حول غزوة حنين أجاد فيه، فقال: كان الله عز وجل قد وعد رسوله -وهو صادق الوعد- أنه إذا فتح مكة دخل الناس في دينه أفواجاً، ودانت له العرب بأسرها، فلما تم له الفتح المبين اقتضت حكمته تعالى أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام، وأن يجمعوا هوازن ويتألبوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ ليظهر الله أمره وتمام إعجازه لرسوله ونصره لدينه، ولتكون غنائمهم شكراناً لأهل الفتح، وليظهر الله سبحانه لرسوله وعباده قهره لهذه الشوكة العظيمة التي لم يلق المسلمون مثلها، فلا يقاومهم بعد أحد من العرب، ولغير ذلك من الحكم الباهرة التي تلوح للمتأملين وتبدوا للمتوسمين. فاقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولاً مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عددهم وعدتهم وقوة شوكتهم، ليخفض رءوساً رفعت بالفتح -كي يتعلموا التواضع، وينزع من قلوبهم العجب والخيلاء-، ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعاً رأسه منحنياً على فرسه، حتى إن ذقنه تكاد أن تمس فرسه تواضعاً لربه وخضوعاً لعظمته، واستكاناً لعزته أن أحل له حرمه وبلده، ولم يحل لأحد قبله ولا لأحد بعده. وليبين الله لمن قال: لن نغلب اليوم من قلة، أن النصر إنما هو من عنده، وأنه من ينصره الله فلا غالب له، ومن يخذله فلا ناصر له غيره، وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه، لا كثرتكم التي أعجبتكم، فإنها لم تغن عنكم شيئاً فوليتم مدبرين، فلما انكسرت قلوبهم أرسلت إليهم خلع الجبر مع بريد النصر، (( ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا )). وقد اقتضت حكمته أن خلع النصر وجوائزه إنما تفيض على أهل الانكسار، وعلى أهل التواضع، كما قال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:5-6]. ومن فوائد هذه الغزوة: أن الله سبحانه وتعالى لما منع الجيش غنائم أهل مكة، فلم يغنموا منها ذهباً ولا فضة ولا متاعاً ولا سبياً ولا أرضاً؛ فحرك سبحانه وتعالى قلوب المشركين لغزوهم، وقذف في قلوبهم إخراج أموالهم ونعمهم وشياههم وسبيهم معهم نزلاً وضيافة، وكرامة لحزبه وجنده، وتمم تقديره بأن أطمع المشركين في الظفر، فلذلك خرجوا بالأموال والأولاد والنساء وكل ما يملكون، وألاح لهم مبادئ النصر، حينما انهزم المسلمون في البداية لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا [الأنفال:42]. فلما أنزل الله نصره على رسوله وأوليائه، وبرزت الغنائم لأهلها؛ وجرت فيها سهام الله ورسوله، قيل: لا حاجة لنا في دمائكم ولا في نسائكم وذراريكم، فأوحى الله سبحانه إلى قلوبهم التوبة والإنابة فجاءوا مسلمين، فقيل: إن من شكران إسلامكم وإتيانكم أن رد عليكم نساءكم وأبناءكم وسبيكم، إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنفال:70]. ومنها: أن الله سبحانه وتعالى افتتح غزوات العرب بغزوة بدر، وختم غزوهم بغزوة حنين، ولهذا يقرن بين هاتين الغزاتين بالذكر، فيقال دائماً: بدر وحنين، وإن كان بينهما سبع سنين، والملائكة قاتلت بأنفسها مع المسلمين في هاتين الغزوتين، والنبي صلى الله عليه وسلم رمى في وجوه المشركين بالحصباء فيهما، وبهاتين الغزاتين طفئت شعلة العرب لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، الأولى: غزوة بدر خوفتهم وكسرت من حدتهم، والثانية: استفرغت قواهم تماماً، واستنفذت سهامهم، وأذلت جمعهم، حتى لم يجدوا بداً من الدخول في دين الله. ومنها: أن الله سبحانه وتعالى جبر بها أهل مكة بما نالوه من النصر والمغنم، وكانت كالدواء لما نالوا من كسرهم وإن كان عين جبرهم، وعرفهم تمام نعمه عليهم لما صرف عنهم من شر هوازن، فإنه لم يكن لهم بهم طاقة، وإنما نصروا عليهم بالمسلمين؛ ولو أفردوا عنهم لأكلهم عدوهم، إلى غير ذلك من الحكم التي لا يحيط بها إلا الله تبارك وتعالى. قال بعضهم: دلت الآية على أنه يجب الانقطاع إلى الله تعالى والاتكال عليه. ودل ما حكي في القصة على جواز ما ورد حسنه من جواز التأليف وملاطفة المؤمنين والرمي بالحصى حالة الحرب، والأصوات التي يرهب بها. ثم أشار تعالى إلى أن موالاة المشركين -مع عدم إفادتها التقوية المحصلة للنصر- تضر بسريان نجاسة بواطنهم إلى بواطن المؤمنين الطاهرة، فالآيات السابقة حذرت من موالاة المشركين، فبعدما بين الله سبحانه وتعالى أن موالاة المشركين لا يأتي منها فائدة، بين هنا أنه يأتي منها ضرر، ولا يحصل بها التقوي والنصر على المشركين، بل تضر ضرراً أخطر، وهو سريان النجاسة التي في بواطن المشركين إلى بواطن المؤمنين الطاهرة، فقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:28].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756379366