إسلام ويب

تفسير سورة الأنعام [13-35]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وله ما سكن في الليل والنهار ... ولا تكونن من المشركين)

    قال الله تبارك وتعالى: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:13-14]. (وله) تعالى (ما سكن) أي: حل (في الليل والنهار) أي: كل شيء، فهو ربه وخالقه ومالكه، وهو (السميع) لما يقال (العليم) بما يُفعل. وقوله: (قل أغير الله أتخذ ولياً) أي: قل لهم: (أغير الله أتخذ ولياً) أعبده، والله (فاطر السماوات والأرض) أي: مبدعهما، (وهو يطعم) أي: يرزق، (ولا يطعم) أي: ولا يُرزق، فسيكون الجواب الذي لا جواب غيره هو: لا يصح لي أن أتخذ ولياً غير الله سبحانه وتعالى. وقوله: (قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم) أي: أول من أسلم لله من هذه الأمة، (ولا تكونن) يعني: وقيل لي: (لا تكونن من المشركين به. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (وله ما سكن في الليل والنهار) وله: أي لله عز وجل، (ما سكن في الليل والنهار) أي: ما استقر وحل، من الاستقرار والحلول؛ لأن السكنى بمعنى الحلول، كقوله تعالى: وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ [إبراهيم:45]، والمعنى: له تعالى كل ما حصل في الليل والنهار. يعني: أن كلمة (سكن) هنا ليست من السكون، وهناك قول آخر إنها من السكون، ولكن الأقرب أنها من السكنى. فقوله: (وله ما سكن في الليل والنهار) يعني: ما حصل في الليل والنهار مما طلعت عليه الشمس أو غربت، فشبَّه الاستقرار في الزمان بالاستقرار في المكان، فاستعمل استعماله فيه، فالسكون هنا من الحلول، يعني: ما حل وسكن واستقر في الليل والنهار من المخلوقات. فكأن الليل والنهار شبها بمكان يسكن فيه، أو أن (سكن) بمعنى السكون الذي هو مقابل الحركة، يعني: له ما سكن فيهما، وإذا فسرنا قوله تعالى: (وله ما سكن) بالهدوء والسكون فما الذي يقابل السكون؟ الجواب: الحركة، فيكون هذا من باب قوله تبارك وتعالى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ [النحل:81] ولم يقل: القر. ومعروف أن السرابيل تقي الحر، وفي التفسير نقول: والقر، والمراد: تقيكم الحر والبرد، فحذفه من السياق اكتفاءً بظهوره؛ لأن السرابيل تقينا الحر والبرد، فاكتفى بذكر أحدهما عن ذكر الآخر لشهرته وظهوره، فكذلك هنا إذا قلنا: (وله ما سكن) من السكون، ففي التفسير نزيد ونقول: له ما سكن وله ما تحرك، ونقول: اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر لظهوره، ولأنه يقابله، والذي يقابل السكون هو الحركة، وهذا يعرف بالقرينة، وإنما اكتفى بالسكون عن ضده دون العكس فلم يقل: وله ما تحرك في الليل والنهار لأن السكون أكثر وجوداً، والنعمة فيه أكثر. وقال أبو مسلم الأصفهاني: ذكر تعالى في الآية الأولى السماوات والأرض؛ إذ لا مكان سواهما، وفي هذه الآية ذكر الليل والنهار؛ إذ لا زمان سواهما، فالزمان والمكان ظرفان للمحدثات، فأخبر سبحانه أنه مالك للمكان والمكانيات وللزمان والزمانيات، وهذا بيان في غاية الجلالة. وقوله: (وهو السميع العليم) يعني: يسمع كل مسموع، ويعلم كل معلوم، فما يخفى عليه شيء مما يشتمل عليه الملوان. ثم قال تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:14]. قوله تعالى: (قل) أي: لكفار مكة المكذبين: (أغير الله أتخذ ولياً) يعني: معبوداً، وهذا كقوله تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ [الزمر:64]، والمعنى: لا أتخذ ولياً إلا الله وحده. وقوله: (فاطر السماوات والأرض) أي: خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق لهما، و(فاطر) بالجر صفة لاسم الجلالة. وقوله: (وهو يطعم ولا يطعم)، يعني: يرزق سبحانه وتعالى ولا يُرزق، والمقصود: أن المنافع كلها من عند الله تبارك وتعالى، ولا يجوز عليه الانتفاع؛ لأن الخالق مستغنٍ عن المخلوقين، أي: فيجب اتخاذه ولياً ليُعبد سبحانه وتعالى شكراً على إنعامه، وكفايته الحوائج بلا طلب عِوض، والله عز وجل يمتن علينا بالنعم ليل نهار وفي كل لحظة من اللحظات وفي كل أحوالنا يمنُّ علينا بالنعم التي لا غنى بنا عنها طرفة عين، دون أن يطلب منا مقابلاً لهذه النعم، ويرزقنا عز وجل فينبغي أن لا نعبد غيره شكراً لإنعامه عز وجل. وقيل المراد بالطعم: الرزق، وهذا معناه اللغوي، وهو: كل ما ينتفع به، بدليل وقوعه مقابلاً له في قوله تعالى: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات:57]، فالمقصود بالطعم هنا المعنى اللغوي للرزق، وهو: كل ما ينتفع به؛ إذ كل ما ينتفع به يسمى رزقاً. وقوله: (( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ))، أي: أول من أسلم، وكلمة (مسلم) يقدر معها عبارة ولكنها تحذف، فكلمة الإسلام نقدرها معها كلمة (لله)، فقولي: أنا مسلم أصله: أنا مسلم لله، فدائماً كلمة الإسلام ومشتقاتها ترتبط بهذا اللفظ، أي: أنا مسلم لله، أو أسلمت لله، وهذا يلاحظ بالاستقراء في القرآن الكريم، فمن ذلك قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء:125]، وهذا موجود في القرآن كثيراً، وكذلك هنا يقول تعالى: (( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ )) أي: أسلم وجهي لله مخلصاً له؛ لأصير متبوعاً للباقين؛ لأنني قدوة وأسوة لباقي الناس، وهذا كقوله: وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:163]، يعني: من هذه الأمة، وهذا اللفظ بنفسه موجود في دعاء الاستفتاح في الصلوات، وبعض العلماء يرى أن تبدل كلمة (أول المسلمين) إلى: وأنا من المسلمين، على أساس أنه فهم أن معنى (أنا أول المسلمين)، أي: أول إنسان أسلم لله، وإنما المعنى: أول المسارعين إلى طاعتك؛ لأن أول المسلمين هو آدم عليه السلام، فمعنى (أول المسلمين): أول المسارعين، وهذا تعبير عن المسابقة والمسارعة في طاعة الله عز وجل والأوبة له، إلا إذا أردنا أن (أول المسلمين) يعني: أول المسلمين في هذه الأمة المحمدية. وقوله: وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:163] هو كقول موسى: سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]، أي: أول المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا، وإنما ترى في الآخرة. وقوله: (( وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ )) يعني: وقيل لي: (لا تكونن من المشركين) فهو معطوف على أمرت، يعني: أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك نهياً صريحاً مؤكداً بعد النهي في ضمن الأمر؛ لأنه لا شك في أن الإسلام لله يقتضي النهي عما ينافي الإسلام وهو الشرك، فلم يكتف بذلك، وإنما صرَّح -أيضاً- بالنهي عن الشرك، رغم أن الأمر بالإسلام يقتضي نفي الشرك، لكنه صرح بالنهي زيادة في التأكيد بقوله تبارك وتعالى: (ولا تكونن من المشركين). ونهي المتبوع نهي للتابعين، ويجوز عطفه على (قل)، وفي الآية إرشاد إلى أن كل آمر ينبغي أن يكون عاملاً بما أمر به؛ لأنه مقتداهم، وقيل: هذه الآية للتحريض، كما يأمر الملك رعيته بأمر ثم يقول: وأنا أول من يفعل ذلك ليحملهم على الامتثال.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم)

    ثم قال عز وجل: قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15]. قوله تعالى: (قل إني أخاف إن عصيت ربي) أي: بمخالفة أمره ونهيه، فيدخل فيه ما ذكر دخولاً أولياً، يعني: إذا كانت أي معصية داخلة في قوله: (إني أخاف إن عصيت ربي) فما بالك بأكبر معصية على الإطلاق وهي الشرك؟! فلا شك في أنها تدخل في الآية دخولاً أولياً؛ لأن أكبر معصية في الوجود هي الشرك. وقوله: (عذاب يوم عظيم) يعني: عذاب يوم القيامة الذي تظهر فيه عظمة القهر الإلهي، وفي الآية مبالغة أخرى في قطع أطماعهم وتعريض لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب الأليم؛ لأن الذي يقول هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو المعصوم عليه الصلاة والسلام، يقول: إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، فإذا كان المعصوم عليه الصلاة والسلام يقول هكذا فكيف بهؤلاء المشركين؟! فلا شك في أن هذا تعريض لهم بأنهم مستوجبون للعذاب الأليم؛ لأن وجه التعريض هنا إسناد ما هو معلوم الانتفاء بـ(إن) التي تفيد الشك تعريضاً، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يصدر منه المعصية لله عز وجل؛ لأنه معصوم، فإذا كان هو يقول: إنني أخاف أن أعصي ربي خشية العذاب العظيم مع أنه معصوم فكيف بغيره؟! لا يتوهم منه احتمال وقوع المعصية منه، لكن المقصود منه التعريض بهؤلاء المشركين، يعني: إذا كان المعصوم عليه السلام يقول هذا فكيف بمن عداه من المسلمين؟! ثم كيف بالمشركين أنفسهم الذين يقترفون أعظم معصية في الوجود وهي الشرك؟! فلا أمل لهم في رحمة الله ما أقاموا على شركهم. ولا يتوهم من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم يخاف على نفسه المعصية أو أنه يقع في المعصية؛ لأنه معصوم، كما لا يتوهم مثله في قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، وهذا الاحتمال غير وارد في حق النبي صلى الله عليه وسلم لعصمته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه... وإن يردك بخير فهو على كل شيء قدير)

    قوله تعالى: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [الأنعام:16]، وهذا كما قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]. ثم ذكر تعالى دليلاً آخر على أنه لا يجوز للعاقل أن يتخذ ولياً غير الله تعالى فقال عز وجل: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17]، وهذا كما قال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107]، وكما قال عز وجل: مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2]، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (اللهم! لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) وفي حديث ابن عباس : (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير)

    قال عز وجل: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18]. أي: هو الغالب بقدرته، المستعلي فوق عباده، يدبر أمرهم بما يريد، فيقع في ذلك ما يشق عليهم ويثقل ويغم ويحزن، فلا يستطيع أحد منهم رد تدبيره عز وجل والخروج من تحت قهره وتقديره، فالله عز وجل كل يوم هو في شأن، وهو القاهر فوق عباده يدبر أمورهم ويصرف أحوالهم لا اعتراض على حكمه ولا راد لقضائه عز وجل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة ...)

    قال تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]. قوله تبارك وتعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة) يقول السيوطي : هذه الآية نزلت لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ائتنا بمن يشهد لك بالنبوة، فإن أهل الكتاب أنكروك. ويبدو أن هذا افتراض من السيوطي، وإلا فتعبير القاسمي أدق كما سيأتي إن شاء الله، يعني: كأن أهل مكة قالوا له عليه الصلاة والسلام: ائتنا بمن يشهد لك بأنك نبي من عند الله عز وجل؛ فإن أهل الكتاب -كانوا أهل علم بالنسبة للعرب الأميين- أنكروا نبوتك، فائتنا بمن يشهد لك، فقال عز وجل: (قل أي شيء أكبر شهادة) يعني: قل لهم: (أي شيء أكبر شهادة) وكلمة (شهادةً) تمييز محول عن المبتدأ؛ لأن كلمة (شهادةً) التي هي تمييز كانت مبتدأً ثم تحولت إلى تمييز، فيكون المعنى: شهادة أي شيء أكبر؟ يعني: أنتم تطلبون شاهداً يشهد نبوتي، فشهادة أي شيء أكبر؟! (قل الله) يعني: إن لم يقولوا هم، وإن لم يعترفوا هم بأن الله عز وجل أكبر شهيد فقل لهم أنت: (الله) ولا جواب غيره، ولا يحتمل أبداً أن يكون هناك جواب غير هذا الجواب السديد. وقوله: (شهيد بيني وبينكم) يعني: هو شهيد بيني وبينكم على صدقي. وقوله: (وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) أي: لأخوفكم يا أهل مكة وغيرها، وقوله: (ومن بلغ) معطوف على ضمير (أنذركم)، فالضمير (كم) مفعول به و(من) معطوف عليه، يعني: لينذر به كل من بلغه القرآن من الإنس والجن. قال محمد بن كعب القرظي : من بلغه القرآن فكأنما أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم، أي: كأنه رأى محمداً صلى الله عليه وسلم وسمع منه، فعلى كل ذي علم من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغه إلى غيره، ولا شك في أن هذه الآية تتضمن المنهج القويم في الدعوة، وهو إنذار الكافرين حتى مع تكذيبهم بالنبي وتكذيبهم بآيات القرآن نفسه، وقد أشيعت فكرة سخيفة تأثر بها كثير من المسلمين وكثير من الشباب والدعاة، وهي: كيف نخاطب الكافر بالقرآن وهو يكفر بالقرآن؟! وهذا انحراف جذري في أصول الدعوة، فالإنذار من القرآن والإنذار من السنة بنفس آيات القرآن الكريم تخوف الكافر؛ إذ هكذا علمنا القرآن الكريم (( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ )) فما عليك إلا أن تبلغ آيات الله، حتى لو كان يكفر بها، فإذا كنت تجادل أحداً من أهل الكتاب فصارحه بآيات الله، وقل له كما قال الله عز وجل: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [آل عمران:70]. فإذاً: المفروض على الإنسان في الدعوة أن لا يستغني في حال من الأحوال عن الإنذار بآيات القرآن الكريم، ولا يُردد هذه المقولة الباطلة: (كيف نحاجهم بالقرآن مع أنهم كافرون بالقرآن؟!) لأن الله سبحانه تعالى أودع في هذا القرآن قوة إلهية قاهرة تقهر قلوب من يكفرون به، حتى وصل الحال ببعض مشركي مكة الذين هم أشد الناس كفراً وعتواً إلى أنه أنهم حينما تلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم مفتتح سورة (فصلت) لم يطق صبراً من الخوف ومن شدة النذارة التي في الآيات الكريمات، فوضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يسمع، وكأنه يقول: يكفينا هذا. ولم يتحمل أن يسمع أكثر من ذلك من شدة الخوف، فآيات القرآن هي موعظة ونهي وزجر للإنسان عن الكفر وعن المعاصي، فينبغي أن لا نبطل إعمال هذا السلاح في أعداء الله، ذلك السلاح الذي يخترق قلوبهم، إما لتهتدي وإما ليقطعها حسرة ويقيم عليها الحجة، فلا يجوز تعطيل آيات الله بهذه الدعوى الغريبة التي صدرت وشاعت الآن، وهي أننا لابد من أن نخاطبهم بأساليب أخرى، قد يكون منها مناقشتهم عن طريق كتبهم ونصوص كتبهم المحرفة، مع الإعراض الكامل عن آيات القرآن الكريم، فهذا المنهج منافٍ لمنهج الأنبياء ومخالف لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم، فـابن مسعود خرج في أوائل البعثة وقرأ سورة (الرحمن) في الحرم الشريف، حتى ضربوه وأدموه وصار كالنصب الأحمر، وكذلك فعل أبو ذر ، فالصحابة كانوا يخرجون أمام المشركين ويصدعون بآيات الله، كما قال عز وجل: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [الحجر:94]، فلا يجوز بحال ترك الدعوة بالقرآن، بل ألف باء الدعوة أن الإنذار يكون بالقرآن الكريم وبمعانيه. يقول صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) رواه البخاري ، وقال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع). وقوله: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى ، هذا استفهام إنكار، قُلْ لا أَشْهَدُ ، أي: قل لهم: (لا أشهد) أي: لا أشهد بأن مع الله آلهة أخرى. وقوله: قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ، يعني: من الأصنام وغيرها. يقول القاسمي : قوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة) يعني: شهادة أي شيء أكبر؟ بحيث لا يمكن معارضته بما يساويه، يعني: من هو أكبر شهادة، بحيث لا يمكن معارضة شهادته بشهادة غيره ممن يساويه؟ فالإجابة: هو الله؛ لأن الله لا يساويه أحد، كما قال عز وجل: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4]. فقوله: (قل الله) يعني: الله أكبر شهادة، أو شهادة الله هي شهادة أكبر شيء؛ لأنه لا يوجد احتمال على الإطلاق لطروق الكذب في خبر الله عز وجل أصلاً، ومعاذ الله! أن يحصل ذلك، أي: لا يمكن أن يتطرق إلى خبر الله عز وجل كذب، قال عز وجل: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء:87]، وقال: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122]. وقوله: (قل الله) مع أنه سألهم، لكن الله سبحانه وتعالى قال له: قل لهم: (الله) وهذا بعد أن مهد لهم بهذه المقدمة (قل أي شيء أكبر شهادة)؛ لأنه يجب عليه أن يتولى الجواب بنفسه، ولبيان عدم قدرتهم على أن يجيبوا بغيره؛ إذ لا يمكن أن تكون هناك إجابة أخرى غير أن الله هو أكبر شيء شهادة، أو لأنهم ربما يتلعثمون فيه. وقوله: (قل الله شهيد بيني وبينكم) خبر لمحذوف، يعني: هو شهيد بيني وبينكم، أو خبر عن لفظ الجلالة، ودل على جواب (أي) من طريق المعنى؛ لأنه إذا كان الله تعالى هو الشهيد بينه وبينهم كان أكبر شيء شهادة شهيد له، فيكون هذا من أسلوب الحكيم؛ لأنه عدل عن الجواب المتبادر إليه ليدل على أن أكبر شيء شهادة شهيد للرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله أكبر شيء شهادة والله شهيد له، فينتج أن الأكبر شهادةً شهيد له، فكأن هنا مقدمتين ثم نتيجة: المقدمة الأولى: الله أكبر شيء شهادة. المقدمة الثانية: الله شهيد للرسول صلى الله عليه وسلم على صدقه. فينتج أن الأكبر شهادةً شهيد للرسول صلى الله عليه وسلم، ومعنى (شهيد): مبالغ في الشهادة على نبوته، ولم يقل: شاهد، وإنما قال: (شهيد) واستعمل صيغة المبالغة في شهادته لصدق نبوته صلى الله عليه وسلم بحيث يقطع النزاع بينه وبينهم؛ إذ شهد سبحانه بالقول فيما أوحى إلى الأنبياء السابقين بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وبالأمور الفعلية فيما ظهر على يديه صلى الله عليه وسلم من المعجزات، لاسيما معجزة القرآن، كما قال تعالى: (( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ )) إشارة إلى هذه المعجزة التي أوحاها الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

    إعجاز القرآن في بلاغته

    وقوله: (أوحي إليَّ هذا القرآن) أي: الجامع للعلوم التي يُحتاج إليها في المعارف والشرائع في ألفاظ يسيرة في أقصى مراتب الحسن والبلاغة، وهو معجزة شاهدة بصدق رسالتي؛ لأنكم أنتم الفصحاء والبلغاء، وقد عجزتم عن معارضته. وقوله: (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به) يُفهم منه أنه لا يجوز للدعاة أن يعطلوا الإنذار بالقرآن؛ لأننا نلاحظ أن الكفار الذين لا يفقهون حرفاً في اللغة العربية إذا سمعوا القرآن دهشوا وذهلوا وأفصحوا عن وجود سلطان قوي قاهر على قلوبهم حينما يسمعون القرآن، وهذا يكاد يكون من المتواتر، أي أن كل من يسمع القرآن الكريم يتأثر به هذا التأثر، فللقرآن سلطان على القلوب بمجرد سماعه بدون أن يفقه القلب معانيه، وهذا لقوة في القرآن الكريم، ولا أدل على ذلك مما نراه في حال إخواننا المسلمين الباكستانيين أو غيرهم من الجنسيات الذين يحفظون القرآن أو يحفظ كثير منهم القرآن الكريم دون أن يفقه معناه، ومع ذلك يبكي بكاءً شديداً إذا تلا القرآن الكريم، وبعضهم حكي عنه أنه يمسك القرآن الكريم ويضمه إلى صدره ويبكي ويقول: كتاب ربي كتاب ربي. فالشاهد أن القرآن الكريم له سلطان في لغته، وفي سماع تلاوته، وفي أحكامه، وفي بلاغته من كل الجوانب، فإذا أتيته تجد بحراً زخاراً بالكنوز الثمينة. فلذلك ثنَّى تبارك وتعالى بقوله: (وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به) يعني: بما فيه من الوعيد (ومن بلغ) أي: لأنذركم وأنذر به -أيضاً- من بلغه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أُرسل لكل العالمين، يعني: أنذركم به -يا أهل مكة- وسائر من بلغه من الناس كافة، فهو نذير لكل من بلغه، وهذا كقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود:17]. وقوله: (أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى) هذا تقرير لهم مع إنكار واستبعاد. قوله: (قل لا أشهد) يعني: لا أشهد بما تشهدون. قوله: (قل إنما هو إله واحد) أي: بل أشهد أن لا إله إلا هو، ولا يُشارك في إلاهيته ولا في صفات كماله. قوله: (وإنني بريء مما تشركون) يعني: من الأصنام.

    إطلاق لفظ شيء على الله عز وجل

    واستدل الجمهور بقوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة) على جواز إطلاق لفظة (شيء) على الله تعالى، وكذا استدلوا بقوله سبحانه وتعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص:88] فإن المستثنى يجب أن يدخل تحت المستثنى منه، وذلك لأن الشيء أعم العام؛ لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، وبعض العلماء منع إطلاق لفظة (شيء) على الله سبحانه وتعالى، واستدلوا بقوله تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، والاسم إنما يحسن بحسن مسماه، أي أن أسماء الله حسنى لحسن مسماها، وهو أن يدل على صفة من صفات الكمال ونعت من نعوت الجلال، كما هو معلوم في أسمائه عز وجل الحسنى، ولفظ (شيء) أعم الأشياء، فهذه حجة من لا يجيز إطلاق لفظة (شيء) على الله، قالوا: إن كلمة (شيء) أعم الأشياء، فيكون مسماه حاصلاً في أحسن الأشياء وفي أرذلها، فالأشياء الحقيرة أو الصغيرة يطلق عليها أشياء، والأشياء العظيمة -أيضاً- تسمى أشياء، ومتى كان كذلك لم يكن المسمى بهذا اللفظ صفة من صفات الكمال، فوجب أن لا يجوز تسمية الله بهذا الاسم؛ لأنه ليس من الأسماء الحسنى، وقد أمر تعالى بأن يدعى بها. وأجيب بأن كونه ليس من الأسماء الحسنى لكونها توقيفية، أي: أنه يطلق على الله لفظ (شيء)، لكنه ليس من الأسماء الحسنى، فيطلق عليه لفظ (شيء) للآيتين اللتين ذكرناهما، وهما قوله تعالى: (( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ )) وقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص:88]. فهو يطلق على الله عز وجل، لكن ليس من الأسماء الحسنى؛ لأن الأسماء الحسنى توقيفية، ولكونه لا يدعى به الله سبحانه وتعالى؛ إذ لا يقال في دعائه: يا شيء. لأن هذا لم يرد، لكن هذا لا ينافي أن كلمة (شيء) تشمل الذات العلية شمول العام، والمراد بإطلاقها عليه تعالى فيما تقدم شموله، لا تسميته به، وهذا لفظ شامل، ومما يشمله أن يطلق على الله سبحانه وتعالى. وبالجملة فلا يلزم من كونه ليس من الأسماء الحسنى أن لا يشمل الذات المقدسة شمولاً كلياً.

    الخلاف في المقصود بالشهادة في قوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة)

    وقوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة) اختار القاسمي أنها شهادة على صحة نبوته، وبعض العلماء قالوا: (أي شيء أكبر شهادة) قالوا: على وحدانيته تبارك وتعالى. والذي جنح إليه الأكثر أنه أكبر شيء شهادة في ثبوت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم. وهنا يفترض من الجواب أنه قد وقع السؤال، لكن الجلال السيوطي قال: ونزل لما سأله مشركو مكة فهو جزم بأنها سبب النزول، أما هنا فقال: فكأنه، أي أنه افترض أن هذا كان وقوعاً للسؤال، وكأن مشركي مكة طلبوا منه صلى الله عليه وسلم شاهداً على نبوته، فقال لهم: أكبر شيء شهادة هو الله تعالى، وقد شهد لي بالنبوة؛ لأنه أوحى إليَّ هذا القرآن وتحداكم بمعارضته فعجزتم، وأنتم أنتم في مقام البلاغة، وإذا كان معجزاً كان إظهاره تعالى إياه على وصف دعواي شهادة منه على صدقي في النبوة. ولبعضهم وجه آخر، وهو أن المعنى: شهادته تعالى في ثبوت وحدانيته، وتنزهه عن الأنداد والأشباه، ويقوي هذا الاحتمال تتمة الآية: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى فهذا الفريق من العلماء قالوا المعنى: (قل أي شيء أكبر شهادة) على وحدانية الله. واستدلوا بتتمة الآية التي هي: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى ، وأيضاً يشهد له قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمران:18] وقوله تعالى: فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ [الأنعام:150]. ومما يدل على أن الشهادة إنما عني بها في موارد التنزيل ثبوت الوحدانية أن القرآن يفسر بعضه بعضاً. إذاً: يحتمل أن تكون المعنى: (قل أي شيء أكبر شهادة) أي: على صدق نبوتي، أو (قل أي شيء أكبر شهادة) أي: على توحيد الله عز وجل وعدم الإشراك به. واقتصر هنا على الإنذار بقوله: (لأنذركم به) لكون الخطاب مع كفار مكة، وليس فيهم من يبشر، أو اكتفى به عن ذكر البشارة على حد قوله تعالى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ [النحل:81]، فالأصل في النذارة أنها تقرن بالبشارة، فاكتفى هنا بالنذارة من باب: سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ [النحل:81] لأنها مشهورة فلم يذكرها. واستُدل بقوله تعالى: (( لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ )) على أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الناس كافة، وإلى الجن؛ لأن البشر أجمعين والجن -أيضاً- قد بلغهم هذا القرآن الكريم.

    أحكام القرآن تعم جميع الخلق منذ نزوله إلى قيام الساعة

    واستدل به -أيضاً- على أن أحكام القرآن تعم الموجودين يوم نزوله، ومن سيولد بعد إلى يوم القيامة؛ لأن كلمة (ومن بلغ)، تعنى: كل من بلغه القرآن، سواء أكان في زمانه صلى الله عليه وسلم أم في غير زمانه إلى يوم القيامة، أم في أي مكان على وجه هذه الأرض. فكل من سمع هذا القرآن يجب عليه أن يتحرى، وكل من بلغه أن الله سبحانه وتعالى بعث رسولاً اسمه محمد، أو أنزل كتاباً اسمه القرآن، أو أن هناك ديناً اسمه الإسلام يجب عليه أن يتحرى ويبذل غاية وسعه في التحري عن الحق، ولا يعذر إن قال: اجتهدت في البحث عن الحق فوجدت الحق في غير دين الإسلام. لا يعذر أمام الله سبحانه وتعالى أبداً؛ لأن وضوح صدق دين الإسلام وأنه دين الله الوحيد الحق أظهر من الشمس، ولا يمكن لأي إنسان عاقل يخلص في البحث عن الحق أن يصل إلى غير هذه النتيجة؛ لشدة وضوحها، وكثرة الأدلة عليها، فمما يؤسف له أننا نجد حتى من بين من ينتسبون للدعوة أو من بين الملتزمين من لا يستطيع أن يدلل على قضايا الإيمان وإحباط الشرك والكفر، وهذه الأشياء أساسية، وينبغي على الإنسان أن يتسلح فيها بالأدلة، فإذا احتجت في وقت من الأوقات إلى أن تثبت أن القرآن معجزة وأنت لم تعرف الأدلة فكيف ستتكلم؟ وماذا ستقول؟ وبم تدلل؟ وكيف تقيم دلالة قوية قاطعة على أن القرآن معجزة من عند الله سبحانه وتعالى؟! فلابد من أن تكون مستحضراً لهذه الأشياء. ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم قد ثبتت عندنا بأدلة من أقوى الأدلة التي هي كالشمس في نقائها وظهورها ووضوحها، فيقبح بنا -معشر المسلمين- أن لا نتقن هذه الأدلة، وأن نعجز عن أن نحاج في الانتصار لدين الحق؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام إن كان قد قبضه الله عز وجل والتحق بالرفيق الأعلى فإن أمته تقوم مقامه في إبلاغ رسالته وإقامة الحجة على الخلق، فنحن الشهداء على هذه الأمم، كما قال عز وجل: وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [الحج:78]، فكيف نكون شهداء على الناس ونحن لم نبلغهم الحق أصلاً، وقد قصَّرنا في إبلاغ هذا الحق إليهم؟! فإذاً: يجب على الإنسان أن لا يقصِّر أبداً في إبلاغ الحق إلى أي مخلوق، سواءٌ من يهود أو نصارى أو مشركين أو أي طائفة، فلابد من أن يجتهد الإنسان في التبليغ. يقول محمد بن كعب القرظي : من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه. ورواه عنه ابن جرير بلفظ: من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم. وقال الربيع بن أنس : حق على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو كالذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ينذر بالذي أنذر.

    وجوب التوحيد والبراءة من الشرك

    قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ، وهذا النص الشريف يدل أقوى دلالة على إثبات التوحيد بأعظم طرق البيان وأبلغ وجوه التأكيد؛ لأن (إنما) تفيد الحصر، كما أن كلمة (واحد) صريحة في نفي الشركاء، ثم صرَّح بالبراءة عن إثبات الشركاء فقال: (وإنني بريء مما تشركون)، ولذلك استحب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لمن أسلم بعد إتيانه بالشهادتين أن يتبرأ من كل دين سوى دين الإسلام، لقوله تبارك وتعالى هنا: (وإنني بريء مما تشركون) عقب التصريح بالتوحيد في قوله: (قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم..)

    قال تبارك وتعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:20]. قوله: (الذين آتيناهم الكتاب) أي: اليهود والنصارى (يعرفونه) أي: يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليته ونعته الثابت في التوراة وفي الإنجيل. وقوله: (كما يعرفون أبناءهم) أي: بحلاهم ونعوتهم، فلا يخفون عليهم ولا يلتبسون بغيرهم، فهم من شدة وضوح الأخبار الواردة عندهم بصفة النبي صلى الله عليه وسلم لا يلتبس عليهم وصفه تماماً، كما لا يلتبس على الواحد منهم معرفة ابنه؛ لأن الإنسان لا يشك في معرفة ابنه، فكما أن هذا لا يقع فكذلك هم يستيقنون ويعرفون أنه هو الرسول المذكور في كتبهم، فكأن هذا استشهاد لأهل مكة، لأن أهل مكة قالوا قبل ذلك: إن أهل الكتاب ينكرونك وينكرون نبوتك، فأتنا بشاهد يشهد لك. فنزلت الآية: (( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ )). قال الزمخشري : وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب للنبي عليه الصلاة والسلام والسلام، وبصحة نبوته، ولذا قال: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، فإنكار رسول الله صلى الله عليه وسلم خسران. وقوله: (( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ )) يعني: من المشركين (( فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ )) أي: بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشَّرت به الأنبياء ونوهت به؛ لأنه مطبوع على قلوبهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون)

    قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21]. قوله: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً) من كذبهم أنهم زعموا أن الملائكة بنات الله، وقولهم في الأصنام: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وما حكاه الله تعالى عنهم بقوله: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف:28] ونحو ذلك. وقوله: (أو كذب بآياته) يعني: إما أنه افترى على الله الكذب، وإما أنه لما جاءته آيات الله كذب بها، فكذب بالقرآن والمعجزات وسماها سحراً. وقوله: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته) مع أنهم جمعوا بين الأمرين تنبيهاً على أن كل واحد منهما وحده بالغ الغاية في الإفراط في الظلم، فكيف وهم قد جمعوا بينهما، فأثبتوا ما نفاه الله تعالى ونفوا ما أثبته؟! وقوله: (إنه لا يفلح الظالمون) أي: لا ينجون من مكروه، ولا يفوزون بمقصود، فإذا كان حال الظالمين هذا، فكيف بمن لا أحد أظلم منه، وهم هؤلاء الذين يفعلون هذه الأشياء؟! فكل ظالم خاسر؛ لأن كل ظالم لا يفلح، كما قال تعال هنا :(إنه لا يفلح الظالمون)، يعني: لا يفلحون في الدنيا بانقطاع الحجة عنهم، وظهور المسلمين عليهم، وفيه إشارة إلى أن مدَّعي الرسالة الذين يدعون النبوة والرسالة كذباً لا يفلحون؛ فمن كان كاذباً مفترياً على الله فلا يكون مفلحاً؛ لأنه ذكر في الآية الذي يدعي النبوة فقال: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته)، فمن افترى على الله كذباً بأن ادعى أنه أوحي إليه ولم يوح إليه شيء، فهذا هو الكاذب الذي لا يمكن أن يكون من المفلحين؛ لأنه (لا يفلح الظالمون)، فلا يمكن أن يكون مدعي النبوة سبباً لصلاح العالم، ولا محلاً لظهور المعجزة، وهذه آية من آيات الله الباهرة، إذ كل من ادعى النبوة لابد من أن يفتضح، أو أن يتوب في النهاية، ولكن بعد أن ينكشف كذبه للناس، والكاذب لا يمكن الله عز وجل له في الأرض ولا يؤيده بالمعجزات، ولا يكون سبباً في صلاح العالم، كما جاء في بعض الآثار الإسرائيلية أنه سئل المسيح: كيف نميز بين الكاذب من الصادق؟ فقال: من ثمارهم تعرفونهم.

    الأسس التي يعرف بها صدق الرسول

    وما ذكر هو أحد الأسس الخمسة التي نستطيع من خلالها أن نستدل على صدق الرسول، فالرسول يعرف صدقه بخمسة أشياء: بصفاته الشخصية؛ لأن الأنبياء يتميزون بصفات شخصية خَلقية أو خُلقية، ولا توجد بهذه الصورة المجتمعة إلا في الأنبياء، فالأنبياء لهم آثار لا تشتبه بآثار غيرهم، فمن الأثر الإصلاح الذي يحدثونه في العالم كله، ولا تعرف نبوةُ على الإطلاق أعظم أثراً من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أبداً، وهذا باعتراف الكفار أنفسهم، ولعل من قرأ كتاب (العظماء مائة) يجد أنه ذكر أن أعظمهم هو محمد صلى الله عليه وسلم، مع أن المؤلف الكافر، ولكن هذه حقيقة لا يستطيع أحد أن ينكرها أبداً، فإنه لم يوجد في تاريخ البشرية كلها شخص أعظم أثراً في إصلاح العالم مثل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ومن هذه الأسس النبوءات التي تخبر عن أشياء تقع في المستقبل وتقع كما أخبر. ومنها: بشارة الكتب السابقة به. ومنها المعجزات. فمدعي الرسالة لو كان كاذباً مفترياً على الله تعالى فإنه لا يكون مفلحاً، ولا يكون سبباً لصلاح العالم ولا محلاً لظهور المعجزات.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا..)

    يقول تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:22]. قوله: (يوم نحشرهم) أي: الإنس والجن والشياطين. (جميعاً) لكي يفتضح من لا يفلح من الظالمين، ويظهر المفلحون بكمال الإعجاز. وقوله: (ثم نقول للذين أشركوا) أي: الذين مضوا على الشرك بأن ماتوا عليه، وهم الشاهدون أن مع الله آلهةً أخرى: (أين شركاؤكم) أي: الذين جعلتموهم شركاءنا، وهم شركاؤكم في العبودية. وقيل: قوله تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ [الصافات:22] يقتضي حضورهم معهم في المحشر، وعلى هذا تحمل الآية هنا (ويوم نحشرهم جميعاً) أي: المشركين (ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون)، ففي الآية الأخرى يقول عز وجل: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُوْنِ الله [الصافات:22] فهذا يقتضي حضورهم معهم في المحشر، وآية الأنعام فيها سؤالهم عن شركائهم. وأجيب بأنه على تقدير مضاف، أي أن الله هنا يقول: (ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم)، والآية الأخرى تثبت أن شركاءهم يحشرون معهم، والسؤال بـ(أين) يكون على شيء لا يحضر، فالجواب: هم حاضرون بالفعل محشورون معهم مصداقاً للآية التي في سورة الصافات، لكن المقصود هنا بتقدير مضاف، فقوله: (أين شركاؤكم) يعني: أين نفع شركائكم، وأين شفاعة شركائكم؟! فهم بمنزلة الغُيَّب؛ لأن الحاضر الذي لا نفع ولا فائدة من حضوره هو مثل الغائب، ومثل الميت، ومثل المعدوم؛ لأنهم عدموا ما رجوا منهم من الشفاعة. فالمقصود هو التوبيخ والتقريع، وأن يقرر في نفوسهم أن ما كانوا يرجونه مأيوس منه، وثمرة هذا أنهم يعلمون في الدنيا أنه تقوم عليهم الحجة، فيعملون عقولهم ليستحضروا ما هم عليه من الضلال، وأن هؤلاء الذين يرجون شفاعتهم سوف ييئسونهم ويخذلونهم، وذلك تنبيه لهم في دار الدنيا على فساد هذه الطريقة. وقوله: (الذين كنتم تزعمون) يعني: تزعمونهم شركاء من عند أنفسكم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين)

    قال تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]. قوله: (ثم لم تكن فتنتهم) أي: جواب ما اعترض به على فتنتهم التي هي شهادة أن مع الله آلهة أخرى. فقوله: (ثم لم تكن فتنتهم) يعني: لم يكن جوابهم إلا أن كذبوا وقالوا، فسمى الجواب فتنة؛ لأنهم وقعوا في الكذب، فافتتنوا بالكذب أمام الله عز وجل في الآخرة. وقوله: (إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين)، أي: أنهم اعتذروا عن أصنامهم بنفيها نفياً، مؤكداً بالقسم بالاسم الجامع، ولذا قالوا: (والله ربنا ما كنا مشركين)، ونسبوا الربوبية إلى الله عز وجل، لا إلى ما سواه، مبالغةً في التبرؤ من الشرك، فكان هذا العذر ذنباً آخر؛ لأنهم يكذبون يوم القيامة أمام الله عز وجل، ويحلفون على كذبهم يميناً غموساً. وهذا جدير بأن يسمى بالفتنة، ولذا قال: (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون)

    قال تعالى: انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام:24]. قوله: (انظر كيف كذبوا على أنفسهم)، يعني: بنفي الإشراك عنها أمام علام الغيوب، وبحضرة من لا ينحصر من الشهود، فإن الشهود لا ينحصرون في ذلك اليوم، وأكبر شيءٍ شهادةً هو الله عز وجل، الذي رآهم وكان شهيداً على أعمالهم وشركهم وكفرهم، ثم الرسل والملائكة والبشر، وكل هؤلاء يشهدون عليهم، ومع ذلك اجترءوا على الكذب أمام الله عز وجل، فلذلك يقول تعالى: (انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون)، أي: انظر كيف ضاع وغاب عنهم ما كانوا يفترون من الشركاء، فلم يغن عنهم شيئاً، ففقدوا ما رجوا من شفاعتهم ونصرتهم لهم، وهذا كقوله تعالى: قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا [الأعراف:37] أي: خذلونا. قال الزمخشري : فإن قلت: كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور، وعلى أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟! يعني: كيف يكذبون مع أنهم يطلعون الآن على الغيبيات وعلى حقائق الأمور، ويطلعون على أن الكذب والجحود لن ينفعهم يوم القيامة؟ يقول الزمخشري : الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه. أي أنه يتعلق بقشة، والكذب أسوأ من القشة، فالممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه، من غير تمييز بينهما حيرةً ودهشاً، ألا تراهم يقولون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:107]، مع أنهم قد أيقنوا بالخلود في جهنم، ومع ذلك يحاولون أي محاولة فيقولون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:107]، وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه، كما قال تعالى عنهم: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77] وقد علموا أنه لا يقضي عليهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة..)

    ثم بين تعالى بعض ما كان يصدر من مشركي مكة مما طبع على قلوبهم بسببه، فقال عز وجل: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الأنعام:25]. قوله: (ومنهم من يستمع إليك)، يعني: يصغي إليك حين تتلو القرآن ولا يفني عنه شيئاً؛ لأنه لا يتدبر فيه حتى يطلع على إعجازه ويؤثر فيه الإرشاد. وقوله: (وجعلنا على قلوبهم أكنة) أي: حجباً، و(أكنة) جمع كنان، كغطاء جمعه أغطية، والموافقة هنا في الوزن وفي المعنى، فمعنى أكنة: أغطية. وقوله: (أن يفقهوه) يعني: كراهة أن يفهموا ببواطن قلوبهم بواطنه التي بها إعجازه وإرشاده؛ لإقامة الدلائل ورفع الشبه. قوله: (وفي آذانهم وقراً)، أي: وجعلنا في آذانهم التي هي طريق الوصول إلى بواطن القلوب صمماً مانعاً من وصول السماع النافع. وقوله: (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها) يعني: ليس هذا القصور متعلقاً بتقصيره مع القرآن الكريم وتدبر القرآن فقط، لكن هذا في أي آية أخرى ابتدأ فيهم بها فلم يؤمنوا بها، فيقولون: هي سحر. لصرف عنادهم واستحكام التقليد فيهم، ولذلك قال عز وجل: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ [الأنفال:23] يعني: سمع انتفاع. ثم يقول تعالى: (حتى إذا جاءوك يجادلونك) يعني: بلغ تكذيبهم للآيات إلى أنهم إذا جاءوك يحاجونك ويناظرونك في الحق بالباطل. ثم فسر المجادلة بقوله: (يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين) أي: أباطيلهم وأحاديثهم التي لا نظام لها. ولا شك في أن هذه رتبة من الكفر ليس وراءها رتبة؛ لأن هؤلاء المبطلين يعدون أصدق الحديث وأحسن الحديث الذي هو كلام الله من قبيل الأباطيل، مع أنه هو الذي: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، فهذه -بلا شك- رتبة من العناد والكفر لا غاية وراءها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وهم ينهون عنه وينأون عنه...)

    ثم يقول عز وجل: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام:26]. قوله: (وهم ينهون عنه) يعني: لا يقنعون بما ذكر من تكذيبه، بل يصدون غيرهم -أيضاً- عن استماعه. قوله: (وهم ينهون عنه وينأون عنه)، أي: أنهم يبعدون عن القرآن، وينهون الآخرين عن أن يجتمعوا للقرآن، وهم لرؤيتهم حلاوة نظمه فوق نثرهم وشعرهم مع مكانة معانيه يعرفون أن التدبر فيه يفيد التطلع إلى إعجازه، فيخافون تأثيره في قلوب الخلائق، لذلك ينهون عنه، كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26] فهم ينهون عن قراءته واستماعه لئلا يدعوهم إلى التدبر فيه فيفسد عليهم أغراضهم الفاسدة. وقوله: (وينأون عنه) يعني: يتباعدون عنه بأنفسهم إظهاراً لغاية نفورهم منه، وتأكيداً لنهيهم عنه، فإن اجتناب الناهي عن المنهي عنه من متممات النهي. وقوله عز وجل: (وإن يهلكون إلا أنفسهم) أي: هم بهذا الإبتعاد عن مصدر الهدى الذي هو القرآن لن يضروا الله ولا رسوله ولا المؤمنين شيئاً، فإن الله عز وجل متم نوره ومظهر دينه، وإن الدائرة على هؤلاء الكافرين، ولذلك قال: (وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون) قيل في بعض التفاسير: يدخل في هذه الآية الكريمة أبو طالب ، فإنه كان ينهى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذى. فقوله: (وهم ينهون عنه) يعني: ينهى المشركين عن أذيته عليه الصلاة والسلام (وينأون عنه)، أي: وهو نفسه ينأى عنه فلا يؤمن به، مع أنه ينهى إخوانه من مشركي قريش عن أذية الرسول عليه السلام، وكان يحميه، وفي نفس الوقت هو في ذاته ينأى عنه ويبعد عن الإيمان به، فلم يؤمن به. ويكون سر الجمع في قوله: (وهم) أن المقصود أبو طالب ومن كانوا يتابعونه ويناصرونه على ذلك، وقيل: إنها نزلت في عمومة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا عشرة، فكانوا أشد الناس معه في العلانية، وأشدهم عليه بالسر؛ إذ كانوا يناصرونه في العلانية، وينهون الناس عن أذيته، وهم في السر أشد الناس بعداً عنه في الإيمان به عليه الصلاة والسلام. ولا يخفى أن لفظ التنزيل مما يطلق على ما ذكر ولا ينافيه، وهو المراد بالنزول، واستشهد بعض هؤلاء المفسرون بقول أبي طالب يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم: والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر بذاك وقر منه عيونا ودعوتني وزعمت أنك ناصحي ولقد صدقت وكنت ثم أمينا وعرفت دينك لا محالة أنه من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا وهناك جناس بديع بين: (ينهون) و(ينأون).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد..)

    ولما أخبر تعالى أنهم يهلكون أنفسهم شرح كيفيته، مع بيان ما سيصدر عنهم في الآخرة من القول المناسب لعقدهم الدنيوي، فقال عز وجل: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]. قوله: (ولو ترى إذ وقفوا على النار) أي: اطلعوا عليها فعاينوها، أو دخلوها فعرفوا ما فيها من العذاب. وقوله: (على النار) إما أن معناه: فوق النار على الصراط، وإما أن (على) بمعنى (في) يعني: أقيموا في جوف النار وغاصوا فيها، وهي محيطةٌ بهم. وقوله: (فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) تمنوا الرجوع إلى الدنيا حين لا رجوع، واعدين أن لا يكذبوا بما جاءهم، وأن يكونوا من المؤمنين بآياته العاملين بمقتضاها حتى لا يرون هذا الموقف الهائل، ويكونون من فريق المؤمنين الناجين من العذاب الفائزين بحسن المآب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ... وما نحن بمبعوثين)

    يقول تعالى: بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28]. قوله: (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل) في هذا إضراب عما يدل عليه تمنيهم الباطل من الوعد بالتصديق بالإيمان، يعني: ليس هذا الكلام الذي يقولونه حقاً، وإنما هو كما قال تعالى: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [المؤمنون:100] على أحد التفاسير، فهي مجرد كلمة، لكن في الحقيقة لو أن الله ردهم لعادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، والعياذ بالله! فالله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون، ويعلم -أيضاً- ما لم يكن لو كان كيف يكون، حتى الشيء الذي لم يقع لو كان سيقع بعلمه على أي صورة سيقع، والدليل هذه الآية (ولو ردوا لعادوا لما نهو عنه)، فيخبر تعالى أنه لو ردهم إلى الدنيا كما يطلبون وكما يتمنون لعادوا لما نهوا عنه من الشرك. وهذا نلاحظه في الجبابرة والعتاة والطغاة حينما يتعرضون للموت ويواجهون الموت، ثم يشاء الله سبحانه وتعالى أن ينجيهم، ولا شك في أن أي واحد منا لو استحضر أنه ما بينه وبين الموت إلا طرفة عين وانتباهتها فإنه في تلك اللحظة يعاهد الله على التوبة والاستقامة؛ لأنه رأى الموت بعينه. وما من أحد يمرض إلا وهو في الغالب يجدد العهد مع الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [يونس:22]، وهذا شيء يحسه كل إنسان منا في نفسه. فعادة هؤلاء الجبابرة المتجبرين أن الله إذا رد أحدهم فإنه لا يتعظ ولا ينزجر ولا يرعوي، ولا يحدث توبة، بل ربما يتمادى في الطغيان وفي العتو وفي الإفساد في الأرض. فالإنسان كما قال الشاعر: ما أنت إلا كزرع عند خضرته لكل شيء من الآفات مقصود فإن سلمت من الآفات أجمعها فأنت عند تمام الزرع محصود فليست الأمنية التي يذكرونها عن عزمٍ صحيح، وليست عن اعتقاد خالص، بل هي بسبب آخر، وهو أنه ظهر لهم ما كانوا يكتمون في أنفسهم من الكفر والشرك، يعني: أنهم حاولوا أن يكتموا جريمتهم بقولهم: (والله ربنا ما كنا مشركين)، فالله سبحانه وتعالى يبين هنا حالهم فقال: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]، يعني: أنهم الآن يقولون: (ولا نكذب بآيات ربنا)، ويقولون أيضاً: (ونكون من المؤمنين)، وهم قبلها في موقف آخر في القيامة كانوا يقولون: (( وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ))، أي: نحن كنا مؤمنين، فيبين الله سبحانه وتعالى أن السبب في تمنيهم الرجوع إلى الدنيا ليس العزم الصحيح والنية الصادقة على أنهم يتوبون إذا رجعوا إلى الدنيا، لكن الذي جعلهم يتمنون الرجوع هو أنه قد كشف الله مخبوء صدورهم حينما كذبوا وحلفوا كذباً وزوراً أنهم ما كانوا مشركين، فقد ظهر ما كانوا يكتمون في أنفسهم من الكفر والشرك بقولهم: (والله ربنا ما كنا مشركين)، وعرفوا أنهم هالكون بشركهم، فتمنوا لذلك أن يعودوا إلى الدنيا. أو كشفهم بشهادة جوارحهم عليهم، فإنهم حلفوا أنهم ما كانوا مشركين، وما عملوا المعاصي، فينطق الله سبحانه وتعالى جوارحهم فتنطق تدينهم، فحينئذ ينكشف الكذب الذي كانوا يكذبونه. أو انكشف لهم ما كانوا يخفون من قبل في الدنيا حينما كانوا يخفون تصديق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويخفونها في صدورهم، انكشفت لهم الحقيقة يوم القيامة، وكانوا يبدون في الدنيا خلاف هذا التصديق، كما قال عز وجل عن موسى أنه قال لفرعون: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء:102] يعني: أن فرعون نفسه كان موقناً بصدق موسى، لكن كان يخفي ذلك في صدره، فقد كان أمام الجماهير وأمام الشعب يجهر بتكذيب موسى، وهو في قلبه مؤمن بأن موسى صادق، والدليل قوله تعالى هنا حكايةً عن موسى: (لَقَدْ عَلِمْتَ) يعني: يا فرعون (ما أَنزَلَ هَؤُلاءِ) أي: الآيات: إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء:102]، وقال في الآية الأخرى في شأن فرعون وقومه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]. وقوله: (ولو ردوا) يعني: عن هذا الموقف إلى الدنيا كما تمنوا وغاب عنهم ما شاهدوه من الأحوال (لعادوا لما نهوا عنه) أي: لعادوا إلى الشرك وإلى الكفر. وقوله: (وإنهم لكاذبون) يعني: في وعدهم بالإيمان، أو أن ديدنهم الكذب في أحوالهم، ولذلك كان للسلف الصالح مع هذه الآية وأمثالها مواقف، فقد كان بعض السلف يعظ ابنه فيقول له: يا بني! هب أننا متنا ثم بعثنا ونشرنا وقامت القيامة، وحكم علينا أن ندخل النار، ثم وقفنا على الصراط، ووقفنا أمام ربنا سبحانه وتعالى فسألناه الرجعة، ودعونا الله أن نرجع لنعمل صالحاً، هب أنك سألت الله الكرة الجديدة فأعطاك، فافترض أن حياتك الآن هي فرصة ثانية أعطاك الله إياها، فانتهز هذه الفرصة قبل أن تسأل الكرة فلا تعطاها. ثم قال تعالى: وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ . قوله: (إن هي إلا حياتنا الدنيا)، يعني: ما الحياة إلا حياتنا الدنيا، وإن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع! وقوله: (وما نحن بمبعوثين)، يعني: بعد أن نفارق هذه الحياة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق..)

    قال الله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام:30]. قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ ، يعني: عرضوا عليه، أو وقفوا بين يديه، قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ ، أي: أليس هذا المعاد والبعث والنشور بالحق؟! قال هذا تقريعاً لهم ورداً لما يتوهمون عند الرد، قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا ، أي: إنه الحق، وليس بباطل كما كنا نظن. وأكدوا اعترافهم باليمين إظهاراً لكمال يقينهم بأحقيته، فعندهم يقين، لكن اليقين لا ينفع في الآخرة حين تنكشف الحجب، وإنما اليقين ينفع في دنيا الاختبار والابتلاء حين تؤمن بالغيبيات دون أن تراها، هذا هو اليقين المفيد النافع، أما اليقين بالظاهر فكل الناس يوقنون إذا انكشفت الحجب، كما قال تعالى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22]. ولذا قال لهم: (قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ..)

    قال عز وجل: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام:31]. قوله: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله)، يعني: ببلوغ الآخرة وما يتصل بها. وقوله: (حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون)، روي أن علياً رضي الله تعالى عنه نظم أبياتاً على منوال هذه الآية، وقيل: إنها لـأبي العلاء المعري ، ولعل هذا أقرب، يقول فيها: قال المنجم والطبيب كلاهما لا تحشر الأجساد قلت إليكما و(إليكما) هنا معناها: كُفَّا عما تقولان؛ فإنه ليس بصحيح. إن صح قولكما فلست بخاسرٍ أو صح قولي فالخسار عليكما أضحى التقى والشر يصطرعان في الد نيا فأيهما أبر لديكما؟ طهرت ثوبي للصلاة وقبله جسدي فأين الطهر من جسديكما وذكرت ربي في الضمائر مؤنساً خلدي بذاك فأوحشا خلديكما وبكرت في البردين أبغي رحمةً منه ولا ترعان في برديكما إن لم تعد بيدي منافع بالذي آتي فهل من عائد بيديكما برد التقي وإن تهلهل نسجه خير بعلم الله من برديكما يناظر هذين الملحدين اللذين ينكران البعث والنشور. فقوله: (إن صح قولكما فلست بخاسر) يعني: لو كنت أؤمن بالبعث والنشور وأنتما لا تؤمنان به، وظهر بعد ذلك أن مذهبكما كان الصحيح، فمذهبكما في عدم وجود بعث ونشور لا يضرني، لكن افترضا أن مذهبي صحيح وأنه يوجد بعث ونشور فإن هذا يضركما، وهذا نوع من التنزل أو ما يسمى باستدراج الخصم في المناظرة، حتى يقر بالحق، وهذا له نظير في القرآن، مثل قوله تعالى: وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر:28]، وكذلك -أيضاً- قوله تعالى في سورة سبأ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24] والألصق بالموضع الذي نذكره هو هذه الآية: (وإن يك كاذباً)، وبدأ بكلمة (كاذباً)؛ لأنها أقرب لهواه، وهذا نوع من التنزل في الخصومة وفي المناقشات، فإذا كان كاذباً (فعليه كذبه)، لكن إذا كان صادقاً (يصبكم بعض الذي يعدكم) فكذلك هنا يقول لهما: إن كان مذهبكما صحيحاً فأنا ما خسرت شيئاً، لكن إن كان مذهبي صحيحاً فقد خسرتما كل الخسران. فكأنه يقول: إذا كان الأمر كما تقولان من أنه لا قيامة فقد تخلصنا جميعاً، وإن لم يكن الأمر كما تقولان فقد تخلصت وهلكتما، فهذا الكلام وإن خرج مخرج الشك فإنما هو تقرير للمخاطب على خطابه، وبيان قلة أخذه بالنظر والاحتياط لنفسه، مع أن المناظر على ثقة من أمره، وهذا نوع من أنواع الجدل، فالاستدراج نوع من البلاغة استخرجته من كتاب الله تعالى، وهو مخادعات الأقوال التي تقوم مقام مخادعات الأفعال، فيستدرج الخصم حتى ينقاد ويذعن، وهو قريب من المغالطة وليس منها، كقوله تعالى: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غافر:28] ألا ترى لطف احتجاجه على طريقة التقسيم بقوله: (إن يك كاذباً) فكذبه عائد عليه، وإن يصدق يصبكم بعض ما وعدكم به، ففيه من الإنصاف والأدب ما لا يخفى، وهذا يذكرنا -أيضاً- بقوله تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:26-27]. فكأن مؤمن آل فرعون يقول: إن يكن نبياً صادقاً فلابد من أن يعطي كل ما وعد به لا بعضه، لكنه أتى بما هو أذعن لتسليمهم وتصديقهم لما فيه من الملاطفة في النصح، بكلام منصف غير مشدد، فأراهم أنه لم يعطيه حقه، ولم يتعصب له ويحام عنه حتى لا ينفروا عنه، ولذا قدَّم قوله: (وإن يك كاذباً) ثم ختم بقوله: (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) يعني: أنه نبي على الهدى، ولو لم يكن كذلك ما آتاه الله النبوة وعضده، وفيه من خداع الخصم واستدارجه ما لا يخفى. وقوله تعالى: (حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة) أي: جاءتهم القيامة فجأة، وسميت القيامة ساعة لأنها تفجأ الناس بغتةً في ساعة لا يعلمها أحد إلا الله تعالى، والمعنى: جاءتهم منيتهم. والساعة هنا ليس المقصود بها يوم القيامة، بل المقصود بها القيامة الخاصة بكل إنسان، حينما ينتقل من الدنيا إلى الآخرة بالموت، وعلى هذا فقوله: (حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة) المراد الساعة الصغرى التي هي الوفاة. قال الراغب : الساعة الكبرى بعث الناس للمحاسبة، والصغرى موت الإنسان، فساعة كل إنسان موته، كما يقال: إذا مات ابن آدم قامت قيامته، وهي المشار إليها بقوله تعالى: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة)، ومعلوم أن الحشر ينال الإنسان عند موته. وقوله: (قالوا يا حسرتنا) أي: يا ندامتنا. والحسرة هي التلهف على الشيء الفائت. وقوله: (على ما فرطنا فيها) أي: قصرنا في الحياة الدنيا. وقوله: (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون) يعني: بئسما يحملونه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ..)

    يقول تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنعام:32]. قوله: (وما الحياة الدنيا إلا لعب) يعني: هزل وعمل لا يجدي نفعاً (ولهو) يعني: اشتغال بهوى وطرب وما لا تقتضيه الحكمة، وما يشغل الإنسان عما يهمه مما يمتد به ثم ينقضي. وقوله: (وللدار الآخرة خير للذين يتقون)، أي: لدوامها وخلو منافعها ولذاتها عن المضار والآلام. وقوله: (أفلا تعقلون) يعني: أفلا تعقلون هذه الحقيقة حتى تتقوا ما أنتم عليه من الكفر والمعاصي، ولا تؤثروا الأدنى الفاني على الأعلى الباقي؟!

    1.   

    تفسير قوله تبارك وتعالى: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك..)

    قال تبارك وتعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]. قوله: (قد نعلم إنه ليَحزنك) أو (إنه ليُحزِنك) بفتح الياء وضمها (الذي يقولون) يعني: الذي يقولونه فيك من أنك كاذب أو ساحر أو شاعر أو مجنون. وهذه الآية من الآيات العظيمة في فضائل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أعظم الآيات في خصائص الرسول عليه السلام وبيان فضائله وعلو مقامه عند الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى يسلِّي نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه هو الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام، ويبين أنه يعرف كيف تتأثر نفسه الشريفة ويحزن قلبه عليه الصلاة والسلام إذا وصف بأنه كاذب على الله، كما قال: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون) أي: نحن نعرف أنك تتألم أشد الألم حينما يصفونك بالكذب، فيواسيه الله سبحانه وتعالى، والله هو الذي يطلع على قلوب هؤلاء الكفار، فيقول له: (فإنهم لا يكذبونك) أي: لا تجزع، فهم يعتقدون في قلوبهم أنك صادق، لكن يجحدون الحق في الظاهر، وهم يعتقدون صدقك، فيواسيه بأنك لا تتألم حينما يصفونك بالكذب؛ لأنهم في الحقيقة لا يكذبونك، فهم يعرفون صدقك، لكن ما يظهرونه هو عبارة عن جحود في الظاهر، وهم يصدقونك في الباطن، وهذا من أعظم المواساة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. فانظر كي تعرف مكانة النبي عليه الصلاة والسلام عند الله عز وجل، وتأمل جيداً في مثل هذه الآيات (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون) وانظر إلى الشفقة والرفق والتلطف بالرسول عليه الصلاة والسلام، والمواساة والتسلية له (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون). يقول أبو السعود : استئناف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم عن الحزن الذي يعتريه، مما حكي عن الكفرة من الإصرار على التكذيب والمبالغة فيه؛ لبيان أنه صلى الله عليه وسلم بمكانةٍ من الله عز وجل، وأن ما يفعلونه في حقه فهو راجع إليه تعالى في الحقيقة، وأنه ينتقم منهم أشد انتقام. وقوله: (نعلم) هنا المقصود التحقيق وتأكيد علم الله سبحانه وتعالى بوقوع ما يقولون. يقول أبو السعود : وهذا يفيد بلوغه صلى الله عليه وسلم في جلالة القدر، ورفعة المحل، والزلفى من الله عز وجل إلى حيث لا غاية وراءه، حيث لم يقتصر على جعل تكذيبه عليه الصلاة والسلام تكذيباً لآياته سبحانه وتعالى على طريقة قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، بل نفى تكذيبهم عنه، وأثبته لآياته تعالى على طريقة قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ [الفتح:10] إيذاناً بكمال القرب واضمحلال شئونه عليه الصلاة والسلام في شأن الله عز وجل، وفيه استعظام لجنايتهم منبه عن عظم عقوبتهم، وقيل: المعنى: فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم، ولكن يجحدون بألسنتهم عناداً ومكابرة، وقد روي عن علي قال: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به. فأنزل الله: (فإنهم لا يكذبونك) إلى آخر الآية.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا ..)

    ثم يقول تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام:34]. قوله: (ولقد كذبت رسل من قبلك) في هذا تسليته عليه الصلاة والسلام؛ فإن عموم البلية ربما يهون أمرها بعض التهوين حين تعم، والناس عندهم المثل الذي يقول: (المصيبة إذا عمت طابت)، فالبلاء والعناء حينما ينزل ويشترك فيه الناس يهون عندهم، كما يستشهد لذلك بقول الخنساء : ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي تقول: إن أناساً كثيرين فقدوا إخوانهم، فلو كنت وحدي في هذه المصيبة لما احتملت، ولما واساني أحد، ولقتلت نفسي، ولكنهم كثير، ولكن لا يبكون مثل أخي، ومهما بكوا فإخوانهم أقل من أخي، ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي. فالمصيبة إذا عمت في الناس تكون آثارها أقل؛ لأن في ذلك نوعاً من المواساة. ولذلك فهذا النوع من المواساة سيحرم منه أهل النار، كما في قوله تعالى: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39] فالآية تبين أن من عقوبتهم أنهم سيحرمون بالشعور الذي ينشأ عن المساواة في البلية بسبب وجود أمثالهم في العذاب، فهذا الشعور نفسه سينزع من قلوبهم، ولن ينفعهم وجود غيرهم معهم في العذاب. فيقول تعالى: (ولقد كذبت رسل من قبلك)، يواسيه الله سبحانه وتعالى بسنته تعالى فيمن سبقوه من الأنبياء، فإن عموم البلية ربما يهون أمرها بعض التهوين، وفي هذا إرشاد له صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء بمن قبله من الرسل الكرام في الصبر على ما أصابهم من أممهم من فنون الأذية، وفيها وعد ضمني له صلى الله عليه وسلم بمثل ما مُنحوه من النصر، كما كانت عاقبة أمرهم النصر، والعاقبة للمتقين، فكذلك تتضمن هذه الآية وعداً للنبي صلى الله عليه وسلم بالنصر والتمكين. وقوله: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا)، إلى أن جاءت النهاية الحتمية: (حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين) أما كلمات الله فهي مواعيده، كما قال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173] وقال أيضاً: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة:21]. وقوله: (ولقد جاءك من نبأ المرسلين)، أي: من خبرهم في مصابرة الكفار، وما منحوه من النصر، فلابد من أن نزيل حزنك بإهلاكهم، وليس إمهالهم لإهمالهم، بل هو لجريان سنته تعالى بتحقيق صبر الرسل وشكرهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإن كان كبر عليك إعراضهم..)

    ثم قال عز وجل: وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [الأنعام:35]. قوله: (وإن كان كبر عليك)، يعني: إن كان شق وثقل عليك (إعراضهم)، يعني: عن الإيمان بما جئت به من القرآن، ونأيهم ونهيهم الناس عنه. وقوله: (فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض)، يعني: إما أن تصبر ولا حيلة لك إلا الصبر، وإما أن لا تصبر ولا يوجد خيار آخر، فعليك أن تصبر وتقتدي بإخوانك المرسلين السابقين. وقوله: (فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض)، أي: سرباً ومنفذاً تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض حتى تأتي لهم بآية يؤمنون بها. قوله: (أو سلماً في السماء) أي: مصعداً تعرج به إليها. وقوله: (فتأتيهم بآية) يعني: مما اقترحوه فافعل، وحسن حذف الجواب لعلم السامع به، فقوله: (فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء) جوابه: فافعل، لكن لم يجعل الله لك هذه الاستطاعة؛ إذ يقين الإيمان غير نافع؛ لأنه لو انكشفت الحجب تماماً وصار الغيب شهادة، وأتاهم بكل ما يقترحونه من المعجزات والخوارق فسينقلب الإيمان إلى إيمان قهري وضروري، وليس إيماناً اختيارياً. ثم يقول تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى)، وهذه كلها مواساة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه شاء بمقتضى جلاله إظهار غاية قهره وغاية لطفه، (فلا تكونن)، يعني: بالحرص على إيمانهم، أو الميل إلى نزول مقترحهم، (من الجاهلين)، يعني: بما تقتضيه شئونه تعالى. وفي هذه الآية ما لا يخفى من الدلالة على مبالغته صلى الله عليه وسلم في حرصه على إسلام قومه وتهالكه عليه إلى غاية أنه لو قدر أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم وشفقة عليهم. وهذه الآية كافلة بالرد على القدرية في زعمهم أن الله تعالى شاء جمع الناس كلهم على الهدى فلم يكن؛ لأن الله تعالى يقول: (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى)، فلو حرف امتناع لامتناع، فصدر الجملة بـ(لو)، ومقتضاها امتناع جوابها لامتناع الواقع بعدها، يعني: امتنع استماعهم عن الهدى لامتناع مشيئة الله عز وجل أن يجمعهم على الهدى، وقال عز وجل هنا: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) ولم يقل: فلا تكن جاهلاً، وإنما قال: (فلا تكونن من الجاهلين) يعني: من قوم ينسبون إلى الجهل، تعظيماً لنبيه صلى الله عليه وسلم حتى لا يسند الجهل إليه بالمبالغة في نفيه عنه. وأما ما فيه من شدة الخطاب في قوله: (فلا تكونن من الجاهلين)، فسره إبعاد جنابه الكريم عن الحرص على ما لا يكون والجزع في مواطن الصبر، مما لا يليق إلا بالجاهلين، والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755981972