إسلام ويب

علو الهمة [16]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بالهمم العالية يرتفع الذكر بين الناس، وبانحطاطها يذوق الإنسان الويلات، وغالباً ما تكون أسباب انحطاط الهمم أسباب يسهل التغلب عليها، خصوصاً إذا أمعن المرء النظر في سير من سلف من أصحاب الهمم العالية.

    1.   

    أسباب انحطاط الهمم

    وسنذكر بعض أسباب انحطاط الهمم، ونحن ما كان لنا أن نذكر الأسباب إلا لأنه من الطبيعي قبل أن نذكر أسباب الارتقاء بالهمة أن نتكلم على أسباب انحطاط الهمم؛ لما بينهما من التقابل، وبضدها تتبين الأشياء، وبجانب أن الإنسان يعلم الشر؛ كي يتقيه ويجتنبه.

    الوهن وحب الدنيا من أسباب انحطاط الهمم

    فأعظم أسباب هذا المرض الخطير: الوهن، والوهن هو كما فسره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المعروف: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قلنا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة منكم من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

    أي: أن الأمم تجعل أمة الإسلام وليمة يأكلون فيها المسلمين، ويأخذون ثرواتهم، ويذبحون أبناءهم، فهذه الوليمة صار يتداعى إليها أعداء الإسلام، سواء كان في حرب الخليج الأولى أو الثانية، أو في البوسنة والهرسك، أو في فلسطين، أو في غيرها من المواقع، ففي حرب الخليج قال وزير خارجية بريطانيا: نريد نصيبنا من الكيكة أو من الترتة! بلا استحياء! وهذا تجسيد فعلاً لما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم.

    وقد بين عليه الصلاة والسلام أن الأمر ليس بسبب قلة العدد؛ فأنتم تكونون كثيرين، لكنكم كالغثاء، وهو: الزبد الذي يكون فوق السيل، ويدفعه السيل أمامه في مجراه من الغثاء والرغاوة والكناسة وهذه الأشياء.

    قال عليه الصلاة والسلام: (وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، هذا هو السبب في الحقيقة، أما حب الدنيا فأنت إذا تأملت أي خطيئة ترتكب في الوجود فستجد أن سببها هو حب الدنيا بكل ما تحتمله كلمة دنيا من معانٍ؛ لأن الإنسان إذا أحب الدنيا فإن ذلك يؤدي به إلى أن يتثاقل إلى الأرض، ولا يستطيع أن يرتقي إلى السماء؛ فيكون ثقيلاً منجذباً إلى الأرض، كما قال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. [التوبة:38]، أي: خفوا إلى الجهاد اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ [التوبة:38].

    إذاً: حب الدنيا هو سبب التثاقل إلى الأرض، وكذلك ما من عبد تأسره الشهوات إلا والسبب في هذه الشهوات هي الدنيا أيضاً، وكذلك الانغماس في الترف، فإذا الإنسان عمر في الدنيا وأغرق في الترف ويعيش في الترف بهذه الصورة فهل سيفكر بعد ذلك في الموت؟! وهل سيفكر في الآخرة؟! فهو يعمر الدنيا، ويخرب الآخرة، فمن الطبيعي أن يكره الانتقال من العمار إلى الخراب؛ لأنه خرب الآخرة، فبذلك يميل إلى حب الدنيا، ويتشبث بها.

    وكذلك حب الدنيا هو الذي يؤدي بالناس إلى التنافس في دار الغرور، فهم يتنافسون على أمور الدنيا بما يوجد الحسد والحقد والبغضاء والحروب والصراعات وهذه الأشياء.

    يقول الشاعر مبيناً أن الرجال يقتل بعضهم بعضاً في سبيل حب الدنيا:

    تفانى الرجال على حبها وما يحصلون على طائل

    قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: واعلم أن زمن الابتلاء ضيف قراه الصبر. يعني: أن البلاء الذي تعيشه في الدنيا مهما طال فهو فترة مؤقتة، فزمن البلاء هذا ضيف طارئ سيمكث عندك فترة قليلة جداً؛ لأن العمر مهما طال فسيمضي، وسينتهي، وستصبح أنت في خبر كان، وسوف تفضي إلى ما قدمت بين يديك، فنفرض أن إنساناً عاش مائة سنة -وقل من يعيش مائة سنة الآن- فإن مصيره الموت، كما قال ملك الموت لموسى عليه السلام: (ثم ماذا ؟ قال: الموت، قال: فالآن).

    فالإنسان حينما يكون موجوداً في عمق الصورة لا يحسن التفكير المتجرد، لكن إذا تدبر نفسه وتصور أنه منفصل عن تأثير هذه الصورة فإنه يعطي الحكم بدقة، ونحن الآن يعرف بعضنا بعضاً، ويعرف الإنسان جيرانه وأصدقاءه وإخوانه وآخرين وكذا وكذا، فنحن منشغلون ومنهمكون في هذا المحيط الذي يحيط بنا، وما هي إلا سنوات قليلة أو عقود قليلة من الزمان وإذا بك أنت وكل هؤلاء الذين تعرفهم ستكونون تحت التراب، وهكذا كل من على وجه الأرض؛ ليأتي جيل جديد، إلى أن يأذن الله سبحانه وتعالى بخراب الدنيا كلها، فكما نحن نجلس الآن في هذا المصر من الأرض فسيأتي غيرنا بعدنا، وهذه الأرض نفسها التي نعيش عليها كم من الناس قد عاشوا عليها منذ مئات السنين وآلاف السنين! لقد عاش عليها أمم فأين هم الآن؟ قال عز وجل: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا [مريم:98].

    وكما مضى من قبلنا فنحن أيضاً سيأتي من بعدنا في نفس هذه الأراضي وهذه البلاد فيعيشون، قال عز وجل: وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ [إبراهيم:45].

    فقوم يجيئون، وقوم يذهبون، ولا ينفع الإنسان ولا يبقى معه إلا عمله الصالح.

    يقول ابن الجوزي : زمان البلاء والتكليف والمشقة والصبر على الأذى والصبر على فتن الدنيا هو ضيف سريع الزوال، قراه الصبر. أي: إذا أتاك هذا الضيف وهو البلاء في سبيل الدين فأقره الصبر، والقرى هو: ما يقدم للضيف من الكرم، فأكرم هذا البلاء بأن تصبر عليه إلى أن يرحل؛ فإنه لن يبقى معك طويلاً.

    ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تعوذوا بالله من شر جار المقام؛ فإن جار الضعن إذا شاء أن يزايل زايل).

    يقول: واعلم أن زمان الابتلاء ضيف قراه الصبر، كما كان الإمام أحمد بن حنبل يعزي على زهده في الدنيا بأن يقول: إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل، فلا تنظر إلى لذة المترفين، وتلمح عواقبهم، ولا تضق صدراً بضيق العيش، وعلل الناقة بالحدو تسر:

    طاول بها الليل مال النجم أن جمح وماطل النوم ظن الجفن أن سمح

    فإن تشكت فعللها المجرة من ضوء الصباح وعدها بالرواح ضحى

    وهذه هي سياسة المؤمن الحاذق الفطن في تعامله مع الدنيا، فإذا كان هناك عمل من أعمال الدنيا فسوِّف ما شئت، وليس هناك مشكلة، كما يقول الحسن : اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.

    فحين يتعارض عملان: عمل ستحاسب عليه ربما غداً أو بعد ساعة، وعمل أنت تعلمه كأنك تعيش للأبد، فانظر أيهما يقدم على الآخر. وهذا عكس ما يستعمل الناس هذه العبارة فإنهم يقولون: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، ويفهموها أن تخدم الدنيا تماماً، وكأنك تعيش أبداً، والأمر بالعكس؛ لأن الذي يعيش أبداً إذا فاته شيء من الدنيا الآن يعوضه غداً أو السنة القادمة أو التي بعدها؛ لأن الدنيا تعوض، أما الدين فلا يعوض، فكل شيء إذا ضيعته منه عوض، وليس في الله إن ضيعت من عوض، فإذا كسبت الله كسبت كل شيء، وإذا خسرت الله فاتك كل شيء.

    فالإمام أحمد يبين لنا في هذه الكلمة الطيبة السياسة التي ينبغي أن يتعامل بها الإنسان مع الدنيا.

    يقول الشاعر:

    طاول بها الليل مال النجم أن جنح

    يعني: استغرق الليل في طاعة الله وفي ذكر الله وفي العبادة، ولا تمل من ذلك، وكلما تقول لك نفسك: أريد أن أنام، فقل لها: بعد قليل، وهذا هو التسويف في العمل الصالح، وهذا بخلاف التسويف في شهوات النفوس، وبعكس ما يفعل أكثر الناس، فكن كلما اشتكت لك نفسك أنها تريد أن تنام وتريد أن تستريح، فقل لها: سأريحك بعد هاتين الركعتين، وإذا أتيت بركعتين فقل لها: سأريحك بعد أن أقرأ هذا الجزء من القرآن، فإذا انتهيت فقل لها: استريحي بعد هذا الورد من الدعاء، وهكذا سوفها في فعل الخير، كالإنسان المسوف الذي يماطل شريكه، ويتهرب منه بالوعود في المستقبل.

    يقول: طاول بها الليل مال النجم أن جنح وماطل النوم ظن الجفن أن سمح

    فإن تشكت فعللها المجرة من ضوء الصباح وعدها بالرواح ضحى

    فكلما تأتي بعبادة فقل لنفسك إن تشكت في الليل: حينما تطلع مجرة الصباح سأريحك، ثم إذا طلع وقت الصبح عللها بوقت الضحى، وقل لها: سأريحك في الضحى. هذا هو المقصود من الكلام.

    وقد كان أهدي إلى أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى هدية من المنصور الخليفة، فردها للمنصور ، ثم قال لأولاده بعد ما مرت سنة -أي: في الذكرى السنوية الأولى لهذه الهدية-: لو كنا قبلناها كانت قد ذهبت، لو كنا قبلناها كنا قد استهلكناها وذهبت، أما الآن فقد استرحنا من هديته.

    ومر بشر على بئر فقال له صاحبه: أنا عطشان، فقال: البئر الأخرى. أي: انتظر حتى نصل إلى البئر التي بعدها، فمر عليها فقال له: الأخرى، أراد بذلك أن يعلمه درساً، فقال له: كذا تقطع الدنيا.

    فكلما لاحت لك شهوة أو حاجة من حاجات الدنيا فلا تبادر بإنجازها وتحصيلها، ولكن سوف لنفسك في الدنيا، أما في الدين فلا تسوف؛ إنما في الدنيا قل لها: سوف أفعل كذا فيما يأتي.

    ودخلوا على بشر الحافي وليس في داره حصير، فقيل له: ألا بذا تؤذى؟ فقال: هذا أمر ينقضي.

    دور كراهية الموت في انحطاط الهمم

    هذا فيما يتعلق بالجزء الأول من الوهن الذي سبب انحطاط الهمم، وهو حب الدنيا، أما القسم الثاني فهو كما وصفه النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (وكراهية الموت)، فإذا أحب عبد الدنيا فلابد أن يكره الموت؛ لأنه إذا أحب الدنيا عمرها، وإذا عمرها خرب الآخرة، لأنهما ضرتان؛ إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، فإذا أحب الدنيا واثاقل إليها ورضي بها دون الآخرة فسيخرب الآخرة، وبالتالي يكره الموت الذي سينقله إلى الدار الآخرة.

    فثمرة حب الدنيا كراهية الموت، وكراهية الموت أيضاً ثمرة الحرص على متاع الدنيا، مع تخريب الآخرة، فيكره أن ينتقل من العمران إلى الخراب.

    قال الطبرائي مبيناً أثر حب السلامة في الانحطاط بالهمة: حب السلامة يثني عزم صاحبه عن المعالي، ويغري المرء بالكسل، إن حب الدنيا وكراهية الموت صنوان لا يفترقان، وإن الهمة العالية لا تسكن القلب الجبان، وتأمل حال خفيف الهمة الذي أورثته التربية الفاسدة حرصاً على حياة، كما قال تعالى في شأن اليهود لعنهم الله: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96].

    ولذلك تحداهم القرآن الكريم، وهذه من آيات إعجاز القرآن الكريم؛ لأنهم ما قبلوا التحدي حينما تحداهم أن: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:94]؛ لأن الإنسان إذا كان صادقاً ومع الحق فكيف يخاف من الموت؟ قال عز وجل: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95]، فالكفار وسائر اليهود لا يمكن أن يتمنوا الموت أبداً؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14].

    ونحن لا ننسى خط برليف، وكيف أنهم صنعوا هذا الخط ليجسد معنى هذه الآية: لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ ، فنحن نجد دائماً أن المسلم إذا هجم بنفسه على يهودي لا يثبت أمامه اليهودي حتى ولو معه أسلحة أقوى منه، فالمسلم مستعد أن يلتهمه حتى بأسنانه وأظافره، ولذلك لا يقوون أبداً على المواجهة بدون هذه الأسلحة وهذه الجدر وهذه الأشياء.

    فخفيف الهمة هو الذي أورثته التربية الفاسدة حرصاً على أي حياة ولو كانت ذليلة، قال عز وجل عن هذا وعن أمثاله: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96]، ونكر سبحانه وتعالى كلمة حَيَاةٍ إشارة إلى أنهم يرضون بالحياة ولو كانت أي حياة، فيريد أن يعيش ولو ذليلاً، المهم أن يكون حياً؛ لأنه قد غرست فيه تربية حب السلامة في مواطن الجرأة والإقدام والمخاطرة.

    فانظر هذا الرجل من خسيسي الهمة كيف يخبر أن زوجته هنداً تشجعه على الخروج إلى الجهاد أو للقتال أو للدفاع عن العرض والقبيلة والعشيرة أو الدين أو غير ذلك؛ حيث كانت زوجته أشجع منه؛ لأنها هي التي تشجعه وتحرضه على الخروج وهو يرد عليها فيقول:

    أضحت تشجعني هند فقلت لها إن الشجاعة مقرون بها العطب

    أي: أن الشجاعة هذه تؤدي إلى المهلكة؛ فإن الشجاعة معناها: أنني قد أموت، قال:

    أضحت تشجعني هند فقلت لها إن الشجاعة مقرون بها العطب

    لا والذي حجت الأنصار كعبته ما يشتهي الموت عندي من له أرب

    للحرب قوم أضل الله سعيهم إذا دعتهم إلى حوماتها وثبوا

    ولست منهم ولا أهوى فعالهم فلا القتل يعجبني منهم ولا السلب

    ويقول آخر:

    يقول لي الأمير بغير جرم تقدم حين حل بنا المراس

    فما لي إن أطعتك في حياة ولا لي غير هذا الرأس رأس

    أي: ليس عندي رأس ثانية، فإذا طارت هذه في الحرب فبماذا أعيش؟!

    فأين هذان الجبلان من قول الشاعر:

    إذا أراد الغزو لم تثن عزمه حسان عليها نظم در يزينها

    نهته فلما لم تر النهي عاقه بكت فبكى مما شجاها قطينها

    يصور موقف آخر بالعكس من رجل خرج خارج للجهاد فزوجته ظلت تثنيه عن الخروج وتقول له: إلى من تتركنا؟ وكذا وكذا من هذا الكلام.

    فإذا أراد الغزو لم تثن عزمه حصان عليها نظم در يزينها

    أي: متزينة بالدر.

    نهته فلما لم ترى النهي عاقه

    أي: ما أثر فيه النهي.

    بكت فبكى مما شجاها قطينها

    أي: بكى من حولها من الحشم والخدم والأتباع، بكوا لبكائها.

    بل أين هذا الجبان من قول زهير بن أبي سلمى -وهو شاعر جاهلي-:

    وليس لمن لم يركب الهول بغية وليس لرحل حطه الله حامل

    بل نقول: أين هذا الذي يقول هذا الكلام من ذلك العبد الصالح الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدما كلما سمع بهيعة استوى على متنه، ثم طلب الموت مظانة..)، إلى آخر الحديث، رواه أحمد ومسلم وابن ماجة .

    هذا فيما يتعلق بالسبب الأول من أسباب انحطاط الهمة وهو الوهن، والوهن لا يفسر بغير ما فسره به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (حب الدنيا وكراهية الموت ).

    دور الفتور في انحطاط الهمم

    ومنها: الفتور، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك).

    وقوله: (إن لكل عمل شرة..)، يعني: نشاط وقوة، وقوله: (ولكل شرة فترة..)، أي: ضعف وفتور، يعني: أن هذه هي طبيعة النفس البشرية، فهي تبدأ بهمة وبحمية، ثم بعد وقت يصيبها نوع من الفتور والملل.

    فطبيعي أن الإنسان لا يستطيع أن يلزم نفسه الجد بصورة مستمرة، لكن الفترة والفتور أمر لابد منه، لكن على أن يكون إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: يقف الإنسان بالسيارة في محطة البنزين لبضع دقائق، وهذا نوع من الفتور والضعف أو الراحة أو التوقف من أجل أن يزودها بوقود، ومثل هذه الاستراحة تزود الإنسان بطاقة؛ حتى يستطيع أن يستمر بعد ذلك، فمعنى ذلك: أنه لا يتخذ محطة البنزين مستقراً، ولا يذهب ليأتي بالعفش والسرير والمطبخ والأكل والأواني ويضعها في محطة البنزين؛ ليتخذها مقراً ومسكناً له؛ لأن هذا الشيء لا يعقل، لكن هذا ما نفعله نحن بالفعل، ففي المحطة التي هي محطة الراحة؛ لأجل التزود -كمحطة البنزين بالضبط- نحن نتخذها وطناً، وما يكون في حياتنا إلا اللهو واللعب والكرة وهذه الأشياء، ولا يكاد يوجد مظهر من مظاهر الجد في حياتنا.

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل عمل شرة ولكل شرة فترة)، يعني: فترة قليلة، وبعد ذلك يعاود الجهد، (فمن كانت فترته إلى سنتي)، أي: تبعني في الفترة كما تبعني في الشرة فقد اهتدى، ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك.

    وليس هذا مثل من يقول: ساعة لربك، وساعة لقلبك، ويقصد: القلب المريض، يقولها لك إذا نهيته عن المعاصي وعن الأشياء المحرمة، وعن إطلاق البصر، وعن الأغاني، وعن أي شيء من المنكرات، حيث يقول: ساعة لربك، وساعة لقلبك! يعني: ساعة لقلبك المريض أو ساعة لشيطانك، وهذه قسمة كما قال عز وجل: تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم:22].

    فالمسلم مطالب بطاعة الله سبحانه وتعالى في كل أحواله، ومطالب باحترام شرع الله في عاداته، ومطالب باحترام الشرع في حالة الهزل وفي حالة الجد.

    عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا أيها الناس! خذوا من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل).

    وسبق أن تكلمنا على هذا المعنى مراراً، والحديث متفق عليه، فلذلك يقول الشاعر:

    لكل إلى شأو العلى حركات ولكن عزيز في الرجال ثبات

    ومعنى هذا: أن الواحد ممكن أنه يفهم مثل هذه المحاضرة ويسمع مثل هذا الكلام على ذوي الهمة في عبادة الله تعالى، ويسمع الأسباب في النهوض بالهمة فتتحرك همته إلى أنه يفعل مثل هؤلاء الخيرين الأخيار، وتقريباً أن كل من يسمع عن هذا تتحرك همته إلى الاقتداء بهم، لكن ليس كل الناس يثبتون، بل ترتفع الهمة عند هذا ثم لا تلبث أن تعود من جديد، وتأملوا ذلك في مناسبات كثيرة، فمثلاً: شهر رمضان، تجد في أول يوم من رمضان المساجد مكتظة في صلاة الفجر أو في الصلوات الخمس؛ لأن رمضان أتى، وكل إنسان يريد أن يتوب ويستقيم ويصلح حاله مع الله سبحانه وتعالى، فالهمة موجودة، حتى في عوام الناس، فيقبلون إقبالاً شديداً جداً، ثم انظر إلى الانحدار الذي يحصل في أيامه البواقي، فمع مضي أيام الشهر يبدأ الناس يتقلصون رويداً رويداً، حتى يعود أهل المسجد العاديون هم الذين يعمرون المسجد، وقس على ذلك أحوالاً كثيرة جداً.

    وهكذا في طلب العلم وفي حفظ القرآن؛ حيث إن الطالب يبدأ في حفظ القرآن بنشاط، ثم لا يلبث أن يتراخى، فمن رأى أن الله سبحانه وتعالى وفقه إلى الثبات في طاعة بدأها واستمر فيها فهذا من فضل الله عليه الذي حرم منه الكثيرين.

    فلذلك عبر الشاعر عن هذا المعنى أدق تعبير، فالعبرة بأن تثبت، وإلا فأغلب الناس يفترون ويملون، ولا يواصلون، ومن ثمَّ قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: (لا تكن مثل فلان؛ كان يقوم الليل، فترك قيام الليل)، يعني: أنه فتر عن قيام الليل، فانظر إلى طاقتك الجسمية وظروف العمل والوقت وغير ذلك، وانظر ما هو الذي يدخل في طاقتك من الأوراد ومن قراءة القرآن ومن التعبد واجعله على قدر طاقتك بلا مبالغة، واستمر عليه، فمثلاً: لا تقم كل الليل ثم بعد ذلك تترك قيام الليل تماماً؛ لأن مثل هذا لن يؤثر في القلب ولن يعالج قسوة القلب، بل الذي يعالج القلب هو العمل المداوم عليه حتى ولو كان قليلاً، فمثلاً: لو أن معك برميلاً من الماء، وضربته مرة واحدة على صخرة، فإنه لن يؤثر فيها على الإطلاق، لكن لو أن نفس الكمية من الماء سقطت على هذه الصخرة الصماء قطرة قطرة فإنها ستحدث فيها حفيرة، وهكذا نفس الشيء المقصود من العبادة: علاج القلب وترقيقه وإحياء القلب، وهذا لا يحصل إلا بالمداومة، حتى لو كانت جرعات قليلة في علاج أي مرض فإنها تؤثر.

    فالإنسان لو أراد أن يتعاطى -مثلاً- مضاداً حيوياً فإنه لا يأخذ الشريط كله، ولا يقول: حتى أستعجل الشفاء فسأبلع الشريط كله؛ لأن هذا يسبب تسمماً، فسنة الله سبحانه وتعالى في العلاج أنه يكون رويداً رويداً، فعلى العبد أن يراعي سنن الله سبحانه وتعالى بالمداومة في كل الأمور، حتى في أذكار النوم.

    فلا يأت واحد ويقول: أنا سأقول كل أذكار النوم كل ليلة، ثم إذا به لا يواظب عليها، وإنما ينام بعد ذلك ويهجرها. لكن لو أنه قسم أذكار النوم إذا كانت خمسة عشر ذكر -مثلاً- أو ثمانية عشر وقال: اليوم الأول أقول ثلاثة أو أربعة، واليوم الثاني أقول أربعة، والذي يليه أربعة، وهكذا بطريقة دورية، فإنه مع الوقت يأتي بها كلها، وفي نفس الوقت لا يهجرها كلها، وإنما يهجر بعضها إلى حين، ثم يعود وطبعاً الثواب الأكثر يكون للأكثر، لكن الأوسط أبسط وأجدر أن يدوم عليه صاحبه ويستمر، وقد كان أحب العمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما داوم عليه صاحبه، وكان إذا عمل عملاً أثبته، وداوم عليه صلى الله عليه وسلم.

    ولذلك تجد في بعض الأحاديث إشارة إلى هذا، كقوله عليه الصلاة والسلام: (من صلى في يومه وليلته اثنتي عشرة ركعة دخل الجنة)، يعني: من واظب ولم ينقطع، ولم يصبه الفتور والملل.

    إهدار الوقت سبب من أسباب انحطاط الهمة

    من أسباب انحطاط الهمم: إهدار الوقت الثمين في الزيارات والسمر وفضول المباحات، قال صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ). فالإنسان قد يعطى الصحة لكن لا يعطى الفراغ بسبب شغله في الدنيا، وهذا كحال أغلب الناس الذين وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ صخاب بالأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة). والشاهد منه قوله: (جيفة بالليل، حمار بالنهار)، وكلمة (حمار) المقصود منها: بيان أنه يكدح كما يكدح الحمار، ويتحمل المشقة والتعب، وأصبح يضرب به المثل فيقال: فلان يعمل مثل الحمار. يعني: أنه يعمل عملاً شاقاً جداً، ويداوم ويصبر عليه، فإذا أتى الليل لا يذكر الله سبحانه وتعالى، فهو جثة ملقاة بالليل، حمار بالنهار في طلب الدنيا؛ لأن عنده نعمة الصحة، فبعض الناس يؤتى الصحة التي يقتحم بها أسوار الدنيا، لكن ليس عنده وقت للآخرة؛ فهو مشغول دائماً في الدنيا. وهناك أناس آخرين حرموا نعمة الصحة وعندهم وقت، مثل: إنسان مريض؛ فالمريض مرضاً مزمناً أو شديداً لا يمكنه من فعل أي شيء مفيد عنده الوقت؛ إذ لا شيء يشغله، لأنه مريض ملازم للفراش، لكنه فقد الصحة. فأتم وأكمل ما يكون الأمر للإنسان إذا منَّ الله سبحانه وتعالى عليه بهذين الأمرين: صحة مع فراغ، فإذا استثمرهما في طاعة الله سبحانه وتعالى، وسخر الصحة والفراغ في طاعة الله وفي المقاصد الخيرية فهذا أعظم نعمة على العبد. لكن المؤلم أن أكثر الناس في غفلة عن نعمة الله العظيمة، بل بعضهم حينما يجمع الله له هاتين النعمتين -الصحة والفراغ- يدمر الصحة بالمخدرات وبالسجائر والتدخين وبغير ذلك، ويقتل الوقت أو يقتل نفسه على الأحرى بالجلوس في المقاهي. وتقريباً ظاهرة المقاهي غير موجودة إلا في بعض البلاد، كما في بلادنا حيث ترى الناس في المقاهي، وكأنه ما بقي أحد جالس في بيته، فالمقاهي عامرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! والمساجد حالها كما تعلمون شيء مؤلم، وإذا قلت له: ماذا تفعل؟ يقول لك: أقتل الوقت! أنت تقتل نفسك، وتنتحر، فالنعمة هذه وكل لحظة محسوبة عليك؛ فالله سبحانه وتعالى أبلغ في الإعذار، وأعطاك كل فرصة ممكنة، وأنت الذي كفرت بها وضيعتها، فمعك العقل، ومعك الوحي الإلهي من القرآن والسنة يرشدك إلى كيفية استثمار الوقت، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة - النخلة الصغيرة - فإذا استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها). فهذا الحديث يعلمنا كيف نغتنم ونستثمر الوقت، فإذا منَّ الله سبحانه وتعالى عليك بنعمة الصحة مع نعمة الفراغ فلا تكن من أكثر الناس الذين هم محرومون من استثمار هذه النعمة، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، والغبن: يحدث عندما تملك سلعة وتريد أن تبيعها، فتبيعها بأقل من سعرها، أو إذا كنت ستشتري تشتري بأكثر من سعرها، هذا هو الغبن؛ فأنت تغبن نفسك عندما تأتي الفرصة وتضيعها، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ من النوم حمد الله على هذه النعمة، أي: نعمة أن الروح ترد إلى صاحبها عند الاستيقاظ، ولذلك شبه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالنشور فقال: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)، فهذه النعمة العظيمة هي أن الله سبحانه وتعالى مد في عمرك، وأعطاك فرصة جديدة اليوم؛ لعلك تتوب.. لعلك تستقيم على طاعته.. لعلك تنوي المزيد من أفعال الخير، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: (الحمد لله الذي رد علي روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره)، أي: أعطاني فرصة أن أذكر الله. ولذلك جاء أن ثلاثة شبان من بني عذرة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فاستضافهم أبو طلحة ، فدعا داعي الجهاد، فخرج واحد منهم إلى الجهاد، فقتل في سبيل الله، ثم بعد فترة دعا داعي الجهاد، فخرج الثاني وقتل في سبيل الله، إلا الثالث مات على فراشه ولم يخرج إلى الجهاد كصاحبيه، ثم رآهم أبو طلحة في المنام، فرأى ترتيبهم فرأى أن آخر واحد مات على فراشه هو أعلاهم درجة، يليه الثاني، ويليه الأول الذي مات أولاً في الجهاد، فتعجب من ذلك، وحكا الرؤيا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (وما يعجبك من ذلك؟ إنه ليس أحد أفضل من مؤمن يعمر في الإسلام بالتسبيح والتهليل والتكبير)، أي: كيف تستغرب هذا؟ فهذا شيء طبيعي؛ إنه ليس أحد أفضل من مسلم يعمر في الإسلام؛ لأن عمره يزيد والطاعات تزيد، أما من كان عمره يزيد ويزيد شقاه ومعاصيه فمعناه: أن طول عمره مصيبة عليه، لكن العبرة حين يطول العمر وتكثر الأعمال الصالحة؛ لأن هذا يستكمل هذه النعمة؛ فلذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إنه ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن أو مسلم يعمر في الإسلام بالتسبيح والتكبير والتهليل). فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرح له الموقف، وقال له: إن الشهيد الثاني عاش وبقى فترة بعد الأول عمرها بالصلاة والذكر والتسبيح وقراءة القرآن وكذا، وبعد ذلك عاش الثالث؛ رغم أنه مات على فراشه، لكنه استطاع بالذكر وبقراءة القرآن وبالصلاة وبالعبادة أن يسبق الشهيدين مع أنه مات على فراشه، فهذه نعمة عظيمة جداً. والظاهر أن هذا هو مضمون رسالة إبراهيم عليه السلام من السماء؛ فإن إبراهيم عليه السلام أرسل لنا لكنا وكل مسلم على وجه الأرض منذ زمن النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن تقوم الساعة، فكل واحد منا يتذكر ذلك، وكأنما جاءته رسالة باسمه من إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وذلك حينما قال للرسول صلى الله عليه وسلم في رحلة المعراج: (يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، والحديث صحيح. فهذه الرسالة من إبراهيم عليه السلام يبين فيها أن الجنة قيعان، وأنه كلما قال العبد: سبحان الله وبحمده، تغرس له نخلة في الجنة، وإذا قرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] عشر مرات يبنى له قصر في الجنة، فأي حسرة يتحسرها الإنسان بعد الموت على هذه الفرص التي ضيعها وجعلها هباءً منثوراً؛ لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لا يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله تعالى فيها)، يعني: أن الجنة دار منزهة عن النصب والتحسر والألم إلا من شيء واحد فقط يتحسر عليه أهل الجنة، وهو أنهم حينما يرون النعيم الذي هم فيه يتحسرون على لحظة من الزمن مرت بهم في الدنيا لم يذكروا الله عز وجل فيها. فلاشك أنه لا يضيع هذه النعمة إلا مغبون، والإنسان إذا كان عنده رأس مال ويتجر به فإذا ربح فهذا هو الفوز، وإذا استرد رأس المال فهذه فائدة أيضاً، وإذا رأس المال نفسه هلك وضاع، فلا ربح ولا رأس مال وإنما خسران مبين، فعلى هذه الخسارة يتحسر هذا الإنسان. وبعض العلماء قال: تعلمت تفسير سورة العصر من بائع ثلج. وسورة العصر فيها قسم بالعصر والوقت والدهر والزمن، قال عز وجل: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2]، يعني: أن كل الناس في خسر، ثم استثنى قلة قليلة فقال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3]، فهؤلاء فقط هم الذين ينزهون من الخسران، ولماذا الإنسان في خسر؟ الجواب: لأنه إذا لم يستثمر نعمة الوقت والصحة في هذه الأشياء الأربعة: (( آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ))، فإنه يخسر رأس ماله. وهي خسارة ما بعدها خسارة. قال: رأيت هذا الرجل بائع الثلج -وقبل لم تكن هناك ثلاجات ولا مجمدات بحيث يحفظ فيها الثلج- فالسوق انفض، وصلى الناس صلاة العصر، فبقيت عنده بعض ألواح من الثلج التي هي رأس ماله لم يبعها، وقارب العصر على الخروج، فالرجل كان يسير في الطرقات كالمجنون، يحمل الثلج ويقول للناس: ارحموا من يذوب رأس ماله! ارحموا من يذوب رأس ماله! لأن رأس ماله ماء متجمد، فإذا ذاب لم يبق معه رأس مال، فكذلك نفس الشيء؛ رأس مالك أنت هو الوقت، فإذا ضيعت الوقت فأنت تخسر رأس المال، فمن ثمَّ وصف الله الإنسان المضيع وقته بالخسران فقال: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2]. بين تبارك وتعالى في هذه الإشارة العظيمة في الحلف والقسم بالعصر أن العصر -الذي هو الزمن والوقت- نعمة عظيمة فلا تضيعوها؛ فهي نعمة شريفة، ولذلك أنا أقسم بها وأقول: وَالْعَصْرِ [العصر:1]، أقسم بها أنها نعمة شريفة، والسيئ ليس الزمان، إنما السيئ أفعالكم أنتم، كما قال الشاعر: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا ونهجوا ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان لنا هجانا فليس هناك حاجة اسمها زمن أسود، وإنما أعمالنا نحن هي التي تسيئ إلينا. الشاهد من الكلام: أن هذا الحديث يشير إلى هاتين النعمتين: الصحة والفراغ، فإذا أعطيت قدراً من الصحة والفراغ فاستثمر هاتين النعمتين بأقصى ما تستطيع. يقول الشاعر: والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع

    حفاظ السلف على أوقاتهم

    تعالوا نتحسر على أنفسنا حينما نرى أحوال السلف الصالح رحمهم الله تعالى، يقول الفضيل بن عياض : أعرف من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة. يعني: يقدر يعد كم كلمة تكلمها من الجمعة إلى الجمعة التي تليها! أي: أنه حارس على لسانه حتى على عدد الكلمات التي يتكلمها. ودخلوا على رجل من السلف فقالوا له: لعلنا شغلناك؟ قال: أصدقكم؛ كنت أقرأ فتركت القراءة لأجلكم. يعني: أنتم عطلتموني عن الخير. وجاء عابد إلى السري السقطي فرأى عنده جماعة فقال: صرت مناخ البطالين؟! ثم مضى ولم يجلس. أي: صرت المستظل الذي يجلس عنده أهل اللهو والغفلة، فرفض أن يجلس معه. وقعد جماعة عند معروف الكرخي فأطالوا القعود، فقال لهم: إن ملك الشمس لا يفتر عن سوقها، فمتى تريدون القيام؟ وقال بعض السلف: من فاتته ركعات الفجر فليلعن الثقلاء. يعني: الذين يزورون الإنسان بعد العشاء، ويسهرون معه حتى يعطلوه عن ركعتي الفجر. وقال بعض السلف: إذا طال المجلس صار للشيطان فيه نصيب. يعني: أن المجلس يكون بقدر الحاجة، فإذا كنت في صلة رحم أو عيادة مريض أو غير ذلك من الأسباب فعليك أن تقضي حاجتك وتنصرف، أو تجتمع معه على طاعة كقراءة كتاب أو مسألة علمية أو حفظ قرآن أو تسميع قرآن أو ذكر لله عز وجل، أما ما سوى ذلك وقد قضيت حاجتك فالجلوس إذا طال صار للشيطان فيه نصيب؛ لأنه سوف ينشغل الإنسان بعد ذلك بالغيبة وبالنميمة وبالكلام فيما لا ينفع ولا يجدي. ولذلك قال الحسن أيضاً: نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل. وكان عثمان الباقلوي دائم الذكر لله تعالى، فقال: إني وقت الإفطار أحس بروحي كأنها تخرج؛ لأجل اشتغالي بالأكل عن الذكر. وأوصى بعض السلف أصحابه فقال: إذا خرجتم من عندي فتفرقوا؛ لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه، ومتى اجتمعتم تحدثتم. فهذه نصيحة ذهبية للإخوة نرجو أن يلتزموا بها، فإذا كنت أيها الأخ! في المسجد فصليت وقضيت حاجتك أو حضرت درس العلم فامش وحدك؛ لأنك إن كنت وحدك فممكن أن تسمع القرآن وأنت تمشي، وأن تذكر الله سبحانه وتعالى. أما إذا مشى معك أحد فإنه يعطل بعضكم بعضاً، فإن كنتم تمشون جماعة لكن كل واحد ينشغل بذكر فلا بأس، أما أن جماعة يمشون ويتكلمون في كلام لا يفيد فالوحدة أفضل من هذه الجماعة. وجليس الخير خير من قعود المرء وحده، ووحدة الإنسان خير من جليس السوء.

    العجز والكسل من عوامل انحطاط الهمة

    وأيضاً من أسباب انحطاط الهمة: العجز والكسل، فالعجز والكسل هما العائقان اللذان أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من التعوذ بالله منهما، فمما كان يقول: (وأعوذ بك من العجز والكسل)، فالعجز بأن يكون يريد أن يفعل لكنه غير قادر، والكسل يكون قادراً لكن ليس هناك همة، وعنده فتور.

    وقد يعذر العاجز لعدم قدرته، بخلاف الكسول، فالعاجز قد يعذر؛ لأنه هو يحاول ولا يستطيع، فتخلف العمل نتيجة عجز، لكن الكسول عنده القدر، لكنه همته ضعيفة، فلذلك لا يعذر الكسول، وقد يعذر العاجز؛ فالكسول يتثاقل ويتراخى مع القدرة على أداء ما ينبغي.

    قال الله تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46].

    فالإنسان مطالب بين وقت وآخر أن يجدد التوبة مع كل نفس جديد أو ثانية تمر بعمرك، فهذه فرصة جديدة، فكيف تسوف وتقول: سأتوب الأسبوع القادم أو الشهر القادم، فلا تقل: بعدما أعتمر أو بعدما أحج سوف أتوب، كما يضحك الشيطان على كثير من الناس.

    والمرأة يقال لها: متى تتحجبين؟ فتقول: بعدما أروح أحج وأرجع! فهل أنت تضمنين عمرك؟ وهل تظنين أنك غير مسئولة عن الحجاب في هذه الفترة؟ بل أنت آثمة، وتحملين هذا الوزر، وكذلك في كل طاعة تؤجل بلا مبرر أو بلا مسوغ.

    فاتقوا الله، وتوبوا إليه، استقيموا؛ فإن الصادق يأخذ بالأسباب، كما قال تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ، فإذا أردت أن تنهض من الوحل.. وحل التدخين.. وحل المخدرات.. وحل الغفلة.. وحل اللهو فلابد أن تعد عدة، وابذل من الأسباب ما يثبت جديتك في هذا الأمر، قال عز وجل: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46].

    روي أن رجلاً قال لـخالد بن صفوان : مالي إذا رأيتكم، تذاكرون الأخبار، وتدارسون الآثار، وتناشدون الأشعار وقع علي النوم؟ قال: لأنك حمار في مسلاخ إنسان.

    وقد ترى الرجل موهوباً ونابغة فيأتي الكسل فيخذل همته، ويمحق موهبته، ويطفئ نور بصيرته، ويشل طاقته؛ ولذلك قلنا: الكسول لا يعذر؛ لأن الكسول قادر على أن يفعل، بخلاف العاجز، فممكن أن الإنسان يكون موهوباً فعلاً وذكياً وقادراً على العمل، لكن تنحط همته، فتشل طاقته.

    قال الفراء رحمه الله تعالى: لا أرحم أحداً كرحمتي لرجلين: رجل يطلب العلم ولا فهم له، ورجل يفهم ولا يطلبه؛ وإني لأعجب ممن في وسعه أن يطلب العلم ولا يتعلم.

    قال المتنبي :

    ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام

    فأنت قادر، لكن الكسل هو الذي يعجزك؛ لذلك لا تعذر بالكسل.

    الغفلة سبب من أسباب انحطاط الهمم

    ومن أسباب ضعف الهمة: الغفلة، وشجرة الغفلة تسقى بماء الجهل، وكلما زاد الجهل كلما زادت الغفلة في الإنسان، فالجهل عدو الفضائل كلها، فهل علمتم أمة في جهلها ظهرت في المجد حسناء الرداء؟!

    قال عمر رضي الله عنه: الراحة للرجال غفلة.

    وقال شعبة بن الحجاج : لا تقعدوا فراغاً؛ فإن الموت يطلبكم. أي: لا تقعد فارغاً من العمل الصالح؛ لأنه ليس هناك شيء اسمه فراغ؛ فإن الموت يطلبكم الموت، ويجري وراءك، وكل لحظة تمر أنت تقترب خطوة إلى السطح، وهو موعد أنت لا تعرف متى يحل، فقد يكون بعد ساعة، أو بعد لحظة أو بعد دقيقة أو بعد سنة، فلا تدري متى يحضر، فكن متأهباً لملاقاة الموت، ولذلك يقول: لا تقعدوا فراغاً؛ فإن الموت يطلبكم.

    يقول أبو الدرداء : (عجبت لطالب الدنيا والموت يطلبه)، أي: هو يجري وراء الدنيا، والموت يجري وراه، قال: (عجبت لطالب الدنيا والموت يطلبه، ولغافل وليس بمغفول عنه)، أي: هو غافل، لكن هل الله غافل عنه؟ الجواب: لا، ليس بغافل عنه، قال عز وجل: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29].

    قال: (وضاحك ملء فيه ولا يدري أرضي الله عنه أم سخط عليه)، فلاحظ قوله: (ملء فيه)، كما نرى الذين يضحكون من المسرحيات الكوميدية، ويضحكون على الذين في التمثيليات، والمتطرفين والإرهابيين، وكل هذا مما توحيه الشياطين إلى هؤلاء الناس، فيضحك أحدهم ويفرح ويمرح وهو لا يدري هل الله سبحانه وتعالى فوق السماء راضٍ عنه أم ساخط عليه!

    قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين:29] * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [المطففين:30] * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ [المطففين:31]، فهم ينكتون على هؤلاء الملتزمين، والله المستعان.

    وسئل ابن الجوزي : أيجوز أن أفتح لنفسي في مباح الملاهي؟ فقال: عند نفسك من الغفلة ما يكفيها.

    يقول الأستاذ محمد أحمد الراشد -وكلامه طيب جداً في هذه المسألة-: فإن اعترض معترض أتيناه بمثل كلام ابن القيم رحمه الله؛ حيث يقول: لابد من سنة الغفلة ورقاد الغفلة، ولكن كل خفيف النوم لا يدمن شيئاً من الغفلة وكما قدمنا في الكلام على الفترة، وذكرنا أن الإنسان لا يجعل الفترة هذه هي المستقر والوطن، بل هي فترة مؤقتة، يستريح فيها، ثم يعود من جديد للعمل والاجتهاد.

    فلذلك يقول ابن القيم : كل إنسان لابد له من سنة الغفلة ورقاد الغفلة، ولكن كن خفيف النوم، لا تجعل نومك ثقيلاً، وتستقير في الغفلة، وتبقى هي الأصل في حياتك.

    ويقول الشيخ الراشد : والمراد: تقليل الراحة إلى أدنى ما يكفي الجسم كل حسب صحته وظروفه، خاصة وأن المؤمن في هذا الزمان أشد حاجة للانتباه ومعالجة قلبه وتفتيشه مما كان عليه المسلمون في العصور الماضية؛ لأننا في زمان حتى الهواء الذي نتنفسه مسموم، لا أعني: العوادم وتلوث البيئة الذي يتحدثون عنه، نعم هي تلوث، لكن أعني تلوث البيئة الأخلاقية.. تلوث البيئة الثقافية.. تلوث البيئة الفكرية.. تلوث البيئة الاجتماعية.. تلوث في كل مكان.

    وقد ضرب بعض الناس لهذا مثالاً فقال: لو أن أناساً كانوا يعيشون في الريف، فأغلقوا الحجرات، وأتوا بالفحم وأحرقوه، وأقفلوا الشبابيك؛ لأجل أن الجو بارد، فيريدون أن يدفعوا هذا البرد، فماذا سيحصل؟ سيحصل الاختناق؛ بسبب وجود غاز ثاني أكسيد الكربون بسبب الاحتراق، فيخنقهم الغاز ويقتلهم، مع أنهم يتلذذون بهذا الهواء الذي يستنشقون، فهؤلاء يختنقون دون أن يشعروا، يختنقون رويداً رويداً دون أن يحسوا بهذا السم.

    فلو أتى رجل وفتح عليهم النافذة فحينئذٍ فقط يفرقون بين الهواء النقي وهذا الذي يتنفسونه.

    وهكذا الوضع بالنسبة إلينا، فلا توجد نافذة نلقي منها الهواء المسموم الذي نحن فيه ونصحح ما نتعاطاه من الهواء الفاسد إلا السير على منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى، فحينما نرى أحوال السلف نحس بالسم الذي نعيش، وقد حصل منا نوع من التكيف مع هذا الباطل، بل التأثر فيه، شئنا أم أبينا، فلا يمكن أن تنطلق قوتنا إلا بالمقارنة باستمرار مع أحوال السلف الصالح رحمهم الله تعالى، لأنهم هم الذين عاشوا في بيئة نقية مائة في المائة، وكانت الغلبة للإسلام، فما كان عندهم أي سموم في المعرفة التي يغص بها المسلمون الآن، فكل الأعراض مسممة إلا ما شاء الله سبحانه وتعالى من البقايا الذين يدعون إلى منهج السلف الصالح يرحمهم الله تعالى، ويذكرون الناس بأحوالهم، فهذا هو المنبع الوحيد الذي نستطيع أن نقوم به اعوجاجنا، وأن نطلع بين وقت وآخر على أحوال السلف؛ حتى نراجع أنفسنا، وإلا نسقط صرعى للتضليل وللآبار المسمومة، ولهذا الغاز المسموم.

    يقول الشيخ الراشد حفظه الله -وهذه العبارة في غاية الأهمية-: وإن المؤمن في هذا الزمان أشد حاجة للانتباه ومعاجلة قلبه وتفتيشه مما كان عليه المسلمون في العصور الماضية؛ ذلك أنهم كانوا يعيشون في محيط إسلامي تسوده الفضائل، ويسوده التواصي بالحق، والرذائل تجهز نفسها في التستر والتواري عن أعين العلماء وسيوط الأمراء، أما الآن فإن المدنية الحديثة جعلت كفر جميع مذاهب الكفار مسموعاً مبصراً بواسطة الإذاعات والتلفزة والصحف -طبعاً والدش والفيديو- وجعلت إلقاءات جميع أجناس الشياطين قريبة من القلوب، وبذلك زاد احتمال تأثر المؤمن من حيث لا يريد ولا يشعر لهذا المسموع والمنظور، فضلاً عن ارتفاع حكم الإسلام عن الأرض الإسلامية التي يعيش فيها، فوجب عليه شيء من المجاهدة والمراقبة لوقته أكثر مما كان يجب على السلف.

    وما أصدق تصوير إمام تركيا بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله لهذه الحقيقة حيث يقول: إن هذه المدنية السفيهة المصيرة للأرض كبلدة واحدة يتعارف أهلها ويتناجون بالإثم. يعنى: بالجرائد صباح ومساء، والنورسي في زمانه كانت وسيلة الاتصال بين أقطار العالم هي الجرائد، أما الآن فليست الجرائد فحسب، ولكن بالريموت كنترول، فبضغطة زرار وهو جالس على الفراش ممكن أن يطوف به على كل أنحاء العالم، ويطلع ويعرض قلبه لكل أنواع الكفر وكل أنواع المعاصي والفواحش بكل ما تعنيه من معنى، حيث تغزوه وتغزو أهله، وتغزو أولاده في كل مكان، فضلاً عن مناهج التعليم، فضلاً عن رفقاء الشوارع. فأقول: إن التناجي بالإثم الآن أصبح أعظم بكثير مما كان يتكلم عنه النورسي رحمه الله.

    يقول: إن هذه المدنية السفيهة المصيرة للأرض كبلدة واحدة يتعارف أهلها ويتناجون بالإثم وما لا يليق في الجرائد صباحاً ومساءً، غلظ بسببها وتكاتف بملاهيها حجاب الغفلة؛ بحيث لا يخرق إلا بصرف همة عظيمة. يعني: لا يستطيع الإنسان أن ينجو من هذه الفتن كلها إلا بهمة قوية جداً؛ لأن الهوى يدفعه إلى هذه الأشياء، والشيطان يسول له، وصحبة السوء تحرضه، والنفس الأمارة بالسوء تأمره، فبالتالي لا يستطيع المقاومة إلا إذا كانت له همة يستعلي بها ويصعد ويرتقي أعلى من هذه المغريات كلها.

    هذا فيما يتعلق بكون الغفلة سبباً من أسباب انحطاط الهمة.

    دور التسويف والتمني في انحطاط الهمة

    ومنها: التسويف والتمني، وهما صفة بليد الحس عديم المبالاة، الذي كلما همت نفسه بخير إما أنه يعيقها بكلمة (سوف) حتى يفجأه الموت، وأكثر ما يصيح أهل النار من كلمة (سوف)، يقولون: وحزناه من سوف! فإذا أكثر الإنسان من قوله: سوف أصوم، وسوف أصلي، وسوف أتوب، وسوف أفعل كذا فلن ينجز شيئاً.

    فإذا همت نفسه بخير يقول: سوف أفعل فيما بعد، ويؤجل، فإذا حضره الموت قال: رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون:10] * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون:11].

    ألم تعطى الفرصة؟ كما قال عز وجل: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37] يعني: ألم نمد في أعماركم فترة كافية، ومن كان أراد أن يتوب فقد كان عنده فرصة يتوب فيها؟

    وقوله: (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) قيل في تفسيرها أشياء كثيرة، لكن من ضمنها: أن النذير هو الشيب في الرأس، يعني: أن الشيب هذا هو إنذار بقرب الموت، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أعذر الله إلى رجل أخره حتى بلغ ستين سنة)، يعني: إذا وصل ستين سنة ومع ذلك ما تاب ولا أناب بل تمادى في المعاصي والمخالفات فبعد ستين سنة ماذا ينتظر؟!

    هذا فيما يتعلق بمن يقول: سوف، وهناك من لا يقول: سوف، ولكنه يركب بحر التمني بحر التمني، وأحلام اليقظة، والإنسان إذا كان يعيش في حلم فإن هذا الحلم يكون حلماً لذيذاً، ويود ألا يستيقظ عند وقت الصلاة أو عند شغل أو عند أي شيء؛ حتى لا يفسد عليه أحد هذه اللعبة وهذا الأحلام والنسخ الخيالية، وهي وهمية عبارة عن أحلام في أحلام، كما قال الشاعر:

    أحلام نوم أو كظل زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع

    لكن هذا يريد أن يستمر دائماً في الأحلام؛ حتى يتمتع بهذه الأحلام، فيحلم أنه يطير، وأنه يأكل أو يشرب أو كذا أو كذا مما يعوقه ويسره من هذه الأحلام.

    فالإنسان إما أن يسوف ويقول: سوف أصوم.. سوف أتوب.. سوف أصلي.. سوف أفعل، والعمر يمضي ويجري، وإما أن يركب بحر التمني، والتمني يطلق على ما لا يكون وما لا يقع، وهو بحر لا ساحل له، فيبقى الحالم في هذا البحر إلى ما لا نهاية، ويدمن ركوبه مفاليس العالم، كما قيل:

    إذا تمنيت بت الليل مغتبطاً إن المنى رأس أموال المفاليس

    فالمفلس رأس ماله التمني؛ ويظل يحلم بأنه سيفعل كذا ولو أنه كذا! كما سنبين في المسائل القريبة إن شاء الله.

    أما بضاعة ركاب السفينة التي تخوض في بحر التمني الذي لا ساحل له فبضاعتهم مواعيد الشيطان، وخيالات المحال والبهتان، فلا تزال أمواج الأماني الكاذبة والخيالات الباطلة تتلاعب براكبه كما تتلاعب الكلاب بالجيفة، وهي بضاعة كل نفس مهينة خسيسة سفلية ليس لها همة تنال بها الحقائق الخارجية، بل اعتاضت عنها بالأماني الدنية، فيتمثل المتمني صورة مطلوبه في نفسه وقد فاز بوصلها، والتذ بالظفر بها، فبينما هو على هذه الحال إذ استيقظ، فإذا يده والحصير في التراب! يعني: لم يحصل شيئاً؛ لأنه لا يحصل على شيء في عالم الحقيقة، بل كل إنجازاته في عالم الخيال.

    وأحلام اليقظة بحد ذاتها ليست ضارة إذا كان يترتب عليها عمل، فإذا كان الإنسان وهو مستيقظ يفكر أن يفعل كذا وكذا من أعمال الخير أو يخطط لشيء نافع له، ومادام هذا التخطيط ينقلب بعد ذلك إلى واقع فلا حرج في ذلك، لكن المشكلة في أن تكون كل حياته أحلام يقظة، ولا يفعل شيئاً على الإطلاق، فأنى ترتفع همة مثل هذا الشخص؟!

    يقول ابن القيم في مدارج السالكين: وهي بضاعة كل نفس مهينة خسيسة سفلية، ليس لها همة تنال بها الحقائق الخارجية، بل اعتاضت عنها بالأماني الدنية، فيتمثل المتمني صورة مطلوبه في نفسه، وقد فاز بوصلها، والتذ بالظفر بها، فبينما هو على هذه الحال إذ استيقظ، فإذا يده والحصير.

    وقد جاء في بعض الكتب قصة فيها: أن ناسكاً كان له عسل وسمن في جرة، ففكر يوماً على طريقة الأماني الكاذبة فقال: أبيع الجرة بعشرة دراهم، وأشتري بالعشرة دراهم خمسة أعنز، فأولدهن في كل سنة مرتين، ويبلغ النتاج إما قال: في سنتين مائتين أو في سنين مائتين، وأشتري بكل أربع -أي: أعنز- بقرة، وأشتري البذور، فأزرع، وينمو المال في يدي، فأتخذ المساكن والعبيد والإماء والأهل، ويولد لي ولد، فأسميه كذا، وآخذه بالأدب -وكان معه العصا- فإن هو عصاني ضربت بعصاي رأسه، ورفع العصا التي كانت في يده حاكياً للضرب فأصابت الجرة، فانكسرت، وانصب العسل والسمن على رأسه!

    فانتبه من رقدة الغفلة فالعمر قليل واطرح سوف وحتى فهما داء دخيل

    وقال رجل لـابن سيرين : إني رأيت في منامي أني أسبح في غير ماء، وأطير بغير جناح، فما تفسير هذه الرؤيا؟ فقال له: أنت رجل كثير الأماني والأحلام.

    وما أحسن ما قال أبو تمام :

    من كان مرعى عزمه وهمومه روض الأماني لم يزل مهزولاً

    يعني: أنه يشبه العزيمة والهمة بالمرعى، وأن الأرض التي ترعى فيها العزيمة أرض قاحلة، فيها أمانٍ كاذبة فقط، فستبقى عزيمته دائماً هزيلة لا تسمن؛ لأنها لا تأكل شيئاً. من كان مرعى عزمه وهمومه روض الأماني لم يزل مهزولاً.

    وعن الحسن قال: المؤمن من يعلم أن ما قال الله عز وجل كما قال، والمؤمن أحسن الناس عملاً، وأشد الناس خوفاً، لو أنفق جبلاً من مال في سبيل الله لا يأمن عذاب الله سبحانه وتعالى ولا سوء الخاتمة إلا بعد أن ينجيه الله، ويرى الجنة بعينيه. أي: وأما قبل ذلك فلا يأمن.

    ولا يزداد الإنسان صلاحاً وبراً وعبادةً إلا ازداد خوفاً من الله، فكلما ازداد في العبادة كلما ازداد خوفه من الله.

    وأما المنافق فيقول: سواد الناس كثير، وعدد الناس كثير، وسيغفر لي، ولا بأس علي، ويسيء العمل، ويتمنى على الله تعالى.

    وأما السلف الصالح فكانوا يحسنون ويخافون، أما نحن فنسيء ونرجو ونطمع ونؤمل.

    قال المتنبي منزهاً ممدوحه عن الاستغراق في أحلام اليقظة، ومبيناً كيف أجفى الحقائق واعتاد ركوب المخاطر:

    وما كنت ممن أدرك الملك بالمنى ولكن بأيام أشبن النواصيا

    لبست لها كدر العجاج كأنما ترى غير صافٍ أن ترى الجو صافيا

    يعني: هذه حالة استثنائية؛ فإذا كان الجو صافياً فإنه يبقى غير صافٍ؛ لأنك تعودت على المحن، وتعودت على الشدائد وخوض الأهوال.

    دور جليس السوء في انحطاط الهمة

    ومن أسباب انحطاط الهمة: مجالسة سافل الهمة من أبناء الدنيا؛ فإن سافل الهمة من طلاب الدنيا كلما هممت بالنهوض جذبك إليها، وغرك قائلاً: أمامك ليل طويل فارقد!

    وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك إما أن يحذيك -يعني: يعطيك- وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبه، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة)، متفق عليه واللفظ لـمسلم .

    فهذا حال الجليس الصالح وجليس السوء، فلابد أن تتأثر بالجليس شئت أم أبيت، فحذار من مجالسة المثبطين من أهل التبطل والتعطل في اللهو والعبث؛ فإن طبعك يسرق منهم وأنت لا تدري، وليس إعداء الجليس لجليسه بمقاله وفعاله فقط بل بالنظر إليه، وكما أن الأطباء يقولون: إن الأمراض تعدي وتنتقل، فكذلك الأخلاق أيضاً تنتقل بالتأثير وبالعدوى؛ لأن الطبع يسرق، فإذا أردت أن تجد لنفسك صفة معينة فصاحب واحداً فيه هذه الصورة، فإذا صاحبت إنساناً غافلاً لاهياً عابثاً فإن هذا يدل على أنك تريد أن تنتقي نفس هذه الصورة، وهذا أمر مشاهد ومعروف.

    وطرق العدوى ليست فقط الكلام ولا الأفعال وإنما أيضاً تنتقل هذه العدوى بالنظر إلى أهل السوء وأهل البطالة، أو بالنظر أيضاً إلى أهل الهمة، فتنتقل هذه العدوى وهذا التأثير، وما سمعنا في الطب بعدوى تنتقل بالنظر، فهذا يعني أن هذا الداء أخطر من الأمراض الجسدية، وهذا الشيء محسوس، فإذا كان هناك ناس جالسين فتثاءب واحد منهم فإن البقية كلهم يتثاءبون مثله، وهذا مما هو معروف فتنتقل العدى حتى بالنظر، والروح يكون لها تأثير على الروح التي تجالسها.

    فالنظر في الصور يورث في النفوس أخلاقاً مناسبة لخلق المنظور إليه، ومن الإنسان نستعرض هذا المعنى، فالنظر في صور الظالمين أو الفاسقين لابد أن يطبع تأثيراً في القلب، ولذلك من رحمة لله للإنسان أن ربنا يعافيه من النظر إلى التلفزيون وإلى صور الملوك والرؤساء وهؤلاء الناس والممثلين والفنانين ونحوهم، فهؤلاء لا تنظر إليهم، وسلامة لقلبك ألا تنظر، وإذا نظرت فلابد أن سيحصل عندك نوع من أنواع التأثير، ولذلك كن في عافية، وسد هذا الباب، حتى لا تتأثر بأخلاق هؤلاء القوم.

    فهذه أم جريج العابد دعت عليه ألا يموت حتى ينظر إلى وجوه الزانيات، كما في القصة المعروفة في صحيح مسلم ، إلى أن نظر بالفعل، فإن أمه كانت ترى هذه عقوبة، ولذا دعت عليه بها، فدعت عليه بأنه لا يموت حتى يبصر هذه الفتنة والعياذ بالله! لأن هذا يضر جداً بالإيمان، ويضر جداً بالقلب، فلا تفعل كما يفعل الأسير الذي يفرح بالرق ويفخر به، ويفخر أن عنده دشاً، ويفخر أنه ينظر إلى التلفزيون والأفلام وكذا..! فأنت تقتل نفسك، وأنت تسمم قلبك، ولا تضر إلا نفسك، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً)، فأنت المتضرر في الحقيقة.

    فالنظر في الصور يورث في النفوس أخلاقاً مناسبة لخلق المنظور إليه، ومن المشاهد أن الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيفة، فما الظن بالنفوس البشرية؟!

    قال الشاعر:

    ولا تجلس إلى أهل الدنايا فإن خلائق السفهاء تعدي

    العشق سبب من أسباب انحطاط الهمم

    ومن أسباب انحطاط الهمم: العشق، ووقوع الإنسان في أسر العشق، ولا شك أن هذا الموضوع يطول فيه الكلام جداً، وهو من البلاء الذي تجند من أجله الآن هيئات وأموال، ولأن كل شاب يتمنى أن تكون في حياته فتاة يتخيلها ويتغنى بها، وينشد لها الأشعار والأغاني، وكذا وكذا.. ويزعم أن هذا هو الوضع الطبيعي؛ محاكاة لأحوال الكفار.

    وفي الحقيقة هذا الموضوع موضوع كبير؛ لكن لأنه ليس عاملاً أساسياً فسوف نشير إشارة عابرة إلى هذا الأمر: فالعشق يسفل الهمة؛ لأن هذا العاشق تستنفذ كل طاقاته في تحصيل محبوبته، وكل همته أنه يراها، أو يقابلها، أو يحصل كذا أو كذا، فكل همة الإنسان تتجه إلى هذا الشيء، وكل حياته تطوف حول محور معاين هو المعشوق.

    فالشاهد: أن همة العاشق تنحصر في أن يحصل ما يحبه، فيلهيه ذلك عن حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50].

    فعالي الهمة يأنف ويستنكف أن يستأسره العشق الذي يمنع القرار، ويسلب المنام، ويولع العقل، ويحدث الجنون، وكم من عاشق أتلف في معشوقه ماله وعرضه ونفسه! وأتلف دينه ودنياه! والعشق يترك الملك مملوكاً، والسلطان عبداً، وترى الداخل فيه يتمنى منه الخلاص ولات حين مناص.

    وكم أكبت فتنة العشق رءوساً على مناخرها في الجحيم! وأسلمتهم إلى مقاساة العذاب الأليم، وجرعتهم بين أصداف النار كئوس الحميم.

    فالحقيقة أن العشق أخطر من ذلك، ويحتاج إلى أكثر من عبارة؛ حتى نعطيه حقه، لكن هذه إشارة عابرة المقصود بها: الإشارة إلى تأثير العشق في الهمة، وأنه في الغالب يثبط الهمة، إلا إذا صادف عشقاً مباحاً، وهو عشق الزوجة، فلم ير للمتحابين مثل النكاح؛ لأنه حصلها في هذه الحالة، وصارت تحت سلطانه، أما خلاف ذلك فالأحوال كما تعرفون.

    دور الانحراف في العقيدة في انحطاط الهمم

    ومن أسباب سفل الهمة: الانحراف في العقيدة، فالانحراف في العقيدة ينعكس أيضاً على همة الإنسان، ونخص بالذكر هنا قضيتين من قضايا العقيدة: قضية سوء فهم القضاء والقدر، وقضية الإرجاء، فالمسألة مسألة عقيدة، فإذا أساء الإنسان فهمها فإنها تجعل همته سافلة، فسوء فهم قضية القضاء والقدر بلا شك ينعكس انعكاساً واضحاً جداً على همم بعض الناس، خاصة الذين يذهبون إلى مذهب الجبرية.

    وقد سبق الكلام في هذا بالتفصيل، والمقصود: مجرد الإشارة، فسوء فهم القضاء والقدر يؤدي بالإنسان إلى التواكل وعدم تحصيل التوكل على الله سبحانه وتعالى حق توكله.

    كذلك أيضاً بدعة الإرجاء، وأن الإيمان كلام فقط، ومعرفة بلا عمل، وأن المعاصي لا تؤثر في الإيمان، وأن الناس لا يتفاضلون في إيمانهم. وطبعاً بدعة الإرجاء من أخطر البدع وأشرها تأثيراً في الهمة.

    الغناء ودوره في انحطاط الهمم

    من أسباب انحطاط الهمم: الفناء، وهو اصطلاح صوفي، لكن نحن مضطرون إلى استعماله هنا؛ لأن هذا واقع من كثير من الناس، فهناك الفناء في ملاحظة حقوق الأهل والأولاد، وحقوق الأهل والأولاد من الواجبات على الرجل، لكن نحن لا نتكلم عن شخص يؤدي الواجب الذي عليه، بل نتكلم عن واحد يستغرقه الأهل والأولاد بصورة تفتنه تماماً عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وبصورة يتحقق فيها ما حذرنا منه الله سبحانه وتعالى حينما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14]، وقوله: ( عَدُوًّا لَكُمْ )، يعني: عداوة غير مباشرة، فالعدو إما عدو صريح، وإما عدو متلون، فإيثار رضا الأهل والأولاد على ما يرضي الله سبحانه وتعالى، والافتتان بهم بحيث أن الإنسان يرتكب مخالفات في سبيل أن يأتي لهم بالمال أو غير ذلك فإن هذا يعتبر عداوة حقيقية؛ لأنها تؤثر في الدين سلباً، فمن ثمَّ أطلق الله على هؤلاء الأحباب الذين يحبهم الإنسان قوله: (( عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ))[التغابن:14]، أي: كما تحذرون الأعداء. فمن أسباب انحطاط الهمة الفناء في ملاحظة حقوق الأهل والأولاد، واستغراق الجهد في التوسع في تحقيق مطالبهم؛ فالأب ليست له وظيفة غير أنه يحقق كل رغبات الأطفال، فهم يأمرون وهو ينفذ، ويقول: سمعنا وأطعنا، وكذلك الأمر بالنسبة للمرأة، هذا هو الذي نعنيه. ومثل هذا ينظر إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام: (وإن لأهلك عليك حقاً)، لكنه يترك قوله: (وإن لربك عليك حقاً)، فالمسلم مطالب أن يكون متوازناً، فيكون عنده نوع من التوازن بين الحقوق والواجبات، وأيضاً يترك قول النبي عليه الصلاة والسلام: (فأعط كل ذي حق حقه). فكل ذي حق يأخذ حقه، وقد عد الله سبحانه وتعالى الأهل والأولاد أعداء للمؤمن إذا حالوا بينه وبين طاعة الله عز وجل روى ابن جرير عن عطاء بن يسار في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14]، قال: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي ؛ كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه، فقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرق ويقيم، ويترك الجهاد، فنزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14].

    دور المناهج التربوية الهدامة في انحطاط الهمم

    ومن هذه الأسباب أيضاً: المناهج التربوية والتعليمية الهدامة، فالمناهج التعليمية الهدامة هي التي تحطم اعتزاز الشباب بإسلامهم وإيمانهم، مع أنه لا خلاص لهذه الأمة إلا بالإسلام، فهذه مناهج تسفل الهمم، وتخلق المواهب، وتضعف الطاقات، وتخرب العقول، وتنشئ الخنوع، وتزرع في الأجيال ازدراء النفس، وتعمق فيها احتقار الذات، والشعور بالدونية.

    وأنا لا أقصد المناهج التعليمية في المدارس والجامعات وحدها، وإنما أقصد هذا وحده أقصد ما هو أوسع من ذلك، وبالذات مناهج الصوفية في التربية وفي التعليم؛ فإنها أيضاً تشارك في المناهج التعليمية وفي تدمير الهمم وتثبيطها.

    فيوجد احتقار الذات في المناهج التعليمية بالصورة التي يضخمون بها صورة الغرب وصورة أمريكا وصورة الكفار، وأنهم وصلوا إلى أشياء راقية، وأن هؤلاء الناس بلغوا القمة، وأنهم دول النموذج، ودول القدوة، ويسترون عورات الغرب، مع أن العالم الغربي يعج بالعورات القبيحة التي إذا كشفت يتأفف الناس من هؤلاء الكفار؛ فعندهم من العورات من كل أنواعها ما يليق بأمثالهم من الكفرة بالله سبحانه وتعالى.

    فهناك عملية تجميل متعمدة، خاصة من خلال الأفلام والمسلسلات الأمريكية، كما حكي لي أخ فقال: إنهم دائماً يتعمدون في الأفلام أن الممثل يفتح الثلاجة وفيها ما لذ وطاب من الطعام والشراب وكذا وكذا، ويظهرون البيوت مزينة بصورة معينة، وهذا نوع من الدعاية غير المباشرة بأن هؤلاء ناس يعيشون في جنة، وفيه تزيين للدنيا؛ حتى يعني نقتدي بهم، ونجري وراءهم.

    والإنسان يلاحظ أيضاً -وللأسف الشديد- أن كثيراً من أساتذة الجامعات يزرعون فينا -بقصد أو بدون قصد- موضوع احتقار الذات، والدونية، سواء في استعمال اللغة أو في غير ذلك؛ فيرون أنه لابد أن تستعمل اللغة الأجنبية، وأنها لغة العصر! وفي تعظيم هذه الصورة احتقار للذات، واعتراف منا بالدونية أمام هؤلاء الكفار.

    والموضوع طويل، لكن في هذا إشارة إلى أن المناهج التربوية والتعليمية زرعت فينا أننا دون هؤلاء الكفار، وأن دول الكفار دول أقوى من دولنا، وأنهم أعظم وأعلم منا، وأنهم في كل شيء هم أفضل منا، وأننا ينبغي أن نفزع إلى مناهجهم، ولا نرضى بها بديلاً؛ حتى الإسلام لا نقبله بديلاً عن هذه الجنة الموعودة في جحيم أمريكا والغرب!!

    دور مناهج الصوفية في الانحطاط بالهمم

    وأيضاً من هذه المناهج التي تزرع احتقار النفس وازدرائها والشعور بالدونية: مناهج الصوفية؛ وأذكر لكم بعض العبارات التي تدل على ذلك: قال بعض الصوفية: الفقير هو الذي يأكله القمل، ولا يكون له ظفر يحك به نفسه! يعني: أن القمل يكثر في جسده حتى يأكله، هو هذا الفقير الصوفي.

    وكل ذا سرقوه أو اقتبسوه من الرهابنة، فالرهابنة يدخلون الدير، ويعتكفون فيه؛ حتى يصير وجه الواحد منهم أسود من كثر الطين؛ لأنه لا يستحم، ولا يقرب الماء أبداً، وهذا موجود حتى الآن، لكنهم يسترونهم داخل الجدران؛ حتى لا يظهروا في الخارج، فتجد الطين والقذارة في خد أحدهم وفي جبهته قد صار الطين متراكم، ويبدوا أنه منذ سنوات ما اغتسل وما اقترب من الماء، كحال أسلافهم من قبل؛ حيث كان الواحد منهم يفخر أنه مكث خمسين سنة وما مس الماء!! وهذه عندهم طريقة للتعبد!

    ومن هذا الذل الذي يقع في غير موقعه ما يريد الصوفية أن يكون عليه الناس، من التمسح بالأعتاب، والسجود للقبور والتذلل للموتى من دون الله سبحانه وتعالى، وهذا شرك صريح، وخروج من ملة الإسلام؛ فكونك تستنصر بالميت وتدعوه؛ لأجل أن يرزقك ولداً، أو يشفي لك مريضاً، أو ينجح ولدك، أو غير ذلك مما لا يسأل إلا من الله سبحانه وتعالى هذا بلا شك هبوط بالهمة إلى أحط مستوى، قال عز وجل: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].

    ويقول صوفي آخر: الصوفي هو من يرى دمه هدراً وملكه مباحاً! أي: هذا هو الصوفي؛ فهل هناك احتقار للذات أكثر من هذا؟! أين أنت من تربية رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي يقول: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد)، فهذا يرفعه إلى درجة الشهادة، وأنت أيها الصوفي! تأتي تقتبس من الرهبان وتقول: من صفعك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، ومن أخذ رداءك فأعطه قميصك .. . إلى آخر هذا الكلام الذي يربي في النفس هذه المعاني.

    فهذا الشخص يقول: الصوفي هو من يرى دمه هدراً وملكه مباحاً! وفي الحقيقة لا يمكن أن تحس بنعمة الله سبحانه وتعالى عليك إلا إذا من عليك بالاعتزاز بالمنهج السلفي، بأن تفهم القرآن والسنة كما فهم السلف الصالح، إلا إذا نظرت إلى منهج وانحرافات وضلالات الصوفية التي هي أم المخرفين، والتي هي معاندة لدين الله سبحانه وتعالى، فحينئذٍ تستحضر نعمة الله سبحانه وتعالى عليك أن عصمك من هذه الضلالات.

    وهذا صوفي ثالث يحكي ويقول: إنه ما سر في إسلامه إلا ثلاث مرات، أي: أنه من ساعة ما أسلم ما دخل السرور على قلبه إلا ثلاث مرات في ثلاث مناسبات: الأولى: كنت في سفينة فلم أجد أحقر مني فيها!

    الثانية: وكنت مريضاً في المسجد فجرني المؤذن إلى خارجه!

    الثالثة: وكان علي فرو فنظرت فيه فلم أميز بين شعره وبين القمل من كثرته!!

    هل هذا هو الإسلام؟! وهل هذه هي سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! فهو يفتخر بأنه حين يكون قذراً يتأفف الناس منه حتى يلقوه في الشارع، وأنه ينظر إلى الفروة فلا يستطيع أن يفرق بين الشعر وبين القمل من كثرة القمل! فانظر كيف تنحط الهمم! فهل مثل هذا يصلح أن يخرج ليجاهد في سبيل الله، أو يتعبد العبادة التي يزعمونها، أو يطلب علماً ويسهر الليالي في طلب المعالي؟! هل هذا يحصل من مثل هذا الذي يفتخر بأن القمل فيه لا يتميز من شعر الفرو؟!

    فبلا شك أن التربية الصوفية تغرس احتقار النفس والإحساس بالدونية، وتثبط وتقتل الهمم، وتدميها.

    ومن مظاهر المناهج التربوية الصوفية التي تنحط بالهمم: الإعراض عن علوم القرآن والسنة، وترهيب المريدين من طلب العلم الشرعي، ويخوفون الناس من العلم الشرعي، ويقولون: نحن لنا الحقيقة، والناس لهم الشريعة، فالعبادة والعمل وطلب العمل هذه سلالم، ونحن وصلنا، فكيف نصعد على السلم؟! فيسخرون من طلبة العلم، ويهونون ويحقرون من شأن العلم، فحتى إنه سقط من كم أحدهم يوماً القلم، وكان يخفي القلم؛ خشية أن يفتضح بين الصوفيين بأنه يكتب، فسقط منه القلم رغم أنفه من جيبه، فقال له شيخه: استر عورتك!!

    وروى ابن الجوزي عن جعفر الخالدي قال: لو تركني الصوفية جئتكم بإسناد الدنيا. أي: أنهم السبب في أنه أعرض عن طلب العلم والحديث.

    قال: كتبت مجلساً عن أبي العباس الدروي وخرجت من عنده، فلقيني بعض من كنت أصحبه من الصوفية فقال: ما هذا معك؟ قال: فأريته إياه، وإرواء الأحاديث التي نقلها من هذا المحدث، فقال: ويحك! تدع علم الخرق، وتأخذ علم الورق! ثم مزق الأوراق، فدخل كلامه في قلبي، فلم أعد إلى أبي العباس . أي: حالوا بينه وبين طلب العلم الشرعي.

    دور مناهج المقلدين في انحطاط الهمم

    من هذه المناهج التي تهبط بالهمم: المناهج التي تحرض الناس على التقليد المنهجي، والتقليد هو مثل الميتة تأكلها إن اضطررت إليها، لكن الأصل هو اتباع رسول الله عليه الصلاة والسلام، يقول تعالى: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]، أي: اتبعوا الرسول عليه الصلاة والسلام لعلكم تهتدون. وقال تبارك وتعالى أيضاً: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]. ونحن لا نقول: إننا لا نرجع إلى العلماء في فهم الكتاب والسنة، لكن نقول: إن العالم غير معصوم، فقد يخالف القرآن أو السنة؛ لأنه اجتهد، وباجتهاده أخطأ، ويثاب على ذلك، لكن نقول: نحن ندور مع الحق حيث دار، فمتى ما صح قول رسول الله عليه الصلاة والسلام فيجب المصير إلى قوله، وألا يقدم على قوله عليه الصلاة والسلام قول أحد كائناً من كان. وللأسف فإن التربية السفلية أيضاً فيها التقليد المذهبي، والتربية الدينية في بعض الأوقات أيضاً تغرس موضوع حب التقليد والاعتزاز بالتقليد! والتقليد صفة مذمومة وليس صفة ممدوحة، فلا تلجأ إليه إلا في ظروف معينة وبشروط معينة، فينبغي أن يحرض الناس ويربوا على التطلع إلى فهم الأدلة ومعرفة الأحكام الشرعية بأدلتها، لا أن نحرض الناس على دنو الهمة ونقلد ونأخذ بقول غيرنا دون معرفة دليله. حدثني أحد المشائخ الأفاضل وهو الشيخ رشاد الشافعي رحمه الله: أنه حضر وهو شاب مجلساً لأحد الشيوخ المالكيين، وكان هذا الشيخ يربي تلامذته ويعلمهم، وإذا أراد أن يعلمهم الوضوء علمهم كيف كان يتوضأ الإمام مالك ، وإذا صلى علمهم كيف كان يصلي مالك ، وكيف كان يعمل مالك أو حج أو اعتمر أو زوج أو طلق أو خطب، فربطهم دائماً بالإمام مالك رحمه الله تعالى! فانظر إلى خطورة الأمر على العوام، فقد وصل الأمر في أحد هذه المجالس التي كان الشيخ يتكلم فيها بهذه الطريقة أن بعض العوام قطع الدرس وقال له: يا سيدنا الشيخ! هل سيدنا النبي كان قبل مالك أو الإمام مالك قبل؟!! فمن الذي بعث قبل الآخر؟!! فوصل الأمر بهذه الهيئة إلى أن الواحد منهم يتصور أن مالكاً نبي مثل محمد عليه الصلاة والسلام. هذه هي نتيجة التربية التي تربطنا بأن القدوة هو الإمام مالك أو الشافعي أو غيرهما. محبة الأئمة واحترامهم دين نتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، ولا نخرج عن أقوالهم، لكن نحن نتكلم على أن القدوة يجب أن يكون هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]. ولذلك أحد مشائخنا من أنصار السنة حفظهم الله قال: إنه لما جاء المأذون يعقد له قال: على مذهب أبي حنيفة ، فقال: أنا أريد أن أتزوج على المذهب الذي تزوج عليه أبو حنيفة ، وأبو حنيفة على أي مذهب تزوج؟ تزوج على المذهب المتبع للرسول عليه الصلاة والسلام. فينبغي لطالب العلم أن يستفز همته لكي ينتقل من وحل التقليد إلى اتباع الأدلة. ونحن نرفض هذا الذي يحصل من بعض طلاب العلم من سب الأئمة أو التطاول عليهم أو التقليل من شأنهم، فهذا كله من القدح، لكننا ندعو إلى ما دعا إليه أئمة السلف من عدم التقليد، كما قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى: إن المقلد بإجماع العلماء ليس معدوداً من أهل العلم.

    خطر المناهج العلمانية وأثرها في انحطاط الهمم

    وأخطر من مناهج المدارس والجامعات أو مناهج الصوفية أو غيرها من المدارس التي تثبط الهمة أخطر منها وأضر المناهج التربوية والتعليمية التي تريد أن تجعل العلمانية ديناً بديلاً لدين الإسلام، فراحت تسمم آبار المعرفة التي يستقي منها شباب المسلمين؛ لتخرج أجيالاً مقطوعة الصلة بالله، وتبتغي العزة في التمسح على أعتاب الغرب، وتأنف من الانتساب إلى الإسلام، وتفتخر بالانتساب إلى الفراعنة، ويعاد ويزاد ويكرر تاريخ الفراعنة في مادة التاريخ تقريباً في ثلاث مراحل من مراحل التعليم، من الابتدائي إلى الثانوي، ويكرر الاعتزاز بالفراعنة بطريقة مبالغ فيها جداً جداً، وعلى حساب التاريخ الإسلامي! فقاتل الله أعداء الدين الذين يتآمرون على شباب المسلمين.

    دور اضطهاد العاملين للإسلام في انحطاط الهمم

    من هذه الأسباب: توالي الضربات، وازدياد اضطهاد العاملين للإسلام، فبعض الناس حينما تتوالى الضربات والاضطهاد للمسلمين خاصة إذا طالت الموجة تضعف همته، كما حصل في الموجة التي ظلت مرتفعة مدة طويلة، وكان الاضطهاد يزداد للعاملين لله سبحانه وتعالى ولدين الله، فبعض الناس -للأسف الشديد- حصل عندهم شعور بالإحباط وباليأس، وهؤلاء هم الذين لا يفقهون حقيقة البلاء، ولا يعلمون أن الله سبحانه وتعالى مطلع على كل هذا، ولو شاء الله سبحانه وتعالى بكلمة: (كن) لأهلك كل من على وجه الأرض، ولو شاء الله سبحانه وتعالى بكلمة: (كن فيكون) لأمر العباد الذين على وجه الأرض كلهم فيكونوا مثل الملائكة في العبادة والإخبات والخشوع لله سبحانه وتعالى؛ فإن الله قادر على ذلك، ولكن: َتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، أي: في هذه الدنيا؛ فإذا كان الأنبياء أنفسهم أوذوا في الدنيا فغيرهم من باب أولى؛ فالدنيا هينة على الله سبحانه وتعالى، وليست دار الجزاء، إنما هي دار الابتلاء والامتحان، والنتيجة تظهر يوم القيامة أما الدنيا فهي كلها امتحان، واختبار، وابتلاء، فسنة البلاء من السنن الماضية، ولابد أن يقع هذا الصراع بين الحق والباطل، والله سبحانه قادر على أن تنزل الملائكة عياناً والناس يرونها، وتتخطف أعداء الدين عضواً عضواً، وتمزقهم إرباً؛ فالله قادر على ذلك، لكن لو أن الله سبحانه وتعالى فعل ذلك فستنتفي حكمة الابتلاء، وسننتقل إلى الآخرة؛ لأن هذا يحصل في الآخرة، قال عز وجل: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22]، فهذا الغطاء ما زال موجوداً الآن، فإذا كشف الغطاء وأصبح الناس يرون العذاب الذي يحصل في القبر، وأصبحوا يرون الملائكة وهي تعذب الكفار أو الفاسقين من المحتضرين، وإذا شتم واحد الإسلام تنزل ملائكة من السماء وتمزقه أمام الناس، لو حصل هذا فهل تبقى الدنيا دنيا؟ فمن حكمة الله أن يكون هناك إيمان ويقين بالغيب ويقين بوعد الله سبحانه وتعالى، ويبقى الحجاب قائماً حتى يميز بين المؤمن الذي يؤمن بالغيب وبين الفاجر الذي لا يؤمن إلا إذا عاين؛ فإن الكفار إذا عاينوا قالوا: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12]، فهل هذا اليقين ينفع؟ لا ينفع اليقين؛ الذي ينفع هو ما كان قبل أن تكشف الحجب، فلا بد من إيمانك بأن الله يسمع ويرى، وأن الله قادر على أن يذل أعناق كل هؤلاء المعادين لدين الله ودين رسوله عليه الصلاة والسلام، والذين يفرحون بموالاة الكفار، ويتحصنون بهم ضد المسلمين، ويكونون هم اليد التي يضرب بها الإسلام في عقر داره، وقبلوا لأنفسهم هذا المنصب، فهل معنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى خذل دينه، وخذل دعوته؟ كلا! فمهما طال الصراع فلابد أن تكون العاقبة للتقوى، كما قال تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، وقال سبحانه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]، فلابد من الفتنة، ولابد من البلاء، وهذا الذي نعيشه هو ابتلاء، وليس أكثر، فكثرة الاضطهاد للإسلام هي من البلاء؛ لأن الاضطهاد عالمي، ونحن الآن نعيش في عصر كأنه لم يسبق له نظير، فكل العالم بلا استثناء -حتى حكام العالم الإسلامي- كله متواطئ على خنق الإسلام وإذلال وإضعاف المسلمين؛ تمهيداً لإقامة إسرائيل الكبرى. هذه هي الحقيقة المرة التي نعترف بها علناً، كما قال كلينتون في معاهدة السلام في الأردن للملك حسين قال له: لقد حققت يا جلالة الملك! حلم جدك الملك عبد الله في إقامة وطن القومية لليهود في فلسطين! وهذه أمور جديدة ما سمعنا بها في آبائنا الأولين، والله المستعان! حتى إن عمرو موسى صرح -وما أجمل التصريحات التي يأتي بها عمرو موسى أحياناً- فقال لرؤساء البلاد العربية: اهدوا قليلاً، فليس من المعقول أن تركضوا نحو إسرائيل بالصورة هذه، ففزع جلالة الملك وغضب، وقام يرد عليه في غضب ويقول: نحن لا نركض نحو إسرائيل؛ نحن نهرول نحو إسرائيل!! فانظر إليه حينما يفتخر أنه يهرول نحو إسرائيل، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحبط كيد هؤلاء الأعداء أجمعين.

    إهدار الوقت الثمين سبب من أسباب انحطاط الهمة

    ومن أسباب انحطاط الهمم: إهدار الوقت الثمين في الزيارات والسمر وفضول المباحات، قال صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ).

    فالإنسان قد يعطى الصحة، لكن لا يعطى الفراغ، بسبب شغله في الدنيا، وهذا كحال أغلب الناس الذين وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (إن الله يبغض كل جعظري جواض سخاب في الأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة).

    والشاهد منه قوله: (جيفة بالليل، حمار بالنهار)، وكلمة (حمار) المقصود منها: بيان أنه يكدح كما يعني كما يكدح الحمار، ويتحمل المشقة والتعب، وأصبح يضرب بهذا المثل فيقال: فلان يعمل مثل الحمار. يعني: أنه يعمل عملاً شاقاً جداً، ويداوم ويصبر عليه، فإذا أتى الليل لا يذكر الله سبحانه وتعالى، فهو جيفة بالليل، جثة ملقاة بالليل، حمار بالنهار في طلب الدنيا، لأن عنده نعمة الصحة، فبعض الناس يؤتى الصحة، لكن ليس عنده الوقت، فعند صحة يقتحم الدنيا، لكن ليس عنده وقت؛ فهو مشغول دائماً في الدنيا.

    وهناك أناس آخرين حرموا نعمة الصحة وعندهم وقت، مثل: إنسان مريض؛ فالمريض مرضاً مزمناً أو شديداً لا يمكنه من فعل أي شيء مفيد عنده الوقت؛ إذ لا شيء يشغله، لأنه مريض ملازم للفراش، لكنه فقد الصحة.

    فأتم وأكمل ما يكون الأمر للإنسان إذا منَّ الله سبحانه وتعالى عليه بهذين الأمرين: صحة مع فراغ، فإذا استثمرهما في طاعة الله سبحانه وتعالى وسخر الصحة والفراغ في طاعة الله وفي المقاصد الخيرية فهذا أعظم نعمة على العبد.

    لكن المؤلم أن أكثر الناس في غفلة عن نعمة الله العظيمة، بل بعضهم حينما يجمع الله له هاتين النعمتين: الصحة والفراغ يدمر الصحة بالمخدرات وبالسجائر والتدخين وبغير ذلك، ويقتل الوقت أو يقتل نفسه على الأحرى بالجلوس في المقاهي.

    وتقريباً ظاهرة المقاهي غير موجودة إلا في بعض البلاد، كما في بلادنا حيث ترى الناس في المقاهي، وكأنه ما بقي أحد جالس في بيته، فالمقاهي عامرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! والمساجد حالها كما تعلمون شيء مؤلم، وإذا قلت له: ماذا تفعل؟ يقول لك: أقتل الوقت! فأنت تقتل نفسك، وأنت تنتحر، فالنعمة هذه وكل لحظة محسوبة عليك؛ فالله سبحانه وتعالى أبلغ في الإعذار، وأعطاك كل فرصة ممكنة، وأنت الذي كفرت بها وضيعتها، فمعك العقل، ومعك الوحي الإلهي من القرآن والسنة يرشدك إلى كيفية استثمار الوقت.

    والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة - النخلة الصغيرة - فإذا استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها).

    فهذا الحديث يعلمنا كيف نغتنم الوقت، وكيف نستثمر الوقت، فإذا منَّ الله سبحانه وتعالى عليك بنعمة الصحة مع نعمة الفراغ فلا تكن من أكثر الناس الذين هم محرومون من استثمار هذه النعمة، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، والغبن: أنك أنت عندك سلعة تريد أن تبيعها، فتبيعها بأقل من سعرها، أو إذا كنت ستشتري تشتري بأكثر من سعرها، هذا هو الغبن؛ فأنت تغبن نفسك عند أن تأتي الفرصة وأنت الذي تضيعها، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ من النوم حمد الله على هذه النعمة، أي: نعمة أن الروح ترد إلى صاحبها عند الاستيقاظ، ولذلك شبه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالنشور فقال: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)، فهذه النعمة العظيمة هي أن الله سبحانه وتعالى مد في عمرك، وأعطاك فرصة جديدة اليوم؛ لعلك تتوب.. لعلك تستقيم على طاعته.. لعلك تنوي المزيد من أفعال الخير، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: (الحمد لله الذي رد علي روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره)، أي: أعطاني فرصة أن أذكر الله، ولذلك جاء أن ثلاثة شبان من بني عذرة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فاستضافهم أبو طلحة ، فدعا داعي الجهاد، فخرج واحد منهم إلى الجهاد، فقتل في سبيل الله، ثم بعد فترة دعا داعي الجهاد، فخرج الثاني وقتل في سبيل الله، إلا الثالث مات على فراشه ولم يخرج إلى الجهاد كصاحبيه، ثم رآهم أبو طلحة في المنام، فرأى ترتيبهم فرأى أن آخر واحد مات على فراشه هو أعلاهم درجة، يليه الثاني، ويليه الأول الذي مات أولاً في الجهاد، فتعجب من ذلك، وحكا الرؤيا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (وما يعجبك من ذلك؟ إنه ليس أحد أفضل من مؤمن يعمر في الإسلام بالتسبيح والتهليل والتكبير)، أي: كيف تستغرب هذا؟ فهذا شيء طبيعي؛ إنه ليس أحد أفضل من مسلم يعمر في الإسلام؛ لأن عمره يزيد والطاعات تزيد، أما من كان عمره يزيد ويزيد شقاه ومعاصيه فمعناه: أن طول عمره مصيبة عليه، لكن العبرة حين يطول العمر وتكثر الأعمال الصالحة؛ لأن هذا يستكمل هذه النعمة.

    فلذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إنه ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن أو مسلم يعمر في الإسلام للتسبيح والتكبير والتهليل).

    فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرح له الموقف، وقال له: إن الشهيد الثاني عاش وبقى فترة بعد الأول عمرها بالصلاة والذكر والتسبيح وقراءة القرآن وكذا، وبعد ذلك عاش الثالث؛ رغم أنه مات على فراشه، لكنه استطاع بالذكر وبقراءة القرآن وبالصلاة وبالعبادة أن يسبق الشهيدين، مع أنه مات على فراشه، فهذه نعمة عظيمة جداً.

    والظاهر أن هذا هو ما أرسل به إلينا إبراهيم عليه السلام من السماء؛ فإن إبراهيم عليه السلام أرسل لنا: أنا وأنت وأنتم بأسمائكم وأسماء كل مسلم على وجه الأرض منذ زمن النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن تقوم الساعة فكل واحد منا يتذكر كأنه جاءته رسالة باسمه من إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وذلك حينما قال للرسول صلى الله عليه وسلم في رحلة المعراج: (يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، هذا حديث صحيح.

    فهذه الرسالة من إبراهيم عليه السلام يبين فيها أن الجنة قيعان، وأن كل ما يقول العبد: سبحان الله وبحمده، تغرس له نخلة في الجنة، وإذا قرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] عشر مرات يبنى له قصر في الجنة، فأي حسرة يتحسرها الإنسان بعد الموت على هذه الفرص التي ضيعها وجعلها هباءً منثوراً؛ لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لا يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله تعالى فيها)، يعني: أن الجنة دار منزهة عن النصب والتحسر والألم إلا من شيء واحد فقط يتحسر عليه أهل الجنة، وهو أنهم حينما يرون النعيم الذي هم فيه يتحسرون على لحظة من الزمن مرت بهم في الدنيا لم يذكروا الله عز وجل فيها.

    فلاشك أنه لا يضيع هذه النعمة إلا مغبون، والإنسان إذا كان عنده رأس مال ويتجر به فإذا ربح فهذا هو الفوز، وإذا استرد رأس المال فهذه فائدة أيضاً، وإذا رأس المال نفسه هلك.. رأس المال نفسه ضاع، فلا ربح ولا رأس مال وإنما خسران مبين، فعلى هذه الخسارة يتحسر هذا الإنسان.

    وبعض العلماء قال: تعلمت تفسير سورة العصر من بائع ثلج.

    وسورة العصر فيها قسم بالعصر والوقت والدهر والزمن، قال عز وجل: وَالْعَصْرِ [العصر:1] * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:2]، يعني: أن كل الناس في خسر، ثم استثنى قلة قليلة فقال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3]، فهؤلاء فقط هم الذين ينزهون من الخسران، ولماذا الإنسان في خسر؟ الجواب: لأنه إذا لم يستثمر نعمة الوقت ونعمة الصحة في هذه الأشياء الأربعة: آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ، فإنه يخسر رأس ماله. وهي خسارة ما بعدها خسارة.

    قال: رأيت هذا الرجل بائع الثلج -وقبل لم تكن هناك ثلاجات ولا مجمدات بحيث يحفظ فيها الثلج- فالسوق انفض، وصلى الناس صلاة العصر، فبقي عنده ألواح من الثلج التي هي رأس ماله لم يبعها، وقارب العصر على الخروج، فالرجل كان يسير في الطرقات وفي الشوارع كالمجنون، يحمل الثلج ويقول للناس: ارحموا من يذوب رأس ماله! ارحموا من يذوب رأس ماله! لأن رأس ماله ماء متجمد، فإذا ذاب لم يبق معه رأس مال، فكذلك نفس الشيء؛ رأس مالك أنت هو الوقت، فإذا ضيعت الوقت فأنت تخسر رأس المال، فمن ثمَّ وصف الله الإنسان المضيع وقته بالخسران فقال: وَالْعَصْرِ [العصر:1] * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:2].

    وبين تبارك وتعالى في هذه الإشارة العظيمة في الحلف والقسم بالعصر أن العصر -الذي هو الزمن والوقت- نعمة عظيمة، فلا تضيعوها؛ فهي نعمة شريفة، ولذلك أنا أقسم بها وأقول: وَالْعَصْرِ [العصر:1]، أقسم بها أنها نعمة شريفة، والسيئ ليس الزمان، إنما السيئ أفعالكم أنتم، كما قال الشاعر:

    نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا

    ونهجوا ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان لنا هجانا

    فليس هناك حاجة اسمها زمن أسود وزمن كذا وأيام كذا، وإنما أعمالنا نحن هي التي تسيء إلينا.

    الشاهد من الكلام: أن هذا الحديث يشير إلى هاتين النعمتين: الصحة والفراغ، فإذا أعطيت صحة أو قدر من الصحة وأعطيت فراغ أو قدر من الفراغ فاستثمر هاتين النعمتين بأقصى ما تستطيع.

    يقول الشاعر:

    والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع

    وتعالوا نتحسر على أنفسنا حينما نرى أحوال السلف الصالح رحمهم الله تعالى، يقول الفضيل بن عياض : أعرف من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة. يعني: يقدر يعد كم كلمة تكلمها من الجمعة إلى الجمعة التي تليها! أي: أنه حارس على لسانه حتى على عدد الكلمات التي يتكلمها.

    ودخلوا على رجل من السلف فقالوا له: لعلنا شغلناك؟ قال: أصدقكم؛ كنت أقرأ فتركت القراءة لأجلكم. يعني: أنتم عطلتموني عن الخير.

    وجاء عابد إلى السري السقطي فرأى عنده جماعة فقال: سرت مناخ البطالين؟! ثم مضى ولم يجلس. أي: صرت المستظل الذي يجلس عنده أهل اللهو والغفلة، فرفض أن يجلس معه.

    وقعد جماعة عند معروف الكرخي فأطالوا القعود، فقال لهم: إن ملك الشمس لا يفتر عن سوقها، فمتى تريدون القيام؟

    وقال بعض السلف: من فاتته صلاة الفجر أو ركعات الفجر فليلعن الثقلاء. يعني: الذين يزورون الإنسان بعد العشاء، ويسهرون معه؛ حتى يعطلوه عن ركعتي الفجر.

    وقال بعض السلف: إذا طال المجلس صار للشيطان فيه نصيب. يعني: أن المجلس يكون بقدر الحاجة، فإذا كنت في صلة رحم أو في عيادة مريض أو في غير ذلك من الأسباب فعليك أن تقضي حاجتك وتنصرف، أو تجتمع معه على طاعة كقراءة كتاب أو مسألة علمية أو حفظ قرآن أو تسميع قرآن أو ذكر لله عز وجل. أما ما سوى ذلك وقد قضيت حاجتك فالقاعدة أنه إذا طال المجلس صار للشيطان فيه نصيب؛ لأنه سوف ينشغل الإنسان بعد ذلك بالغيبة وبالنميمة وبالكلام فيما لا ينفع ولا يجدي.

    ولذلك قال الحسن أيضاً: نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.

    وكان عثمان الباقلوي دائم الذكر لله تعالى، فقال: إني وقت الإفطار أحس بروحي كأنها تخرج؛ لأجل اشتغالي بالأكل عن الذكر.

    وأوصى بعض السلف أصحابه فقال: إذا خرجتم من عندي فتفرقوا؛ لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه، ومتى اجتمعتم تحدثتم.

    فهذه نصيحة ذهبية للأخوة نرجو أن يلتزموا بها، فإذا كنت أيها الأخ! في المسجد فصليت وقضيت حاجتك أو حضرت درس العلم فامش وحدك؛ لأنك إن كنت وحدك فممكن أن تسمع القرآن وأنت تمشي، وأن تذكر الله سبحانه وتعالى. أما إذا مشى معك أحد فإنه يعطل بعضكم بعضاً، فإن كنتم تمشون جماعة لكن كل واحد ينشغل بذكر فلا بأس، أما أن جماعة يمشون ويتكلمون في كلام لا يفيد فالوحدة أفضل من هذه الجماعة.

    وجليس الخير خير من قعود المرء وحده، ووحدة الإنسان خير من جليس السوء.

    الفناء ودوره في انحطاط الهمم

    ومن أسباب انحطاط الهمم: الفناء، والفناء هو اصطلاح صوفي، لكن نحن مضطرون إلى استعماله هنا؛ لأن هذا واقع من كثير من الناس، فهناك الفناء في ملاحظة حقوق الأهل والأولاد، وطبعاً حقوق الأهل والأولاد من الواجبات على الرجل؛ فإنه واجب عليه أن ينفق على أهله وعلى أولاده، ويقوم بواجباته نحوهم، لكن نحن لا نتكلم عن شخص يؤدي الواجب الذي عليه، بل نتكلم عن واحد يستغرقه الأهل والأولاد بصورة تفتنه تماماً عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وبصورة يتحقق فيها ما حذرنا منه الله سبحانه وتعالى حينما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14]، وقوله: ( عَدُوًّا لَكُمْ )، يعني: عداوة غير مباشرة، فالعدو إما عدو صريح، وإما عدو متلون، فإيثار رضا الأهل ورضا الأولاد على ما يرضي الله سبحانه وتعالى والافتتان بهم بحيث إن الإنسان يرتكب مخالفات في سبيل أن يأتي لهم بالمال أو غير ذلك هذا يعتبر عداوة حقيقية؛ لأنها تؤثر في الدين سلباً، فمن ثمَّ أطلق الله على هؤلاء الأحباب الذين يحبهم الإنسان أطلق عليهم الله قوله: (( عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ))[التغابن:14]، أي: كما تحذرون الأعداء.

    فمن أسباب انحطاط الهمة الفناء في ملاحظة حقوق الأهل والأولاد، واستغراق الجهد في التوسع في تحقيق مطالبهم؛ فالأب ما له وظيفة غير أنه يحقق كل رغبات الأطفال، فهم يأمرون وهو ينفذ، ويقول: سمعنا وأطعنا، وكذلك الأمر بالنسبة للمرأة، هذا هو الذي نعنيه.

    ومثل هذا ينظر إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام: {وإن لأهلك عليك حقاً}، لكنه يترك قوله: {وإن لربك عليك حقاً}، فالمسلم مطالب أن يكون متوازناً، فيكون عنده نوع من التوازن بين الحقوق والواجبات، وأيضاً يترك قول النبي عليه الصلاة والسلام: {فأعط كل ذي حق حقه}.

    فكل ذي حق يأخذ حقه، وقد عد الله سبحانه وتعالى الأهل والأولاد أعداء للمؤمن إذا حالوا بينه وبين طاعة الله عز وجل روى ابن جرير عن عطاء بن يسار في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14]، قال: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي ؛ كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه، فقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرق ويقيم، ويترك الجهاد، فنزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14].

    دور المناهج التي تحرض على التقليد في انحطاط الهمم

    ومن هذه المناهج التي تهبط بالهمم: المناهج التي تحرض الناس على التقليد المنهجي، والتقليد هو مثل الميتة تأكلها إن اضطررت إليها، لكن الأصل هو اتباع رسول الله عليه الصلاة والسلام، يقول تعالى: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]، أي: اتبعوا الرسول عليه الصلاة والسلام؛ (( لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )).

    وقال تبارك وتعالى أيضاً: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31].

    وطبعاً نحن لا نقول: إننا لا نرجع إلى العلماء في فهم الكتاب والسنة، لكن نقول: إن العالم غير معصوم، فقد يخالف القرآن أو السنة؛ لأنه اجتهد وهو غير معصوم، وباجتهاده أخطأ، ويثاب على ذلك، لكن نقول: نحن ندور مع الحق حيث دار، فمتى ما صح قول رسول الله عليه الصلاة والسلام فيجب المصير إلى قوله، وألا يقدم على قوله عليه الصلاة والسلام قول أحد كائناً من كان.

    وللأسف فإن التربية السفلية أيضاً فيها التقليد المذهبي، والتربية الدينية في بعض الأوقات أيضاً تغرس موضوع حب التقليد والاعتزاز بالتقليد!

    والتقليد صفة مذمومة، وليس صفة ممدوحة، فلا تلجأ إليه إلا في ظروف معينة وبشروط معينة، فينبغي أن يحرض الناس ويربوا على التطلع إلى فهم الأدلة ومعرفة الأحكام الشرعية بأدلتها، لا أن نحرض الناس على دنو الهمة ونقلد ونأخذ بقول غيرنا دون معرفة دليله.

    حدثني أحد المشائخ الأفاضل وهو الشيخ رشاد الشافعي رحمه الله أنه حضر وهو شاب مجلساً لأحد الشيوخ المالكيين، فكان يدرس الناس، وكان هذا الشيخ يربي تلامذته ويعلمهم، وإذا أراد أن يعلمهم الوضوء علمهم كيف كان يتوضأ الإمام مالك ، وإذا صلى علمهم كيف كان يصلي مالك ، وكيف كان يعمل مالك إذا حج وإذا اعتمر وإذا زوج وإذا طلق وإذا خطب، فربطهم دائماً بالإمام مالك رحمه الله تعالى!

    فانظر إلى خطورة الأمر على العوام فقد وصل الأمر أن في أحد هذه المجالس كان الشيخ يتكلم بهذه الطريقة؛ للتقريب، فبعض العوام قطع الدرس وقال له: يا سيدنا الشيخ! هل سيدنا النبي كان قبل مالك أو الإمام مالك قبل؟!! فمن الذي بعث قبل الآخر؟!! فوصل الأمر بهذه الهيئة إلى أن الواحد منهم يتصور أن مالكاً نبي مثل محمد عليه الصلاة والسلام؛ وهذا نتيجة التربية التي تربطنا بأن القدوة هو الإمام مالك أو الشافعي أو غيرهما.

    وطبعاً الأئمة محبتهم واحترامهم دين نتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، ولا نخرج عن أقوالهم، لكن نحن نتكلم على أن القدوة يجب أن يكون هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].

    ولذلك أحد مشائخنا من أنصار السنة حفظهم الله قال: إنه لما جاء المأذون يعقد له قال: على مذهب أبي حنيفة ، فقال: أنا أريد أن أتزوج على المذهب الذي تزوج عليه أبو حنيفة ، وأبو حنيفة على أي مذهب تزوج؟ تزوج على المذهب المتبع للرسول عليه الصلاة والسلام.

    فينبغي لطالب العلم أن يستفز همته لكي يرتقي عن وحل التقليد إلى اتباع الأدلة.

    ونحن نرفض هذا الذي يحصل من بعض طلاب العلم من سب الأئمة أو التطاول عليهم أو الاستقلال من شأنهم، فهذا كله من القدح، لكننا ندعو إلى ما دعا إليه أئمة السلف من عدم التقليد، كما قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى: إن المقلد بإجماع العلماء ليس معدوداً من أهل العلم.

    دور توالي الضربات على المسلمين وازدياد اضطهاد العاملين للإسلام في انحطاط الهمم

    ومن هذه الأسباب -وهو ما نختم به-: توالي الضربات، وازدياد اضطهاد العاملين للإسلام، فبعض الناس حينما تتوالى الضربات والاضطهاد للمسلمين خاصة إذا طالت الموجة تضعف همته، كما حصل في الموجة التي ظلت مرتفعة مدة طويلة وكان الاضطهاد يزداد للعاملين لله سبحانه وتعالى ولدين الله، فبعض الناس -للأسف الشديد- حصل عندهم شعور بالإحباط وشعور باليأس في نفوس، وهؤلاء هم الذين لا يفقهون حقيقة البلاء، ولا يعلمون أن الله سبحانه وتعالى مطلع على كل هذا، ولو شاء الله سبحانه وتعالى بكلمة (كن) لأهلك كل من على وجه الأرض، ولو شاء الله سبحانه وتعالى بكلمة (كن فيكون) لأمر العباد الذين على وجه الأرض كلهم فيكونوا مثل الملائكة في العبادة والإخبات والخشوع والعبادة لله سبحانه وتعالى؛ فإن الله قادر على ذلك، ولكن: َتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، أي: في هذه الدنيا؛ فإذا كان الأنبياء أنفسهم أوذوا في الدنيا فغيرهم من باب أولى؛ فالدنيا هينة على الله سبحانه وتعالى، وليست دار الجزاء، إنما هي دار الابتلاء والامتحان، والنتيجة تظهر يوم القيامة أما الدنيا فهي كلها امتحان، وكلها اختبار، وكلها ابتلاء، فسنة البلاء من السنن الماضية، ولابد أن يقع هذا الصراع بين الحق وبين الباطل، والله سبحانه قادر على أن تنزل الملائكة عياناً والناس يرونها، وتتخطف أعداء الدين عضواً عضواً، وتمزقهم إرباً؛ فالله قادر على ذلك، لكن لو أن الله سبحانه وتعالى فعل ذلك فستنتفي حكمة الابتلاء، وسننتقل إلى الآخرة؛ لأن هذا يحصل في الآخرة، قال عز وجل: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22]، فهذا الغطاء ما زال موجودا الآنً، فإذا كشف الغطاء وأصبح الناس يرون العذاب الذي يحصل في القبر، وأصبحوا يرون الملائكة وهي تعذب الكفار أو الفاسقين من المحتضرين، وإذا شتم واحد الإسلام تروح تنزل ملائكة من السماء وتمزقه أمام الناس، لو حصل هذا فهل تبقى الدنيا دنيا؟ فمن حكمة الله أن يكون هناك إيمان ويقين بالغيب ويقين بوعد الله سبحانه وتعالى، ويبقى الحجاب قائماً حتى يميز بين المؤمن الذي يؤمن بالغيب وبين الفاجر الذي لا يؤمن إلا إذا عاين؛ فإن الكفار إذا عاينوا قالوا: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12]، فهل هذا اليقين ينفع؟ لا ينفع؛ الذي ينفع هو اليقين الآن قبل أن تكشف الحجب، فلا بد من إيمانك بأن الله يسمع ويرى، وأن الله قادر على أن يذل أعناق كل هؤلاء المعادين لدين الله ودين رسوله عليه الصلاة والسلام، والذين يفرحون بموالاة الكفار، ويتحصنون بهم ضد المسلمين، ويكونون هم اليد التي يضرب بها الإسلام في عقر داره، وقبلوا لأنفسهم هذا المنصب، فهل معنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى خذل دينه، وخذل دعوته؟ كلا! لأنه مهما طال الصراع فلابد أن تكون العاقبة للتقوى، كما قال تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، وقال سبحانه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]، فلابد من الفتنة، ولابد من البلاء، وهذا الذي نعيشه هو ابتلاء، وليس أكثر، فكثرة الاضطهاد للإسلام هي من البلاء؛ لأن الاضطهاد عالمي، ونحن الآن نعيش في عصر كأنه لم يسبق له نظير، فكل العالم بلا استثناء -حتى حكام العالم الإسلامي- كله متواطئ على خنق الإسلام وإذلال وإضعاف المسلمين؛ تمهيداً لإقامة إسرائيل الكبرى.

    هذه هي الحقيقة المرة التي نعترف بها علناً، كما قال كلينتون في معاهدة السلام في الأردن للملك حسين قال له: لقد حققت يا جلالة الملك! حلم جدك الملك عبد الله في إقامة وطن القومية لليهود في فلسطين! وهذه حاجات جديدة ما سمعنا بها في آبائنا الأولين، والله المستعان! حتى إن عمرو موسى صرح -وما أجمل التصريحات التي يأتي بها عمرو موسى أحياناً- فقال لرؤساء البلاد العربية: اهدوا قليلاً، فليس من المعقول أن تركضوا نحو إسرائيل بالصورة هذه ففزع جلالة الملك، وغضب، وقام يرد عليه في غضب ويقول: نحن لا نركض نحو إسرائيل؛ نحن نهرول نحو إسرائيل!! فانظر الفخر! يفتخر أنه يهرول نحو إسرائيل، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحبط كيد هؤلاء الأعداء أجمعين.

    اقتران البلاء بالمتمسكين بالدين

    فالإنسان قد يستطيل الطريق؛ لأن كله ابتلاء، وكله امتحان، وبين وقت وآخر يحصل تكثيف، فانتظروا فرج الله سبحانه وتعالى.

    فإذا استطال الإنسان الطريق يحصل له ضعف في السير إلى الله سبحانه وتعالى، فعلينا أن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نتبع سنته في كل أحواله، فمن أحوال النبي عليه الصلاة والسلام أحوال تشبه ما نحن فيه الآن، حيث حصل اضطهاد للمسلمين ومحاربة للدين، فكيف كان يعزي ويسلي أصحابه المضطهدين؟ كان دائماً يزرع فيهم الأمل بالتبشير بأن المستقبل حتماً سيكون للإسلام.

    فقد صح عن خباب بن الأرت رضي الله عنه أنه قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ضل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ بالرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله! ليتمن الله هذا الأمر؛ حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).

    فانظر كلمة (تستعجلون)، يعني: أن العاقبة للمتقين، لكنكم تستعجلون، فاتركوا سنة الله تمشي في طريقها، ولا تتعجلوا، ولا تقفزوا فوق السنن، كما يحصل من بعض إخواننا -للأسف الشديد- من بعض الحركات أو بعض الجماعات؛ حيث يحاول أن يسبق السنن، ويتعجل، كما قال بعض الكتاب واصفاً المتعجلين من الشباب والمتعجلين من الشيوخ: أما متعجلة الشباب فمعروف الحركات التي تحصل منهم من إراقة للدماء، وغير ذلك من تعجل الشباب، أما تعجل الشيوخ فيقال: إن بعض الشيوخ كانوا حريصين جداً على القفز فوق سنن الله، فأرادوا الحصول والقفز إلى التمكين عن طريق البرلمانات والانتخابات، لأنهم يظنون أن هذه قد توصلهم إلى هذا الهدف، وهذا القفز فيه نوع من الاستعجال؛ لأنه ليس بالسهولة هذه أبداً يحصل التمكين لدين الله، وليست هذه هي سنة الله عز وجل.

    فتأمل في هذا الحديث! الصحابة رضي الله عنهم ذهبوا يطلبون من النبي عليه الصلاة والسلام أن يدعو لهم، ويستنزل نصر الله عليهم، فهل دعا لهم الرسول عليه الصلاة والسلام؟ لم يدع لهم؛ لأنه لابد أن تمضي سنة البلاء، فهي سنة ماضية لابد أن تقع.

    ولما سئل الإمام الشافعي : أيهما أفضل للرجل: أن يمكن أو يبتلى؟ فقال: لا تمكن حتى تبتلى. فيبدأ أولاً البلاء ثم التمكين.

    ولما بلغ خبر ميلاد هذه الدعوة إلى ورقة بن نوفل قال: (ليتني أكون فيها جذعاً إذ يخرجك قومك، قال: أومخرجي هم ؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي....).

    فهذه سنة، وهو كان يعلم سنن الأنبياء من قبل، فقد كان ورقة بن نوفل على علم، ولذا بين أنه لابد من التفكير، فقال: (لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي..).

    كذلك في قصة أصحاب الأخدود، قصة الغلام مع الراهب، فإن الراهب قال له: (أي بني! إنك أفضل مني، وإنك ستبتلى)؛ فلابد أن يقترن البلاء بالإنسان، وهذه سنة ماضية أن يفتن الناس، كما قال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2].

    وكلمة الفتنة مأخوذة من فتن الذهب، يقال: دينار فتين إذا أخرج من الفرن، تقول: فتنت الذهب إذا جئت بالذهب الخام وأدخلته في الفرن؛ حتى ينصهر، فينفصل الغثاء والزبد والشوائب، ويستقل المعدن الخالص الصافي الذي هو الذهب النقي، فلا يمكن أن ينفصل إلا عن طريق الصهر، فالفتنة مأخوذة من هذا المعنى، كما قيل: إن أحمد أدخل الكير فخرج ذهباً أحمر.

    فكلمة الفتة معناها: أن توضع في البلاء حتى تصفو، كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى.

    فعدل عن الدعاء لهم إلى تذكيرهم بأن هذا قانون وسنة ماضية لابد منها، فلابد من البلاء، فقد حصلت هذه السنة فيمن قبلكم، وستحصل لكم، لكن تذكروا أن العاقبة للمتقين، فقال عليه الصلاة والسلام: (والله! ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون.).

    أخي ستبيد جيوش الظلام ويشرق في الكون فجر جديد

    فأطلق لروحك إشراقها ترى الفجر يرمقنا من بعيد

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

    والحمد لله رب العالمين.

    1.   

    اقتران البلاء بالمتمسكين بالدين

    فالإنسان قد يستطيل الطريق؛ لأن كله ابتلاء، وامتحان، وبين وقت وآخر يحصل تكثيف، فانتظروا فرج الله سبحانه وتعالى. فإذا استطال الإنسان الطريق يحصل له ضعف في السير إلى الله سبحانه وتعالى، فعلينا أن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نتبع سنته في كل أحواله، فمن أحوال النبي عليه الصلاة والسلام أحوال تشبه ما نحن فيه الآن، حيث حصل اضطهاد للمسلمين ومحاربة للدين، فكيف كان يعزي ويسلي أصحابه المضطهدين؟ كان دائماً يزرع فيهم الأمل بالتبشير بأن المستقبل حتماً سيكون للإسلام؛ فقد صح عن خباب بن الأرت رضي الله عنه أنه قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ بالرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله! ليتمن الله هذا الأمر؛ حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون). فتأمل كلمة (تستعجلون)، يعني: أن العاقبة للمتقين لكنكم تستعجلون، فاتركوا سنة الله تمشي في طريقها، ولا تتعجلوا، ولا تقفزوا فوق السنن، كما يحصل من بعض إخواننا -للأسف الشديد- من بعض الحركات أو بعض الجماعات؛ حيث يحاول أن يسبق السنن، ويتعجل، كما قال بعض الكتاب واصفاً المتعجلين من الشباب والمتعجلين من الشيوخ: أما متعجلة الشباب فمعروف الحركات التي تحصل منهم من إراقة للدماء، وغير ذلك من تعجل الشباب، أما تعجل الشيوخ فيقال: إن بعض الشيوخ كانوا حريصين جداً على القفز فوق سنن الله، فأرادوا القفز إلى التمكين عن طريق البرلمانات والانتخابات، لأنهم يظنون أن هذه قد توصلهم إلى هذا الهدف، وهذا القفز فيه نوع من الاستعجال؛ لأنه ليس بالسهولة هذه أبداً يحصل التمكين لدين الله، وليست هذه هي سنة الله عز وجل. فتأمل في هذا الحديث! الصحابة رضي الله عنهم ذهبوا يطلبون من النبي عليه الصلاة والسلام أن يدعو لهم، ويستنزل نصر الله عليهم، فهل دعا لهم الرسول عليه الصلاة والسلام؟ لم يدع لهم؛ لأنه لابد أن تمضي سنة البلاء، فهي سنة ماضية لابد أن تقع. ولما سئل الإمام الشافعي : أيهما أفضل للرجل: أن يمكن أو يبتلى؟ فقال: لا تمكن حتى تبتلى. فيبدأ أولاً البلاء ثم التمكين. ولما بلغ خبر ميلاد هذه الدعوة إلى ورقة بن نوفل قال: (ليتني أكون فيها جذعاً إذ يخرجك قومك، قال: أومخرجي هم ؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي....). فهذه سنة، وهو كان يعلم سنن الأنبياء من قبل، فقد كان ورقة بن نوفل على علم، ولذا بين أنه لابد من التفكير، فقال: (لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي..). كذلك في قصة أصحاب الأخدود، وقصة الغلام مع الراهب، فإن الراهب قال له: (أي بني! إنك أفضل مني، وإنك ستبتلى)؛ فلابد أن يقترن البلاء بالإنسان، وهذه سنة ماضية أن يفتن الناس، كما قال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]. وكلمة الفتنة مأخوذة من فتن الذهب، يقال: دينار فتين إذا أخرج من الفرن، وتقول: فتنت الذهب إذا جئت بالذهب الخام وأدخلته في الفرن؛ حتى ينصهر، فينفصل الغثاء والزبد والشوائب، ويستقل المعدن الخالص الصافي وهو الذهب النقي، فلا يمكن أن ينفصل إلا عن طريق الصهر، فالفتنة مأخوذة من هذا المعنى، كما قيل: إن أحمد أدخل الكير فخرج ذهباً أحمر. فكلمة الفتة معناها: أن توضع في البلاء حتى تصفو، كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى. فعدل عن الدعاء لهم إلى تذكيرهم بأن هذا قانون وسنة ماضية لابد منها، فلابد من البلاء، فقد حصلت هذه السنة في من قبلكم، وستحصل لكم، لكن تذكروا أن العاقبة للمتقين، فقال عليه الصلاة والسلام: (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون.). أخي ستبيد جيوش الظلام ويشرق في الكون فجر جديد فأطلق لروحك إشراقها ترى الفجر يرمقنا من بعيد أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756252766