إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [20]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • خاض كثير من أهل الإسلام في علم الكلام، فأخطئوا طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يستفيدوا من ذلك سوى ضياع الأوقات وكثرة الأوهام، وقد رجع كثير منهم عن ذلك في آخر حياته وكان يحذر من الوقوع فيما وقع فيه، فأحسن الله خاتمتهم بحسن نياتهم.

    1.   

    التداوي بالقرآن لا بالفلسفة وكلام اليونان

    سبق الكلام حول النهي عن علم الكلام الذي اشتغل به المتكلمون، ومنه قول الشافعي رحمه الله: حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد والنعال، وأن يُطاف بهم في العشائر والقبائل، يقال: هذا جزاء من ترك كتاب الله وأقبل على الكلام.

    وذلك أيضاً قبل أن يشتهر علم الكلام، وقبل أن يتولد فيه ما تولَّد.

    وقد مرَّ بنا ما تكلم فيه بعض العلماء وبيَّنوا أضراره ومفاسده، وأنه مبني على الجدل، وأن أكثر ما فيه كلمات مولَّدة مفروضة لا أهمية لها ولا حقيقة لها، كلٌّ مِن أهلها يدلي بشبهة ثم ينقضها الثاني بمثلها أو بأقوى منها، وهكذا فلا تثبت لأنها حجة كلامية.

    وقد وضعوا في ذلك كتباً موسعة، ومن أوسعها كتابٌ للقاضي عبد الجبار المعتزلي اسمه (المغني) طُبع طبعةً جديدة في أربعة عشر مجلداً كله كلام وكله جدل، وكله توليدات لتلك الشبه التي هي شبه المعتزلة التي اعتمدوها في نفي الصفات، ووسعوا بها دائرة الكلام وشغلوا بها أوقات الناس وأضاعوا بها فراغهم، ونهايتهم عدم المعرفة، فلا يثبتون على حجة ثابتة مستمرة.

    فلذلك ينهى علماء الإسلام عن قراءة كتبهم، فـابن القيم عندما ذكر بعض كتبهم قال:

    فانظر ترى لكن نرى لك تركها حذراً عليك مصائد الشيطانِ

    يقول: نختار لك تركها، فكتبهم متهافتة، وكتب أهل الكلام ينقض بعضُها بعضاً، وإن أردت فانظر إليها، ولكنا ننصحك ألَّا تقرأها وألَّا تقرب منها حذراً عليك أن تتبع وأن يقع لقلبك شيء من الزيغ، أو تعلق بقلبك شبهة من تلك الشبهات، فيصعب عليك بعد ذلك التخلص منها.

    هذا خلاصة الكلام في النهي عن هذا الجدل عن تلك الخصومات التي يتنازع أهلها، فيثبت قومٌ شبهةً وينفيها آخرون ويبطلونها، بل الشخص الواحد يثبت شيئاً ثم ينتقض وينفيه، بل يعترضون عليه باعتراضات وبتوليدات يتضح منها أنه لا حقيقة لما يقولونه ولما يعتقدونه.

    ويأتينا بقية الكلام حول هذا.

    ما ورد عن أهل الكلام يعرض على النص

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن المحال ألَّا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله وكلام رسوله ويحصل من كلام هؤلاء المتحيِّرين، بل الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل، ويتدبر معناه ويعقله، ويعرف برهانه ودليله إما العقلي وإما الخبري السمعي، ويعرف دلالته على هذا وهذا، ويجعل أقوال الناس التي توافقه وتخالفه متشابهةً مجملة، فيقال لأصحابها: هذه الألفاظ تحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول قُبِل، وإن أرادوا بها ما يخالفه رُدَّ، وهذا مثل لفظ المركب والجسم والمتحيز والجوهر والجهة والحيز والعَرَض ونحو ذلك.

    إن هذه الألفاظ لم تأتِ في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريد أهل هذا الاصطلاح بل ولا في اللغة، بل هم يختصون بالتعبير بها عن معانٍ لم يعبر غيرهم عنها بها، فتُفَسَّر تلك المعاني بعبارات أخر، ويُنظر ما دل عليه القرآن من الأدلة العقلية والسمعية، وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل.

    مثال ذلك في التركيب، فقد صار له معانٍ:

    أحدها: التركيب من متباينين فأكثر، ويسمى تركيب مزج، كتركيب الحيوان من الطبائع الأربع والأعضاء ونحو ذلك، وهذا المعنى منفي عن الله سبحانه وتعالى، ولا يلزم من وصف الله تعالى بالعلو ونحوه من صفات الكمال أن يكون مركباً بهذا المعنى المذكور.

    الثاني: تركيب الجوار، كمصراعي الباب ونحو ذلك، ولا يلزم أيضاً من ثبوت صفاته تعالى إثبات هذا التركيب.

    الثالث: التركيب من الأجزاء المتماثلة، وتسمى الجواهر المفردة.

    الرابع: التركيب من الهيولى والصورة، كالخاتم مثلاً هيولاه الفضة وصورته معروفة، وأهل الكلام قالوا: إن الجسم يكون مركباً من الجواهر المفردة، ولهم كلام في ذلك يطول ولا فائدة فيه، وهو أنه هل يمكن التركيب من جزئين، أو من أربعة، أو من ستة، أو من ثمانية، أو ستة عشر؟ وليس هذا التركيب لازماً لثبوت صفاته تعالى وعلوه على خلقه، والحق أن الجسم غير مركب من هذه الأشياء، وإنما قولهم مجرد دعوى، وهذا مبسوط في موضعه.

    الخامس: التركيب من الذات والصفات، هذا سمَّوه تركيباً لينفوا به صفات الرب تعالى، وهذا اصطلاح منهم لا يُعرف في اللغة ولا في استعمال الشارع، فلسنا نوافقهم على هذه التسمية ولا كرامة، ولئن سموا إثبات الصفات تركيباً فنقول لهم: العبرة للمعاني لا للألفاظ، سمُّوه بما شئتم، فلا يترتب على التسمية بدون المعنى حكم، فلو اصطُلح على تسمية اللبن خمراً لم يحرم بهذه التسمية.

    السادس: التركيب من الماهية ووجودها، وهذا يفرضه الذهن أنهما غيران، وأما في الخارج هل يمكن ذات مجردة عن وجودها ووجودها مجرد عنها، هذا محال! فترى أهل الكلام يقولون : هل ذات الرب وجوده أم غير وجوده؟ ولهم في ذلك خبط كثير، وأمثلهم طريقةً رأي الوقف والشك في ذلك، وكم زال بالاستفسار والتفصيل كثير من الأضاليل والأباطيل].

    قد علمنا أن الشرع الشريف كامل في جميع ما يحتاج إليه البشر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بيَّن للأمة ما تحتاج إليه، وبالأخص ما يقولونه بألسنتهم وما يعتقدونه بقلوبهم في صفات ربهم، ولا يليق أنه علمهم الفروع وترك الأصول، بل الأصول أولى بالتعليم، فعلمهم الأصول التي هي العقائد ما يقولونه في ربهم بألسنتهم وما يعتقدونه بقلوبهم قبل أن يعلمهم الأوامر والنواهي ونحو ذلك، وذلك لأن العقيدة سبب الأعمال، والذي لا تكون معه عقيدة لا ينبعث جسمه بالعمل، فإذا رسخت العقيدة التي هي معرفة الرب سبحانه ومعرفة عظمته وكبريائه وجلاله في القلب أورثت أعمالاً، وأورثت الخوف منه ورجاءه ومحبته والخضوع والخشوع له والإخبات والإنابة والتوبة والرجوع إليه، وأورثت تعظيمه وتأليهه ودعاءه وعبادته.

    فإذا انتفت هذه المعرفة من القلب انتفت العبادة، ونحن نعرف أن الصحابة رضي الله عنهم وتابعيهم بإحسان أكثر الناس أعمالاً وأتمهم خشوعاً وأتمهم تذللاً، فما الذي حملهم على ذلك؟ أليس هو قوة المعرفة؟ أليس هو قوة العقيدة؟ أليست العقيدة رسخت في قلوبهم وهي معرفة ربهم؟

    إذاً فنحن نحث المسلم على أن يقوي عقيدته، فنقول قوِّ عقيدتك، وتعلم ما ترسخ به عقيدتُك في قلبك، وقوِّ العقيدة التي هي معرفة الله ومعرفة عظمته ومعرفة جلاله وكبريائه، واحرص على ترسيخ هذه العقيدة في قلوب أولادك وفي قلوب إخوتك وفي قلوب المسلمين؛ فإنها متى رسخت أثمرت، وآتت أكلها وأثمرت العبادات الكثيرة التي هي فعل الصالحات وترك المحرمات.

    السلامة في اتباع طريقة الرسل عليهم السلام وأتباعهم

    ولو كان علم الكلام وتفاصيله من الشريعة ما أهملته الرسل، بل لعلمته الرسل لأممها، ونحن لم يُنقل لنا عن نبينا شيء من ذلك، ما نُقل عنه أنه خاض بأصحابه في هذا العلم الذي هو الجدل والخصومات والمنازعات ونحوها، ونعلم أنه ما تكلم فيها، بل كلامه في معرفة الله وفي عظمته وفي صفاته، وكلامه في أحكامه وأوامره ونواهيه وما إلى ذلك؛ هذا هو الذي بلغه لأمته، وبلغته أمته بعضها لبعض.

    يقول بعض السلف: أنا أحلف لو حُلِّفتُ أن أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة ماتوا ولم يتكلموا في لفظ التركيبب ولا الحيز ولا الجهة ولا الجوهر ولا العَرَض بالمعنى الذي أراده المتكلمون.

    وإذا لم يتكلم فيها هؤلاء الصحابة فلا خير فيها.

    وقد ثبت أن بعض المتكلمين وهو ابن أبي دؤاد الذي زين للخلفاء أن يمتحنوا الناس في علم الكلام، ومنه القول بخلق القرآن.

    جاءه أحد العلماء فقال له: أخبرنا عن هذا الذي تدعو الناس إليه، هل علمه نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو ما علموه؟

    فإذا قلتَ ما علموه قلنا: كيف تعلم شيئاً ولا يعلمونه؟ أأنت أعلم من الرسول؟ أأنت أعلم من الخلفاء الراشدين؟ حاشا وكلا، لا تكون أعلم منهم.

    وإذا قلت: بل يعلمونه فهلَّا وسعك ما وسعهم، فهل دعوا إليه؟ وهل نشروه؟ وهل علَّموه الناس؟ وهل ألزموهم باعتقاده؟

    وإذا لم يفعلوا فاتبعهم، ولا تنشره ولا تظهره، فإذا كان لك عقيدة فاكتمها في نفسك ولا تلزم غيرك بأن يعتقدها، فلماذا لا يسعك ما وسعهم؟ لا وسع الله على من لم يسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين وصحابته والتابعين وأئمة الدين.

    مثال التركيب وبعده

    وسبق من أمثلة ما تكلم به المتكلمون كلامهم في التركيب وفي العَرَض وفي الجوهر وفي الحيز وفي الجهة وفي الأبعاض وفي الأعضاء ونحو ذلك، فيقولون: إن الله منزه عن التركيب، ومنزه عن الجسم، وعن الجوهر، وعن العَرَض، وعن البعض، وعن الجهة، وعن الحيز وما أشبه ذلك. فيقولون: ننزه الله تعالى عن ذلك، ثم يشرحون هذه الكلمات ويتوسعون فيها، وسبق ما نقله عنهم الشارح في معنى التركيب.

    ولا شك أن هذه الكلمة بدعية لم يتكلم بها السلف، واصطلاحاتهم هذه حيث جعلوا لها ستة معانٍ كما سمعنا، آخرها قولهم: التركيب هو التركيب من الصفات والذات، وأرادوا أن الله تعالى ليس له صفات، قيل: إذا إن الله ليس بمركب.

    وقد بين العلماء رحمهم الله أن إثبات الصفات لله إثبات وجود لا إثبات تحديد، كما أن إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات تحديد، ولا إثبات تكييف، وذلك لعجز البشر وقصورهم عن أن يصلوا بمعارفهم إلى تحديد الصفات وإلى تكييفها، وقد ذكروا أن علم الصفات ملحق بعلم الذات يحذو حذوه ويسير على مثاله، فإذا كنا نثبت لله تعالى ذاتاً ولا نكيفها فهكذا نثبت له صفاتاً ولا نكيفها.

    وكثير من السلف يقولون في الصفات: أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف.

    وفي الأثر المشهور عن مالك بن أنس رحمه الله قوله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.

    وفي أثر عن شيخه ربيعة قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول. يعني: لا تصله العقول، له كيفية ولكنها محجوبة عنا، فنؤمن به ونتوقف عن تلك الكيفية.

    وإذا سأل سائل وقال: ما كيفية الاستواء؟ قلنا: الكيف مجهول.

    فإثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات تكييف ولا إثبات تمثيل.

    فهؤلاء الذين يقولون: إن الله تعالى غير مركب ثم يريدون بالتركيب التركيب من الصفات والذات يريدون بذلك نفي الصفات.

    فيقال لهم: أنتم تثبتون الذات، فهل لها كيفية؟

    فإذا قالوا: لا يعلم كيفية الذات إلا الله. قلنا: كذلك الصفات لا يعلم كيفيتها إلا الله تعالى.

    فالحاصل: أن كلامهم في التركيب وأنه الأقسام الستة التي سبقت لا يحتاج إلى البحث فيه، بل هو من علم الكلام، إنما أورده الشارح ليبين تهافتهم، وليبين أنهم خاضوا في شيء لا فائدة فيه ولا حاصل له.

    وهذه التركيبات للأقسام الستة القصد منها هو القسم السادس كما سمعنا، وفي الأقسام الأولى من جملة ما ولَّدوه أن قالوا: التركيب من الأعضاء، والتركيب من الصورة والهيولي، ونحو ذلك، قالوا ذلك بالتتبُّع أو بعلم الكلام الذي ولَّدوه.

    فنقول: لا يجوز الخوض في مثل هذا، بل يقال: الله منزه عن النقائص وموصوف بصفات الكمال.

    سبب الضلال واعترافات أهل الكلام

    قال رحمه الله تعالى: [وسبب الضلال: الإعراض عن تدبر كلام الله وكلام رسوله، والاشتغال بكلام اليونان والآراء المختلفة، وإنما سمي هؤلاء أهل الكلام لأنهم لم يفيدوا علماً لم يكن معروفاً، وإنما أتوا بزيادة كلام قد لا يفيد، وهو ما يضربونه من القياس لإيضاح ما عُلِم بالحس، وإن كان هذا القياس وأمثاله يُنتفع به في موضع آخر ومع من ينكر الحس، وكل من قال برأيه أو ذوقه أو سياسته مع وجود النص أو عارض النص بالمعقول فقد ضاهى إبليس حيث لم يسلم لأمر ربه، بل قل: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12].

    وقال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [النساء:80].

    وقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31].

    وقال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] أقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا نبيه ويرضوا بحكمه ويسلموا تسليماً.

    قوله: (فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، مُوَسوِساً تائهاً شاكَّاً زائغاً، لا مؤمناً مصدقاً ولا جاحداً مكذباً).

    يتذبذب: يضطرب ويتردد، وهذه الحالة التي وصفها الشيخ رحمه الله حال كل من عدل عن الكتاب والسنة إلى علم الكلام المذموم أو أراد أن يجمع بينه وبين الكتاب والسنة، وعند التعارض يتأول النص ويرده إلى الرأي والآراء المختلفة، أمره إلى الحيرة والضلال والشك، كما قال ابن رشد الحفيد -وهو من أعلم الناس بمذهب الفلاسفة ومقالاتهم- في كتابه تهافت التهافت: ومن الذي قال في الإلهيات شيئاً يعتد به؟! وكذلك الآمدي أفضل أهل زمانه واقفٌ في المسائل الكبار حائر، وكذلك الغزالي رحمه الله انتهى آخر أمره إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية، ثم أعرض عن تلك الطرق وأقبل على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فمات و(البخاري) على صدره، وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات:

    نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال

    وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذىً ووبال

    ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

    فكم قد رأينا من رجال ودولة فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا

    وكم من جبال قد علت شرفاتها رجالٌ فزالوا والجبال جبال

    لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن.

    أقرأ في الإثبات: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10].

    وأقرأ في النفي: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:110].

    ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي].

    أورد هذا الكلام ليبين أن هؤلاء نهايتهم الحيرة والتذبذب، وذلك لأنهم ليسوا على عقيدة راسخة، فكلامهم الذي يولدونه سبب الشك؛ لأنه لا يأتي ببرهان، بل بعضه يرد بعضاً، ويكذب بعضه بعضاً، فيأتي أحدهم بمسائل جدلية ويجمعها في مؤلفاته، ثم يأتي آخر أشد جدلاً منه فينقضها واحدة واحدة، فلا يبقى معه شيء، فيقول: كما أنك تولِّد كذا فأنا أولِّد مثله.

    وقد تعلمها كثير من العلماء ليردُّوا عليها، ومن جملة من عرفها وأتقنها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه درس علومهم وإن لم يصرف فيها وقتاً، ولكن ما أعطيه من الذكاء ومن الفطنة ومن قوة الذاكرة كان سبباً في كونه يفهمها بمجرد ما يقرؤها، فناقش كتبهم ورد عليها رداً متقناً.

    وتجد في أول كتابه الرد على الشيعة الرافضة الذي سمي (منهاج السنة) ويكاد يكون ثلثه في مناقشة المتكلمين فيما يتعلق بالصفات وبنفيها ونحو ذلك.

    وهكذا كتابه الذي يسمى بالعقل والنقل أو يعرف بـ(درء تعارض العقل والنقل) مطبوع أيضاً في عشر مجلدات، وهو أيضاً مناقشة لهم في تلك الشبهات وبيان ما وقعوا فيه من التناقضات.

    وهكذا أيضاً كتابه الذي يسمى بـ(نقض التأسيس) و(التأسيس) كتاب لأحد المتكلمين، وهو للرازي صاحب هذه الأبيات، اسمه (تأسيس التقديس) رد عليه وإن لم يرد عليه كله، أو لم يوجد رده كله كاملاً وطبع الموجود منه، فناقشه كأنه درس كلامهم وتوغل فيه.

    وكل ذلك ليعرف المسلمون أنهم لا يثبتون على حالة، بل نهايتهم الحيرة ونهايتهم التذبذب، كما سبق عن أولئك منهم.

    فهذا ابن رشد -ويسمى الحفيد - له كتاب في الانتصار للفلاسفة، وذلك لأن الغزالي صنف كتاباً سماه (تهافت الفلاسفة) ولما صنفه رد عليه ابن رشد انتصاراً لهم، وسمى رده (تهافت التهافت) انتصاراً للفلاسفة ورداً على الغزالي .

    وقد سبق أن نقل الشارح بعض كلام الغزالي من كتابه إحياء علوم الدين.

    فالحاصل: أن الغزالي يبين أنهم ليسوا على عقيدة راسخة، بل إنهم متهافتون مضطربون متذبذبون، ولا عبرة بمن انتصر لهم من أضرابهم؛ فإن ابن رشد فيلسوف.

    فالحاصل أن هذا المؤلف لم يكن على عقيدة راسخة، بل ينقل عنهم أنهم متذبذبون، وأنهم مهما وصلوا إليه من المعرفة لا يثبتون أيضاً على طريقة.

    وثانيهم أبو الحسن الآمدي صاحب كتاب (الإحكام في أصول الأحكام) من علماء المتكلمين، ولكن من الذين تكلموا في هذا العلم وتكلموا أيضاً في العلوم الأخرى كأصول الفقه، ومع ذلك فهو قد اعترف أنهم في الحيرة والشك والاضطراب.

    وثالثهم الغزالي صاحب الإحياء، يقولون: إن الإحياء من خير كتبه. وإن كان فيه شيء من البدع، فـ(إحياء علوم الدين) من أحكم كتبه، ولكنه لم يكن من المحدِّثين، فحشد فيه أحاديث موضوعة لا أصل لها، وإن كان جاء فيه بأفكار وبفوائد مهمة، وهو كان في أول أمره مشتغلاً بعلم الكلام ومشتغلاً بالجدل ومشتغلاً بعلم الفكر وما أشبه ذلك، ولأجل ذلك قدم في أول كتابه (المستصفى) مقدمة في المنطق، وفي آخر حياته ندم على أنه أضاع حياته في شيء لا فائدة فيه، فأقبل على الحديث وجعل يقرؤه فوافاه الأجل و(البخاري) على صدره، كأنه يقول: ندمتُ على إعراضي عن كتب الحديث فأنا الآن أشتغل بها في آخر حياتي. ولعله خُتم له بخاتمة حسنة.

    رابعهم: أبو عبد الله الرازي صاحب التفسير الكبير الذي هو أكبر التفاسير الموجودة لهذا العالم الكبير أبي عبد الله ، ويسمى ( فخر الدين الرازي )، وصنف كتاباً له وسماه: (أقسام اللذات) وجاء فيه بهذه الأبيات، وكأنه ينتقد أكثر عمله، فحياته ذهبت في شيء لا فائدة فيه من علم الجدل.

    رُوي أنه مرةً كان يمشي في طريق وخلفه تلاميذ له أكثر من مائة أو مائتين، فمروا على عجوز فاستغربته وقالت: من هذا؟

    قالوا: هذا أبو عبد الله الرازي العالم الجليل يحفظ ألف دليل على وجود الله تعالى.

    قالت العجوز: أفي الله شك. عجوز على فطرتها تقول: هذا الذي حرص على جمع هذه الأدلة في قلبه شك، وفي قلبه توقف، فلا يحرص على تتبعها إلا من هو في حيرة أو في شك، فهو يقول في الأبيات التي سبق ذكرها:

    نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال

    فـ(إقدامهم): تقدمهم. يعني: نهايته هذا الأمر.

    وسعيهم يعني: عملهم، أكثره ضلال.

    ثم يقول في أثنائها:

    ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

    أي: ما استفدنا من جمعنا ومن تأليفاتنا إلا قال فلان، وقيل كذا، وقالوا كذا، فهذه فائدتنا.

    ثم يقول بعد هذه الأبيات: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية. يعني: طرق أهل الكلام ومناهج الفلاسفة.

    يقول عنها: فما تروي غليلاً -الغليل: الظمآن- ولا تشفي عليلاً يعني: مريضاً.

    ثم يقول: ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10].

    وأقرأ في النفي: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:110]، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.

    فهذا كلامه في هذا الكتاب (أقسام اللذات)، أليس ذلك دليلاً على أنه اعترف على نفسه وعلى بني جنسه أن سعيهم ضلال وأنهم في حيرة وأن عملهم تافه؟!

    إذاً نقول: هذه نهايتهم، أما أهل العقيدة الراسخة التي هي معرفة الله بصفاته وتفويض كيفيتها فهؤلاء -والحمد لله- لم يقعوا في شيء من هذا التزلزل.

    قصص أخرى عن أهل الكلام

    قال رحمه الله تعالى: [وكذلك قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني : إنه لم يَرِد عن الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، حيث قال:

    لَعَمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم

    فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم

    وكذلك قال أبو المعالي الجويني -رحمه الله-: يا أصحابنا! لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفتُ أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به.

    وقال عند موته: لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لـابن الجويني ، وهأنذا أموت على عقيدة أمي أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور.

    وكذلك قال شمس الدين الخسروشاهي -وكان من أجل تلامذة فخر الدين الرازي - لبعض الفضلاء وقد دخل عليه يوماً فقال: ما تعتقد؟

    قال: ما يعتقده المسلمون.

    فقال: وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به -أو كما قال-؟

    فقال: نعم.

    فقال : اشكر الله على هذه النعمة، لكني والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، وبكى حتى أخضل لحيته.

    ولـابن أبي الحديد الفاضل المشهور بالعراق:

    فيك يا أغلوطة الفكر حار أمري وانقضى عمري

    سافرَت فيك العقول فما ربحت إلا أذى السفر

    فلَحَى الله الأُلى زعموا أنك المعروف بالنظر

    كذبوا إن الذي ذكروا خارج عن قوة البشر

    وقال الخونجي عند موته: ما عرفت مما حصلته شيئاً سوى أن الممكن يفتقر إلى المرجِّح ثم قال : الافتقار وصف سلبي، أموت وما عرفت شيئاً.

    وقال آخر: أضطجع على فراشي وأضع الملحفة على وجهي وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ولم يترجح عندي منها شيء.

    ومن يصل إلى مثل هذه الحال إن لم يتداركه الله برحمته وإلا تزندق، كما قال أبو يوسف -رحمه الله-: من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب.

    وقال الشافعي رحمه الله تعالى: حكمي في أهل الكلام أن يُضرَبوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام. وقال: لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلماً يقوله، ولَأَن يُبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه -ما خلا الشرك بالله- خير له من أن يبتلى بالكلام . انتهى

    وتجد أحد هؤلاء عند الموت يرجع إلى مذهب العجائز، فيقر بما أقروا به، ويعرض عن تلك الدقائق المخالفة لذلك التي كان يقطع بها ثم تبين له فسادها أو لم يتبين له صحتها، فيكونون في نهاياتهم -إذا سلموا من العذاب- بمنزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب.

    والدواء النافع لمثل هذا المرض ما كان طبيب القلوب صلوات الله عليه وسلامه يقوله إذا قام من الليل يفتتح صلاته: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون! اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) خرَّجه مسلم .

    توسل صلى الله عليه وسلم إلى ربه بربوبيته جبريل وميكائيل وإسرافيل أن يهديه لما اختُلِف فيه من الحق بإذنه؛ إذ حياة القلب بالهداية، وقد وكل الله سبحانه هؤلاء الثلاثة بالحياة، فجبريل موكل بالوحي الذي هو سبب حياة القلوب، وميكائيل بالقطر الذي هو سبب حياة الأبدان وسائر الحيوان، وإسرافيل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم وعود الأرواح إلى أجسادها، فالتوسل إلى الله سبحانه بربوبيته هذه الأرواح العظيمة المُوْكَلة بالحياة له تأثير عظيم في حصول المطلوب، والله المستعان].

    ذكر أولاً بقية كلام هؤلاء الذين عُرف عنهم الحيرة، منهم الشهرستاني صاحب الملل والنحل.

    ومنهم: الجويني صاحب (الإرشاد)، ويسمى ( إمام الحرمين ) له أيضاً مؤلفات، وكلامه في (الإرشاد) دليل على أنه متوغل في علم الكلام، وعرفنا ما تكلم به هنا.

    ومنهم هذا العالم المشهور الذي يسمى: ( الخسروشاهي ) الذي يحلف -كما ذكر الشارح- أنه لا يدري ما يعتقد، ويغبط العامة بعقيدتهم.

    هذه الكلمات المنقولة عنهم وكذلك عن غيرهم لا شك أنها دليل واضح على أن هذا النوع من علم الكلام نهايته الحيرة وأنهم لا يثبتون على طريقة، بل حجج هؤلاء ترد حجج هؤلاء.

    ذكر أحدهم -كما سبق- أنه يبيت الليلة من أولها إلى آخرها وهو يقابل حجة هؤلاء بحجة هؤلاء، ويصبح وما ترجح عنده منها واحدة، أي فائدة من العلم بها؟! وأي فائدة من معرفتها؟!

    إذاً أسلم الطرق البُعد عن هذه الطريقة التي هي علم الكلام، وهجر أهله والبُعد عنهم، بل عقوبتهم بما قال الشافعي رحمه الله.

    علاج القلوب عند الاختلاف

    والعلاج مثل ما في هذا الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في توسله بالله رب الموكلين من الملائكة بالحياة: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون! اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).

    كأنك ترغب إلى الله وتقول: اختلفوا فهؤلاء يقولون، وهؤلاء يقولون، وأنا لا أدري مع من الحق، فإذا هديتني ووفقتني ودللتني على الصواب فإنني أنا المهتدي، وأنت الذي تهدي من تشاء وتضل من تشاء.

    إذا رغب العبد وتوسل بربوبيته تعالى هؤلاء الملائكة فإن الله تعالى يقبل دعاءه ويجيبه لما طلب، ويصرفه عن المحظورات وعن أضرارها وشرورها.

    لزوم الإيمان برؤية الله تعالى دون توهم أو تأويل

    قال المؤلف رحمه الله تعالى [قوله: (ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأوَّلها بفهم؛ إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية ترك التأويل ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين، ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه).

    يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على المعتزلة ومن يقول بقولهم في نفي الرؤية، وعلى من يشبه الله بشيء من مخلوقاته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر) الحديث، أدخل (كاف التشبيه) على (ما) المصدرية أو الموصولة بـ(ترون) التي تؤول مع صلتها إلى المصدر الذي هو الرؤية، فيكون التشبيه في الرؤية لا في المرئي، وهذا بيِّن واضح في أن المراد إثبات الرؤية وتحقيقها ودفع الاحتمالات عنها، وماذا بعد هذا البيان وهذا الإيضاح؟!

    فإذا سلط التأويل على مثل هذا النص كيف يُستدل بنص من النصوص؟! وهل يحتمل هذا النص أن يكون معناه: إنكم تعلمون ربكم كما تعلمون القمر ليلة البدر؟! ويستشهد لهذا التأويل الفاسد بقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1]، ونحو ذلك مما استعمل فيه (رأى) التي من أفعال القلوب، ولا شك أن (ترى) تارةً تكون بصرية وتارةً قلبية وتارة تكون من رؤيا الحلم وغير ذلك، ولكن ما يخلو الكلام من قرينة تخلِّص أحد معانيه من الباقي وإلا لو أخلى المتكلمُ كلامَه من القرينة المخلِّصة لأحد المعاني لكان مجمَلاً مُلْغَزاً لا مبيَّناً موضَّحاً، وأي بيان وقرينة فوق قوله: (ترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب)؟!

    فهل مثل هذا مما يتعلق برؤية البصر أو برؤية القلب؟!

    وهل يخفى مثل هذا إلا على من أعمى الله قلبه؟!

    فإن قالوا: ألجأَنا إلى هذا التأويل حكمُ العقل بأن رؤيته تعالى مُحال لا يُتصور إمكانها، فالجواب أن هذه دعوى منكم، خالفكم فيها أكثر العقلاء، وليس في العقل ما يحيلها، بل لو عُرض على العقل موجودٌ قائم بنفسه لا يمكن رؤيته لحُكم بأن هذا محال

    وقوله: (لمن اعتبرها منهم بوهم) أي: توهم أن الله تعالى يرى على صفة كذا فيتوهم تشبيهاً، ثم بعد هذا التوهم إن أثبت ما توهمه من الوصف فهو مشبِّه، وإن نفى الرؤية من أصلها لأجل ذلك التوهم فهو جاحد معطِّل، بل الواجب دفع ذلك الوهم وحده، ولا يعم بنفيه الحق والباطل، فينفيهما رداً على من أثبت الباطل، بل الواجب رد الباطل وإثبات الحق].

    دلالة ألفاظ الكتاب توجب الإيمان بما دلت عليه

    الواجب علينا أن نقبل الصفة التي جاءتنا على ظاهرها، سيما إذا كانت صريحة بعيدة عن التوهمات، وأن نحملها على المحمل الذي يمكن أن تتحمله، وأن ننزه كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن الاحتمالات البعيدة التي فيها شيء من التكلف، وفيها صرف للفظ عن متبادرٍ منه وعما يفهمه المخاطَب لأول وهلة.

    وذلك أن كلام الله تعالى أفصح الكلام وأوضحه وأجلاه معنىً، وأقرب إلى أن يُفهم، ولا يحتاج إلى إيضاح زائد، وليس ككلام أهل الألغاز وأهل الإشارات القوية، وهكذا أيضاً كلام نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه أفصح الخلق وأنصحهم، وإذا كان فصيحاً فلا بد أنه سيتكلم بما يعرفه ويفهمه المخاطَبون، وكذلك إذا كان أنصح الخلق وأحبهم لمعرفة الأمة وأحبهم لمنجاتها وأحبهم لإبعادها عن الأشياء الوهمية.

    فإذا كان كذلك فلا بد أنه يوضح لهم ولا يسوق لهم الكلام ملتبساً، ولا يتكلم بالكلام المُبهِم، حاشاه أن يتكلم بكلام يُفهم منه غير الذي أراد، والصحابة رضي الله عنهم تقبلوا كلامه وحملوه على ما هو عليه دون أن يسألوه ويناقشوه، ودون أن يفسروا كلامه بما لا يحتمله، حتى جاء الخلف المتأخرون الذين هم كما قال في قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ [الأعراف:169]، يعني أنهم قاموا مقامهم في وراثة الكتاب، ولكنهم لم يعملوا به، فهؤلاء الخلف الذين جاءوا بعد السلف هم الذين عملوا هذه الأعمال، وهي التأويلات البعيدة، التي تكلفوا فيها وصرفوها عما هو مقصود بها.

    فقد تقدم قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، والوجوه معروف أنها محل العيون، فالعينان مركبتان في الوجه، فإذا كان الوجه مقابلاً فإن العين تنظر.

    فالله قال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22]، وقال تعالى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ [القيامة:24]، وفي سورة أخرى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ [الغاشية:2]، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ [الغاشية:8].

    فجعل الوجوه علامة على الشقاء أو السعادة، كما في آية أخرى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، فالوجه هو الذي تكون فيه علامة الإشراق والسعادة، أو علامة الاسوداد والشقاوة.

    فإذاً قال الله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، وأيُّ كلام أفصح من هذا الذي يُفهم منه أن الوجوه تنظر إلى ربها؟!

    ثم جاء هؤلاء الخلف وسلطوا التأويل عليه وقالوا: إن المراد بالنظر هنا الانتظار، أو المراد نظر الثواب لا نظر الرب تعالى، فقالوا: (إلى ربها) يعني: إلى ثواب ربها. وما الدليل على هذا المقدر؟ وهل في الكلام محذوف؟ إن الله تعالى أعلى من أن يوهِم في كلامه أو يجعلَه خفياً ليس بجلي، فكيف يقال: ناظرة إلى ثواب الله أو إلى آلائه أو إلى نعمه؟!

    وضوح كلام النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات

    وإذا عرفنا ذلك فإن كلام النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً فصيح، بعثه الله باللغة الفصحى، وهو أفصح من نطق بالضاد وأفصح العرب، وكلامه أيضاً في غاية الوضوح وفي غاية الفصاحة وفي غاية البيان.

    فمثلاً: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جرير : (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر -أو كما ترون هذا القمر- لا تضامون في رؤيته).

    ويقول في حديث آخر: (هل تضارُّون في رؤية القمر ليلة البدر؟! هل تضارُّون في رؤية الشمس صحواً ليس دونها سحاب؟! فإنكم ترونه كذلك)، أليس هذا واضحاً في أن المراد النظر والمعاينة بالعين؟

    فجاء الخلف وسلطوا عليه التأويل وقالوا: المراد ألم تعلم، فالمراد العلم، فقوله: (فإنكم سترون ربكم) يعني: ستعلمون ربكم.

    هم يعلمونه في الدنيا، فكيف قالوا ستعلمون، وكأنهم ما علموا؟! إذ (السين) للاستقبال، ولو كان هذا مراده لقالوا: نحن نعلم ربنا، ونحن نعلم أنه ربنا. ولكنه قال: (سترون ربكم) يعني: يوم القيامة في الآخرة وفي الجنة.

    ثم لماذا قال: (كما ترون القمر)؟! هل هم كانوا يرون القمر في تلك الساعة؟! وإذا كانوا يرونه هل يشكون في أن هذا هو القمر؟!

    وكيف يقاس على قوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ [الفيل:1] يعني: ألم تعلم؟!

    أو: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً [إبراهيم:24] يعني: ألم تعلم؟!

    وكذلك قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا [المجادلة:8]؟

    وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ [المجادلة:7]؟!

    وقوله تعالى: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا [الحشر:11]؟!

    فالمراد هنا الرؤية العلمية، يعني: ألم ترَ بقلبك؟!

    فلا مناسبة بين هذه وبين قوله: (سترون ربكم)، فهنا دخلت السين، يعني أنه في المستقبل، وهنا أكد بقوله: (كما ترون القمر ليلة البدر) ، (كما ترون هذا القمر لا تضامون) أي: لا تشكون في رؤيته. وبينهما فرق، فعرف بذلك أن هذه تأويلات بعيدة لا يحتاج إليها ولا يصدقها عاقل.

    بعد تأويل أهل الكلام

    وأما قولهم: حملنا على ذلك أن الرؤية لله فيها تشبيه، فإذا قلنا إنه يُرى فإنه يكون مشابهاً لخلقه -تعالى الله عن قولهم- فالجواب: ما الذي أشعركم؟ فلو رأوه كلهم هل يلزم أن يكون مشابهاً لخلقه؟!

    حاشا وكلا؛ فالله سبحانه ليس كمثله شيء، ولا يلزم إذا رأوه أن يكون مماثلاً لشيء من مخلوقاته، بل هو كما يشاء، وقد أكد النبي عليه الصلاة والسلام هذه الرؤية وأخبر بأنها من أعلى نعيم أهل الجنة وأنها غاية مقصدهم ومرامهم، حتى يقول بعضهم:

    ولو أني استطعتُ غضضتُ طرفي فلم أنظر به حتى أراكا

    فعلى كل حال لا يُغتر ولا يُلتفت إلى تلك التأويلات، والمؤمن يتقبل هذه النصوص ثم يعرف الفائدة، والفائدة رسوخ عقيدته في قلبه وأنه مؤمن بالله وبما جاء عن الله، ويقينه أو تصديقه بأن المؤمنين يرون ربهم في دار كرامته، وبأن المؤمنين يتنعمون ويلتذون بهذه الرؤية، وأنها من جملة نعيمهم، وقبوله للأدلة التي دلت على ذلك وعدم تسليطه للتأويلات، وإعراضه عن تأويلات المتكلمين وعدم الإصغاء إلى أقوالهم، وإعراضه عن الأدلة العقلية التي ولَّدوها والتي زعموا أنها براهين وهي في الحقيقة شبهات وضلالات.

    البعد عن التأويل سبب للسلامة

    قال رحمه الله تعالى: [وإلى هذا المعنى أشار الشيخ رحمه الله تعالى بقوله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه)، فإن هؤلاء المعتزلة يزعمون أنهم ينزهون الله بهذا النفي، وهل يكون التنزيه بنفي صفة الكمال؟! فإن نفي الرؤية ليس بصفة كمال؛ إذ المعدوم لا يُرى، وإنما الكمال في إثبات الرؤية ونفي إدراك الرائي له إدراكَ إحاطة كما في العلم؛ فإن نفي العلم به ليس بكمال، وإنما الكمال في إثبات العلم ونفي الإحاطة به علماً، فهو سبحانه لا يحاط به رؤيةً كما لا يحاط به علماً

    وقوله : (أو تأولها بفهم) أي: ادعى أنه فهم لها تأويلاً يخالف ظاهرها وما يفهمه كل عربي من معناها. فإنه قد صار اصطلاح المتأخرين في معنى التأويل أنه (صرف اللفظ عن ظاهره)، وبهذا تسلط المحرفون على النصوص وقالوا: نحن نؤوِّل ما يخالف قولنا فسموا التحريف تأويلاً تزييناً له وزخرفةً ليُقبل.

    وقد ذم الله الذين زخرفوا الباطل، قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:112]، والعبرة للمعاني لا للألفاظ، فكم من باطل قد أقيم عليه دليل مزخرف عورض به دليل الحق، وكلامه هنا نظير قوله فيما تقدم: (لا ندخل في ذلك متأوِّلين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا).

    ثم أكد هذا المعنى بقوله: (إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية ترك التأويل ولزوم التسليم وعليه دين المسلمين)، ومراده ترك التأويل الذي يسمونه تأويلاً وهو تحريف، ولكن الشيخ رحمه الله تعالى تأدب وجادل بالتي هي أحسن، كما أمر الله تعالى بقوله: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، وليس مراده ترك كل ما يسمى تأويلاً، ولا ترك شيء من الظواهر لبعض الناس بدليل راجح من الكتاب والسنة، وإنما مراده ترك التأويلات الفاسدة المبتدعة المخالفة لمذهب السلف، التي يدل الكتاب والسنة على فسادها، وترك القول على الله بلا علم.

    فمن التأويلات الفاسدة تأويل أدلة الرؤية وأدلة العلو، وأنه لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً].

    نعرف أن هؤلاء المعتزلة ونحوهم هم الذين توسعوا في هذا المجال وحملوا غيرهم على أن يتوسعوا، ولم يكن السلف رحمهم الله يتوسعون في هذا الكلام، بل يقبلونه على ما هو عليه، ولا ينقبون ولا يبحثون عن شيء من الإيرادات التي يوردها عليهم أهل التشبيه، فكان كلام السلف رحمهم الله قليلاً ولكن معناه كثير، وكانوا يقبلون النصوص ويعرفون معناها ويفهمونه ويعلمون ما قُصد منها، فيقرءون -مثلاً- الآيات التي في الصفات ويعلمون أنها صفات ثابتة، ولكن يعلمون أنها تخالف صفات المخلوق؛ لأن الله ليس كمثله شيء، ويعلمون أن من تلك الصفات صفة العلم وصفة الرؤية، وأنها حقيقية، ولكنها ليست كصفات المخلوقين في رؤيةِ بعضهم لبعض أو علمِ بعضهم ببعض، ويعلمون أن الله تعالى ما نفى عن نفسه إلا النقائص، فكل شيء فيه نقص فإنه قد نفاه.

    فمثلاً: يقول تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] أي: لا يماثله شيء. لأن المخلوق يأتي عليه الفناء والله ليس كذلك.

    ويقول تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65] أي: لا أحد يستحق أن يسمى (الله) أو (الإله) أو نحو ذلك، وذلك لنقص المخلوقات التي تسمى بذلك.

    وقال تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] نفى ذلك عن نفسه لأنه نقص، فالنوم أخو الموت.

    وقد نفى الموت أيضاً عن نفسه فقال: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58]، فالموت نقص فنفاه عن نفسه.

    ونفى أيضاً عن نفسه عزوب شيء أو نسيانه فقال: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ [يونس:61] فقوله تعالى: وَمَا يَعْزُبُ [يونس:61] يعني: ما يغيب عنه وما ينسى شيئاً؛ وذلك لأن النسيان نقص فنفاه عن نفسه.

    ونفى عن نفسه اللغوب فقال: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38] و(اللغوب): التعب والسآمة والنصب، وذلك أيضاً نقص.

    فكل النقائص نزه الله نفسه عنها، وذلك لما يرد عليها من التغيير.

    رؤية الله تعالى كمال له عز وجل

    ولم ينفِ عن نفسه الرؤية ولو كان نقصاً لنفى ذلك عن نفسه، وذلك لأن الرؤية كمال، فكونه يُرى صفة كمال، وعدمها صفة نقص، وذلك لأن المعدوم لا يُرى، فالذي لا يُرى معدوم، والمعدوم ليس بشيء، والذي ليس بشيء هو كاسمه ليس بشيء، فأثبت الله تعالى أنه يُرى، ولكن نفى عن نفسه إحاطة الأبصار به في قوله: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] يعني: إذا رأته فإنها لا تحيط به، فترى ما يبدو وما يتجلى منه ولا تحيط به، وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام:103]، وقد تقدم أن الرؤية غير الإدراك، فالله ما نفى إلا الإدراك، والإدراك هو الإحاطة.

    وقد تقدم أن ابن عباس قيل له: أرأيت قول الله: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103]؟!

    فقال للسائل: ألستَ ترى القمر؟

    قال: بلى.

    قال: أكُلَّه؟

    قال: لا.

    قال: كذلك الإدراك.

    نحن نرى السماء، ولكن لا ندركها ولا ندري ما ماهيتها، ونحن نرى هذه الشمس وهذا القمر، ولكن لا ندرك ماهيته ولا من أي شيء هو، ونحن نرى هذا السحاب وهذه النجوم، ولكن تضعُف أبصارنا أن تحيط بها، وعن أن تعلم ماهيتها.

    فإذاً الرؤية شيء غير الإدراك، فالإدراك زائد على الرؤية.

    فمن تعظيم الله تعالى أنه يُرى ولا يُدرك.

    كذلك من تعظيم الله تعالى أن يُعلم ولا يُحاط به، قال تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255].

    وقال تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:110] أي: لا يعلمون إلا ما أعلمَهم، وذلك لنقص المخلوقين وعظمة الخالق سبحانه وتعالى، فهم مهما علموا لا يعلمون تفاصيل ذات الله تعالى ولا ما هو عليه إلا ما أطلعهم عليه، فهذا هو بيان الفرق بين ما يقوله هؤلاء وما يقوله أهل السنة.

    الواجب على أهل التأويل

    أما كونهم سلطوا على ذلك التأويل فقالوا -مثلاً- إن الرؤية تدل على إثبات تشبيه أو نحو ذلك فنحن نقول: لا حاجة لنا إلى تأويلكم، ولا حاجة بنا إلى هذا التأويل، بل انفوا عنها التشبيه وتَسلَمون.

    والتأويل اصطلحوا على أنه (صرف اللفظ عن ظاهره)، فقالوا -مثلاً-: ظاهر قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88] أن لله وجهاً، ولكن نصرفه فنقول: الوجه الذات، فنقول: كل شيء هالك إلا ذاته، فهذا أيضاً تأويل.

    ويقولون: ظاهر قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64] أن لله يدين، وفي إثباتهما تشبيه، فنحن نفر من التشبيه، فلأجل ذلك نسلط عليهما التأويل، فنقول: المراد باليدين النعمة. أو: المراد باليدين القدرة وهذا بعيد، فالله تعالى قال: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) يعني: مبسوطتان بالعطاء، وقد أكد ذلك النبي عليه الصلاة والسلام، بقوله: (يمين الله ملأى، لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟! فإنه لم يغِض ما في يمينه، وبيده الأخرى القسط يخفظ ويرفع)، وقد أثبت الله تعالى لنفسه اليمين بقوله تعالى: وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، فكيف تقولون: اليد القدرة؟! هذا من التأويل البعيد.

    وهكذا قولهم: إن كلام الله المعنى لا اللفظ. هذا أيضاً من التأويل.

    وهكذا قولهم: إن رحمة الله إرادة الإحسان. أو: غضبه إرادة الانتقام.

    كل ذلك يسمونه تأويلاً، فأهل السنة لا يدخلون في باب التأويل.

    والواجب عليهم أن يقتصروا على نفي التشبيه، وهذا معنى قول الطحاوي رحمه الله تعالى: (من لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه).

    وكان كثير من السلف إذا رأوا الإنسان يبالغ في النفي فيقول: ليس لله كذا وليس لله كذا اتهموه بأنه جهمي؛ لأن الذين يبالغون في النفي، فإنهم أقرب إلى أن يكونوا مشبِّهة من غيرهم، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بعض كتبه أن هؤلاء مشبِّهة، ولو ادعوا أنهم يهربون من التشبيه.

    وذلك أنه ارتسم في قلوبهم أن تلك الصفات دالة على التشبيه، فما فهموا من النصوص إلا التشبيه، فهذا أولاً.

    ثانياً: أنهم لما نفوا الصفات نفياً كلياً وقعوا في تشبيه آخر وهو التشبيه بالجمادات أو التشبيه بالمعدومات أو التشبيه بالمستحيلات، فأصبحوا بذلك مشبِّهين، مع أنهم يقولون: نهرب من التشبيه، فقيل لهم: أنتم مشبهة.

    فعلى كل حال: تأويلاتهم التي يتأولون بها النصوص يردها كل ذي عقل سليم.

    معاني التأويل

    قال رحمه الله تعالى: [وقد صار لفظ التأويل مستعملاً في غير معناه الأصلي، فالتأويل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو الحقيقة التي يئول إليها الكلام.

    فتأويل الخبر هو عين المخبَر به، وتأويل الأمر نفس الفعل المأمور به، كما قالت عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم! اغفر لي، يتأول القرآن).

    وقال تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:53].

    ومنه تأويل الرؤيا وتأويل العمل كقوله: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف:100]، وقوله: وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ [يوسف:6]، وقوله: ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]، وقوله: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الكهف:78] إلى قوله: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الكهف:82].

    فمن ينكر وقوع مثل هذا التأويل والعلم بما تعلق بالأمر والنهي منه؟!

    وأما ما كان خبراً كالإخبار عن الله واليوم الآخر فهذا قد لا يُعلم تأويلُه الذي هو حقيقته؛ إذ كانت لا تُعلم بمجرد الإخبار؛ فإن المخبَر إن لم يكن قد تصور المخبَر به أو ما يعرفه قبل ذلك لم يعرف حقيقته -التي هي تأويله- بمجرد الإخبار.

    وهذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، لكن لا يلزم من نفي العلم بالتأويل نفي العلم بالمعنى الذي قَصَد المخاطِب إفهام المخاطَب إياه، فما في القرآن آية إلا وقد أمر الله بتدبرها، وما أنزل آية إلا وهو يحب أن يُعلم ما عنى بها، وإن كان من تأويله ما لا يعلمه إلا الله.

    فهذا معنى التأويل في الكتاب والسنة وكلام السلف، وسواء كان هذا التأويل موافقاً للظاهر أو مخالفاً له.

    والتأويل في كلام كثير من المفسرين كـابن جرير ونحوه يريدون به تفسير الكلام وبيان معناه سواءً وافق ظاهره أو خالفه، وهذا اصطلاح معروف، وهذا التأويل كالتفسير يُحمد حقُّه ويُرَد باطلُه.

    وقوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7] فيها قراءتان:

    قراءة من يقف على قوله: (إلا الله)، وقراءة من لا يقف عندها، وكلتا القراءتين حق.

    ويراد بالأولى: المتشابه في نفسه الذي استأثر الله بعلم تأويله.

    ويراد بالثانية: المتشابه الإضافي الذي يعرف الراسخون تفسيره، وهو تأويله.

    ولا يريد من وقف على قوله: (إلا الله) أن يكون التأويل بمعنى التفسير للمعنى؛ فإن لازم هذا أن يكون الله أنزل على رسوله كلاماً لا يعلم معناه جميعُ الأمة ولا الرسول، ويكون الراسخون في العلم لا حظَّ لهم في معرفة معناها سوى قولهم: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7].

    وهذا القدر يقوله غير الراسخ في العلم من المؤمنين، والراسخون في العلم يجب امتيازهم على عوام المؤمنين في ذلك، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله. ولقد صدق رضي الله عنه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له وقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) رواه البخاري وغيره.

    ودعاؤه صلى الله عليه وسلم لا يرد.

    قال مجاهد : عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره أقِفُه عند كل آية وأسأله عنها.

    وقد تواترت النقول عنه أنه تكلم في جميع معاني القرآن، ولم يقل عن آية: إنها من المتشابه الذي لا يعلم أحد تأويله إلا الله]

    ذكر أن المبتدعة من المعتزلة ونحوهم يستعملون كلمة التأويل بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره، كما ذكرنا قريباً.

    كقولهم في اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]: استولى عليه، فهذا صرف اللفظ عن ظاهره.

    وقولهم في أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] أي: في السماء علمه، أو: في السماء ملائكته، فهذا صرف للفظ عن ظاهره.

    وقولهم: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج:4] أي: تصعد إلى ملائكته أو إلى علمه أو نحو ذلك.

    ولا شك أن هذا تأويل باطل ما أنزل الله عليه دلالة ولا أوضحه ولا أمر به، فهذا هو التأويل الذي هو مذموم، والذي يذمه السلف ويقولون: لا تتأولوا، أو لا تستمعوا إلى هذا التأويل ويراد به صرف اللفظ عن ظاهره، مع أن كلمة التأويل تأتي بمعنى التفسير، وكان ابن جرير رحمه الله في تفسيره يقول: (القول في تأويل قوله تعالى)، ومراده: في تفسير الآية ويقول: (اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك)، ويقول: (وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل) والمراد: أهل التفسير.

    أما في لغة القرآن فقد وردت كلمة (التأويل)، وكذلك في لغة الصحابة، والمراد بها حقيقة الشيء وماهيته وما يئول إليه، وذلك مثل قوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف:53] فالمراد: حقيقته، أي: هل ينتظرون إلا أن يقع الأمر الذي أُخْبِروا به؟! وتأويله يعني وقوع ما فيه، فمثلاً: تأويل قوله تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ [الأعراف:44] وقوع المناداة، من كون هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار وهؤلاء ينادون هؤلاء، إذا وقع ذلك فهذا هو التأويل، أي: وقوعه.

    فيقال مثلاً: هذا تأويل الآية التي أخبرنا بها، أي: حقيقة ما وقع.

    وكذلك مرجع الشيء يسمى تأويلاً، ومنه قوله تعالى: ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59] يعني: أحسن حقيقةً وأحسن مظهراً ومرجِعاً.

    ومنه أيضاً تأويل الرؤيا، كما حكى الله عن يوسف أنه قال: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4]، ثم بعد أن جاء إخوتُه وأبواه ودخلوا عليه قال تعالى عنه: وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف:99-100] يعني: هذه حقيقتها، فقد وقع ما تُؤَوَّلُ به.

    ولما دخل اثنان معه السجن قالا كما حكى الله تعالى عنهما: قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [يوسف:36] أي: بحقيقته وما يئول إليه وما يقع.

    وفي نفس السورة يقول الله تعالى: وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ [يوسف:6] يعني: حقائقها وما تئول إليه، يعني: ترجع إليه.

    فالتأويل الذي في قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] المراد: ابتغاء معرفة وقوعه وكيفيته تصوُّره، وذلك غيب ولا يعلمه إلا الله، فإذا وقع علموه، ولا يقع إلا في يوم القيامة، فمثلاً: آيات الوزن كقوله تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ [الأعراف:8]، وقوله: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [القارعة:6]، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ [القارعة:8] قد يقولون: نريد تأويل هذا الميزان، وما مقداره؟ وما سعة الكفة؟ وكيف تميل؟ وكيف تَخِفُّ بهذا وتَثْقُل بهذا؟ فهذا تأويله لا يعلمه إلا الله، فنحن لا نعلم حقيقة ذلك الوزن، ولا نعلم كيف تكون الأعمال أعراضاً حتى توزن، فإنما يظهر إذا بدت.

    فإذا ظهرت الموازين ووزنت فيها الأعمال فعند ذلك نقول: هذا تأويل قوله تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ [الأعراف:8]، هذا تأويل قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47]، هذا تأويله، أي: هذا هو حقيقته.

    وإذا تطايرت الصحف في الأيمان والشمائل نقول: هذا تأويل قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [الحاقة:19]، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ [الحاقة:25]أي: وقع ذلك فقبل ذلك لا ندري ما هو الكتاب، وكيف يكون الكتاب الذي هو كتاب كبير يحصي الأعمال كلها، كما في قوله تعالى: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49]، وكما في قوله: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14]، وكيف يقبض ذلك الكتاب باليد.

    فهذا ما لا يعلمه إلا الله، فإذا وقع وأخذت الكتب بالأيمان والشمائل فعند ذلك نقول: هذا تأويل تلك الآيات التي أخبر الله فيها بأنه سيقع كذا، وأن صورته وكيفيته كذا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756014130