إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [13]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من عقائد أهل السنة والجماعة اعتقادهم أن الله تعالى قدر الأقدار وضرب الآجال، فكل ما يجري في الكون من خلق وإحياء وإماتة وأعمال العباد؛ كل ذلك بتقديره وبعلمه، ولم يخالف في ذلك إلا من أعمى الله بصيرته عن الهدى، فلم يوفق للتسليم بما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    الكلام على الدعاء فيما سبق به القدر

    الكلام على آية: (وما يعمر من معمر)

    قال المؤلف رحمه الله تعالى:

    [واعلم أن الدعاء يكون مشروعا نافعاً في بعض الأشياء دون بعض، وكذلك هو، ولهذا لا يجيب الله المعتدين في الدعاء، وكان الإمام أحمد رحمه الله يكره أن يدعى له بطول العمر، ويقول: هذا أمر قد فرغ منه.

    وأما قوله تعالى: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ [فاطر:11] فقد قيل في الضمير المذكور في قوله تعالى: (مِنْ عُمُرِهِ) إنه بمنزلة قولهم: عندي درهم ونصفه، أي: ونصف درهم آخر فيكون المعنى: ولا ينقص من عمر معمر آخر، وقيل: الزيادة والنقصان في الصحف التي في أيدي الملائكة.

    وحمل قوله تعالى: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:38-39]، على أن المحو والإثبات من الصحف التي في أيدي الملائكة.

    وأن قوله: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] اللوح المحفوظ، ويدل على هذا الوجه سياق الآية، وهو قوله: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ [الرعد:38]، ثم قال: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ [الرعد:39] أي: من ذلك الكتاب وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] أي: أصله وهو اللوح المحفوظ.

    وقيل: يمحو الله ما يشاء من الشرائع وينسخه ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، والسياق أدل على هذا الوجه من الوجه الأول، وهو قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ [الرعد:38]، فأخبر تعالى أن الرسول لا يأتي بالآيات من قبل نفسه بل من عند الله، ثم قال: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ [الرعد:38-39] أي: أن الشرائع لها أجل وغاية تنتهي إليها ثم تنسخ بالشريعة الأخرى، فينسخ الله ما يشاء من الشرائع عند انقضاء الأجل ويثبت ما يشاء، وفي الآية أقوال أخرى، والله أعلم بالصواب].

    هذا يتعلق بعلم الله تعالى بالكائنات قبل وقوعها وبتحديدها وتقديرها، ومن ذلك أن الله تعالى حدد أجل كل إنسان وقدر عمره كما في هذه الآية، وهي قوله تعالى: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ [فاطر:11] أي: الذي يعمر فيطول عمره هذا مكتوب، والذي ينقص من عمره فيموت وهو صغير أو وهو شاب أو وهو كهل لم يبلغ سن الشيخوخة أو الكبر، فذلك أيضاً مكتوب عمره ومحدد، وهو معنى الآيات التي فيها ذكر الآجال، كقوله تعالى: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34] أي: ساعة، وكقوله تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون:11] أي: أجلها المحتوم المكتوب، فلا بد أن يكون موتها في الوقت الذي كتب الله.

    ولما قال المنافقون في غزوة أحد: لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168] -يعنون إخوانهم- قال الله: قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ [آل عمران:168] يعني: أنتم سوف تموتون فادفعوا الموت عن أنفسكم، وفي آية أخرى قال لهم: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154] يعني: الله تعالى قد كتب القتل على هؤلاء الذين قتلوا، فلو تحصنوا في بيوتهم لجعل الله لهم أسباباً يبرزون بها ويخرجون حتى يأتيهم الأجل الذي كتب عليهم ولا بد.

    وهذا من حيث العموم، فيعتقد المسلمون أن الله سبحانه قدر الآجال وحددها.

    سبق القدر لا ينافي جواز الدعاء بطول العمر ونحو ذلك

    واختلف في جواز الدعاء بطول العمر، كأن يقال: اللهم متعني بأولادي أو بأخي أو ما أشبه ذلك.

    وقد مر بنا الحديث الذي فيه إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أم حبيبة في قولها: (اللهم متعني بزوجي رسول الله وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية . فأنكر عليها وقال: لقد سألت الله لآجال مضروبة، وأعمار محدودة، وأرزاق مقسومة) وأخبرها أنها لو سألت الله تعالى أن يعيذها من عذاب النار وعذاب القبر لكان خيراً.

    وذكر الشارح هنا أن الإمام أحمد كان يكره أن يدعى له بطول العمر، وقد اختلف في جواز ذلك، ولكن الصحيح أن ذلك جائز إن شاء الله، كما يدعى للإنسان بالجنة وبالمغفرة وبالرزق وبالحياة الطيبة وما أشبه ذلك، وكما يدعو الإنسان أيضاً لنفسه بهذه الأشياء، وقد سبق أن بينا أدلة ذلك، وأن هذا لا ينافي كونها مقدرة؛ فإن القدر عام لكل شيء حتى للجنة والنار، والله تعالى قد علم أهل الجنة ومع ذلك هم مأمورون بسؤالها.

    فلا يقال: لا تسأل الجنة لأنك إن كنت مكتوباً من أهلها فإنك ستصير من أهلها، بل يقال: سل الله الجنة، وقد أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (تسألونه الجنة وتستعيذون به من النار)، وأقر ذلك الأعرابي الذي قال: (إنما أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار. فقال: حولها ندندن) يعني: أننا ندندن ونسأل ونكثر من السؤال في طلب الجنة والنجاة من النار.

    فإذا كان قد كتب على الإنسان مقعده من الجنة أو مقعده من النار، ولا ينافي ذلك أن يسأل الله الجنة؛ فكذلك قد كتب له رزقه الذي سوف يأتيه ولا ينافي ذلك أنه يطلبه ويعمل ويتكسب، وقد كتب له أيضاً ما سوف يكتسبه أو يحويه، ومع ذلك فهو مأمور بأن يسأل الله رزقاً واسعاً حلالاً، أو ما أشبه ذلك، ومأمور أيضاً بأن يسأل ربه حياة سعيدة وحياة طيبة ولو كان ذلك مكتوباً.

    والحاصل أن كتابة الأعمار، وكتابة الأرزاق والآجال، وكتابة السعادة والشقاوة، وكتابة كل شيء يأتي الإنسان؛ لا تنافي أن يسأل ولا تنافي أن يعمل.

    وهكذا أيضاً هو مأمور بالسؤال ومأمور بالعمل، ولكن مع كونه مكتوباً فقد يكون معلقاً على سبب، كأن يقول الله أو يكتب الله: إننا سنرزقه بسبب سؤاله، أو: نجعله من أهل الجنة بسبب كثرة إلحاحه بالدعاء، أو: نوسع عليه رزقه بسبب كثرة طلبه؛ فيكون هذا الدعاء سبباً أزلياً، فيقال: قد كتب الله أنه يسأل ويكون سؤاله من الأسباب التي يرزق بسببها ويسعد بسببها ويكتسب بسببها وما أشبه ذلك.

    وهذا كما يفعل في الأشياء الحسية، فإن الإنسان مأمور بأن يأكل وبأن يشرب وبأن يتزوج وبأن يكتسي وبأن يبني سكناً وما أشبه ذلك، وإن كان ذلك أيضاً مكتوباً له.

    فعلى كل حال كتابة الأشياء في الأزل وكتابة الأعمار في هذه الآية وغيرها لا تنافي أن يسأل الإنسان ربه وأن يدعوه، فالله تعالى قد أمر بدعائه، قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] وغير ذلك من الآيات، وكما أمر بالعمل فقال تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ [التوبة:105].

    1.   

    عموم علم الله بكل شيء ولو لم يكن

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: ( ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم ).

    يعلم سبحانه ما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف يكون، كما قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام:28]، وإن كان يعلم أنهم لا يردون، ولكن أخبر أنهم لو ردوا لعادوا، وكما قال تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:23]، وفي ذلك رد على الرافضة والقدرية الذين قالوا: إنه لا يعلم الشيء قبل أن يخلقه ويوجده، وهي من فروع مسألة القدر، وسيأتي لها زيادة بيان إن شاء الله تعالى].

    هذا من تمام الكلام على أن الله تعالى علم ما كان وما سوف يكون وعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، ولا شك أن علم الله تعالى واسع لما مضى ولما يأتي، فالأشياء التي لم تأت وهي سوف تأتي قد علمها سبحانه، بل قد كتبها، فعلم عدد المخلوقات وعلم أعمالهم ونحو ذلك.

    المحو والإثبات لما كتب

    وقد ذكر في الحديث الصحيح أن الله تعالى يكتب أو يأمر الملك أن يكتب أعمال الإنسان وهو في الرحم، يكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، وإن كانت هذه كتابة ثانية، مع أن ذلك مكتوب في أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ، وهذا لا تتغير الكتابة الموجودة فيه.

    وأما ما في أيدي الملائكة من الصحف فإن الله تعالى يمحو منها ما يشاء ويثبت، وهذا معنى الآية، وهي قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]، والمراد: بأم الكتاب اللوح المحفوظ، فاللوح المحفوظ لا يتغير شيء مما كتب فيه، وأما ما في الصحف التي مع الملائكة فإنهم يكتبون أعمال الإنسان وأقواله: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].

    وبما أنه قد يكون من تلك الأقوال ما لا ثواب فيه ولا عقاب، فيمكن أن هذا هو الذي يمحى، ويبقى ما فيه ثواب أو فيه عقاب، والجميع مكتوب في اللوح المحفوظ، وعلى كل حال فإن علم الله تعالى بالآجال وبالكائنات وبما سوف يحدث علم أزلي قديم.

    ذكر أول من أنكر علم الله وطريقة إفحامهم

    وقد أنكر ذلك بعض المبتدعة، وكان أول من أنكره من القدرية معبد الجهمي وغيلان القدري وعمرو بن عبيد القدري وواصل بن عطاء القدري ، وكل هؤلاء أدركوا زمن الصحابة أو آخر زمن الصحابة، ولكنهم -والعياذ بالله- تلقوا هذه البدع عن بعض النصارى أو نحوهم، فكان من عقيدتهم أن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وجودها، وأن الأمر أنف، أي: مستأنف.

    وسئل عنهم ابن عمر فأنكر عليهم إنكاراً شديداً، كما في الحديث الذي ذكره مسلم في أول صحيحه فقال: (إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم برآء مني، والذي نفس ابن عمر بيده لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره)، يعني: أن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطئه لم يكن ليصيبه.

    وعلى هذه العقيدة أيضاً الرافضة ونحوهم، وغالب الرافضة معتزلة، فهم جمعوا بين بدعة الرفض التي هي تكفير الصحابة، وبدعة الاعتزال التي هي إنكار صفات الله، ومن أبرز الصفات صفة العلم، وهؤلاء الذين ينكرون أن الله يعلم الأشياء قبل وجودها هم الذين عناهم الإمام الشافعي رحمه الله بقوله: (ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا) يعني: إذا ابتليتم بأحدهم بمجادلته ومخاصمته ومناظرته فسلوهم عن صفة العلم لله، فإذا أقروا به خصموا، أي: يقال لهم: ما الفرق بين العلم الماضي وعلم المستقبل؟ فإنه إذا كان يعلم الماضي فهو يعلم المستقبل، وقولوا لهم أيضاً: هل تحدث هذه الكائنات بغير إرادته؟ فلا بد أن يقولوا: هو الذي يحدثها وهو الذي يوجدها، فيقال: كيف يوجدها وهو لا يعلم وقت وجودها؟ وناظروهم أيضاً بالأدلة كقوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ [الحج:70]، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة:7] إلى آخر الآية، وأشباه ذلك، فإنهم بهذا سوف ينقطعون ولا يجدون حجة.

    1.   

    غاية خلق الخلق وإيجادهم

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: ( وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته ).

    ذكر الشيخ رحمه الله الأمر والنهي بعد ذكره الخلق والقدر، إشارة إلى أن الله تعالى خلق الخلق لعبادته، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وقال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]].

    أي: كما أن الله علم الأشياء قبل وجودها وقدرها وحددها وأرادها وشاءها فذلك لا ينافي الأمر والنهي، فهو الذي كلف العباد، ولا شك أنه ما كلفهم إلا وهم يقدرون، فلا يكلف من لا يقدر، دلت على ذلك الآيات: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، فالله تعالى أمرهم بأشياء أن يفعلوها ونهاهم عن فعل أشياء، ووعدهم على فعل المأمور وترك المنهي والمزجور بالسواء، وأنه توعدهم على المخالفة بالعقاب، ولا شك أنه ما أمرهم إلا وهم يستطيعون ويقدرون على مزاولة هذه الأشياء، وإلا فالعاجز لا يمكن أن يؤمر.

    وعلى قول الجبرية: يعتبر أمرهم أمر تعجيز، مثل الأوامر التي يخاطب بها أهل النار أو الكفار، كقوله: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمران:119] هذا أمر تعجيز، وكقوله: فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:16].

    والصحيح أن أوامر الله تعالى في قوله: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77]، وبقوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:56] أمر لمن يقدر على الامتثال، أما من لا يقدر فلا يمكن أن يؤمر، خلافاً للجبرية فإنهم يعتقدون أنه يجوز الأمر بشيء غير مقدور عليه وغير ممكن، بمنزلة من أمر الأعمى أن ينقط المصاحف أو يكتبها، ومعلوم أنه لا يبصر، فكذلك الأمر عندهم، حيث سلبوا الإنسان قدرته واختياره وجعلوا حركته غير اختيارية، ومثلوه بحركة الشجرة التي تحركها الرياح بدون اختيار، فلو كان الإنسان غير مستطيع لما كلفه الله؛ فإن الله لا يكلف إلا من هو قادر على ذلك، ولعله يأتي لهذا تكملة في الرد على الجبرية ونحوهم.

    1.   

    الكلام على مشيئة الله ومشيئة العبد

    نفوذ مشيئة الله تعالى وتبعية مشيئة العبد لها

    قال رحمه الله تعالى: [قوله: ( وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان وما لم يشأ لم يكن ).

    قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان:30]، وقال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29]، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الأنعام:111]، وقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112].

    وقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس:99]، وقال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125]، وقال تعالى حكاية عن نوح عليه الصلاة والسلام إذ قال لقومه: وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود:34]، وقال تعالى: مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:39]، إلى غير ذلك من الأدلة على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

    وكيف يكون في ملكه ما لا يشاؤه! ومن أضل سبيلا وأكفر ممن يزعم أن الله شاء الإيمان من الكافر والكافر شاء الكفر فغلبت مشيئة الكافر مشيئة الله؟! تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا].

    هذا الكلام على المشيئة والإرادة، والإرادة هنا هي الإرادة الكونية القدرية التي بمعنى (المشيئة)، يعتقد المسلمون أن مشيئة الله عامة لكل ما في الوجود، فلا يكون في الوجود إلا ما يريد، سواء من الطاعات والأعمال والمعاصي ونحوها، أو من المخلوقات والموجودات والحوادث ونحوها، فكلها حصلت بمشيئته وبإرادته الكونية، والجملة التي ذكرها الطحاوي وردت في حديث في جملة الأدعية: (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن)، فقوله: (ما شاء الله كان) أي: ما أراده كوناً وقدراً فإنه سيوجد وسوف يحدث لأن الله أراده، وكل شيء أراده الله لا بد أن يكونه، وكذلك الله تعالى هو الذي يخلقه، وخلقه لهذه الأشياء أن يقول: (كن) فتكون، قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فمما يعتقده أهل السنة أن مشيئة الله تعالى عامة لكل ما في الوجود، سواء المخلوقات أو غيرها.

    وفي حديث للنبي صلى الله عليه وسلم سأله بعض أصحابه عن العزل -والعزل يكون في الجماع مخافة أن تحمل المرأة، فإذا وطئها أنزل خارج الفرج حتى لا تحبل- فقال: (ما عليكم ألا تفعلوا؛ فإنه ما من نسمة كائنة إلا الله خالقها)، وفي بعض الأحاديث أن رجلاً استأذنه في العزل فقال: (لا تقدر أن ترده، لو أراد الله أن يخلقه لم تقدر أن ترده)، يعني: أن ترد ما قدر الله أنه سيوجد، ثم جاءه ذلك الرجل بعد أيام وأخبره بأن الأمة التي يعزل عنها قد حملت مع كونه يعزل عنها، فذكر أن من أراد الله أن يخلق له مخلوقاً أو ولداً فلا بد أن يكون.

    فالله تعالى قدر ما يكون، وإن كان العزل سبباً من أسباب عدم الحمل فهو مكتوب عند الله أن هذا سيستعمل كذا وكذا من موانع الحمل ويحصل له كذا وكذا من الأولاد، وهذا سيقل أولاده وهذا سيكثرون، فكل ذلك مكتوب مقدر.

    وهكذا أيضاً بالنسبة للدواب لا يستنكر مثلاً كثرتها أو توالدها أو ما أشبه ذلك، فيقال: الله الذي قدرها وقدر عددها وخلقها، وعلم بوقت خلقها وبعددها وبأعمارها وبأعمالها وما أشبه ذلك.

    وهكذا أيضاً النبات ونحو ذلك، قدر الله عز وجل ما يكون منه وما يحصل، والأدلة على ذلك كثيرة، ومن ذلك الآيات التي ساقها الشارح، والآيات كثيرة فيما يتعلق بمشيئة الله تعالى وبقدرته وبإرادته، وببيان أن إرادة الإنسان مربوطة بإرادة الله، كما في الآيات الأول وهي قوله تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [التكوير:28-29]، فقد يستدل بأول الآية المعتزلة في أن الإنسان حر في مشيئته، وأن له أن يشاء، ولكن تمام الآية رد لهذا الفهم ودليل لربط مشيئة الإنسان بمشيئة الله، ولهذا قال: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [التكوير:29] أي: لا تستطيعون شيئاً وتنفذونه ولو شئتموه وأردتموه إلا إذا كان الله قد شاءه وأراده وقدره وحدد وقته. فإذا لم يشأ الإنسان شيئاً فلا يحصل، وهذا معنى قول شيخ الإسلام في أبيات مشهورة:

    فما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشـأ لم يكن

    وهو معنى هذا الحديث، فما شاء الله كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لا يكون وإن شاء الناس، ومعنى قوله في الحديث: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك).

    ذكر مذهب المعتزلة في المشيئة والرد عليه

    وأما استدلال المعتزلة ببعض الآيات التي فيها إطلاق مشيئة العبد فإنه مقيد بالآيات الأخرى، فهم يستدلون بمثل قوله: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر [الكهف:29]، ويقولون: إن الأمر مسند إليه إن شاء اختار كذا وإن شاء اختار كذا، فالأمر راجع إليه.

    فهذا الإطلاق مقيد بالآيات الأخرى، ومنها آية الأنعام: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام:125]، فربط الله الهداية والإضلال بمشيئته وبإرادته، فدل على أنه هو الذي يملك ذلك، ودلت على ذلك الآيات الأخرى، كقوله تعالى: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ [الزمر:37]، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الرعد:33] يعني: من قدر الله أن سيهتدي لم يقدر الخلق أن يضلوه، ومن قدر ضلاله لم يستطيعوا أن يهدوه وإن كان لذلك أسباب جعلها الله تعالى مؤثرة ومفيدة، ولكنها أيضاً أسباب أزلية، فقد كتب الله أن الولاية الصالحة والتربية الصالحة، والنصيحة وما أشبه ذلك من أسباب الهداية تؤثر بإذن الله، ولكن تأثيرها مكتوب وأزلي، وإلا فالآية على عمومها.

    وهكذا في الحديث في خطبة الحاجة: (من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له)، حكم بأن الأمر لا يقدر على التصرف فيه إلا الله تعالى وحده، فيعرف الإنسان أن المشيئة والإرادة أمرهما إلى الله تعالى، فهو الذي يتصرف في الكون وحده، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قيل: يشكل على هذا قوله تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [الأنعام:148]، وقوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل:35]، وقوله تعالى: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الزخرف:20]، فقد ذمهم الله تعالى حيث جعلوا الشرك كائنا منهم بمشيئة الله، وكذلك ذم إبليس حيث أضاف الإغواء إلى الله تعالى إذ قال: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:39]، قيل: قد أجيب على هذا بأجوبة، من أحسنها: أنه أنكر عليهم ذلك؛ لأنهم احتجوا بمشيئته على رضاه ومحبته، وقالوا: لو كره ذلك وسخطه لما شاءه فجعلوا مشيئته دليل رضاه، فرد الله عليهم ذلك.

    أو أنه أنكر عليهم اعتقادهم أن مشيئة الله دليل على أمره به.

    أو أنه أنكر عليهم معارضة شرعه وأمره الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه بقضائه وقدره، فجعلوا المشيئة العامة دافعة للأمر، فلم يذكروا المشيئة على جهة التوحيد، وإنما ذكروها معارضين بها لأمره دافعين بها لشرعه كفعل الزنادقة والجهال إذا أمروا أو نهوا احتجوا بالقدر.

    وقد احتج سارق على عمر رضي الله عنه بالقدر فقال: (وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره)، يشهد لذلك قوله تعالى في الآية: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [يونس:39]، فعلم أن مرادهم التكذيب، فهو من قبل الفعل من أين له أن الله لم يقدره؟ أطلع الغيب؟]

    الكلام على محاجة آدم وموسى عليهما السلام

    قال المؤلف رحمه الله: [فإن قيل: فما يقولون في احتجاج آدم على موسى عليهما السلام بالقدر إذ قال له: أتلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن أخلق بأربعين عاما؟ وشهد النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم حج موسى -أي: غلب عليه بالحجة-:

    قيل: نتلقاه بالقبول والسمع والطاعة لصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نتلقاه بالرد والتكذيب لراويه كما فعلت القدرية، ولا بالتأويلات الباردة، بل الصحيح أن آدم لم يحتج بالقضاء والقدر على الذنب، وهو كان أعلم بربه وذنبه، بل آحاد بنيه من المؤمنين لا يحتج بالقدر؛ فإنه باطل، وموسى عليه السلام كان أعلم بأبيه وبذنبه من أن يلوم آدم على ذنب قد تاب منه وتاب الله عليه واجتباه وهداه.

    وإنما وقع اللوم على المصيبة التي أخرجت أولاده من الجنة، فاحتج آدم بالقدر على المصيبة لا على الخطيئة؛ فإن القدر يحتج به عند المصائب لا عند المعائب، وهذا المعنى أحسن ما قيل في الحديث، فما قدر من المصائب يجب الاستسلام له، فإنه من تمام الرضا بالله ربا.

    وأما الذنوب فليس للعبد أن يذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب، فيتوب من المعائب ويصبر على المصائب، قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غافر:55]، وقال تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120].

    وأما قول إبليس: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر:39]، إنما ذم على احتجاجه بالقدر لا على اعترافه بالمقدر وإثباته له، ألم تسمع قول نوح عليه السلام: وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [هود:34]، ولقد أحسن القائل :

    فمـا شئتَ كان وإن لم أشأ ومـا شئتُ إن لم تشأ لم يكن

    وعن وهب بن منبه قال: نظرت في القدر فتحيرت، ثم نظرت فيه فتحيرت، ووجدت أعلم الناس بالقدر أكفهم عنه، وأجهل الناس بالقدر أنطقهم فيه].

    هناك من يحتج بالقدر كالمشركين الأولين وأتباعهم من الجبرية ونحوهم، فالمشركون احتجوا بمثل قولهم: لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [الزخرف:20]، كأنهم يقولون: الله هو الذي شاء عبادتنا لهم، وكذلك قولهم: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [يس:47]، كأنهم يقولون: إذا شاء الله أغناهم، فكيف نغنيهم أو نطعمهم؟

    ولا شك أن هذه حجة باطلة، ويجب على المسلم أن يعلم أن الله -وإن كان له المشيئة التامة- قد أعطى الإنسان مشيئة تناسبه فيكون بذلك ممتثلاً لأمر الله، وإن كانت مشيئة الله هي الأصل وهي الغالبة على مشيئة المخلوق، فالثواب والعقاب على المشيئة التي في وسعه وفي مقدرته.

    ولكن لا يقال: إن مشيئة الإنسان تغلب مشيئة الله، كما تقول المعتزلة: إذا شاء الإنسان شيئاً وأراد الله غيره غلبت إرادةُ الإنسان إرادة الله، فهذا معناه: أن الله يعصى قسراً، وأنه يكون في ملكه ما لا يريد، وهذا كله باطل وضلال، والإنسان عليه أن يؤمن بمشيئة الله تعالى وإرادته.

    كذلك احتجاج آدم بالقدر في قوله: (أتلومني على أمر قد كتبه الله علي)، إنما لامه موسى على مصيبة حصلت، واحتج آدم عليه السلام بأن هذا مكتوب عليه، والاحتجاج على الأمر المكتوب على الإنسان قبل أن يوجد جائز؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قدر الأشياء قبل وجودها وحدد أزلها، فإذا علم الله تعالى آجال الأشياء وحددها، فلا بد من وجودها في الوقت الذي يحدده ويكونه.

    1.   

    الرد على المعتزلة في إيجابهم الأصلح على الله تعالى

    قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلا ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلا).

    هذا رد على المعتزلة في قولهم بوجوب فعل الأصلح للعبد على الله، وهي مسألة الهدى والضلال.

    قالت المعتزلة: الهدى من الله بيان طريق الصواب، والإضلال تسمية العبد ضالا، وحكمه تعالى على العبد بالضلال عند خلق العبد الضلال في نفسه. وهذا مبني على أصلهم الفاسد: أن أفعال العباد مخلوقة لهم.

    والدليل على ما قلناه قوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، ولو كان الهدى بيان الطريق لما صح هذا النفي عن نبيه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بين الطريق لمن أحب وأبغض، وقوله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة:13]، وقوله: يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [المدثر:31]، ولو كان الهدى من الله البيان -وهو عام في كل نفس- لما صح التقييد بالمشيئة.

    وكذلك قوله تعالى: وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصافات:57]، وقوله تعالى: مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:39]].

    المعنى: نؤمن بأن الله تعالى يهدي من يشاء فضلاً منه ونعمة، ويضل من يشاء عدلاً منه وحكمة، فقد أنعم على من هداه وخذل من أضله، ولم يكن ظالماً لهذا، بل ذلك عدله وحكمه وخلقه يتصرف في الخلق كما يشاء.

    وذكر الشارح أن هذا رد على المعتزلة الذين يقولون بوجوب فعل الأصلح على الله.

    والمعتزلة فرقة انتسبت إلى الإسلام ثم انتحلت نحلاً، فمنهم من يقول: إن الله لا يقدر على الهدى والإضلال، فالله لا يقدر أن يضل أحداً ولا أن يهدي أحداً، بل العباد هم الذين يختارون بأنفسهم، فالعبد هو الذي يضل نفسه أو يهدي نفسه لا قدرة لله عليه.

    وفي هذا تنقص لله سبحانه وتعالى، حيث جعلوا قدرة العبد أقوى من قدرة الله واختياره أقوى من اختيار ربه.

    وقد يقولون: إننا ننزه الله عن الظلم، ويقولون: إذا قدر على العبد فأضله فكيف يعاقبه؟ فلو عاقبة وهو الذي أضله لكان ظالماً له، فنحن ننزه الله عن الظلم ونصفه بالعدل. ويسمون هذا الأصل عدلاً، وهو أحد أصولهم الخمسة.

    والجواب: نعترف أن الهدى فضل والإضلال عدل، ونقول: إن الله تعالى ما ظلم أحداً من خلقه، وإنما هذا فضله يؤتيه من يشاء، فمنَّ على أهل الهداية ويسر لهم الأسباب وبينها لهم، وقذف في قلوبهم الرحمة وأعانهم حتى اختاروا الهدى وساروا على الصراط المستقيم، فاستحقوا بذلك الثواب وإن كان هو الذي تفضل عليهم أولاً وآخراً.

    فأولاً: تفضل عليهم بأن هداهم وسدد خطاهم وأقبل بقلوبهم على طاعته، وأمدهم بقوة منه وتأييد، وأعانهم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

    وتفضل عليهم ثانياً بأن أهلهم للثواب الذي أعده لعباده المطيعين، فجعلهم من أهله وأدخلهم دار كرامته، وأعطاهم ما وعدهم من النعيم المقيم، فذلك فضله يؤتيه من يشاء.

    أما بالنسبة إلى الضُلال والكافرين فإنه ما ظلمهم، فقد بين لهم الحق وأوضحه لهم وأعطاهم قوة واستطاعة وقدرة يزاولون بها الأعمال، ولكنه حكم بعلمه في أنهم ليسوا أهلاً للقرب وليسوا أهلاً للهداية، فأضلهم وأصمهم وأعمى أبصارهم، وحال بينهم وبين أسباب الهداية حيث إنهم ليسوا أهلاً لذلك، فأصبحوا محرومين من الهداية، قال الله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17].

    فالله تعالى بين لهم الأسباب ولكنهم استحبوا العمى على الهدى، والمراد بالعمى هنا عمى البصيرة، يعني أنهم أصروا على العمى الذي هو عمى البصيرة والبعد عن الاستنارة بالحق، فلم يقبلوا ما جاءهم عن ربهم، بل ابتعدوا عنه فصاروا بذلك محرومين، ولم يظلمهم ربهم سبحانه بل هذا فضله يؤتيه من يشاء وهذا عدله يحكم به على من يشاء، وهو في كلا الحالين حكيم عليم يضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها، فقد خلق هؤلاء وجعل في قلوبهم معرفة الحق وأهلهم لقبوله، وخلق هؤلاء وجعل فيهم إنكار الحق وأهلهم لرده، ولا خلاف أنه هو الذي أضلهم، أي: صرفهم عما لم يكونوا أهلاً له من الهداية.

    فأنت -أيها المهتدي- وأنت -أيها المؤمن- وأنت -أيها الموقن- قد أنعم الله عليك، فعليك أن تتمسك بهذه النعمة وبأسبابها، وعليك ثانياً أن تسأل ربك الثبات عليها وتحمده وتشكره على ما أعطاك وخولك، وعليك ثالثاً أن تجتهد في ثمرتها التي هي العمل بما أمرت به.

    وإذا رأيت القسم الثاني الذين صرفوا وحيل بينهم وبين الحق، فإن عليك شكر النعمة التي أنت فيها، ومعرفة أن هؤلاء محرومون ولو زعموا أنهم أهل معرفة وأن الصواب في جانبهم، فإنهم في الحقيقة مخذولون مصروفون عن صراط الله المستقيم.

    الخلق يتقلبون بين فضل الله تعالى وعدله

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: ( وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله ).

    فإنهم كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن:2]، فمن هداه إلى الإيمان فبفضله وله الحمد، ومن أضله فبعدله وله الحمد، وسيأتي لهذا المعنى زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى؛ فإن الشيخ رحمه الله لم يجمع الكلام في القدر في مكان واحد بل فرقه، فأتيت به على ترتيبه].

    قوله: (يتقلبون في مشيئته) يعني أن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الله تعالى شاء من هؤلاء الإيمان وأحبه، وشاء من هؤلاء المعصية والكفر وقدره ولم يحبه، فأعمال أهل الطاعة قد شاءها كوناً وقدراً، وأمر بها ديناً وشرعاً، وأحبها ورضيها ووعد عليها بالثواب.

    وأما معاصي الكفار وذنوبهم فإنه قد قدرها وشاءها كوناً وقدراً، ولو شاء الله ما عصي، قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس:99]، لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا [الرعد:31] ، وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة:13]، فلو شاء الله تعالى لأقبل بقلوبهم ولهداهم إلى الحق، ولكنه تعالى قدر أن هؤلاء محرومون وشاء منهم ما شاءه، فكلهم يتقلبون في مشيئته وفي إرادته، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

    1.   

    علو الله تعالى عن الضد والند

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: ( وهو متعال عن الأضداد والأنداد ).

    الضد: المخالف. والند: المثل. فهو سبحانه لا معارض له، بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا مثل له، كما قال تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، ويشير الشيخ رحمه الله بنفي الضد والند إلى الرد على المعتزلة في زعمهم أن العبد يخلق فعله].

    يعني أن المعتزلة جعلوا الإنسان ضداً لله أو نداً مع أنهم ما صرحوا بذلك، ولكنهم لما زعموا أن العبد يخلق فعله، وزعموا أن الله لا يخلق أفعال العباد، واعتقدوا أن الله يعصى قهراً -تعالى الله عن قولهم- فعند ذلك أصبحوا قد جعلوا أنفسهم بل جعلوا كل مخلوق ضداً لله ونداً له، ولأجل ذلك يسميهم الصحابة -كما في بعض الروايات- مجوس هذه الأمة.

    وورد في بعض الأحاديث مرفوعاً وموقوفاً: (إن مجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر. إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تتبعوهم) من باب الإنكار الشديد عليهم، وإذا قلت: كيف جعلوا لله ضداً أو نداً؟

    نقول: ما داموا قد جعلوا المخلوق مستقلاً بتصرفه وبفعله فقد جعلوه متصرفاً بهذا الكون، والتصرف في الحقيقة إنما هو للخالق سبحانه، وليس للمخلوق شيء من التصرف، أعني التصرف المطلق.

    وسبب تسميتهم مجوساً أن المجوس ادعوا أن الكون صادر عن اثنين، وأن للعالم خالقين: النور والظلمة. فالنور خالق الخير والظلمة خالقة الشر، فلما جعلوا العالم صادراً عن خالقين أشبههم المعتزلة حيث جعلوا العبد خالقاً لفعله، فجعلوا مع الله خَاَلِقِيِنَ ليس خَاَلِقَينِ فقط، بل جعلوا العالم صادراً عن عدد.

    فالحاصل أن هذه الجملة تصلح رداً على المشركين وتصلح رداً على القدرية، ففيها الرد على المشركين الذين يجعلون لله نداً وضداً، سواء نداً في الخلق والتكوين أو نداً في استحقاق العبادة، فالله تعالى متعالٍ عن الأمرين، فهو الخالق وحده، فليس معه ندٌ يخلق كخلقه، وهو المستحق للعبادة وليس معه من يستحقها مثله.

    لا راد لقضاء الله ولا غالب لأمره

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ولا غالب لأمره).

    أي: لا يرد قضاء الله راد، ولا يعقب -أي: لا يؤخر- حكمه مؤخر، ولا يغلب أمره غالب، بل هو الله الواحد القهار].

    يعني أنه هو المتصرف وحده بخلاف المخلوق فإن هناك من يتعقبه، فكثيراً ما يفعل الابن فعلاً ويتعقبه الوالد ويقول: هذا خطأ، لو قدمت كذا أو أخرت! وكثيراً ما يحكم الحاكم أو يقضي القاضي ثم يُرد قضاؤه ويتعقبه مَن فوقه وينكر عليه ويقول: حكمك خطأ. ولو كان قد اجتهد وبذل وسعه، بخلاف الرب سبحانه فإنه إذا قضى أمراً فإنه لا يرد، وإذا حكم بحكم فإنه لا ينقض، وإذا أمر بأمر فإنه لا يتعقب.

    ولأجل ذلك حكموا بكفر من يرد أحكام الله تعالى ويدعي أنها لا تلائم كل وقت وزمان ومكان، ويفضلون عليها القوانين الوضعية التي هي من وضع أذهان البشر الذين هم محل النقص والعيب، ويتعقبون أحكام الله بأنها إنما تناسب الوقت الذي نزلت فيه.

    ولا شك أن هذا كفر؛ حيث إن الحكم -أي: الذي صدر من الله تعالى- أنزله لعباده وأمر به أمراً عاماً، وكلف به الخلق قاصيهم ودانيهم أولهم وآخرهم، فهو المناسب لهم، فمن رده أو ادعى عدم مناسبته فقد تعقب حكم الله وقد تنقص أمره، فهو شبيه بمن يرد العبادات التي كلف بها العباد ويدعي أنها إنما قصد منها أمر خاص أو نحو ذلك، والكلام على هذا لعل له محلاً يأتينا إن شاء الله.

    وجوب التسليم لأقدار الله وأحكامه

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: ( آمنا بذلك كله وأيقنا أن كلا من عنده ).

    أما الإيمان فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى، والإيقان: الاستقرار. من يقن الماء في الحوض: إذا استقر. والتنوين في (كلا) بدل الإضافة، أي: كل كائن محدث من عند الله. أي: بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته وتكوينه، وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى].

    بعدما ذكر القضاء والقدر، وذكر الحكم والأمر والشرع، وذكر التنزه عن الضد والند وما أشبه ذلك مما تقدم من الأحكام ذكر أن هذا مما يجب الإيمان به واليقين، وكأنه يقول: لا يجوز الشك ولا التردد في شيء من ذلك؛ لأنه مبني على أصل قوي ودليل راسخ معتمد، فلا بد أن تؤمن بذلك كله وأن توقن بأنه من عند الله، أو تجزم وتصدق بكل ما صدق وبكل ما يأتي، وتتحقق أنه عقيدة وأنه يقين، وأن من شك فيه فقد ضل سواء السبيل، وتوقن وتجزم بصحته وأنه حق لا تردد فيه.

    هكذا ينبغي لكل مؤمن، ويعم ذلك كل ما جاء به الشرع، فمثلاً القرآن من أوله إلى آخره نؤمن به ونوقن به، والكلمتان إحداهما تقوي الأخرى: (آمنت، أيقنت)، وهما متقاربتان.

    فاليقين هو عدم الشك، أي: أن لا يتطرق إليك تردد ولا شك في اعتقادك لذلك الأمر، والإيمان هو جزمك وتصديقك بذلك واعتقادك لصحته.

    فكل ما جاء عن الله تعالى في القرآن آمنا به وأيقنا به، وكل ما جاء وبلغه الرسول عليه الصلاة والسلام فإننا نؤمن به ونوقن به، وكذلك نوقن بكل ما جاءت به الرسل وبكل ما أخبروا به، وأنه حق ويقين على حقيقته، وأن من شك في شيء من ذلك أو تردد فيه فإنه ممن لم يؤمن بالله حق الإيمان، ولم يتقبل الشريعة كما أمر بأن يتقبلها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756381259