إخوتي الكرام، عنوان هذه المحاضرة هو: (ملاحظات حول تقويم رجال الإسلام في هذا العصر).
والمقصود بتقويم الرجال هو بيان قيمتهم ومقدارهم, وقد يستعمل بعض الناس لهذا المعنى كلمة تقييم، ولكن بعض اللغويين يرون أن هذه الكلمة خطأ، وأن الصواب هو التقويم، وهذا هو المطرد مع القواعد.
المهم أن ندرك أن الله عز وجل قيض لهذا الدين في كل عصر من يقوم به, ووعد بذلك في كتابه وعلى لسان رسوله، يقول الله عز وجل: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة:33] وهذا وعد قائم إلى قيام الساعة؛ ليظهره على الدين كله, وظهور دين الإسلام على الأديان كلها يشمل عدة أمور، منها:
الظهور بالحجة والبيان, بحيث يوجد من الدعاة والعلماء والمصلحين والأئمة من يرفعون شأن الإسلام بالكلمة والكتاب والخطبة والموقف وغير ذلك.
ويشمل الظهور أيضاً: قمة الظهور، وهي الانتصار الكامل لهذا الدين على الأديان كلها، وقد ورد في حديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إن الله يقيض لهذا الدين من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين} وهذا الحديث قد ورد عن عدد من الصحابة كـأبي هريرة, ومعاذ بن جبل, وابن مسعود, وأسامة بن زيد, وورد مرسلاً عن بعض التابعين, وقد رواه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، وفي شرف أصحاب الحديث، وخرج الطبراني بعض طرقه، وكذلك ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل وغيرهم.
واختلف العلماء في صحته، فصححه بعضهم كالإمام أحمد وابن عبد البر وضعفه آخرون كـالعراقي.
والحديث وإن كان ضعيفاً في جميع طرقه, إلا أن معناه صحيح بلا شك، وإنما اخترته لمباشرته في التعبير عن هذا المعنى, وأن الله عز وجل يختار في كل جيل من يحملون هذا العلم والدين، ممن يتميزون بالعدالة والفهم والإنصاف, فيدفعون عن الإسلام تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
وهذا الوعد القائم هو لا يزال يجري اليوم، وإلى أن يشاء الله سوف يستمر وجود هذه الحقيقة التي وعد الله بها.
وقد قيل هذا الكلام عن أحد الشخصيات الإسلامية المعاصرة، وبإزاء ذلك قد تسمع عن الشخصية نفسها كلامًا, بأن هذا الرجل لم يذق طعم الإيمان, ولا وجد نور الإسلام في قلبه.
فإزاء هذا التباين البعيد في تقويم الشخصيات الإسلامية؛ لابد من الإشارة بادئ ذي بدء إلى أننا ورثنا نحن المسلمين ضمن ما ورثناه من تراث هذا الدين القيم: منهج العدل والإنصاف في الحكم على الناس, فيقول الله عز وجل في سورة النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [النساء:135] فيأمرنا بالعدل والإنصاف, وتحري الحق, ولو على أنفسنا أو والدينا أو أقاربنا, ويقول سبحانه في سور المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].
فكما أنه يأمرنا في الآية الأولى بالاعتدال والعدل حتى مع أنفسنا, أو والدينا وأقربينا, بحيث نقول الحق عليهم -وإن كان عليهم- كذلك يأمرنا في الآية الثانية: بأن لا يحملنا بغض قوم أو عداوتهم على أن نجحف في حقهم, بل لابد من العدل حتى مع العداوة والشنآن.
ولذلك وثَّقوا عددًا غير قليل من أهل البدع,مع بيان بدعتهم، فهذا جانب العدل والإنصاف حتى مع من يكون بيننا وبينه اختلاف, وحتى مع من ننكر عليه كثيرًا من البدع والانحرافات الموجودة عنده, فلا يجعلنا ذلك ننسى فضائلهم وحسناتهم.
وفي مقابل ذلك, نجد أن علماء الجرح والتعديل كانوا يذكرون الجرح ولو كان في أقرب قريب.
ولعل من أجلى الصور في ذلك ما ذكره العلماء عن علي بن المديني -علي بن عبد الله بن أبي نجيح السعدي المعروف بـعلي بن المديني- فقد سئل علي بن المديني عن أبيه، ما تقول في فلان؟
فقال: سلوا عنه غيري, قالوا: إنما نسألك أنت, قال: أما إذ أبيتم فإنه الدين، هو ضعيف, فهو حاول أن يدفع هذه الكلمة وأن يجعل غيره يقولها، فلما أصروا عليه, قال في أبيه كلمة الحق: أبي ضعيف في الحديث فلا تأخذوا عنه.
هذا المنهج العادل عند علماء الجرح والتعديل يجعلهم يوثّقون الخصم إذا كان أهلاً للتوثيق من حيث الرواية، ويضعفون أقرب قريب. ومن باب أولى أنهم كانوا يضعِّفون من كان يوافقهم في المنهج، فقد يضعفون رجالاً من أهل السنة, سواءً تضعيفًا مطلقًا, أو تضعيفًا مقيدًا, كما قيل في نُعيم بن حماد وابن بطة وغيرهما، إلا أنهم من أئمة أهل السنة المشهورين.
فهذا المنهج -أيها الإخوة- نريد أن نعمل على تطبيقه على رجال الإسلام في هذا العصر, مع الإشارة إلى بعض الأخطاء التي تقع من كثير ممن يتحدثون عن هؤلاء الرجال إشارة مختصرة بقدر ما يسمح به الوقت.
أو من يعبدون أصنامًا أخرى، كالقوانين الوضعية المخالفة لشريعة الله عز وجل، والمستوردة من الشرق أو من الغرب، أو الأنظمة والنظريات الإلحادية, والمبادئ الهدامة المختلفة.
وإزاء هذا الوضع نجد أن الله تعالى وعد أنه حين يوجد هذا فإنه يوجد في مقابله أمر آخر، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِم [المائدة:54] ويقول: هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].
ففي هاتين الآيتين إشارة إلى أنه إذا وجد في الأمة من ينكص عن الإسلام, أو يتراجع عن الجهاد، أو عن البذل والإنفاق في سبيل الله, فإن الله وعد بأنه سيأتي في ذلك الوقت بقوم يجاهدون في سبيل الله, وينفقون ولا يبخلون, ولا يكونون كهؤلاء الناكثين الناكصين.
ولذلك ذكر الخطيب البغدادي عن أحمد بن سنان: أن رجلاً رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام, وقد دخل المسجد؛ فرأى في المسجد حلقتين في إحداهما الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة, وفي الأخرى أحمد بن أبي دؤاد شيخ المعتزلة, فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى أحمد بن أبي دؤاد ومن معه من أهل الاعتزال، وأشار إليهم وقال: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89] وأشار إلى الإمام أحمد ومن معه.
فهذه القضية ظاهرة، فمتى ما وجد التراجع، والردة الكلية أو الجزئية عن الإسلام فإنه ويوجد في مقابل ذلك من الرجال الأفذاذ من يقيمون راية الدين, وهذا موجود في هذه العصور المتأخرة, وموجود في عصرنا الذي نعيش فيه.
صحيح أن النوعية تقل، فنحن لو قسنا رجال الإسلام في هذا العصر, برجال الإسلام في العصور الأولى, لربما وجدنا أنهم أقل منهم بكثير، ولا شك في ذلك, فكلما تقادم العهد كلما ضعفت نوعية الرجال القائمين بشأن الإسلام، وهذه سنة لله في خلقه.
لكننا نقول مع ذلك: رجال الإسلام -في الجملة- هم خير من على ظهر الأرض في هذا اليوم؛ وحملة راية الإسلام من العلماء والدعاة والمصلحين على ما فيهم من نقص أو تقصير أو مداهنة أو إيثار للراحة أو ما أشبه ذلك من العيوب التي يرميهم بها كثير من الناس, نقول: هم على ما فيهم خير أهل الأرض.
وفي هذه المناسبة اتذكر أيضًا الكلمة التي رواها عمر بن حفص عن أبيه أنه قيل له: ألم تر إلى أهل الحديث كيف تغيروا وكيف فسدوا؟
فقال: هم على ما هم خيار القبائل, فرجال الحديث على رغم ما أصابهم من ضعف أو تغير أو اختلاف هم خيار القبائل, وإن كان فيهم عيب ففي غيرهم عيوب.
وكذلك كتابات الشيخ أبي الأعلى المودودي, وأبي الحسن الندوي وغيرهم, وإذا نظرت إلى مجال العلم الشرعي والفقه والفتيا والحديث؛ وجدت -أيضاً- علماء أفذاذاً في هذه الجزيرة وفي غيرها.
ولعل من الأحياء الذين يشاد بذكرهم أمثال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في مجال الحديث وإحياء السنة, والشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، والشيخ محمد بن صالح العثيمين، وكذلك لا تُنكر جهود آخرين من غير هذه البلاد, كما نجد بحوثاً للدكتور مصطفى الزرقا والدكتور يوسف القرضاوي وغيرهم.
وإذا نظرت إلى مجال الجهاد وجدت شخصيات بارزة في الجهاد, ولعل الجهاد الأفغاني على الساحة هو أبرز ما يلفت الأنظار، فأنت تجد أمثال عبد رب الرسول سياف, أو برهان الدين رباني, أو حكمتيار, أو من تبنوا مسألة الجهاد كـعبد الله عزام, وغيرهم.
وإذا نظرت أيضًا إلى مجال الخطابة والوعظ, لا يغيب عن بالك أمثال عبد الحميد كشك, وأحمد القطان, وإبراهيم عزت وغيرهم.
والأسماء كثيرة وليس المقصود في هذه الجلسة أن أسرد الأسماء، وإنما اخترت أسماء يكثر الكلام حول عدد منهم, حتى يكون الكلام الذي سأقوله أكثر واقعية وارتباطًا بالحياة التي نعيشها.
فالإنسان المتكبر يبخس الناس حقوقهم وأشياءهم, وينظر بعين واحدة لا ترى إلا الأخطاء, بل إنه يرى الحسنات نفسها أخطاءً، وحينئذٍ يصدق عليه قول الشاعر:
إذا محاسني اللاتي أُدل بها كانت عيوبًا فقل لي كيف أعتذر |
وعلى سبيل المثال: لو نظرنا إلى شخصية الشيخ الألباني في هذا العصر, لوجدنا أن للشيخ جهودًا كبيرة في خدمة السنة النبوية, وتقريبها بين أيدي الناس, وتنقيتها من الشوائب: من الأحاديث الموضوعة والضعيفة, وغيرها.
وكتبه لا تخلو منها مكتبة, فللرجل جهود تذكر فتشكر, فضلاً عن جهوده في نشر السنة العملية بين الناس, وتربية الشباب عليها, وهذا عمل لا شك أنه عمل مشكور, وكثير من الناس يتجاهلون هذه الجوانب الإيجابية في شخصية الشيخ, وينظرون نظرة ناقصة إلى بعض الأخطاء التي لا يخلو منها بشر.
مثلاً: ينظرون إلى جانب الحدة في الشيخ؛ وكون الشيخ حادًا حين يقوم الأشخاص والأعمال والكتب, فهو في مقدمة كثير من كتبه قد يتناول بعض ما صدر من كتب أو تحقيقات, ويعلق عليها تعليقات قد تكون شديدة اللهجة أحيانًا, صحيح أن الأولى في هذه التعليقات والتعقيبات أن يكون بأسلوب أكثر هدوءًا, وأكثر لطافة، لكن لماذا يبرز هذا العيب، ويغطي على حسنات الرجل وفضائله؟
بل إنك تجد من الناس من يحول بعض فضائل الرجل إلى عيوب, كمن يطعن في الرجل -مثلاً- بعنايته بدراسة الأسانيد والأحاديث وتصحيحها وتضعيفها, والكلام في الرجال، ويعتبر أن هذا من إضاعة الوقت والعمر بلا طائل.
وخذ نموذجًا آخر: الشيخ حسن البنا رحمه الله، رجل داعية أثر في المجتمع المصري تأثيرًا كبيرًا, وقُتل -كما نحسبه إن شاء الله- في سبيل الله تعالى، وترك آثارًا طيبة بكل حال, سواء آثاراً عملية أو ما كتب في عدد من الموضوعات.
فهذا الرجل تجد أن كثيرًا من الناس ينظرون إليه نظرة معينة فيها كثير من التنقص، والإشارة إلى ضعف علم هذا الرجل مثلاً, وأنه لا يتقن فن الحديث, لماذا؟
لأنه نقل تخريجاً لأحد الأحاديث من العراقي أو من غيره, أو ذكر حديثًا في المسند أو في غيره ولم يتعقبه ولم يتكلم فيه, بل وقد ينتقد لأنه اجتهد في عدد من المسائل الدعوية والواقعية؛ اجتهادًا قابلاً للنقاش والأخذ والرد, وقد تجد من ينتقد الرجل لأنه تكلم في عدد من مسائل الاعتقاد كلامًا يخالف ما عليه منهج السلف الصالح.
والذي يجب أن يعلم هو أن الحق أغلى في نفوسنا جميعًا من الرجال, فنحن لا يجوز أن نجامل أحدًا من أجل أنه فلان, أو فلان، على حساب الحق, وحين يخطئ فلان أو فلان لا يُجامل، والمقصود -الآن- الإشارة إلى أن هذا الخطأ يجب أن يوضع في إطاره الصحيح, فلا يسقط الرجل، بالكلية بل يقال أخطأ في كذا، ويبقى للرجل منـزلته وكرامته وبلاؤه في الإسلام.
ومن الأمثلة أيضاً: ما يكتب ويقال عن الشيخ أبي الأعلى المودودي من أن فيه نظرًا لكلامه في عدد من المسائل الإعتقادية والدعوية والفقهية، كلاماً فيه شيء من الخطأ, وفيه أشياء هي من الأمور الاجتهادية القابلة للنقاش, لكن تجد في بعض الكتابات التي صدرت عنه نوعًا من الإجحاف في حقه.
فهذه النظرة التي لا ترى إلا جانب الخطأ يجب أن يتقيها الشباب المسلم, ويدرك أننا لو عممنا هذا المنهج لما بقي لنا أحد, فإننا لو نظرنا حتى في رجالات الإسلام السابقين المرموقين لوجدنا أنهم تعقبوا في أشياء عديدة.
فمثلاً لو نظرت إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لوجدت له كثيرًا من الاجتهادات الفقهية والأصولية والعملية, خالفه فيها غيره، وقد يكون الحق معه وقد يكون الحق معهم في مسائل معينة, وفي مسائل يُجزم بأن الحق مع غيره ولو كانت يسيرة أو قليلة, فهذا لا يغض من قدر الرجل وقيمته عند أهل الإسلام وأهل السنة والجماعة.
ولو نظرت إلى الإمام الذهبي وقرأت في كتبه لوجدت أن له مواقفاً منتقدة هنا وهناك, ولو نظرت إلى الإمام النووي, وابن حجر وغيرهم, لوجدت أنه لا أحد يسلم من خطأ ولو يسير, وهذه حكمة لله عز وجل, أبى الله أن يكون الكمال إلا لكتابه, وأبى الله أن تكون العصمة إلا لرسله, وكون الشخص يعد له خطأ أو خطآن لا يعني سقوط شخصيته أو انتهاء دوره, فهذه ملاحظة.
فأنت حين تقرأ عن بعض ما كتب عن حسن البنا رحمه الله وخاصة ما كتبه عنه سعيد حوى في عدد من كتبه, تجد المبالغة في ذلك, وتفنيد الأخطاء, وتأويل الكلام, وصرفه عما يدل عليه, بل ربما يتبنى الإنسان قولاً خاطئاً ويقول به حتى يوافق هذا الرجل عليه، لئلا ينسب إليه خطأ وقع فيه, وقل مثل ذلك في بعض ما كتب عن الأستاذ سيد قطب رحمه الله.
ونحن نشهد الله عز وجل على محبة هؤلاء الرجال جميعًا, وتقدير ما قاموا به من جهود وبلاء في خدمة الإسلام, والدفاع عنه, وأنهم كانوا على ثغرات من ثغرات هذا الدين ينافحون عنه, على أن لا يؤتى الإسلام من قبلهم:
وآثارهم تنبيك عن أخبارهم حتى كأنك بالعيان تراها |
لكن هذا الحب لا يمنع -أبدًا- من ذكر أخطاء وقعوا فيها.
ثم أرأيت لو أن إنسانًا اعترف بأن حسن البنا أو سيد قطب أو المودودي أو الألباني أو فلان أو غيرهم وقعوا في خطأ, أو خطأين, أو عشرة أخطاء, أو عشرين خطأ, كان ماذا؟
ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه |
فمن نبل المرء وكماله أن تكون أخطاؤه معدودة, وبصفة خاصة حين تكون الأخطاء لا تتعلق بالجانب الاعتقادي.
والحقيقة أن الأخطاء الفقهية -أيها الإخوة- قابلة للنقاش؛ لأن الأمر فيها يدور على راجح ومرجوح, أو -على أشد الأمور- يدور على خطأ وصواب, وكذلك قضايا الاجتهاد في أمور الدعوة ومواجهة الواقع هي مسائل الأمر فيها يسير, لأن القضايا الاجتهادية للعقول فيها مدار كبير, ومراعاة المصلحة فيها مطلوبة, لكن الأخطاء العقائدية يجب العناية بإبرازها وإظهارها, والتنبيه عليها، وإن استدعى الأمر أن يذكر الشخص الذي صدر منه الخطأ فلا بأس بذلك.
فنقول -مثلاً- إن الإمام حسن البنا مثلاً في كتاب العقائد قال: كذا، وهذا يخالف ما عليه السلف، حيث قال بالتفويض في موضوع الأسماء والصفات مثلاً, أو أن الأستاذ سيد قطب في ظلال القرآن أوَّل عددًا من الأسماء وعدداً من الصفات, وهذا يرجع إلى الملاحظة الأولى: أننا لا نعتبر هذا مدخلاً للحط من قدر الشخص, فنقول: هذا رجل قال كفرًا وهذا جهمي, وهذا معطل, هذا كذا, لكن ننبه على الأخطاء مهما كانت، خاصة إذا كانت تتعلق بجانب العقيدة, ونبين المنهج الصحيح الذي يعتقده أهل السنة والجماعة -المنهج السلفي- في هذه القضايا, مع حفظ أقدار الرجال, فهذا لا بد منه.
وذلك لأن قضايا العقيدة ليست قضايا راجح ومرجوح, أو خطأ وصواب, بل هي قضايا حق وباطل, أو هدى وضلال, فهذه القضية تقابل القضية الأولى.
إذاً: علينا أن ننظر بميزان معتدل.
والكلام النظري -أيها الإخوة- فيه يسر لكن التطبيق العملي صعب, فأنت حين تقع على خطأ، وتجد أن هذا المصنف قد تحمس له وساق الأدلة وسردها, تشعر أنك أمام خطأ وانحراف، فتجد أنك عندما تبين الخطأ قد تجحف وتظلم هذا الرجل.
وعلى العكس من ذلك حين يشرب قلبك هوى رجل من الرجال وتحبه وتحسن الظن به, فإنك لا تجد في قلبك مكانًا لتقبل أي خطأ ينسب إليه, فتعويد الإنسان نفسه وتدريبها على الاعتدال والإنصاف عمليًا هو من الأمور العزيزة التي يجب على الداعية وطالب العلم والشاب المسلم أن يربي ويوطن نفسه عليها.
فكثير من الشباب اليوم تضطرب في أيديهم الموازين، وحين يرون شخصًا قد أبدع ونبغ في مجال، يعتقدون أنه نبغ في كل مجال, فيتحول الخطيب في ذهنهم إلى فقيه ومحدث وإمام وداعية ومرجع في كل شيء, ويتحول الفقيه إلى إنسان يستشار في القضايا الاجتماعية والقضايا الدعوية وربما قضايا سياسية وأدبية وغيرها, وهذا ينافي وضع الشخص في موضعه المناسب, فأنت قد تجد إنسانًا لو سألته عن مسألة في الفقه لوجدته بحرًا لا ينضب, فهو يذكر لك الأقوال والأدلة ويحكم على الأحاديث, ويرجح فتصدر عنه وقد قنعت ورويت, لكن لو سألته عن قضية أخرى بعيدة عن تخصصه لوجدته أشبه بالعامي فيها.
وقد تجد شخصًا آخر يتقن فن الخطابة, فهو يجيد الوقوف أمام الناس والتحدث إليهم بطلاقة وإثارة عواطفهم, ويتكلم بحماس وعاطفة وصدق -إن شاء الله- ويؤثر, وهذا شيء طيب، والمسلم يجب أن يستفيد من هذا وهذا, لكن هذا الخطيب لا يعني أنه تحول بقدرة قادر إلى فقيه ومحدث وإمام ومفتٍ وكل شيء, بل ضع الشخص المناسب في المكان المناسب, فهذا خطيب لا بأس أن تستفيد به في أسلوب الخطابة, وطريقة الخطابة, وبعض الموضوعات التي يناسب الحديث عنها, وما أشبه ذلك.
ثم إذا عرضت لك مسألة فقهية تستفيد ممن هو أهل لها من العلماء والفقهاء والمفتين، وإذا أشكل عليك حديث تستفيد ممن هم أهل تخصص في هذا المجال, فإذا كانت القضية دعوية: استفدت ممن له خبرة في مجال الدعوة, وهكذا يمكن أن تستفيد أيها الشاب ويستفيد المسلمون جميعًا من هذه الشخصيات الإسلامية في كل مجال, دون أن نرفع الشخص عن قدره.
ومما يدلك على أن كثيرًا من الشباب تغيب عنهم هذه القضية؛ أننا نجد في واقعنا أن المتحدث -المحاضر- حين ينتهي من محاضرته، وأنا حين أنتهي الآن من هذه المحاضرة لو كتب لكم أن تستعرضوا هذه الأسئلة التي يستعرضها الأخ الآن, لوجدتم أن هناك من يسأل عن موضوع طبي, وهناك آخر يسأل عن موضوع اقتصادي يتعلق بقضايا البنوك، وهناك ثالث يسأل عن مشكلة اجتماعية, ورابع يسأل عن قضية تاريخية, وخامس يسأل عن مسألة أدبية, وهكذا، فلماذا تغيب قضية التخصص في أذهاننا فنعتبر أن من تحدث في موضوع يمكنه أن يتحدث في كل موضوع؟
وهذا الخطأ -أيها الإخوة- يزداد الأمر فيه، حتى أنك تجد أحيانًا أننا قد نسند هذه القضايا إلى أشخاص ليس لهم علاقة بهذا المجال بالكلية؛ سوى أنهم اشتهروا في مجال معين, وقد أضرب مثالاً لذلك.
فقد يبرز شخص -مثلاً- في جودته في قراءة القرآن, وهو ذو صوت عذب في القراءة, وهذه لا شك ميزة يمتن الله بها على من يشاء من عباده, لكن كون هذا الشخص مجيدًا لقراءة القرآن مثلًا لا يعني أنه فقيه أو داعية, فتجد أن كثيرًا من الشباب لا ينظر إلى الشخص إلا نظرة كلية، إما أن يعطوه (100%) أو يعطوه صفراً, فإذا برز في مجال اعتبروه بارزاً في كل مجال, وهذا الخطأ ينعكس -أيها الشباب- في كثير من الأحيان بالصورة التالية:
فنحن ننظر إلى هذا الشخص الذي برز على أنه كل شيء -وخذوا في أذهانكم أي شخصية من الشخصيات المعروفة في المجتمع- وهذا الشخص أصبحنا ننظر إليه على أنه بارز في كل شيء وفي كل مجال, ويمكن أن يتحدث في كل موضوع, ثم بعد فترة وخاصة حين نكبر وتكبر عقولنا ونطلع, نكتشف أن هذا الشخص قد أخطأ في مسألة, أو أن هذا الشخص عنده نوع من الضعف في تخصص من التخصصات, فتجد أننا كما أننا بالأمس أخطأنا فرفعنا هذا الشخص فوق منـزلته, تجدنا اليوم نخطئ مرة أخرى فنحط من قدر هذا الشخص وننسى فضائله لأننا اكتشفنا أن عنده خطأ.
وأعرف بعض الشباب يقدرون أحد الشيوخ، وهو أهل للتقدير والفضل في علمه وورعه وتقواه ومنـزلته وجهاده في سبيل الله -أحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكى على الله أحدًا- فينظرون إلى هذا الشيخ على أنه قدوة ومثل أعلى في كل مجال, ثم بعد فترة يكتشف بعض هؤلاء الشباب من قربهم من هذا الشيخ واحتكاكهم به أن هذا الشيخ عنده نقص في مجال من المجالات، فقد لا يكون في ميدان مواجهة الواقع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالدرجة المطلوبة؛ لأنه مشغول بقضايا علمية وفقهية, عن معرفة ما يجري في الواقع, فحين يكتشف هؤلاء الشباب هذه الثغرة الطبيعية, ينعكس الميزان في نفوسهم فيسقط هذا الشيخ من عيونهم, وهذا خطأ ولّده الخطأ الأول.
ولذلك ينبغي علينا جميعًا أن نضع الأشخاص في مواضعهم الطبيعية، كل في مجاله, فهذا بارز في الخطابة, وهذا بارز في الفتيا والفقه والعلم الشرعي, وهذا بارز في الحديث, وهذا بارز في الدعوة, وهكذا، حتى إذا وجدنا عند أحد منهم نقصاً في مجال غير مجاله, اعتبرنا أن هذا الأمر طبيعي؛ لأنه النقص الذي يعتري البشر.
وأريد أن أتحفظ على فهم قد يسبق إلى ذهن البعض وهو أننا نقول: إن الدين والعلم الشرعي مهيمن على جميع هذه الأشياء, وهذا لا شك فيه، فالعلم الشرعي مهيمن على كل الأمور, وهو الميزان, لكن هناك قضايا ليست في أمور الحلال والحرام والأحكام, وإنما هي قضايا تتعلق أحياناً بالواقع, وأحياناً بالأدب والشعر, وأحياناً بقضايا تاريخية, وأحياناً بأمور خطابية, وأحياناً بوسائل من وسائل الدعوة التي الأصل فيها الإباحة, فمثل هذه الأمور ينبغي أن نراعي فيها جانب التخصص.
هذه أبرز ثلاث نقاط، أحببت أن ألفت نظر إخوتي الشباب إليها, وهم ينظرون إلى من هم في موضع الأسوة والقدوة.
الجواب: الشاب أو طالب العلم المبتدئ أسوء ما يعمله أن ينصب من نفسه حكمًا بين هؤلاء الأئمة والعلماء, لكن هذا لا يمنع أن يقلد أحدهم, إذا كان ليس أهلاً لأن يجتهد في المسألة, ويرجح بفهمه وعلمه, فلا مانع أنه يقلد أحد هذين العالمين, أما أن ينحي على العالم الآخر, أو يجرح فيه لأنه سمع عالماً آخر يقول فيه قولًا فهذا لا يجوز؛ لأنه لا يحق له أن يجعل من نفسه حكمًا بين هؤلاء, وكما قال ابن دقيق العيد وغيره: إن أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، فعلى الإنسان أن يقي نفسه الوقوع في هذه الحفرة, وخاصة أعراض العلماء، كما قال فيهم ابن عساكر: إن لحومهم مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة, ولا يجوز أن ننـزع ثقة المجتمع بالعلماء, فلو افترضنا أن في المجتمع عالمين انتقد أحدهما الآخر في مسألة, فرد عليه الآخر فتحول طلاب العلم إلى أحزاب، منهم من يؤيد هذا العالم, ومنهم من يؤيد ذاك, وأصبحوا حريصين على أن يسمعوا المجتمع صوتهم، وكل فئة حريصة على أن تسمع المجتمع صوتها, فالنتيجة التي حصلنا عليها هي أننا أفقدنا الناس الثقة بالعلماء، وهذا ليس لصالح أهل الإسلام, لأنه ما من عالم يذهب سواء بالموت أو بسقوط مكانته, إلا ويحل محله إما جاهل, أو مبتدع, أو ضال يصد عن سبيل الله عز وجل.
أرجو الإجابة على ذلك؛ لأن وجهات نظر كثير من طلبة العلم, اختلفوا حوله, بين مؤيد ومعارض, نرجو الإجابة الشافية؟
الجواب: من الملحوظات أن كثيرًا من الناس يشغلون أنفسهم بمثل هذه القضايا عما هو أهم منها, فقد تجد إنسانًا لا يعرف من القضايا الشرعية -معرفة جيدة- إلا القضايا التي يجري حولها الخلاف, لأنه يهتم بذلك ويحب أن يعرف ماذا قال فلان, وماذا قال فلان, وكيف رد عليه, وكيف أجاب، إلى آخره.
ولذلك فإنني أقول: إن على الإنسان أن يأخذ مثل هذه القضايا بشيء من السعة ويتقبل ما فيها من صواب, ويرد ما فيها من خطأ, دون أن يحدث من جراء ذلك قضية كبيرة تشغل الناس فترة من الوقت.
أما فيما يتعلق بالمؤلف الذي أشار إليه السائل، فإنني قد قرأته, وخلاصة ما يمكن أن أقوله في هذا الكتاب: أن ما فيه من ملاحظات ينقسم إلى أقسام, فهناك ملاحظات غير قليلة حالف الصواب فيها صاحب المورد الزلال رحمه الله, وخاصة القضايا الإعتقادية، فهو في غالبها قد أصاب.
النوع الثاني من الملاحظات: ملاحظات سببها عدم فهم المؤلف لمقصود صاحب الكتاب الأصلي, فرد على ما ظهر له من العبارة, والعبارة تدل على شيء آخر غير ما أراده تمامًا.
القسم الثالث من الملاحظات: هي عبارة عن ملاحظات ليست علمية, وإنما هي قضايا انطلق فيها من رؤية خاصة أو نظرة معينة, ورد على المؤلف فيها، وبعضها قد يكون من القضايا القابلة للاجتهاد, فبعضها مسائل فقهية مثلًا قابلة للأخذ والرد, لأن قضايا الفقه لا تستلزم الرد على مؤلف؛ لأنه -مثلاً- خالف المذهب، فهذه قضية أخرى, وإن كان سيداً رحمه الله ليس من الناس الذين تخصصوا في مجال الفقه, فهو غالباً ينقل من كتب، كما ينقل من ابن كثير أو من الجصاص أو من غيرهم.
وفي الكتاب قضايا كثيرة، مثل القضايا الفلكية التي تحدث عنها، كما قد أشار سيد رحمه الله إلى قضية دوران الأرض, أو بعض المعلومات الفلكية التي نقلها من مصادر متخصصة, وغير ذلك, فهذا تقويم عام، والأمثلة لا يتسع المجال لسردها, وإلا فلدي أمثلة على كل نوع مما ذكرت.
أما أسلوب الكتاب فلعله كان يحتاج إلى شيء من الليونة واللطف, أكثر مما هو عليه, خاصة وأننا نعلم أن سيداً رحمه الله -فيما نظن والله تعالى أعلم- أنه كان يبحث عن الحق ولو أخطأ, ثم إن الرجل له أتباع في أماكن كثيرة, حين يجدون الأسلوب فيه شيء من الشدة؛ ربما يدفعهم هذا إلى نوع من العصبية فيردون الحق، ونحن لا يهمنا أن نسقط قيمة الشخص, بل نحن يهمنا أن نبين للناس الخطأ لئلا يغتروا به, ولذلك وقع هذا في أكثر من مكان، وصار كثير من الناس الذين كان ينبغي أن يقرءوا الكتاب ويأخذوا ما فيه من الحق, صاروا ينبذون الكتاب ويحاربونه, لماذا؟ لأنهم يرون أن فيه بعض العبارات التي لا تناسب, والتي كان الأولى ألا توجد.
على كل حال نحن نعتقد في مؤلف الكتاب أنه ذو نية حسنة, وهو قد قدم إلى ما عمل، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يغفر له ويتجاوز عنا وعنه, وأن يرفع درجاته في المهديين، وأن يعفو عن جميع علماء المسلمين ما قد يكون قد حدث منهم من خطأ أو تقصير, وهو مغمور في جانب فضائلهم وحسناتهم.
الجواب: أما استفادة الإنسان ممن سبقه فهو أمر طبيعي, حتى في الأمور المشروعة أصلاً، وقد سبق أن تحدثت عن هذه النقطة في إحدى المناسبات, ولا أريد أن أعيد ما قلت، ولكن أذكِّر فقط بما رواه مسلم عن جرير بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه قوم من مضر مجتابي النمار، يظهر عليهم العري والفقر والجوع، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصدقة وحث عليها, فتصدق الناس، منهم من تصدق بمد أو صاع أو ثوب أو صبرة أو غير ذلك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن رأى هذا: {من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة} فهذه إشارة إلى أن أصل الصدقة مشروع، لكن حين يبادر رجل فيتصدق فإنه يحرك أريحية الناس إلى الصدقة فيقتدون به في التصدق, ليس من أجل أنه تصدق، ولكنه هو نبههم إلى هذا الأمر.
وكان العلماء والسلف يأخذون العلم عن شيوخهم، بل كانوا يذمون من لم يأخذ عن شيخ, ولذلك قيل: لا يؤخذ العلم عن صُحفي ولا القرآن عن مُصحَفي، وقيل: من كان شيخه كتابه غلب خطؤه صوابه، لكن هذا التتلمذ سواء كان في مجال علم شرعي, أو في مجال دعوة, ينبغي ألا يلغي شخصية الشاب بحيث يذوب في شخصية شيخه ويفنى فيها، ويصبح مجرد ظل يبرر كلام شيخه ويقرره ويدافع عن أخطائه كما سبق, بل يكون فيه نوع من الاقتداء في الأعمال الخيرة, ونوع من الاستشارة فيما يشكل عليه, ونوع من الأدب والاحترام, ونوع من شكوى إذا كان لديه هموم, لكن حين يجد عليه أخطاء أو ملاحظات عليه أن يتقيها هو في نفسه, فتكون رؤيته هذه الأشياء عند شيخه دافعًا له لأن يتقيها, ثم إن أمكن على أن ينبهه إلى هذه الأشياء بالأسلوب الملائم كان ذلك متعينًا عليه.
الجواب: كثير من الشباب يوجد عندهم نوع من عدم التوازن, وقد كنت قبل قليل مثلت بمثال يتعلق بتقويم الأشخاص؛ وهو أنك تجد شابًا يرفع شخصًا فوق منـزلته, فإذا اكتشف عنده خطأ حطه دون منـزلته, والخطأ نفسه يتكرر في ميادين أخرى، ففي مجال التوفيق -مثلاً- بين طلب العلم الشرعي والدعوة, تجد شابًا منهمكًا في موضوع الدعوة إلى الله والذهاب والإياب ومتحمسًا لهذا الموضوع على حساب الجوانب الأخرى، ولو نظرت إلى عبادته لوجدت أنه آخر من يأتي إلى المسجد -مثلاً- لصلاة الجماعة، وغالبًا ما يقضي الصلوات، ولو نظرت إلى جوانب علمه الشرعي تجده لا يعرف شيئًا من العلوم الشرعية, ربما حتى ما يعرفه أقرانه وأمثاله قد لا يعرفه, فهو لا يكاد يقرأ, لماذا؟ لأنه ليس لديه وقت، فهذه الصورة ينتبه إليها الشاب وبعد فترة يريد أن يستدرك الخطأ فيقع في خطأ آخر، وهو أن يرمي بقضية الدعوة إلى الله جانباً ويتجه بكليته إلى العلم الشرعي, ولا تستبعد أنه ينتبه بعد فترة أنه انشغل بالعلم الشرعي والأقوال والردود وقال فلان ورد عليه وكذا وكذا, وأنه نسي جانب العبادة التي فيها ترقيق للقلوب, وتليين لها, وتقريب إلى الله عز وجل, فربما ألقى بجانب العلم الشرعي واتجه إلى التعبد.
وهكذا يظل الشاب طيلة عمره في ردود فعل لأخطاء سابقة, والذي ينبغي للشاب -أولاً- أن يضبط نفسه على وضع معتدل, فيعطي كل ذي حق حقه, أعط الدعوة إلى الله حقها, وأعط أهلك في البيت حقهم, وأعط طلب العلم حقه, وأعط نفسك حقها, وأعط كل ذي حق حقه, فهذا أولاً وهذا نوع من الوقاية.
لكن حين يكتشف الشاب خطأً وقع منه فالعلاج ليس أن ينتقل إلى الطرف الآخر، فبدلاً من أن تكون مهملاً للعلم تتحول إلى أن تكون مهملاً للدعوة, لا, بل حاول أن تستدرك العلم بصورة تدريجية وهادئة, وينبغي أن تعلم أن العلم الشرعي لا يحصل بين يوم وليلة, وكلما قرأ الإنسان في العلم أدرك أن الأمر يتطلب جهداً ووقتاً, فعامل الوقت مهم في هذا الجانب، فإذا انتبهت لنوع من التقصير تتداركه بصورة معتدلة، ولا تفرِّط في الجانب الآخر.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر