إسلام ويب

شرح العقيدة الواسطية [31]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أهل السنة والجماعة هم الذين يتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً، على ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ويبتعدون عن البدع، ويرون السمع والطاعة لولاة الأمر في غير معصية، ويأمرون بالفضائل وينهون عن الرذائل.

    1.   

    تتمة في ذكر بعض صفات أهل السنة والجماعة

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)، ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد؛ ولهذا سموا أهل الكتاب والسنة، وسموا أهل الجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم المجتمعين.

    والإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين، وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما له تعلق بالدين، والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح، إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشر في الأمة.

    ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة.

    ويرون إقامة الحج والجمع والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً، ويحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).

    ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء.

    ويدعون إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)، ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي، والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفاسفها، وكل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة.

    وطريقهم هو دين الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، وفي حديث عنه أنه قال: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)؛ صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة، وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم أعلام الهدى، ومصابيح الدجى، أولو المناقب المأثورة، والفضائل المذكورة، وفيهم الأبدال، وفيهم أئمة الدين، الذين أجمع المسلمون على هدايتهم، وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة)، فنسأل الله أن يجعلنا منهم، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ].

    إثبات كرامات الأولياء والرد على من أنكرها

    هذا الفصل فيه ذكر الكرامات، وأن أهل السنة يؤمنون بكرامات الأولياء، وقد انتهت العقيدة، والذي ذكره المصنف هنا هو من المكملات لعقيدة أهل السنة والجماعة، وذكر بعض الأصول التي لم يخالف فيها إلا من لا ينظر إلى خلافه ولا يعتد به، وإنما أراد رحمه الله أن يبين عموم الإسلام الذي يجب أن يكون الإنسان متمسكاً به.

    ووجه ذكر الكرامات في العقائد، أن بعض أهل البدع أنكرها، وإلا فليست من الأصول التي تكون في عقيدة المؤمن؛ ولكنها من الفروع.

    وإذا أنكر أهل البدع شيئاً ثابتاً، فإن من طريقة أهل السنة إثباته في كتب العقائد؛ ليكون ذلك تمييزاً لأهل الحق، وأنهم يثبتونه ولا ينفونه كما ينفيه أهل البدع؛ ولهذا يذكرون في كتب العقائد المسح على الخفين؛ لأن بعض أهل البدع ينكرون المسح على الخفين، ويمسحون على القدمين.

    وقد أنكر المعتزلة وبعض الأشاعرة ومن سلك طريقهم وجود الكرامات في أولياء الله جل وعلا، وحجتهم أنها تلتبس بمعجزات الأنبياء، فزعموا أنهم لو أثبتوا كرامات الأولياء، فإنه يلزم أن تكون آيات الأنبياء غير متميزة وغير خاصة، وآيات الأنبياء هي التي تسمى المعجزات.

    والواقع أن هذا إنكار لما هو موجود ومشاهد بين الناس، ولما هو معلوم بالكتاب والسنة، والتعليل بأن كرامات الأولياء تلتبس بآيات الأنبياء لا وجه له، بل هو باطل، وذلك لأن الولي لا يمكن أن يكذب فيدعي النبوة، فدعوى النبوة كفر بالله جل وعلا، ومن ادعى النبوة فهو كافر، فكيف يمكن أن تجتمع ولاية وكفر؟ هذا لا يمكن، بل مستحيل، وهذه الدعوى باطلة، وليس دليل الولاية خرق العادة التي يعتادها الناس، كأن يدخل إنسان في النار فلا تضره، أو يضرب بسلاح فلا يضره، أو ما أشبه ذلك، فهذا ليس دليلاً على أنه ولي، وليس دليلاً على أن هذه كرامة، فإنه يجب أن يميز بين ما هو كرامة وبين ما هو من أعمال الشيطان من الحيل التي يتحيل بها بعض الناس الذين يريدون أن يلبسوا على الناس بأنهم من أولياء الله، وهم من أولياء الشيطان، وليسوا من أولياء الله جل وعلا، وهذا معروف لمن كان عنده فقه في الدين، ومعرفة بما جاء به رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فالولي هو الذي يحصل له أمر خارق للعادة ويكون متبعاً للسنة، وإذا حصل لشخص أمر خارق للعادة وهو مجانب للسنة، فإنه من عمل الشيطان أو من الحيل، فلا يلتبس هذا بهذا.

    فكيف تلتبس كرامات الأولياء بآيات الرسل، فلا يحصل التمييز بين الولي والنبي؟

    هذا من أكبر الخطأ وأعظمه، ولا يحتاج إلى الرد عليه لظهور بطلانه.

    اتباعهم السنة واجتماعهم وعدم تفرقهم

    ذكر المصنف في هذه العقيدة أنهم تميزوا بأنهم أهل السنة وأهل الجماعة، والسنة في اللغة هي الطريقة المسلوكة الواضحة التي لا خفاء فيها، فلا يخفى على سالك المفازة أن هذا طريق، وقد يكون طريقاً معبداً مذللاً واضحاً وطئته الأقدام، وصار لا خفاء فيه.

    أما السنة المقصودة هنا فهي سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي تطلق على معنيين:

    الأول: يقصد بها أقواله وأفعاله وتقريراته صلوات الله وسلامه عليه؛ وهي التي جاء بها التشريع.

    والثاني: يقصد بها ما هو أعم من هذا، فكل ما قاله أو فعله وسار عليه واستمر عليه هو وأصحابه عموماً فهو سنة، وهذا هو المعنى المقصود هنا، وأهل السنة يسلكونه.

    أما كونهم أهل الجماعة فلأنهم يجتمعون على الحق، ويبتعدون عن كل ما يسبب الفرقة بينهم، وإذا وجدت الفرقة والاختلاف فإنها سرعان ما تزول بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم جاءا بمحاربة الاختلاف والتفرق الذي هو من سنة الجاهلية، والله جل وعلا يقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، فأمر بالاعتصام، ونهى عن التفرق، فهم يمتثلون أمر الله جل وعلا، وكذلك جاءت الأحاديث الكثيرة بالأمر بالاجتماع على الحق، والحذر مما يمكن أن يكون سبباً للتفرق، وهذا كثير جداً في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه ميزة لأهل السنة تميزوا بها عن غيرهم.

    اتباع آثار الرسول صلى الله عليه وسلم

    وقوله: (واتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم) المقصود بالآثار الشيء الذي يؤثر عنه قولاً وعملاً وفعلاً وتقريراً، وليس المقصود الآثار الحسية التي كان يطؤها ويسير عليها أو يقيم عليها، فإن هذا لا يجوز تتبعه لما جاء من التحذير عن ذلك، وأنه سبب هلاك من كان قبلنا، وقد كان عبد الله بن عمر يتتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل مكان علم أنه جلس فيه يجلس فيه، أو صلى فيه يصلي فيه، حتى إنه عرف مكاناً، بال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوضأ ثم صب بقية وضوئه على شجرة هناك، فكان عبد الله بن عمر يصنع هذا.

    وهذا مما أنكره عليه كبار الصحابة مثل والده وغيره من الصحابة، وقالوا: إن هذا العمل ليس مشروعاً، ولا يجوز فعله؛ ولهذا السبب قطع عمر رضي الله عنه الشجرة التي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها الصحابة بيعة الرضوان، لما رأى بعض الناس يؤمها ويصلي عندها؛ لأن الله ذكرها في القرآن في قوله: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18] فخشي أن يفتتن الناس بها، وهذا هو الذي عليه أهل السنة.

    فاتباع الآثار يقصد به الأمور الشرعية، ولا يقصد به اتباع آثار الفعل من الجلوس والمبيت والصلاة في مكان ما، فإذا أدرك الإنسان الصلاة صلى فيها وإلا سار، ولا يقصدها ليصلي بها؛ لأنها غير مخصصة للصلاة، وليس فيها ميزة عن غيرها، وهذا هو الصواب الذي يقوله أهل السنة.

    وقوله: (باطناً وظاهراً) يعني: اتباع السنة باطناً وظاهراً، ويقصد بهذا أنه لابد من العمل الظاهر، ولابد أن يكون الإنسان مخلصاً في نيته، قاصداً بذلك وجه الله تعالى، فهذان شرطان لكل عبادة تصدر من الإنسان: أن يكون متبعاً، وأن يكون مخلصاً قاصداً وجه الله، ليس فيه في عمله قصد لأمر من أمور الدنيا، أو مراءاة الناس أو غير ذلك؛ لهذا قال: باطناً وظاهراً، فالباطن هو إخلاص النية، والظاهر هو العمل المشاهد الذي يتبع فيه سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؛ لأن الله جل وعلا يقول: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100].

    وقوله: اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ يشمل كل من تبعهم إلى يوم القيامة، وهذا يعني أن أهل السنة يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، ويترسمون خطاهم؛ لأنهم يقيناً على الحق؛ لأنهم رضي الله عنهم شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند تبليغه أوامر الله جل وعلا، وتلقوا ذلك عنه، وفهموا ما خوطبوا به فهماً لا يتطرق إليه أي شك، فصار معلوماً باليقين أنهم على الهدى، وأن الضلال في الانحراف عن طريقتهم.

    وسبق أن المهاجرين مقدمون في الفضل على الأنصار لما سبقوا به من الإيمان ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد في سبيله، ولما انضم إلى ذلك من ترك الوطن والمال والأهل، رغبة في نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم والدين الذي جاء به، والرغبة فيما عند الله جل وعلا.

    اتباع الخلفاء الراشدين

    (واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (عليكم بسنتي))، (عليكم) كلمة تعني الحض ومعناها: الزموا وخذوا.

    والخلفاء الراشدون قد عرف أنهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ؛ للحديث الذي صححه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما من حديث سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً) وهذه هي مدة الخلفاء الراشدين، ثلاثون سنة وكملت بستة أشهر وهو الوقت الذي كان فيه الحسن بن علي رضي الله عنه خليفة، ثم بعد ذلك تنازل عن الخلافة لـمعاوية فصار ملكاً، فـمعاوية رضي الله عنه هو أول ملوك المسلمين.

    وأما عمر بن عبد العزيز فقد ألحقه بعض العلماء بأنه من الخلفاء، ولكن وقته كان متأخراً عن الخلافة التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم، والراشد لا يلزم أن يكون في هذا الوقت خاصة، بل قد يوجد ولو في وقت متأخر، وإنما الواجب اتباعهم.

    والراشد هو المهدي، وهو الذي عرف الحق فاتبعه، وضده الغاوي، وهو الذي عرف الحق فتركه وجانبه، وأما الضال فهو الذي لم يعرف الحق، فصار يتخبط في الضلال.

    فيكون الناس ثلاثة أصناف: راشد، وغاوٍ، وضال، فالراشد الذي عرف الحق واتبعه وعمل به، والغاوي هو الذي عرف الحق فتركه وجانبه، والضال هو الذي لم يعرف الحق فهو يتخبط في ضلاله وغوايته.

    وقوله: (المهديين) يعني: الذين هداهم الله جل وعلا لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، والعمل بكتاب الله.

    وقوله: (من بعدي) هذا يعني أنهم بعده مباشرة، فتعين أنهم الخلفاء الأربعة.

    قوله: (فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)، هذا زيادة حض وحث على التمسك بذلك، ولابد أن يكون هذا الحض والحث بسبب ما سيحدث من البدع والمخالفات كما هو الواقع الآن، وليس معنى ذلك أن الخلفاء يأتون بسنة غير سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإنما المعنى أنهم يقيمونها، ويدعون إليها، ويبينونها لمن تخفى عليه.

    النهي عن البدع والمحدثات

    قوله: (وإياكم ومحدثات الأمور) هذا أيضاً نهي عن البدع، والمحدث في اللغة هو الشيء الذي جد، والمقصود به هنا ما أحدث في الدين، والمحدثات هي البدع، وهي من أعظم المحرمات، وكل نقص يدخل على المسلمين من جهة المحدثات أو جهة الغلو والزيادة في المشروع، والغلو داخل في المحدث؛ لأن الزيادة مثل النقص، فالزيادة محدثة كما أن النقص الذي هو الجفاء محدث، فالعبد لا يكون عبداً إلا إذا كان مقتفياً ومتبعاً لآثار الرسول صلى الله عليه وسلم.

    وقوله:( فإن كل بدعة ضلالة) (فإن) للتأكيد و(كل) للعموم، والضلالة: ضد الهدى الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء في المجتبى للنسائي زيادة: (وكل ضلالة في النار)، وهي زيادة صحيحة، وبهذا يتبين لنا أنه يتعين على المسلم اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، وسلوك طريق المؤمنين الذين اتبعوا هذا الطريق، وأنه إذا انحرف عن ذلك فإنه على خطر عظيم.

    وقوله: (يعلمون أن أصدق الكلام كلام الله).

    المقصود بهذا أن كلام الله فيه العصمة وفيه الهداية، وليس معنى ذلك أن أحداً يقول بأن كلام الله يكون فيه كذب؛ لأن رب العالمين جل وعلا علام الغيوب، وإذا قال قولاً فهو يطابق الواقع وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87]، فهو صدق في أخباره، وهو عدل في أحكامه وأقضيته، وهذا هو معنى التمام في قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً [الأنعام:115].

    وقوله: (وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم):

    (هدي): هذه الكلمة يجوز أن تقرأ بالفتح هَدي، ويجوز أن تقرأ بالضم الهُدى، وإذا قيل الهُدى فمعنى ذلك أنه: الاهتداء بالوحي الذي جاء من عند الله جل وعلا، أما الهَدي: فهو السمت والطريقة والسلوك، وهو راجع إلى ذلك.

    أهل السنة يقدمون كلام الله على كلام غيره

    قوله: (ويؤثرون كلام الله على غيره).

    معنى (يؤثرون): لا يقدمون كلاماً على كلام الله، ومعنى ذلك أنهم يأخذون بكلام الله ظاهراً وباطنا، وأنهم يعلمون أن كلام الله فيه العصمة من الضلال، وأن ظاهره حق ولا يدل إلا على الحق، وأن أقواله وأخباره صدق، فيعتقدون هذا تمام الاعتقاد، ولا ينحرفون عنه قيد أنملة.

    والمقصود بهذا الرد على الذين يقولون: إن النصوص من الكتاب والسنة ظواهر لا تفيد العلم اليقيني، وإنما تفيد الظن، ومسائل العقيدة لابد أن تؤخذ من اليقينيات، ويجعلون اليقين ما يسمونه بالعقليات، وهي أمور جدلية، بل شكوك لا تثبت أمام النقد وأمام المناظرة؛ ولهذا تجد أحدهم يتقلب، وكل يوم له دين، والأئمة يحذرون من ذلك، وإذا رأوا من يجادل في هذا يقولون له: نحن لسنا في شك من ديننا؛ لأن معنا الوحي الذي جاء به رسول الله، وأما أنتم أهل الشك فابحثوا عن أمور يقينية. ولن يجدوها إلا في كتاب الله وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ومراد المؤلف هو أن يبين أن الحق واليقين والهدى في ظاهر النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن من ادعى أن ألفاظ الوحي -سواء كان من كلام الله أو من كلام رسوله صلى الله عليه وسلم- ظواهر لا تعطي اليقين وإنما تعطي الظنون، فهو ضال مخالف لطريقة أهل السنة والجماعة، فيحذر منه؛ ولهذا قال: (ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس)، وهذا عام شامل لمسائل العقيدة، أو مسائل الفقه والفروع والعمليات، ولا فرق بين مسائل العقيدة ومسائل العمليات في الأدلة التي يثبت بها هذا أو هذا، إذا صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب قبوله ووجب العمل به والقول بمقتضاه، سواء كان في مجال العمل أو في مجال العقيدة.

    ثم هو أيضاً يرد على الذين يقولون: إن الوحي الثاني الذي هو أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تثبت به العقائد؛ لأنها أخبار آحاد، وإنما تثبت العقائد بالنصوص القطعية كالقرآن وكالأحاديث المتواترة، وهذا قول أهل البدع من المعتزلة ومن سلك طريقهم، وكذلك قبلهم الخوارج، فإنهم أنكروا أن تثبت الأحكام القطعية بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن قد عرفنا أن الخوارج ليسوا أهل علم ولا أهل جدل، وإنما هم جهال أهل سيف وانحراف؛ ولهذا صاروا يقتلون المسلمين ويتركون الكافرين.

    تقديم هدي النبي صلى الله عليه وسلم على هدي غيره

    قوله: (ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد).

    الهدي هنا يشمل القول ويشمل العمل، ومعنى ذلك: أن كل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الواجب هو الأخذ به؛ لأن هذا مقتضى الإيمان، وبهذا فسر العلماء شهادة أن محمداً رسول الله؛ لأن معنى شهادة أن محمداً رسول الله: العلم بأنه رسول من عند الله، وطاعته فيما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه، وعبادة الله جل وعلا بشرعه الذي جاء به من عند الله، هذا هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله.

    قوله: (ولهذا سموا أهل الكتاب والسنة) أي: لأنهم يتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عقيدة وعملاً وسلوكاً ومعاملات.

    وقوله: (وسموا أهل الجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع)، أي: الاجتماع على الحق.

    قوله: (وضدها الفرقة)، فأهل الفرقة هم أهل البدع، وأهل الجماعة هم الذين يتمسكون بالكتاب والسنة، ولا ينافي ذلك أن يكون بينهم اختلاف في فهم النصوص العملية، ولابد أن يحدث بينهم اختلاف ونزاع في ذلك، ولكن هذا لا يدعوهم إلى انفصام الأخوة والمودة والمحبة، بل يتمسكون بالأخوة الإيمانية، والمودة والمحبة التي جاء بها الشرع، ويجعلون كل واحد معذوراً في فهمه، إلا أن يتبين أن الحق في خلاف قوله، فإن تبين ذلك رد عليه قوله، ومع ذلك لا ينزع منه الولاء ويجعل مكانه البراء والمعاداة، حتى يتبين أنه مشاق لله ولرسوله ومفارق لسبيل المؤمنين.

    وأهل البدعة بخلاف ذلك، فمن علاماتهم التفرق، ومن علاماتهم التكفير، فمن خالفهم كفروه ورموه بالعظائم، أما أهل السنة فالذي يخالفهم ويكون له وجه عذر ولو من بعيد يسمونه ضالاً، ولا يكفرونه حتى يترك ما يكون بتركه كفر، أو يفعل ما يكون فعله كفراً.

    قال: (وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم المجتمعين)، يقصد أن هذا الاصطلاح الذي حدث ليس هو المقصود بالأحاديث التي جاءت في لزوم الجماعة، فإن الأحاديث التي جاءت في الأمر بلزوم الجماعة -وكذلك الآيات- يقصد بها لزوم الحق وإن كان الذي على الحق واحداً، فيكون هذا المراد بالجماعة.

    1.   

    الإجماع عند أهل السنة

    قوله: (ثم الإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين)، هذا قد يكون غريباً ذكره هنا، ولكن لأن بعض أهل البدع أنكر الإجماع، وأنكر أن يكون الإجماع أصلاً يرجع إليه، فأراد المصنف أن يبين ميزة أهل السنة، وأن أصولهم التي يرجعون إليها في الأحكام وفي العقائد ثلاثة: كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والإجماع.

    ثم بين أن الإجماع المعتبر هو الإجماع المنضبط، وهو إجماع الصحابة ومن تبعهم من التابعين، لأنهم كانوا محصورين، والكلام المحصور يعلم.

    أما بعد أن تفرقوا في البلاد، وكثر العلماء، واتسعت بلاد المسلمين، فالإجماع لا يكون منضبطاً، فمدعي الإجماع بعد ذلك يكون مدعياً لشيء يستحيل الإحاطة به، وهذا معنى قوله: (الإجماع الذي ينضبط هو إجماع السلف) يعني: الصحابة، ولابد أن يكون الإجماع مستنداً إلى نص من كتاب الله أو سنة رسوله؛ لأنه ليس معنى الإجماع أنه يأتي بشيء جديد، وأنه أصل يشرع به، بل لابد أن يكون مستنداً إلى أصل من كتاب الله وسنة رسوله، واستدل على هذا بقوله جل وعلا: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:115] فسبيل المؤمنين يدخل فيه ما أجمعوا عليه، فهذا أصل يرجع إليه في الإجماع.

    وهناك نصوص خاصة في كل مسألة يجمع عليها، ولابد أن يكون فيها شيء يعتمد عليه من كتاب الله وسنة رسوله، فإن قيل: ما الفائدة -إذاً- من الإجماع إذا كان هناك أصل يعتمد عليه الإجماع من الكتاب والسنة؟ فيقال: الفائدة في هذا أنه لا يجوز النزاع بعد ذلك في الفهم الذي قد ينزع به من ينزع به، فإذا حصل إجماع السلف فيجب أن يرفع الخلاف، ولا يكون هناك فهم يخالف هذا الإجماع.

    وأهل السنة والجماعة يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من الاعتقادات ومن الأعمال، فيجب على الإنسان إذا عمل عملاً أن يرجع إلى هذه الأصول، فيرجع إلى كتاب الله فإن وجد فيه تبين أنه هدى، أو إلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها جاءت لتفسير القرآن وإيضاحه وبيان ما نزل الله جل وعلا إلى الناس، فإن وجد ذلك فيها تبين أنه من الدين، أو إلى ما أجمع عليه المسلمون، فإن تبين أنه ليس لهذا العمل دليل في هذه الأصول وجب رده والبراءة منه، فهو بدعة وضلالة، وهذا معنى كونهم يزنون ما عليه الناس من أقوال وأفعال وعقائد بهذه الأصول.

    1.   

    وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    قوله: (ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جاء الأمر به في نصوص كثيرة، والله جل وعلا علق خيرية هذه الأمة على أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، وقد عد بعض العلماء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلاً من أصول الإسلام، فقال: أصول الإسلام ستة: الأول: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، الثاني: إقام الصلاة، الثالث: إيتاء الزكاة، الرابع: صوم رمضان، الخامس: حج البيت، السادس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فجعله أصلاً من أصول الإسلام، واستدل على هذا بالآيات والأحاديث الكثيرة.

    وأهل العلم من أهل السنة يعلمون أن هذا واجب، وأنه يتعين على كل من يستطيع أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يفعل ذلك؛ لقول الله جل وعلا: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104] فهذا يدل على أن الفلاح خاص بهم، وأن من عداهم يكون غير مفلح بل هو خاسر.

    وكذلك قوله جل وعلا: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران:110] والخيرية هي من أجل هذا.

    وكذلك قوله جل وعلا: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:71] فجعل ولاية بعضهم لبعض في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، والنصوص في هذا كثيرة في كتاب الله جل وعلا، وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) يعني: إنكار المنكر بالقلب، فتبين بهذا أن إنكار المنكر فرض، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا أصل عظيم، والعلماء قد تكلموا وكتبوا فيه كثيراً، ويجب على طالب العلم أن يطلع على الأمور التي لابد منها في هذا؛ ولهذا قال: (على ما توجبه الشريعة) لأن هناك أموراً كثيرة تتعلق بالأمر بالمعروف يجب أن يطلع عليها.

    1.   

    السمع والطاعة لولاة الأمر في غير معصية

    قوله: (ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً).

    يعني: هذا من طريقة أهل السنة العملية التي يسلكونها، وهي خلاف طريقة أهل البدع، فأهل السنة يصلون خلف كل إمام براً كان أو فاجراً ما لم يعلم أنه كافر، فإذا علم يقيناً أنه كافر لم تجز الصلاة خلفه، ولا يجوز أن يكون إماماً للمسلمين أو أميراً على المسلمين؛ لأن هذا علق بآيات وأحاديث جعلته من المسلمين كقوله تعالى: وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59].

    وقوله: (ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد) ومن ذلك صلاة الجماعة، يعني: أنه إذا كان إمام الجمعة، أو أمير الحج، أو أمير الجهاد فيه معاص، وفيه ظلم، وفيه مخالفات للشرع، فإنهم لا يتركون العمل الذي هو طاعة، بل يجب أن يعملوا معه الطاعات، وأن يتلافوا ما فيه خلاف حسب الاستطاعة، ويغمر ذلك الشيء بالمصالح الشرعية التي في الاجتماع، حتى يجتنب المفاسد الكثيرة التي تكون في التفرق والاختلاف والخروج.

    وقوله: (ويحافظون على الجماعات).

    يعني: يحافظون على الصلوات في الجماعة؛ لأن هذا من العمليات التي يتميز بها أهل السنة، وهذا للأحاديث الكثيرة التي جاءت عن الرسول صلى الله عليه وسلم في إيجاب ذلك.

    وقوله: (ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه) )، النصيحة مأخوذة من النصح وهو الخلوص، يقال: نصحت الثوب إذا غسلته وأزلت وسخه، وأصبح ليس فيه درن، فالنصيحة مأخوذة من هذا، فالنصيحة هي إرادة الخير للمنصوح بكل وجه، وإزالة أسباب الشر عنه.

    والمسلم للمسلم عموماً يكون بهذه الصفة، ولا يجوز أن ينطوي قلبه على غش لإخوانه أو حقد أو غل كما بينت الأحاديث ذلك، وتمثيل الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين كالبنيان الذي يتماسك جميعاً، ويشد بعضه بعضاً؛ يدل على أنه لا يجوز أن يتميز واحد عن الآخر في النصح والعمل، بل يجب أن يكونوا سواء، وأن يكونوا ممتثلين لأمر الله جل وعلا، لا يخالفون ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) وهذا الحديث يمثل به الرسول صلى الله عليه وسلم ما يبين حق المسلم على المسلم، وأنه يجب أن ينصح له وأن يعمل على أن ينمي له الخير ويوجده، وأن يدفع عنه الشر ويعدمه بما استطاع، وأن يكون ناصراً له على الحق معاوناً له في ذلك، وأن يكون ذاباً عنه كل ما فيه أذاه أو سبب عذابه؛ لأنه يرى أنه كنفسه، ويحب له ما يحب لنفسه، وقد جاءت النصوص الصحيحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنون حتى تحابوا)، فلابد من التحاب على الإيمان، وعلى العقيدة، وعلى الدين، لا على الدنيا، ولا على أعمال الدنيا، ولا على الأنساب، ولا على الأعراق والأعراف، بل يجب أن تكون على الدين.

    وللأسف أن هذا الأمر المهم جداً يكاد يكون معدوماً عند المسلمين أو عند كثير منهم، فتجد أن المسلم يعادي أخاه، وتجد أنه لا يعطف عليه، وتجد أنه لا يهمه لو آذاه أو ظلمه، وهذا لضعف الإيمان، ولضعف الامتثال لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم .

    وقوله: (يأمرون بالصبر عند البلاء)؛ لأن الإنسان في هذه الدنيا لابد أن يبتلى، إما أن يبتلى بقريبه أو بماله أو بأخيه المؤمن أو بنفسه، فلابد من الابتلاء؛ لأن هذه الدنيا ليست محل إقامة، وإنما هي فترة وجيزة قصيرة ثم ينتقل منها، فالإنسان في هذه الدنيا هدف تصيبه أغراض البلايا، فلابد أن يوطن نفسه على الصبر والاحتساب، وأهل السنة والجماعة يأمرون بالصبر عند إصابة البلاء، ويأمرون بالشكر عند النعم، والرضا بمر القضاء الذي يكون مراً على النفوس، والقضاء كله خير بالنسبة لله جل وعلا، وليس فيه شيء مر؛ لأن الله لا يفعل إلا ما هو حسن.

    1.   

    الدعوة إلى مكارم الأخلاق

    قوله: (ويدعون إلى مكارم الأخلاق).

    مكارم الأخلاق في العمل وفي السلوك، وفي البذل والعطاء، فيدعون إلى مكارم الأخلاق التي يكون فاعلها متكرماً ومترفعاً، ويكون متميزاً على من أكرمه بذلك الخلق أو بهذا العطاء أو بهذا العمل، فسمي كريماً؛ لأنه بذل وأعطى وتميز بذلك، فهم يدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، سواء بالقول أو العمل أو البذل والعطاء.

    قوله: (ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً لأن الخلق الحسن يستطيع به الإنسان أن يتحمل ما يتطرق إليه من أذى أو ظلم، وكذلك يستطيع به أن يبذل ما يملكه من نفع معنوي أو مادي.

    وقوله: (ويندبون إلى أن تصل من قطعك) مثل ذوي الأرحام إذا قطعوك، فأهل السنة يندبون ويحثون ويأمرون بأن تصلهم، وأن تعاملهم بنقيض ما عاملوك به؛ لأن الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءت بالأمر بوصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك.

    وقوله: (وتعطي من حرمك)، يعني: ممن لك حق عليه، إذا حرمك حقاً هو لك، فيأمرونك أن تعامله بنقيض ذلك وأن تعطيه.

    وقوله: (وتعفو عمن ظلمك). لأن العفو ندب الله جل وعلا إليه في كتابه، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم ندب إليه، يقول الله جل وعلا: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134]، وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ [الشورى:43]، فالذي يصبر ويغفر -يعني: يعفو- هو الذي يكون له مقام رفيع عند الله جل وعلا.

    وقوله: (ويأمرون ببر الوالدين وصلة الأرحام)، هذه كلها أمور واجبة وأصول عملية، فبر الوالدين قرنه الله جل وعلا بحقه، فأمر أن يحسن إليهم إحساناً عاماً مطلقاً.

    وقوله: (وحسن الجوار) كذلك أن تحسن إلى جارك وإن أساء إليك، فإن أهل السنة يأمرون بذلك؛ لأن هذا من طريقتهم.

    وبهذه الأمور التي هي: صلة القاطع، وإعطاء المانع، والعفو عن الظالم، وبر الوالدين، والإحسان إلى الجار تقل المفاسد والمعاصي، أو تنعدم إذا امتثل بذلك.

    قوله: (والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل) لأن هذه مما نص الله جل وعلا عليها، بأن يفعلوها ويلتزموا بها، وهذا تفسير لما سبق أنهم يتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    وقوله: (والرفق بالمملوك) الذي يملكه الإنسان من عاقل أو بهيمة، فيأمرون بالرفق بالمملوك ولو كان بهيمة يريد أن يذبحها ويأكل لحمها فإنه يؤمر بالرفق بها، والرسول صلى الله عليه وسلم أمر الذي يريد أن يذبح أن يحد شفرته وأن يريح ذبيحته، ولا يريها الشفرة، ولا يسيء إليها بجرها وضربها، فإن هذا ليس من طريقة أهل السنة والجماعة، بل هو من طريقة أهل المعاصي وأهل السلوك الغير محمود.

    وقوله: (وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي)؛ أما الفخر: فهو التعالي والتكبر بما يكون للإنسان من صفة أو ما يكتسبه من معنى.

    أما الخيلاء: فهو التعاظم في النفس وكذلك الإباء عن بذل الحق، واللجوء إلى ما تزينه النفس والشيطان.

    أما البغي: فهو الظلم والعدوان بأن يعتدي على من ليس له عليه يد؛ لأن هذا من الظلم الذي يؤمر بالابتعاد عنه.

    قوله: (الاستطالة على الخلق) باللسان أو باليد أو بغير ذلك، والاستطالة تكون غالباً بالكلام في الأعراض، من الغيبة التي جاء النهي عنها.

    وقوله: (الاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق)، الاستطالة هي أن يتعدى الحق، فإذا تعدى الحق الذي يجب أن يسلكه فقد استطال؛ ولهذا قال: (بحق أو بغير حق)؛ لأن الاستطالة لا تكون إلا بغير حق، والمقصود أنه لو كان هذا الذي استطيل عليه ظالماً فلا ينبغي أن يقابل بالظلم.

    وقوله: (ويأمرون بمعالي الأخلاق، وينهون عن سفاسفها) معاليها أي: محاسنها ومكارمها، أما سفاسفها فهي الأخلاق التي تكون سافلة، وهي أخلاق أهل السفول وأهل السقوط، فأهل السنة ينهون عنها، وكل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة، وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بَعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم.

    والحمد لله رب العالمين.

    وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756294190