اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام..هذا يوم السبت الثامن والعشرون من شهر جمادي الأولى لعام 1412هـ، وهذا هو الدرس الثالث والثلاثون من الدروس العلمية العامة.
إخوتي الكرام.. وقد سبق إليكم الإعلان أن هذا الدرس هو عن "سلطان الأندلس ويتساءلون من هو سلطان الأندلس؟
ولا شك أن الأمة إذا شعرت بأن واقعها مرير, فإنها دائماً تلتفت إلى ماضيها وتتطلع إلى غابرها ومن أعماق الماضي ينبثق الحاضر والمستقبل المشرق لهذه الأمة.
أيها الإخوة.. لقد كان من العلماء في كل عصور التاريخ أئمة أفذاذ شأنهم كما قال أحدهم:
يقولون لي فيك انقباض وإنما أوا رجلاً عن موقف الذل أحجما |
أرى الناس من داناهم هان عندهم من أكرمته عزة النفس أكرما |
ولم أقض حق العلم إن كان كلما بدى طمع صيرته لي سلما |
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما |
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما |
ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما< |
ويقول رحمه الله: (فلا تغالطوا أنفسكم ولا يغرينكم الفساق والمنتسبون إلى الفقه اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع, المزينون لأهل الشر شرهم, الناصرون لهم على فسقهم, فالمخلص لنا منها الإمساك للألسنة جملة وتفصيلاً إلا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وذم جميعهم, والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها, فنحن نراهم يستمدون النصارى ويمكنونهم من حرم المسلمين, وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً, فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس لعن الله جميعهم وسلط عليهم سيفاً من سيوفه).
ومن جميل ما يقول -رحمه الله- لما تكلم عن السكوت وذم جميع هؤلاء قال: (فمن عجز منا عن ذلك -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذم الظالمين والفاسقين والمعتدين على حدود الله عز وجل- رجوت أن تكون التقية تسعه, وما أدري كيف يكون هذا؟ مع أنه لو اجتمع كل من ينكر بقلبه لما غلبوا على أمرهم).
هذا الإمام الكبير كان موجوداً في عهد الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر, وكان عبد الرحمن الناصر من خلفاء بني أمية المشهورين وكبار زعمائها حتى إنه حكم أكثر من خمسين سنة, وكان مشهوراً بالبنيان والعمران, وتشييد المباني والمعالم والآثار, حتى إن آثاره لا تزال باقية إلى اليوم, فارهة ظاهرة تقول لكل من رآها أو سمع بها:
تلك آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار |
إن مدينة الزهراء التي بناها وعمرها وشيدها وأسسها وأثثها, لهي من البناء الباقي إلى يوم الناس هذا, كان معنياً بهذا البناء ولكن ذهب الباني وبقي البناء.
ومن طريف ما يروى عن عبد الرحمن الناصر وهو قد حكم خمسين سنة وستة أشهر, يروى أنه وجد بخط يده مكتوب أن الأيام التي صفت لهذا الخليفة من دون تكدير هي يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا, ويوم كذا من شهر كذا من سنة كذا.., فحسبت فوجدت أربعة عشر يوماً, فسبحان المتفرد بالبقاء, سبحان الذي لا يموت سبحان الملك القدوس، سبحان الذي فضح هذه الدنيا, فلم يبق فيها لذي عقل ولا لذي لب أرباً ولا شأنا, ملك فخم كبير يحكم خمسين سنة وتدين له الرقاب حسبت أيام سعادته التي سلمت من التنغيص فلم يوجد له إلا أربعة عشر يوماً طيلة عمره, وربما لو حسبت أيام فقير من الفقراء الذين عبدوا الله تعالى وتضرعوا إليه، ورضوا وقنعوا باليسير، وأخلصوا فيما بينهم وبين الله عز وجل وعمروا قلوبهم بحبه لوجدت أيامهم ولياليهم كلها سعادة وهناءة وسروراً وأنساً, فسبحان من خلق وفرق.
من المعالم الباقية لـعبد الرحمن الناصر مدينة الزهراء -كما أشرت إليها- وقد تغنى بها الشعراء وتكلموا عنها, وبعد وفاته وسقوط الأندلس في أيدي النصارى أصبح المسلمون يتذكرونها بعدما صارت أثراً بعد عين, يقول أحدهم:
أين الرشيد وقد طاف الغمام به فحين جاوز بغداد تحداه |
ماضٍ تعيش على أنقاضه أمم وتستمد القوى من وحي ذكراه |
بالله سل خلف بحر الصين عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهو |
وإن تراءت لك الحمراء عن كثب فسائل الصرح أين العز والجاه |
وانـزل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه؟ لعل الصخر ينعاه |
هذه معالم خرس كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاه |
والله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه< |
حتى انتهى والناس كلهم مبهورون, فقال الخليفة لولده: أهذا المنذر بن سعيد؟ قال: بلى هذا هو يا أبي, قال: والله إن صنيعه هذا ليستحق أن يثاب عليه، فذكرني بحاله فإنه لا ينقطع عن مَحْمَد, والله إن كان قد أعد هذه الخطبة وتوقع أن يحصل مثل هذا الموقف إنه لذكي, وإن كان قد ارتجل هذه الخطبة من ساعته إن ذلك لأشد عجباً, ومن ذلك الوقت والخليفة معجب به، فولاه الصلاة في المسجد وولاه الخطبة، ولما توفي قاضي الجماعة بـقرطبة جعله قاضياً بدلاً عنه فأصبح كبير القضاة بـقرطبة، وأصبح خطيباً بجامعها الكبير وإمام جامعها الذي فيه الخليفة نفسه.
كانت هذه بداية اتصاله بالخليفة, وظل معه إلى أن توفي.
يقول في بعض شعره -رحمه الله- يخاطب نفسه:
كم تصابٍ وقد علاك المشيب وتعامٍ عمداً وأنت اللبيب |
كيف تلهو وقد أتاك نذير أن كأس الحُمَام منك قريب |
يا سفيهاً قد حان منه رحيل بعد ذاك الرحيل يوم عصيب |
إن للموت سكرة فارتقبها لا يداوي إذا أتتك طبيب |
كم توانٍ حتى تصير رهيناً ثم تأتيك دعوة فتجيب |
ليس من ساعة من الدهر إلا للمنايا بها عليك رقيب |
ولذلك كانت له كرامات تذكر, ومن كراماته ما ذكره الإمام أبو محمد بن حزم العالم المشهور عن الحكم بن المنذر ابن هذا الجليل, يقول عن والده: أنه خرج في الحج إلى مكة المكرمة مع رفقة من أهل الأندلس, فلما كانوا في عرض الصحراء تاهوا في الطريق ضلوا وضاعوا, ولم يكن معهم طعام ولا شراب, حتى بلغ بهم العطش مبلغه, وقربت منهم المنية, قال: فأووا إلى كهف في الجبل ينتظرون فيه الموت, فوضع المنذر بن سعيد رأسه على طرف الجبل, فوجد إلى جواره صخرة ناتئة مرتفعة, وعالجها بيده فنـزعها فغار الماء فشربوا عن آخرهم، فأنقذهم الله عز وجل من الموت بسبب العطش كانت هذه من كراماته، وله كرامات مشهورة مذكورة, فإن الله عز وجل إذا علم من عبده الصدق, إذا حفظ العبد ربه حفظه الله, كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس في وصيته المشهورة: {احفظ الله يحفظك}.
وإلى جوار ذلك كان خطيباً مفوهاً يهز أعواد المنابر، حتى إنه كان أخطب أهل زمانه, له إشراقة في البيان، وقوة في الحجة، وبسطة في العلم والجسم، وجهارة في الصوت، وثباتٍ في العقل وحسن ترسل, فكان آية من آيات الله تعالى في قوة الخطابة وفصاحة العبارة.
يقول الإمام ابن عبد البر -رحمه الله- يقول: إن الإمام المنذر بن سعيد خرج يوماً من الأيام وكان قاضياً -كما ذكرت لكم- والقاضي لا يسلم من وجود أعداء ومناوئين ممن حكم عليهم أو أخذ الحق منهم، وقد يكون البعض له شأن ومكان, وكان مثله لا يكاد يخرج إلا معه حرس, أما المنذر بن سعيد فإنه كان يخرج كثيراً, فرآه رجلاً صالحاً يوماً من الأيام على دكان المسجد في آخر الليل, قد خرج لقيام الليل أو الصلاة أو نحو ذلك, فقال له: يا إمام! إنك لمغرور بنفسك وفي الناس المحكوم عليه -أي: الذي حكمت عليه- وفيهم رقيق الدين، وأنا أخشى عليك, وكيف تفعل ذلك؟ فقال المنذر بن سعيد لهذا الرجل: ويحك أنىّ لي لمثل هذه المنـزلة أنىّ لي بالشهادة, إنني لأتمنى الشهادة وأتوق إليها, لكن هيهات هيهات لمثلي أن ينالها! ثم قال: إنني لا أخرج لأعرض نفسي لذلك, ولكني أخرج متوكلاً على الله تعالى, وأنا أعلم أني في ذمته, فاعلم يا هذا أن قدر الله تعالى نافذ لا محيد عنه ولا وزر دونه, وهذا يذكرنا بالقصة التي حصلت للعز بن عبد السلام وقد سبق أن ذكرتها في موضوع (
ومن طرائف ما يروى عنه في معرفته باللغة والأدب والشعر أنه التقى برجل يقال له: أبو جعفر النحاس بـمصر, فكان أبو جعفر هذا يملي على طلابه شيئا من الشعر والعلم, فأملى عليهم قول الشاعر:
خليلي هل بـالشام عين حزينة تبكي على نجد لعلي أعينها |
قد أسلمها الباكون إلى حمامة مطوقة باتت وبات قرينها |
تجاذبها أخرى على خيزرانة يكاد يدانيها من الأرض لينها |
فقال له الإمام المنذر بن سعيد يا شيخ: قولك "باتت وبات قرينها" باتت يصنعان ماذا؟ يعني ينكر عليه ليست (باتت) فقال: إذاً ما هو البيت؟ قال: "بانت وبان قرينها" بانت، يعني: أبعدت وشط بها النوى, نوت، أي: ابتعدت عن قرينها, فأعجب به الإمام أبو جعفر النحاس وأدناه حتى جعله قريباً منه, هذه بعض خصال الإمام وبعض فضائله.
يقول المنذر بن سعيد متحدثاً عن مواقفه وشجاعته:
مقالي كحد السيف وسط المحافل أميز به ما بين حق وباطل |
بقلب ذكي قد توقد نوره كبرق مضيء عند تسكاب وابل |
فما زلقت رجلي ولا زل مقولي ولا طاش عقلي عند تلك الزلازل |
وقد حدقت حولي عيون اخالها كمثل سهام أثبتت في المقاتل |
يشير إلى أنه إذا صعد المنبر لا يهاب من الناس وكثرتهم ونظرهم إليه، ولا يبالي من كان يستمع إليه كبيراً أم صغيراً, له مواقف عجيبة.
ومضى بلهجته المعتادة وشجاعته وقوته في ذم الدنيا وذم تشييد البناء والاستغراق في الزخرف والإسراف فيه، وتلا قول الله تعالى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:109-110] وأتى بما يشاكل هذا المعنى ويقاربه ويوافقه من التخويف بالموت، وأن الموت قد يفاجئك بكرة أو عشية, وذكر بالدنيا وسرعة زوالها والزهد فيها والرغبة في الآخرة والإخلاد إليها, والطمع فيما عند الله عز وجل، وأسهب في ذلك وأضاف ما حضره من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والآثار عن السلف والأقوال عن الحكماء والشعراء وغيرهم، حتى إن الناس بلغ بهم التأثر مبلغاً وضجوا وبكوا ونشجوا ودعوا وارتفع الصياح في المسجد, وكان للخليفة من ذلك قدر كبير, فإنه أقبل على نفسه وأجهش بالبكاء، وبدأ يمسح دموعه ويتضرع ويبتهل إلى الله عز وجل, ثم انتهت الصلاة فخرج الخليفة، فوجد في نفسه على المنذر بن سعيد بعدما تأثر بخطبته إلا أنه وجد عليه شيئاً، أنه قد قسى وأغلظ له القول, وبالغ في تقريعه, فشكا الخليفة هذا لولده, -الخليفة كان له ولد اسمه الحكم تولى بعده- فشكا الخليفة لولده ما لقيه من المنذر وقال: والله لقد تعمدني بالكلام، ووالله ما عنى بهذا الكلام غيري, وقد أسرف عليّ, وأفرط في تقريعي وذمي وتوبيخي، وما وفق إلى الطريقة المناسبة في نصحي وإرشادي وتوجيهي, فماذا صنع الخليفة؟
الخليفة أمام عالم قد تكلم عليه على رءوس المنابر وعلى رءوس الأشهاد، وأدبه ووبخه وقال كلمة الحق حرة قوية نـزيهة, لا يمنعه من ذلك خوف أن يبعد عن منصبه أو يفصل عن القضاء أو يبعد عن الخطابة ولا أن يسجن أو يقتل, لأن هذه الأمور كلها بالنسبة للمسلم المؤمن التقي لا تعني شيئاً, بل بالعكس هي أمور هو يسعى إليها, كما كان يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري حيث ما ذهبت فهي معي لا تفارقني! أنا قتلي شهادة، وسجني خلوة، ونفيي وإخراجي من بلدي سياحة، فماذا يصنع بي أعدائي؟".
أعيتهم الحيلة ما لهم حل! كل شيء يصنعونه به فهو عز ورفع لقدره.
فلذلك لم يأبه المنذر بكل هذه المخاوف ووضعها تحت قدميه, وأقبل على الخليفة وعلى الناس ينصح مثل هذه النصيحة البليغة المؤثرة, فماذا كان موقف الخليفة؟ قال لولده هذا الكلام, ثم أقسم أن لا يصلي الجمعة خلفه, هذا عقابه, أقسم أن لا يصلي الجمعة خلف هذا الإمام, وجعل يصلي وراء خطيب آخر في قرطبة, يقال له: أحمد بن مطرف, إذا جاء وقت صلاة الجمعة ركب الخليفة وذهب أبعد من المسجد هذا, ذهب بعيداً ليصلي وراء أحمد بن مطرف, وترك الصلاة بـالزهراء, فقال له ولده الحكم: يا أبتي! ما الذي يمنعك أن تعزل هذا الخطيب حتى تذهب وتصلي في المسجد القريب منك, فقال له بعدما زجره وانتهره ووبخه، وقال: أمثل منذر بن سعيد في فضله وعلمه ونبله وتقواه يعزل؟ لا أم لك -يقول لولده: لا أم لك، يدعو عليه- وهل أعزل مثل هذا العالم الجليل لإرضاء نفس ناكبة عن الحق, يقول: أنا المخطئ ليس هو, هذا لا يكون أبداً وأنا حي, وإني والله لأستحي من الله عز وجل أن يكون بيني وبينه، في الصلاة غير المنذر بن سعيد؟؟ ولكنني غضبت وحلفت, وإن وجدت سبيلاً إلى أن أكفر عن يميني وأعود لأصلي خلفه فعلته إن شاء الله وسيظل المنذر بن سعيد خطيباً وإماماً وقاضياً لنا مدة حياتنا وحياته حفظه الله وأبقاه.
هكذا كانت مواقف هؤلاء الحكام مع أولئك العلماء؛ لأنهم يعرفون أن الذي يقول كلمة الحق هو الناصح, وأن الغاش حق الغش هو الذي يداهنهم، وهو الذي يجاملهم ويزين لهم باطلهم, ويسكت على فسادهم لأنه قد رآهم على ما يسخط الله عز وجل ويكون سبباً في زوالهم ووقوعهم في قبضة عدوهم فلم يغير عليهم ولم ينكر عليهم, هذا موقف من مواقفه العجيبة.
أولاً: تغيير المنكر سراً وعلانية:
حال العلماء, وأن علماء هذه الأمة كان منهم عبر العصور كلها, من يتعمد الخليفة إذا وقع في المنكر علانية, فكان ينكر عليه علانية, فمن أسر في المنكر أسررنا له في الإنكار, ومن أعلن أعلنا له, وليس صحيحاً أن يعلن المنكر ويشاع ويذاع ويتسامع به الناس قاصيهم ودانيهم, ثم يطلب من الإنسان ألَّا ينكر إلا خفية وإلا سراً, بل كان العلماء يتعمدون أن المنكر إذا كان مشهوراً معلناً معروفاً للناس فإنه لا بد أن ينكر علانية, أرأيت منكراً يذاع مثلاً في إذاعة أو في جريدة أو في شاشة ويسمعه مئات الألوف بل ملايين, كيف يمنع عالم أو داعية أن ينكره؟ وقد يكون الذين يستمعون إلى هذا العالم أو الداعية بالنسبة لمن رأوا المنكر قليلاً من كثير وغيضاً من فيض.
فكان العلماء يتعمدون المنكرات المذكورة المشهورة المعلنة, فينكرونها علناً لئلا تغتر الأمة, لأن الأمة لو رأت المنكر يقع والعالم يسكت ظنت أنه مباح, وطالما استشهد كثير من الناس بأن شيئاً من المنكرات مباحاً أو حلالاً لأنه موجود وما أنكره أحد ولا سمعنا من انتقده.
وكم من إنسان استحل الربا أو الغناء أو التدخين أو الصور الخليعة، أو غيرها من المنكرات, بحجة أنها موجودة بلا نكير ولا أحد يقوم بتغييرها أو الحديث عن تحريمها.
ثانياً: الوقفة الثانية: ميزة العلماء عن غيرهم:
إن كثيراً من العلماء وخاصة أولئك الذين جعلهم الله قوامين بالحق شهداء لله, شهداء بالقسط ناطقين بالصدق محيين لما دُرس من أمر النبوة, أولئك العلماء إنما تميزوا بأنهم تخلوا عن الدنيا وزخرفها ومناصبها, فما عادت الدنيا زهرة في عيونهم, ما بالوا بها جاءت أم ذهبت, همّ أحدهم أن يُرضي الله عز وجل ولو أسخط الناس, وأن يقول كلمة الحق ولو خسر ماله أو منصبه أو حتى حياته وليس ذلك بخسارة, فإن هذا هو عين الربح، أرأيت من فارق هذه الدنيا ثم أفضى إلى إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54-55] هل يقال عنه: إنه خسر الدنيا؟ بل هذا والله باع الفاني بالباقي, وباع الخزف بالذهب, وباع دنياً لا خير فيها ولا قرار لها بآخرة وجنة عرضها السماوات والأرض.
يقول أحدهم:
أمتّ في الله نفساً لا تطاوعني في المكرمات لها في الشر إسرار |
وبعت لله دنياً لا يسود بها حق ولا قادها في الحكم أبرار |
وإنما جزعي في صبية درجو غفل عن الشر لم توقد لهم نار |
قد كنت أرجو زماناً أن أقودهم في المكرمات فلا ظلم ولا عار |
واليوم سارعت في خطوي إلى كفنٍ يوماً سيلبسه برٌ وكفار |
بالله يا صبيتي لا تهلكوا جزعاً على أبيكم طريق الموت أقدار |
تركتكم في حمى الرحمن يكلؤكم من يحمه الله لا توبقه أوزار |
قد يخاف أحدهم على أولاده من أن يربَّوا على غير الإسلام أو يقادوا إلى غير الفضيلة, فيستودعهم الله عز وجل, ثم يلتفت إلى من حوله من الأقارب والأهل والجيران، فيقول لهم:
وأنتم يا أهيل الحي صبيتكم أمانة عندكم هل يهمل الجار |
إن العالم الذي تحرر من الدنيا وتمرد على قيودها وأوهاقها ليس في فمه ماء، فهو يقول الحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
ويعجبني أن أذكر لكم في هذا المجال والمقام قصة طريفة جداً لعالم من علماء الشام, يقال له: الشيخ صالح العقاد, جاءه الباشا وهو في الجامع الأموي جالس بين طلابه ماداً رجله, وكانت في ركبته ألم, فكان إذا جلس في الحلقة مدّ رجليه, والطلاب محيطون به محدقون من حوله وكان عالماً جبلاً لا يأخذ الدنيا ولا يقبلها, فجاء هذا الأمير أمير الشام من قبل الأتراك, ودخل المسجد وكان معه شرط وأعوان وجلاوزة وخدم وحشم وهيلمان وأصوات وإزعاج ونشيج وضجيج, فلما أقبل بدأ الطلاب يتلفتون وينظرون, أما هذا العالم فظل على درسه مقبلاً على شأنه, معرضاً عن هذا السلطان القادم, وبدأ يتكلم في أمور تتعلق بالأمير والنصيحة وهو لا يلتفت ولا ينظر إليه, وهو على حاله ماداً رجله, وقف السلطان ثم وقف ثم وقف حتى ملّ! ولم يلتفت إليه هذا العالم, فبعد أن ذهب إلى القصر بعث إليه بذهب كثير, وقال لأحد خدمه وعبيده: خذ هذا فادفعه للشيخ فلان, فلما جاءه وهو في حلقته مد إليه هذا الذهب وقال: هذه صلة من الأمير, قال له: سلّم لي على الأمير, وقل له: إن الذي يمد رجله لا يمد يده, الذي ظلت رجله ممدودة وأنت واقف عنده هذا لا يمد يده يستجليك ويأخذ منك, لأنه أكبر من أن يأخذ شيئاً من الدنيا, ولذلك ليس في فمه ماء, إذا رأى الخطأ قال هنا خطأ ولا يبالي, لأنه لن يخسر شيئاً.
فكانوا يعتقدون أن العالم هو من أولي الأمر، كما قال الله عز وجل: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59] ليست هذه الأشياء منه يمن بها عليه, ومنحة يعطاها فإذا لم يرض عليه سحبت منه! كلا أبداً, العالم هو قوام الأمة، وهو زينة الحياة، وهو السفير بين الحاكم وبين الناس, فإن الناس أطاعوا الحاكم بطاعتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم, والعالم كان هو السفير بين الحاكم وبين رعيته, يأمر الناس بالطاعة وينهاهم عن المعصية, ويأمرهم بالاعتدال, ويحثهم على التعقل وإدراك الأمور حق إدراكها, ومعرفة الطريق السليم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وفي مقابل ذلك يحتسب على السلاطين فيأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر, ويبين لهم كلمة الحق، ويأمرهم بأن يعطوا الناس حقوقهم وأن يبتعدوا عن الظلم, والاستبداد وأخذ حقوق الناس والطغيان, وغير ذلك من المعاصي التي قد توجد في الراعي أو الرعية.
فالعالم هو القسطاس الذي وضعه الله تعالى حافظاً لهذا الميزان, فليس العالم مجرد أداة في يد عبد الرحمن الناصر أو غيره, بل كان مستقلاً له ثقله ومكانته ووزنه، ولم يكن لـعبد الرحمن الناصر أو غيره أن يتجرأ بأن يزيل هذا العالم لسبب أو لآخر, كل ما يملك هو: والله لا أصلي بعده أبداً, هذا أقصى ما يستطيعه, أما أكثر من هذا فلا يمكن, مجرد أن يترك الصلاة وراءه.
الأندلس -كما تعرفون- كانت أرضاً خصبة خضراء, وكانت من أحسن وأفضل وأجمل بلاد الدنيا, وفيها من الأشجار والأنهار والمياه والخيرات ما لا يوجد في غيرها, وكانت تحتاج إلى الأمطار كثيراً.
ولذلك كثيراً ما كان المسلمون يستسقون ويستمطرون المطر من الله عز وجل, فيقيمون صلاة الاستسقاء, ولذلك أمر الخليفة عبد الرحمن الناصر يوماً من الأيام الإمام المنذر بن سعيد أن يخرج ليستسقي بالناس في يوم من الأيام, فخرج المنذر بن سعيد واستسقى فمطروا ونـزل المطر, ما خرجوا من المسجد أو من مكان الصلاة وذهبوا إلى بيوتهم إلا ونـزل غيث عظيم, بسبب أن هذا الرجل كان صادقاً مع الله عز وجل, مخلصاً للخاصة والعامة فاستجاب الله تعالى دعاءه.
مرة أخرى تكررت العملية وأصبح عبد الرحمن الناصر كلما طرأ عليه, قال: اذهبوا إلى المنذر بن سعيد يستسقي قال المنذر بن سعيد للرسول الذي جاءه: ماذا يصنع الخليفة الآن؟ أي أن الخليفة يطلب منا الاستسقاء, فماذا يصنع هو الآن؟ قال الرسول للمنذر: إن الخليفة الآن قد لبس أخشن الثياب وافترش التراب, وأخذ التراب فوضعه على رأسه ووجهه ولحيته وبكى بين يدي الله عز وجل, واعترف بذنوبه وإني سمعته بأذني يقول: يا رب! هذه ناصيتي بيدك أتراك تعذب عبادك يسبني! يا رب إني لا أعجزك ولا أفوتك, فارحم عبادك وبهائمك وبلادك, فلما رأى المنذر بن سعيد الخليفة فعلاً قد غير وأصلح وتاب وأقبل على الله عز وجل وأناب وصدق مع ربه عز وجل, قال: يا غلام! احمل الممطرة الشمسية التي تقي من المطر ومن الشمس فقد أذن الله عز وجل بسقيانا, إذا خشع جبار الأرض رحم جبار السماء, وخرج واستسقى, فلما صعد المنبر ورأى الناس قد شخصوا إليه بأبصارهم يرمقونه وينظرونه غلبهم البكاء، فقال: سلام عليكم, ثم وقف شبه الحبيس محصوراً كأنه لا يستطيع أن يتكلم, مع أن هذا لم يكن عادته, ثم بكى ثم استرسل يقول: سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:54] ثم ظل يكررها حتى ضج الناس بالبكاء والتوبة ثم تمم الخطبة فسقي الناس وهم في مجلسهم ذاك.
ومرة ثالثة: خرج يستسقي فلما وقف قال للناس: أستغفر الله، توسلوا بالأعمال الصالحة لديه, وأتم الخطبة فَسُقُوا.
مرة رابعة: استسقى فقام يهتف بالناس وهو على المنبر وهو ينظر إليهم يمنة ويسره ويشير بأصبعه ويده إليهم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-17], فما زال يرددها حتى بكى الناس كلهم, فلما هيج الخلق على البكاء بدأ يدعو بهم فأمطروا.
ومن طريف ما يذكر أنه بعد أن مات -رحمه الله- جاء بعده رجل ليستسقي فخرج للمنبر ودعا وذهب الناس إلى بيوتهم وانتظروا المطر فما نـزل المطر, ثم خرجوا في الأسبوع الثاني فهم الناس بهذا الرجل ليضربوه، فصار لا يخرج إلا بالشرط والأعوان يحمونه من الناس.
والواقع أن القضية ليست قضية رجل فقط, القضية قضية الأمة حاكمها ومحكومها, عالمها وعامّيها, فإن الله عز وجل يسقي عباده ويستجيب دعاءهم, إذا علم منهم الإقبال عليه والصدق, والخروج من المعاصي والمظالم, والاعتداء على حقوقه وحرماته, وعلم منهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, أما إذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظلموا وجاروا واستبدوا وبغوا وطغوا، فإنه لو أغاثهم الله عز وجل لكان الغيث فتنة لهم, لأنهم يصرون على ما هم عليه, ويقولون: لولا أن الله رضي علينا لما أغاثنا, فيكون هناك ابتلاء وفتنة لهم, فبرحمته عز وجل يمنع عنهم ذلك حتى يعودوا، قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41] وقال: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45].
إننا أحوج ما نكون إلى أن نصحح أوضاعنا إذا نـزلت بنا المصائب والنكبات, ليس صحيحاً أننا نؤجل ونقول: إذا زالت الأمور وهدأت وصلحت رجعنا, فإن الإنسان قد ينوي نية ثم يغير هذه النية ويقلبها, بل إن العبد إذا رأى من نفسه ما ينكر ورأى من الأوضاع ما يستنكر فإنه لا بد أن يسارع بالتصحيح, وتغيير الأوضاع, والإقبال على الله عز وجل, وإبعاد كل ما فيه حرب لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم, وهذا أمر نقوله للعامة وللخاصة على حد سواء, وليس صحيحاً أن يكون دأب الناس وشأنهم في مثل هذه الأوقات هو التلاوم فحسب, كل فئة تلوم الأخرى وكل طائفة تعول على غيرها, وكل إنسان يذم سواه, لننظر أيها الإخوة أقرب ما ننظر في واقعنا نحن, من منا غيَّر أوضاعه؟ من منا صحح أموره؟ من منا أقبل على الله عز وجل؟ من منا أحدث توبة صادقة لله تبارك وتعالى؟ من منا خرج من المظالم؟ من منا وصل رحماً قطعها؟ أو بر بأب قد عقه؟ أو رد مالاً قد أخذه بغير حق؟ أو استعفى أحداً من مظلمة في نفس أو مال أو غيره؟.
أيها الإخوة.. النكبات اليوم محدقة بالأمة, الأمة اليوم على مفترق طرق وفي أوضاع لا يعلم ما تئول إليه إلا الله عز وجل, فهي أحوج ما تكون إلى أن تراجع نفسها وتقبل على ربها, وتصحح أوضاعها الخاصة والعامة في ذلك على حد سواء, ولا يجوز أن نؤجل أو نُسِّوف هذه الأشياء ونقول: بعد بعد.., فإن العبد لا يدري فقد لا يؤجل إلى بعد! وقد يؤخذ بعقوبة عمل اليوم قبل غد.
أمرٌ آخر: قد ينوي العبد أن يتوب الآن لكن إذا رجع إلى ما كان عليه في الماضي: نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [الزمر:8] ألم يكن المشركون الأولون إذا ركبوا في الفلك ورأوا الريح العاصفة: وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يونس:22-23]؟! قد طلب قوم الرجعى فما رجعوا, وقد وَعدَ قوم بالتوبة فما تابوا, فيجب أن يكون العبد من ذلك كله على بال.
الجواب: صحيح أن للصحابة رضي الله عنهم من ذلك مواقف كثيرة, ومن ذلك موقف عائذ بن عمر رضي الله عنه أو معقل بن يسار من عبيد الله بن زياد فإنه جاءه يعوده وهو مريض, فذكره وقال له: [[أي بني! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن شر الرعاء الحطمة} فاحذر أن تكون منهم, يخاطب الأمير يقول: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن شر الرعاء الحطمة } الذي يحكم الناس ويجرهم قسراً وقهراً وبالشدة, فاحذر أن تكون منهم, فقال له: اجلس, فإنما أنت من نخالة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: وهل كانت لهم نخالة, إنما كانت النخالة فيمن جاء بعدهم ]] أي: فيك وفي أمثالك.
ولـعبد الله بن عمر رضي الله عنه، وأنس بن مالك وغيرهم مواقف مع الحجاج عظيمة, ولـعبد الله بن الزبير مواقف مشابهة, وللحسن بن علي رضي الله عنه، وهي مواقف كثيرة يطول المجال بذكرها.
الجواب: هناك دراسات كثيرة لسقوط الأندلس, كتب خاصة، وهناك أيضاً محاضرة للشيخ ناصر بن سليمان العمر, عنوانها: سقوط الأندلس.
الجواب: بالنسبة للمنذر بن سعيد ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء, وله تراجم في طبقات النحويين, وفي كتب الأندلس, مثل كتاب قضاة الأندلس, ومثل الكامل, وهي كلها تراجم في كتب علماء وأئمة الأندلس, ومثل الذخيرة, وغيرها من المصنفات, وغالباً المصنفات الأندلسية تتكلم عن حياة هذا الرجل.
الجواب: أبداً يجب عليه أن يأمر بالمعروف وإن قصّر فيه, وينهى عن المنكر وإن ارتكب شيئاً منه.
ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد |
كل امرئ منا يجب عليه أربعة أشياء:
1- أن يفعل المعروف
2- أن يأمر به.
3- أن يترك المنكر
4- أن ينهى عنه.
وتقصيره في واحدة من هذه الأربع لا يسوغ له التقصير في غيرها.
الجواب: أولاً الأمر فيها يسير, وإن وجد الخلاف في المسائل الفقهية, فالمسائل الفقهية ليس فيها هدى وضلال, وإنما اجتهاد مخطئ واجتهاد مصيب, ومن اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد, أما (95%) فما أدري على أي أساس بنيت هذه الإحصائية, فإن المسائل التي أجمع عليها العلماء كثيرة وكثيرة جداً, وقد عدها بعض العلماء بعشرات الألوف من المسائل.
فإن كان الإنسان مجتهداً نظر في الأدلة, وإن كان عامياً قلد من يثق بعلمه ودينه.
الجواب: أنصحك بأن تقبل على قلبك فتعالجه بالعلاج الناجح, فإن محبة العلماء من محبة الله عز وجل, فإن العلماء هم ورثة الأنبياء, والأنبياء والرسل ممن اختارهم الله عز وجل يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله.
فمن أحب الله عز وجل أحب الأنبياء وأحب ورثتهم وهم العلماء, ومن أبغض العلماء يخشى أن يصل به ذلك إلى بغض من ورثوهم هذا العلم, وإلى نقص في إيمان هذا الإنسان ودينه وولائه, وأما كون الإنسان إذا وجد من عالم خطأً أو أمراً لا يعجبه أبغضه, فهذا لا يسوغ له؛ لأن العلماء ليسوا معصومين ولا ملائكة ولا أنبياء, بل هم بشر من البشر يجتهدون فيخطئون مرة ويصيبون مرات.
الجواب: الحقيقة بأن التصريح بأسماء بعض الذين يقفون ضد هذا الدين, سبق أن بينت رأيي في ذلك, أنني أرى أنه من وقف ضد هذا الدين علانية, يجب أن نقف له علانية, ونفضح زيفه وباطله ونتكلم عنه بشكل واضح, لكن بشرط أن نتكلم بناء على معلومات وحقائق وليس بناءً على مجرد أقوال أو إشاعات أو ظنون لا تثبت، أو استفاضة كلام لا دليل عليه.
إذاً نحن بين أمرين: الأمر الأول: أنه ليس صحيحاً أنه دائماً نحتج بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ما بال أقوام } هذا بالنسبة لمنكر لا يدرى من فعله, لكن واحد يأتيني مثلاً يتكلم في جهاز عام أو في صحيفة يطبع منها مائة وعشرين ألفاً وتوزع على الناس, ويتكلم بكلام ينقض عرى الإيمان عروة عروة, أو يهدم العقيدة من أساسها، أو ينال من العلماء أو طلبة العلم أو المشايخ أو الدعوة إلى الله عز وجل, أو يشهر منكر من المنكرات, وأقول لا أصرح به!, لا هذا لا ليس له كرامة, هذا يفضح على رؤوس الملأ باسمه ورسمه وشكله, ما دام هناك وثائق تدينه, هذا جانب.
وقد كان السلف رضي الله عنهم يتكلمون عن أصحاب المنكرات والبدع بأسمائهم, ولو رجعت إلى كتب الجرح والتعديل مثلاً لوجدت أنهم يقولون: فلان كذاب, فلان وضاع لا يقبل له حديث, وفلان فيه كذا.., وفلان هالك, وفلان متروك, وفلان كذا، وفلان كذا.., ما منعهم الورع من هذا, ولو رجعت إلى كتب المقالات والملل والعقائد لوجدت أن العلماء يقولون: فلان جهمي, وفلان رافضي, وفلان قدري, وفلان مرجئ, وفلان من الخوارج, وفلان فيه كذا.., وقد يتكلمون عن كتبهم ومؤلفاتهم ومصنفاتهم.
ليس صحيحاً أن تترك الأمة بدون هذه ولا دليل ولا إرشاد, يذهب بها العلمانيون وأعداء الدين, والمنحرفون عن الصراط المستقيم كل مذهب, ونحن نظل نقول: لا تتكلم عنهم, لا، بل تكلّم عنهم واذكرهم بأسمائهم، لكن الشرط الذي لا يمكن التنازل عنه بحال, أنه إياك إياك.. أن تتسرع في الوقيعة في شخص وأنت لا تجد الأدلة الكافية, إذا تجمعت لديك وثائق وأدلة وحقائق وأوراق وأشياء بخطه أو بلفظه أو بنصه أو بكتابته في جريدة أو مقال أو كتاب أو شريط اجمع هذه الأشياء, والأمة اليوم أحوج ما تكون إلى أن تعرف من هو عدوها ومن هو صديقها.
وكم من عدو أصبح بثياب الصديق الآن, تلبس لبوس الأصدقاء, وتظاهر بمظهر الحدب!!.
واحسرتاه لقوم غرهم قرم سعى إليهم بجلد المنقذ الحدب |
حتى إذا أمكنته فرصة برزت حمر المخالب بين الشك والعجب |
وحارب الدين والإسلام قاهره وكم خلا مثله في سالف الحقب |
وأعمل الناب لا شرع ولا خلق في الجسم والنفس والأعراض والنشب |
كم من مثل هؤلاء الذين يتظاهون بالعروبة وبالدين والصلاح والورع والوطنية وهم ضد ذلك, يجب أن تعرف الأمة عدوها من صديقها, لكن يكون ذلك من خلال الوثائق، ثم إذا وجدت وثائق تدين فلان أو علان لا تبالغ تحمل الكلام ما لا يحتمل أو تعطيه أكبر من حجمه, ضعه في الإطار الطبيعي حتى يقول الناس: صدق, لا تدع فرصة لأن يقول أحد: إنك بالغت, أو حملت الأمر أكبر من حجمه أو جعلت من الحبة قبة! لا, نحن نريد أن يخرج الناس وهم يقولون: صدق فلان, هذا هو الحق, وهذا ما يجب أن يسلكه الدعاة إلى الله عز وجل.
الجواب:
يا أمة الإسلام لن تتسلمي رتب العلا بالمال والأحساب |
لن تسلكي برد الخلاص بمدفع وبكثرة الأعوان والأصحاب |
لن تبلغي إلا بنهج صادق وتعلق بالخالق الوهاب |
تفنى الجيوش وتنتهي آثارها وننال بالتقوى عز جناب |
تفنى القوى مهما تكاثر عدها وتظل قوة ربنا الغلاب< |
الجواب: في الحقيقة الشيء الذي يطول عجبي -أيها الإخوة- ليس أن يوجد من يقول: دعني وشأني، أو ليس لك دخل بي أو علاقة, هذا أمر طبيعي, الأمة بعيدة عن الله عز وجل تحتاج إلى زمان طويل حتى تعود, لكن الذي أتعجب منه أنه لماذا الشاب الملتزم المتدين دائماً حساس؟! كلما وجد إعراضاً أو كلمة شديدة أو عدم تقبل تضايق من ذلك, واكتئب وابتئس, وربما همّ بترك الدعوة إلى الله تعالى, أو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, لا يا أخي.. الطريق طويل وفيه أشواك ومصائب، لكن ليس عنه بديل:
يا إخوتي درب الجنان طويل وبه المصاعب والمتاعب جمة لكنما هو ليس عنه بديل |
لا توجد إلا هذه الطريق, فتحمل يا أخي الكلام القاسي, تحمل العبارات السيئة, إياك أن تكون سريع الاستفزاز، الأعصاب جاهزة عندك, أي كلمة جارية أو تصرف أو إعراض أو سخرية أو ضحكة غير مسئولة تجعلك تفقد صوابك وقد تتكلم بـما لا ينبغي.
نريد من الشباب الدعاة إلى الله عز وجل أن يكونوا مثلاً أعلى في الصبر والتحمل والاحتساب وهدوء النفس والرفق بالآخرين والحدب عليهم, والحلم على أخطائهم وعثراتهم، وألَّا يبدر منك بقدر المستطاع بادرة غضب, أو انفعال أو تهجم أو طيش ومن كان لا يجد من نفسه هذا الأمر هذا الأمر فعليه أن يختصر في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المجالات التي تناسبه, لأن الناس اليوم -وأقولها لكم أيها الشباب بكل وضوح- أعينهم مفتحة جداً, لأن الأمة جربت كل الناس, وكل المذاهب وكل النظريات, فعادت للإسلام الآن, فهم لا يعتبون على شاب يجدونه في مدرج الكرة إذا تصرف تصرفاً أرعن, أو قال كلاماً بذيئاً أو فاحشاً, لا يعتبون عليه لأنهم يقولون: هذا طبيعي! الشيء من معدنه لا يستغرب, هذا ما تربى.
لكن إذا وجدوا شاباً ملتحياً قصير الثوب يسارع إلى المسجد، ومن طلبة العلم ومن الدعاة ومن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر فتحوا عليه, إذا رأوا منه ما يسر مدحوا وأثنوا وهذه نعمة, لكن إذا رأوا ما لا يسر أو خطأ أو ملاحظة فالناس نقاده, وقد يكبرون الخطأ أحياناً ويستعظمون منك هذا الخطأ.
ولذلك يا أخي الحبيب إياك أن تُعطِ عن إخوانك الطيبين صورة سيئة، غير حسنة, إياك أن تكون سبباً لأن ينال غيرك ويذم بسبب كلمة صدرت في حال أو انفعال منك لا، اضبط أعصابك وحاول قدر المستطاع أن تكون هادئاً, صحيح نحن لا نقول: إن الشباب الطيبين كلهم يضبطون أنفسهم 100% هم بشر, مهما ضبط الإنسان نفسه قد يفقد أعصابه في موقف من المواقف, لكن فرق بين الإنسان الذي يجاهد نفسه يبذل يحاول، وبين آخر يعرف من نفسه أن أعصابه مفلوتة لا يمكن أن يقبض عليها بحال, فهذا نقول له: ابتعد عن المجالات التي تعتقد أنها تكون سبباً في الإثارة.
الجواب: في الواقع أن تزكية النفس مذمومة إلا في حالات, لا بأس بالتزكية، إذا كان هناك حاجة إليها, فـابن عباس رضي الله عنه كان يقول: أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله, وقبله يوسف عليه السلام قال: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55] وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لما آذوه واضطهدوه وضيقوا عليه قام موقفاً محموداً مذكوراً في كتبه, قال: من قام بالدين ونصره ومن فعل ومن ومن، وبدأ يتكلم عن جهاده وبلائه رضي الله عنه, لأن الناس تنكروا لذلك فأراد أن يذكرهم بهذا, وأنه ما جلس متفرجاً لما جاء التتار, ويوم أن جاء أعداء الدين، ويوم أن جاء المبتدعة، ويوم أن جاء المضللون, تكلم وقام خير قيام.
فليس كل ثناءٍ على النفس يعتبر من المذموم, إنما المذموم ما يكون صادر من إعجاب أو غرور أو كبرياء فهذا لا شك أنه مذموم.
الجواب: في الواقع أنني لم أقف على كلام يذكر بالنسبة لمكانة المنذر بن سعيد لدى العامة, إلا ما سمعتموه من حضورهم عنده في صلاة الاستسقاء, وتعجبهم منه وسرعة بكائهم إذا وعظ أو ذكر, وقربه من قلوبهم وثقتهم به, واعتقادهم به أنه رجل صالح مستجاب الدعوة بإذن الله عز وجل, وهذا لا شك من الأسباب التي جعلت الحاكم يهابه, ولكن مع ذلك كان الحاكم أكثر هيبة وتقديراً وحباً له من أفراد العامة, لأنه كان أصلح من كثير منهم.
الجواب: الكلام فيه يطول, وهو مذهب فقهي أسسه داود بن علي الظاهري في بغداد, يعتمد على ظواهر النصوص, ولهم مبادئ وأصول ومن أشهر علمائه الإمام ابن حزم أبو محمد علي بن سعيد بن حزم الظاهري, وله كتاب المحلى وهو أهم وعمدة كتب الظاهرية.
الجواب: الواقع طالب العلم اليوم محتاج أن يقوم بالدعوة إلى الله تعالى, أهم ما تحتاجه الأمة اليوم بعد صلاح القلب وصلاح النفس الدعوة إلى الله تعالى, أن تقوم بالدعوة إلى الله عز وجل, وأن تتصل بالناس وأن تبين لهم الحقائق، وأن تجعل لهم تصورات صحيحة عن الأمور كلها, وأهم ما نحتاجه أيضاً من طلبة العلم أن يعملوا على كسب الناس وأن يزيلوا الفجوة التي قد توجد أحياناً بين طلبة العلم وبين العامة , أو بين بعض الطوائف, مثل طائفة الشباب المنحرفين أو طائفة بعض الذين لهم أوضاع خاصة, أو حتى الذين في السجون، يجب على طلبة العلم أن يمدوا الجسور مع كل طوائف الأمة, ويتصلوا بهم ويبلغوهم دعوة الله عز وجل, ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر, لأن الأمة الآن أفلست من كل أحد إلا من العلم وطلبة العلم, فأعطونا ماذا عندكم؟ أروا الله عز وجل من أنفسكم خيراً, اصدقوا الله عز وجل, ابذلوا ما تستطيعون, احرصوا على حسن الخلق واللطف في معاملة الناس, وألاَّ يجد الناس عليكم مدخل, وتجنبوا الطيش والتسرع, وإذا هممت بأمر شر فابتعد, وإذا هممت بأمر خير فافعل, وإذا شككت في أمر فاسأل العلماء وطلبة العلم وخطباء المساجد ونحوهم, ممن تثق بهم.
أتوجه إلى الله جل وعلا, فأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً, وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً, وألا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً, اللهم أصلح سرنا وعلانيتنا, وظاهرنا وباطننا, وكبيرنا وصغيرنا، وذكرنا وأنثانا, إنك تعلم منقلبنا ومثوانا.
اللهم إنا عبيدك الضعفاء إليك، المفتقرون لديك, اللهم لا تؤاخذنا بذنوبنا, ولا تفضحنا بعيوبنا, اللهم لا تمنع عنا بذنوبنا فضلك, فارحمنا واغفر لنا وأنت خير الغافرين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين, اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك, ويذل فيه أهل معصيتك, ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء, اللهم أنقذ هذه الأمة من شر أعدائها, اللهم أنقذنا من شر اليهود والنصارى والشيوعيين والمنافقين والعلمانيين, وسائر أعداء الدين يا أرحم الراحمين.
اللهم لا حول ولا قوة لنا إلا بك, اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم, وندرؤ بك في نحورهم, يا قوي يا عزيز, اللهم يا من فلق البحر لموسى، اللهم يا من قال للنار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم, اللهم يا من نصر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم على قريش في بدر ونصره على الأحزاب ونصره في فتح مكة وغيرها من المواقف يا حي يا قيوم انصرنا على القوم الكافرين, اللهم إنا نستنصرك يا حي يا قيوم, اللهم إننا لن ننتصر بعدد ولا عدة ولا حول ولا قوة ولكننا ننتصر بنصرك وتأييدك يا قوي يا عزيز, اللهم انصرنا اللهم انصرنا وأيدنا وثبتنا, اللهم من أراد بهذه البلاد وأهلها سوءاً فأشغله بنفسه, اللهم انصر من نصر الدين, اللهم واخذل من خذل الدين, اللهم اخذل من عادى أولياءك.
اللهم اجمعنا على الحق يا رحمن يا رحيم, اللهم إنا نبرؤ إليك من الحول والقوة إلا بك, اللهم أنت الله لا إله إلا أنت, أنت القوي ونحن الضعفاء, أنت الغني ونحن الفقراء, أنـزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين, اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً, فأرسل السماء علينا مدراراً, اللهم لا حول ولا قوة إلا بك, اللهم وفقنا لنتوب يا حي يا قيوم يا قريب يا مجيب.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد, اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر