إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [15]للشيخ : خالد بن عبد الله المصلح

  •  التفريغ النصي الكامل
  • المسألة الوحيدة التي وقع الخلاف فيها بين أئمة أهل السنة الإيمان؛ فذهب أبو حنيفة وغيره إلى إخراج العمل من مسمى الإيمان ولذلك سموا مرجئة الفقهاء، والصواب أن الإيمان قول واعتقاد وعمل كما عليه جمهور أهل السنة والجماعة، والنصوص كلها تدل على ذلك، وأما ما سواهم من الفرق فقد اختلفوا وتناقضوا فيما بينهم.

    1.   

    حقيقة الإيمان

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين؛ نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    أما بعد:

    فقال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: [والإيمان: هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان، وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق، والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم، بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى.

    والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن، وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن ].

    يقول المؤلف رحمه الله وغفر له: (والإيمان: هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان)، هكذا عرف المؤلف رحمه الله الإيمان، والمؤلف أبو جعفر الطحاوي رحمه الله ذكر في أول عقيدته أنه نسج هذه العقيدة وألفها وفق ما يعتقده فقهاء الملة، الإمام أبو حنيفة وصاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن ، والمشهور عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه خالف ما عليه أهل السنة والجماعة في تعريف الإيمان، وفي بيان حقيقته.

    وهذه المسألة الوحيدة التي تعد من الأصول وقع فيها الخلاف بين أئمة أهل السنة والجماعة، على أن العلماء مختلفون في حقيقة هذا الخلاف، هل هو خلاف حقيقي يترتب عليه أحكام أم أنه خلاف لفظي لا يترتب عليه شيء؟

    فمن العلماء من جعل الخلاف بين أبي حنيفة ومن سلك سبيله من مرجئة الفقهاء -هكذا يسميهم العلماء- وبين ما عليه أهل السنة والجماعة في مسألة الإيمان خلافاً لفظياً لا يترتب عليه أثر في الاعتقاد.

    تعريف أهل السنة للإيمان

    وقبل أن نخوض في حقيقة الخلاف، وهل هو خلاف لفظي أو خلاف معنوي، نقول: عقد أهل السنة والجماعة الذي اشتهر عنهم واتفقوا عليه ولا خلاف بينهم في القرون المفضلة: أن الإيمان قول وعمل، وقد تواترت المقالات والأقوال عن أهل السنة والجماعة في هذا؛ فهم يجعلون الإيمان قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، فأهل السنة والجماعة عرفوا الإيمان بهذا التعريف المفصل الذي يشمل كل خلال الإيمان وشعبه وصفاته وأخلاق أهله، فمنها ما يكون في القلب، ومنها ما يكون في اللسان، ومنها ما يكون في الجوارح.

    والمؤلف رحمه الله هنا اقتصر في تعريف الإيمان على ذكر الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، ولم يذكر دخول الأعمال في مسمى الإيمان، ومعلوم أن الإيمان اسم شرعي، والأسماء الشرعية قد جاء الكتاب والسنة ببيانها بياناً واضحاً، فلا يتلقى تعريف هذه الأسماء، ولا الوقوف على حقيقتها إلا من الكتاب والسنة، وقد دلا على أن الإيمان يكون منه عقد، ويكون منه قول، ويكون منه عمل، وأشمل ما ورد في الاستدلال: حديث خصال الإيمان، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة : (الإيمان بضع وسبعون شعبة)، وفي رواية (بضع وستون شعبة، أعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، وإذا تأملت هذه الأعمال وجدت أنها قول في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعلاها: قول لا إله إلا الله)، وعمل في قوله: (وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق)، فجعل إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان، وقال: (والحياء شعبة من الإيمان)، والحياء عمل قلبي من أعمال القلوب؛ فدل ذلك على أن الإيمان قول وعمل، وأن الأعمال داخلة في الإيمان، ومن طالع نصوص الكتاب والسنة النبوية أيقن إيقاناً جازماً أن العمل من الإيمان، وأنه يطلق الإيمان في الشرع على الأعمال، وأنها لا تخرج عن مسمى الإيمان، ومن أخرجها فقد خرج عما دلت عليه النصوص.

    تعريف مرجئة الفقهاء للإيمان

    المؤلف رحمه الله ومرجئة الفقهاء أخرجوا العمل عن الإيمان، فليس العمل عندهم داخلاً في مسمى الإيمان، بل هو خارج عنه؛ ولذلك قال: (الإيمان هو الإقرار باللسان) يعني: أن يقر الإنسان بما هو من الإيمان بأن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.

    [والتصديق بالجنان] الجنان المراد به القلب، وسمي بهذا؛ لأنه مستور مخفي، فهو مشتق من مادة جنة، وهي دائرة على معنى الخفاء والستر، والصواب إضافة العمل بأن يقول: والعمل بالأركان حتى يتم تعريف الإيمان.

    وهل هذا الخلاف خلاف حقيقي، أي: يترتب عليه أحكام؟

    من العلماء من قال: إنه خلاف لفظي؛ لأن الجميع يتفق على أن مرتكب الكبيرة مذموم، وأنه مهدد بالعقوبة، وأن الله قد يدخله النار، وأن من أهل الكبائر من يدخل النار، فهم يوافقون أهل السنة والجماعة في هذا.

    ومنهم من يقول: إن الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء خلاف حقيقي يترتب عليه اختلاف معنوي، فعلى قول مرجئة الفقهاء: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وعلى قول أهل السنة والجماعة: الإيمان يزيد وينقص وزيادته بالأعمال؛ فهذا يدل على أن الخلاف حقيقي.

    أهل السنة والجماعة يرون جواز الاستثناء في الإيمان، يعني أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وأما على قول مرجئة الفقهاء، فلا يجوز الاستثناء. وهذه من المسائل التي جعلت من العلماء من يقول: إن الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء خلاف حقيقي.

    والصواب ما ذكره شيخ الإسلام في مواضع من كلامه، ومن ذلك: ما ذكره في شرح العقيدة الأصفهانية، وهو: أن الخلاف بينهم وبين أهل السنة والجماعة منه ما هو لفظي ومنه ما هو حقيقي، وبهذا يجتمع القولان: القول بأن الخلاف حقيقي، والقول الآخر بأن الخلاف، والنزاع بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء لفظي.

    وقد قرر شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: أن الخلاف حقيقي بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء، وأنه ليس لفظياً، وذلك في تعليقه على شرح الطحاوية لـابن أبي العز ، حيث قال ابن أبي العز : إن الخلاف لفظي كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في بعض المواضع، وأطلق أن الخلاف حقيقي في بعض المواضع، وفصل وبين أنه خلاف كثير منه حقيقي، وكثير منه لفظي، وفي هذا الإشارة إلى أنه يترتب عليه في بعض المسائل أثر، وفي بعض المسائل لا أثر له.

    الإيمان شعب يزيد وينقص

    قال رحمه الله: [وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق]، وهذا من تمام الإيمان، بل هو الإيمان المجمل الذي يجب على كل أحد.

    فالإيمان ينقسم إلى قسمين: إيمان مجمل، وإيمان مفصل، والمؤلف رحمه الله هنا أشار إلى الإيمان المجمل، وهو الإيمان بجميع ما صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: [وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان] يعني: من العمل والخبر، [كله حق] أي: ثابت لا مرية فيه، نصدق به ونؤمن، ونقر بما جاء به صلى الله عليه وسلم وننقاد له، ولا يتم الإيمان إلا بهذين الأمرين؛ فليس الإيمان مجرد التصديق للأخبار، بل لابد من الانقياد، فالإيمان إقرار مع انقياد، وليس إقراراً مجرداً، ولا تصديقاً مجرداً، على أن من عرّف الإيمان بالتصديق فتعريفه منقوص وقاصر، فإن الإيمان ليس تصديقاً مجرداً، بل هو تصديق خاص، حتى إذا قلنا: بأن الإيمان في اللغة يطلق على التصديق فهو تصديق خاص، ولا نريد أن ندخل في مباحث قد تطول، وإنما أردنا فقط أن نشير إلى أن تعريف من عرّف الإيمان بأنه التصديق غلط، والصواب أنه تصديق خاص، والعبارة الأصح أن نقول: هو التصديق المستلزم للقبول والإذعان والانقياد.

    يقول المؤلف رحمه الله: [والإيمان واحد] هذا ثمرة من ثمار ما تقدم، فبناء على قوله: إن الإيمان هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان، فكل من حصل منه هذا فقد حقق الإيمان، فالإيمان عند مرجئة الفقهاء واحد، وهذا هو محل النزاع بين المختلفين في مسألة الإيمان.

    المشكلة في مسألة الإيمان في مسألة الأحكام والأسماء، ونعني بالأسماء: مسلم، كافر، فاسق، منافق، والأحكام كونه في الجنة أو في النار، والمشكلة في هذا الباب نشأت عن الخطأ في تصور الإيمان، فكل الضُلَّال في هذا الباب على اختلاف ضلالهم يعتقدون أن الإيمان واحد، وإذا كان واحداً فإما أن يثبت جملة، وإما أن ينخلع منه الإنسان جملة، ولا يمكن أن يتبعض.

    وأهل السنة والجماعة عندهم الإيمان شعب وخلال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة)فليس شيئاً واحداً، ومن قال: الإيمان شيء واحد. فقد خالف دلالة الكتاب والسنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ينفي الإيمان عن بعض أهل الإسلام فيقول: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) فهذا نفي للإيمان، (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه)، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وكلها تدل على انتفاء الإيمان بسبب الإخلال ببعض الأعمال، أو الوقوع ببعض المعاصي والسيئات، فالنفي هنا ليس نفياً للإيمان بالكلية، ولو نفينا الإيمان بالكلية لخرج الإنسان عن دائرة الإسلام، وكان من أهل الكفر كما تقول الخوارج، أو كان في منزلة بين المنزلتين كما تقول المعتزلة، فليس بمؤمن وليس بكافر، ولكن الإيمان ليس واحداً كما قال المؤلف؛ ولذلك المرجئة قابلوا بدعة أولئك الذين أخرجوا من أخرجوا من الإسلام بسبب ارتكاب بعض السيئات، فقالوا: من كان مؤمناً مقراً بلسانه، مصدقاً بجنانه، فإنه مؤمن كامل الإيمان، إيمانه كإيمان جبريل، ولو كان يزني صباحاً ومساءً، أو يسرق صباحاً ومساءً، وحتى لو كان قلبه ممتلئاً بالكبر والحقد والحسد والغل وسائر الآفات، فهو مؤمن كامل الإيمان، لماذا؟ لأن الإيمان واحد، فإيمان أعصى العصاة من أهل الإسلام كإيمان جبريل، وهذا لا شك أنه كذب وخطأ، فالإيمان يزيد وينقص، وليس واحداً كما قال المؤلف رحمه الله.

    يقول: (وأهله) يعني: أهل الإيمان (فيه) يعني: في الإيمان (سواء) يعني: مستوون، وفي نسخة أخرى: (وأهله في أصله سواء)، والمقصود بأصله: في ثبوته وحصوله، فهم فيه سواء، وهذا خطأ، فإن الإيمان يزيد وينقص؛ ولذلك كان من عقد أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فإن هذا ما يعتقده أهل السنة والجماعة في مسألة الإيمان.

    أسباب تفاوت أهل الإيمان

    قال رحمه الله: [والتفاضل بينهم: بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى] التفاضل بينهم يعني: بين أهل الإيمان، والخشية: هي الخوف المقترن بالمحبة والوجل، والخشية خوف مع علم؛ ولذلك لا يوصف به إلا أهل العلم، قال الله جل وعلا: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، بخلاف الخوف فقد يكون ممن ليس عنده علم، أما الخشية فلا تكون إلا من أهل العلم.

    قال: (والتقى) والمقصود بالتقى أي: تقوى القلب، لا تقوى الجوارح؛ لأن تقوى الجوارح ليست داخلة في الإيمان، فلا يكون فيها تفاضل بين أهل الإيمان، وهو يشير بهذا إلى أن عمل القلب داخل في مسمى الإيمان، ولكن هذا قصر للعمل، فالعمل الذي يدخل في الإيمان هو عمل القلب وعمل الجوارح، وهم عندهم أن أصل الإيمان -وهو التصديق- أهله فيه سواء، وهذا ليس بصحيح فحتى التصديق يختلف فيه الناس.

    الآن أنت تصدق بالخبر إذا جاءك من زيد ويزيد تصديقك بالخبر إذا جاءك من عمرو وأنت مصدق في كلا الحالين، لكن تصديقك لخبر زيد أقل من تصديقك لخبر عمرو لما تعرف عن عمرو من الدقة والتحري والتثبت أكثر من زيد، فالتصديق يختلف؛ ولذلك قوله رحمه الله: (والإيمان واحد وأهله في أصله سواء) ليس بسديد، حتى لو سلمنا أن التصديق واحد للجميع، لكنه واحد متفاضل، لا شك أنه من حيث أدنى المراتب التي يحصل بها الإيمان والإسلام الجميع فيه متفق، لكن هناك تفاوت وتفاضل بين تصديق هذا وتصديق ذاك، وبين إيمان هذا وإيمان ذاك، فالمؤلف رحمه الله قصر التفاضل في أعمال القلب، والواقع أن التفاضل بين أهل الإيمان يكون في أعمال القلوب، وفي أعمال الجوارح، وقوله رحمه الله: [ومخالفة الهوى] أي: مخالفة ما تهواه النفوس وتشتهيه، وسمي الهوى هوىً لأنه يهوي بصاحبه في المهلكات، ويوقعه في المرديات.

    قال: [وملازمة الأولى] أي: ملازمة ما ينبغي أن يلازمه الإنسان، والصحيح ما ذكرنا من أن التفاضل يكون بعمل القلب واللسان، فمن قال: سبحان الله أفضل ممن لم يقل: سبحان الله، ومن خشي بقلبه أفضل ممن لم يخش الله جل وعلا بقلبه، ومن زاد ركعة أو سجدة أفضل ممن نقص.

    وفي أذكار الصباح والمساء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضل قول: سبحان الله وبحمده مائة مرة في اليوم، فقال: (وليس يفضله إلا من قال مثل ما قال أو زاد عليه)، فدل ذلك على أن الزيادة في القول زيادة في الفضل، والأدلة على زيادة الفضل بزيادة العمل كثيرة جداً، ولكن هؤلاء لما وقع عندهم الإشكال أخرجوا الأعمال؛ حتى لا يحتج عليهم الخوارج وأشباههم من الوعيدية فيوقعون الكفر بمن لا يستحقه.

    المؤمن ولي الله

    قال: [والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن] لا شك أن أهل الإيمان أولياء الرحمان، لأن الله جل وعلا قال في ذكر الولاية: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63].

    فهؤلاء هم أولياء الله، فقول المؤلف: [والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن] لا إشكال في هذا، ولكنهم في الولاية مختلفون، والاختلاف في الولاية باختلاف تحقيق الإيمان والتقوى، فبقدر ما يحقق الإنسان من الإيمان والتقوى؛ بقدر ما يفوز بولاية الله عز وجل، والولاية أصلها دائر على القرب، والمعنى: أنه كلما ازداد العبد طاعة لله جل وعلا كلما ازداد منه قرباً، كما قال الله جل وعلا في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن استعاذني لأعيذنه، ولئن استنصرني لأنصرنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه)، وهذا يدل على عظيم ما يبلغه المؤمن من الدرجة إذا حقق القيام بالفرائض وتقرب إلى الله عز وجل بالنوافل، فالله جل وعلا يكون معه، ويكون نصيره، (فبي يبصر، وبي يسمع، وبي يمشي، وبي يبطش) أي: أنه يمشي على نور من الله جل وعلا في كل فعل وترك، ويبلغ من المحبة، أن الرب جل وعلا يتردد في قضاء ما يسوء العبد ويكرهه وهو الموت، ولكن لما كان لا بد له منه فإنه لا محيص عنه، فالله لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه.

    قال رحمه الله: [ والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن، وأكرمهم عند الله أطوعهم -أي: أكثرهم طاعة- وأتبعهم للقرآن ]. ولا شك أن أتبع الناس للقرآن هو أقرب إلى الرب جل وعلا، وأحقهم ولاية، وأكرمهم عند الله جل وعلا؛ ولذلك لما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خلقه القرآن كان أتقى الناس لرب العالمين، وأكرم الخلق على الله جل وعلا، ومعنى أن القرآن خلق النبي صلى الله عليه وسلم أي: أنه يعمل به، وأنه يمتثله ويترجمه ويعمل بما جاء فيه، فيجب على المؤمن إذا أراد الكرامة أن يسلك هذا السبيل، وهو طاعة الله عز وجل واتباع القرآن؛ فإن أهل القرآن هم أهل الله وخاصته.

    بعد هذا ذكر المؤلف رحمه الله الإيمان المجمل وأصول الإيمان.

    أركان الإيمان

    قال رحمه الله: [والإيمان: هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وحلوه ومره من الله تعالى، ونحن مؤمنون بذلك كله، لا نفرق بين أحد من رسله، ونصدقهم كلهم على ما جاءوا به].

    يقول رحمه الله في بيان الإيمان الواجب: الإيمان هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وحلوه ومره من الله تعالى. هذه أصول الإيمان وهي ستة، لا يصلح إيمان أحد ولا يستقيم إلا بتحقيقها.

    الإيمان بالله يشمل الإيمان بوجوده وبربوبيته، وبإلهيته وبأسمائه وصفاته، ويمكن أن نقتصر على الثلاثة الأخيرة فقط؛ لأن من لازم إثباتها إثبات الوجود، فنقول: الإيمان بربوبيته، وأسمائه وصفاته، وإلهيته.

    الإيمان بالملائكة تقدم الكلام عليه، وكذلك الإيمان بالكتب وبالرسل.

    واليوم الآخر: هو أن تؤمن بكل ما أخبر الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، هذا هو الإيمان المجمل فيما يتعلق باليوم الآخر، أن تؤمن بجميع ما أخبر الله به ورسوله مما يكون بعد الموت، فإن الموت هو ابتداء مراحل الآخرة، والقبر أول منازل الآخرة، فإذا آمن العبد بما أخبر الله جل وعلا به أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت فإنه قد آمن باليوم الآخر، وهذا هو الإيمان المجمل، أما الإيمان المفصل: فهو أن تؤمن بكل ما بلغك عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم مما يكون في البرزخ، ومما يكون يوم القيامة، ومما يئول إليه الناس من جنة أو نار.

    قال رحمه الله: [والقدر] تقدم الكلام على الإيمان بالقدر، والإيمان بالقدر له أربعة مراتب: أن تؤمن بأن الله جل وعلا علم كل شيء، وكتبه،، وشاءه، وخلقه، وهي المراتب التي يكمل بها الإيمان بالقدر.

    فالإيمان بالقدر هو أن تؤمن بأن الله عالم بكل شيء قبل وجوده، وأنه كتبه في اللوح المحفوظ، وأنه سبحانه وتعالى شاءه، وأنه جل وعلا خلقه، فلا شيء يخرج عن تقدير الله جل وعلا، والإيمان بالقدر: هو أن تؤمن بأن كل ما وقع فهو بعلم الله وبكتابته وبخلقه ومشيئته سبحانه وتعالى، وقد تقدم الكلام على هذا.

    يقول رحمه الله: [ونحن مؤمنون بذلك كله] أي: بهذه الأصول، ولا يحصل الإيمان إلا بهذه الأصول، فهذه الأركان هي أركان الإيمان وأصوله التي لا يقوم الإيمان إلا بها.

    قال رحمه الله: [لا نفرق بين أحد من رسله]، والتفريق بين الرسل هو التفريق في الإيمان ببعضهم دون بعض، أو الإقرار بما جاء به بعضهم دون بعض، بل الواجب أن نؤمن بجميعهم، وألا نفرق بين أحد منهم، وليس من التفريق بين الرسل معرفة مراتبهم في الفضل، فإن الله جل وعلا فاضل بينهم، ورفع بعضهم فوق بعض درجات كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وأفضلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم أولوا العزم من الرسل: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك هم في الفضل على ما علم الله جل وعلا.

    1.   

    حكم أهل الكبائر في الآخرة

    قال رحمه الله: [وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين، وهم في مشيئته وحكمه: إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته].

    يقول رحمه الله: [ وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون ]، أهل الكبائر أي: أصحابها المقارفون لها، الواقعون فيها. والكبائر جمع كبيرة، والكبيرة هي الذنوب التي ورد في الشرع عليها حد أو ذكرت لها عقوبة في الآخرة، أو ختم لصاحبها بغضب أو لعنة أو تبري.

    فكل ما ورد فيه حد أو وعيد خاص فإنه من الكبائر، مثل الزنا والسرقة والغيبة والنميمة والغش والحقد والحسد والكبر، والكلام على أهل هذه الذنوب الواقعين فيها المقارفين لها الذين لم يتوبوا منها، أما من تاب تاب الله عليه، فالتوبة -ولله الحمد- تجب ما قبلها، وتجعل الإنسان كما لو لم يقع في الذنب، فتمحى الذنوب ولا يسأل عنها، وهذا من فضل الله وعظيم كرمه وواسع إحسانه بعبده أنه إذا تاب تاب عليه.

    والتوبة ليس لها حد ولا منتهى، بل الله جل وعلا يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ما لم يبلغ الإنسان الغرغرة أو تخرج الشمس من مغربها، عند ذلك يوصد باب التوبة.

    أهل الكبائر الموحدون لا يخلدون في النار

    قال رحمه الله: [وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون] أي: لا يبقون فيها بقاء أبدياً، الخلود المنفي هنا هو خلود البقاء الذي لا خروج معه، واعلم أن الخلود نوعان: خلود بمعنى طول البقاء في النار، وهذا قد يكون لبعض أهل الكبائر من أهل الإسلام.

    والقسم الثاني من الخلود: الخلود الذي لا خروج منه؛ فهو بقاء أبدي سرمدي لا ينقطع. وهذا لا يكون إلا لأهل الكفر والشرك.

    من الخلود الأول: خلود قاتل النفس؛ فإن الله سبحانه وتعالى توعده بالخلود فقال: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النساء:93]، فالخلود في هذه الآية هو الخلود الذي بمعنى طول المكث لا الخلود الذي لا خروج معه؛ فإن النصوص قد دلت على أن المسلم المؤمن الذي يقول: لا إله إلا الله مآله إلى الجنة مهما أذنب، فمن كان من أهل التوحيد والإخلاص ودخل النار، فلا بد أن يخرج كما سيأتي في الشفاعات.

    قال: [إذا ماتوا وهم موحدون]، وهذا شرط يخرج به أهل الشرك، فإن أهل الشرك في النار خالدون فيها أبداً لا يخرجون منها، بل هي موصدة عليهم أبد الآباد.

    قال رحمه الله: [وإن لم يكونوا تائبين]، يعني: وإن لم يتوبوا من هذه الكبائر فإنهم لا يخلدون في النار، بل غاية ما يكون أن يدخلهم الله جل وعلا هذه النار فيعاقبون بقدر ما عليهم من الذنوب ويطهرون؛ لأن دخول النار لأهل الكبائر هو تطهير لهم يطهرون به وينقون؛ فإذا نقوا من آثار الذنوب والمعاصي أخرجهم الله جل وعلا.

    يقول: [ وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين ]، والمقصود بالإيمان هنا: هو الإيمان الذي تقدم في قوله: [ والإيمان هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وحلوه ومره ].

    فهؤلاء حققوا التوحيد، لكن حصل منهم من الذنوب ما حصل به نقص هذا التوحيد، وإن كان أصله ثابتاً وباقياً، فلوجود هذا الأصل وبقائه يخرجهم الله عز وجل من النار.

    يقول: [ وهم في مشيئته وحكمه ]، يعني: إذا لم يتوبوا من ذنوبهم فهم في مشيئته وحكمه، إن شاء عاقبهم على ذنوبهم، وآخذهم بها، وإن شاء عفا عنهم وغفر لهم، كما قال الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

    قال رحمه الله: [إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وإن شاء عذبهم في النار بعدله]، فهم بين عدله وفضله سبحانه وتعالى، إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا [يونس:44]ولكن لابد أن يعلم أنهم إلى الجنة صائرون مهما وقع عليهم من العذاب إذا كانوا من أهل التوحيد.

    1.   

    الأسئلة

    أدلة دخول مرتكب الكبيرة الجنة

    السؤال: ما لدليل على دخول مرتكب الكبيرة الجنة؟

    الجواب: الدليل هو ما دلت عليه الأدلة من أن مرتكب الكبيرة مهما كان فعله فهو يئول إلى الجنة.

    معنى الخلود في القرآن

    السؤال: ما معنى الخلود في القرآن؟

    الجواب: يطلق الخلود على البقاء الطويل، ومنه قولهم: ملك خالد، ومعلوم أنه لا يوجد ملك يخلد، لكن يقصد به ملك طويل البقاء، والعرب تطلق على طول البقاء الخلود.

    تسمية مرجئة الفقهاء بذلك

    السؤال: لماذا سمي مرجئة الفقهاء بذلك؟

    الجواب: سموا مرجئة الفقهاء لأنهم من فقهاء أهل السنة والجماعة، ومرجئة لأنهم وقعوا في شيء من القول بالإرجاء، وهو تأخير العمل عن مسمى الإيمان؛ فالإرجاء أصله في اللغة مأخوذ من التأخير، وكما ذكرنا أن الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبينهم منه ما هو حقيقي، ومنه ما هو لفظي، ولكن هذا لا يوجب الفرقة، ولا يوجب القدح والطعن فيهم؛ لأنهم إنما قالوا هذا باجتهادهم، ولكن يجب أن يقرر ويبين ما يعتقده أهل السنة والجماعة من دخول الأعمال في مسمى الإيمان.

    أما أبو حنيفة فهو من مرجئة الفقهاء، ولا نطلق عليه قولنا: إنه من المرجئة؛ لأن من المرجئة من يقول: إن الإيمان هو المعرفة فقط، وهؤلاء هم غلاة المرجئة وهم الجهمية، الذين يقولون: الإيمان هو المعرفة فقط، ومعنى هذا عندهم: أن فرعون مؤمن؛ لأنه عرف الله، وإبليس مؤمن لأنه عرف الله! فلا نطلق إنهم من المرجئة، إنما نقيد ذكرهم بمرجئة الفقهاء حتى يتميزوا عن غلاتهم، والله تعالى أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756296457