إسلام ويب

تفسير سورة النساء [105-115]للشيخ : مصطفى العدوي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد نزل القرآن الكريم توجيهاً وإرشاداً وتأديباً لأتباعه، ومن ذلك إرشاده في طريقة الحكم، وفي التعامل مع أهل الخيانة والغدر والكيد، والإنكار على من يدافع عنهم، وتفخيم ما يرتكبه أهل الخيانة ثم يلصقون جريمتهم بغيرهم، وفتح أبواب التوبة لمن يعمل مثل هذه الأعمال ليعود إلى ربه تعالى، ومن ذلك الإرشاد إلى مواطن الكلام المحمودة والأجر فيها، وبيان العاقبة لمخالفي الرسول صلى الله عليه وسلم وسالكي غير طريق المؤمنين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ... ) والفائدة العقدية فيه

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:

    فيقول الله سبحانه: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105] .

    قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا) استُدِلَّ بهذه الآية على مسألة العلو. أي: أن الله سبحانه وتعالى في السماء مستوٍ على عرشه، أما وجه الاستدلال: فالقرآن منزل من عند الله، والنزول يكون من أعلى إلى أسفل، وقد تواردت الأدلة على ذلك، حتى ذكر بعض أهل العلم أنها تقارب ألف دليل من الكتاب والسنة، ومقتضيات العقل والآثار عن السلف كلها تثبت علو الله سبحانه وتعالى وأنه في السماء.

    من ذلك: قول الله تبارك وتعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك:16]، وقال تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] ، وقال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] ، وقال تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:50] .

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم عرج بي إلى السماء السابعة)، وعندها فرضت الصلوات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: (ينزل الله سبحانه وتعالى في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأجيبه؟) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء، فقال لسيدها: أعتقها فإنها مؤمنة) ، إلى غير ذلك من الأدلة.

    قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ) أي: يا محمد. (الْكِتَابَ) هو القرآن.

    وقوله تعالى: (بِالْحَقِّ) اختلف فيه أهل العلم:

    فمن العلماء من يقول: إن قوله تعالى: (بالحق) أي: مشتملاً على الحق، فهذا الكتاب مشتمل على الحق، فكل ما فيه حق.

    ومن أهل العلم من قال: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) أي: أن هذا الكتاب حقٌ أنه نزل من عند الله، لم تتلبس به الشياطين، ولم تخلط فيه الشياطين شيئاً.

    1.   

    الحكم بين الناس عمومه وخصوصه، وبماذا يكون عند العموم؟

    قوله تعالى: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ). هل المراد بـ(الناس) العموم، فيدخل فيه الكفار واليهود والنصارى، فإذا حكم بينهم أو فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم فيهم بالحق، أم المراد بالناس أهل الإيمان؟

    الجواب: أن (الناس) لفظة عامة، ولكنها أحياناً تأتي مخصوصة بأقوام، كقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران:173] ، فتضمنت هذه الآية الأخيرة ثلاثة أصناف، فالمقول لهم ناس، والقائلون ناس، والذين جمعوا لهم ناس.

    فعلى القول بالعموم يكون معنى قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاس)، أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحكم أيضاً بين اليهود والنصارى بما أراه الله سبحانه وتعالى، فتأتي مسألة فقهية: هل الحاكم يحكم بشريعة الإسلام في اليهود والنصارى أيضاً، أم أنه يحاكمهم بشرعتهم؟ وهل يلزمه أن يحكم بينهم، أو هو مخير بين الحكم والترك؟

    في الباب: قول الله تبارك تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة:42] فهذه الآية وهي قوله تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) تخير رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن يحكم بينهم إن شاء، أو يعرض عنهم إن شاء، ثم جاء بعدها قوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [المائدة:49]، فمن العلماء من قال: إن الأخيرة نسخت الأولى، وأصبح لزاماً إذا تحاكم إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، أو إلى الحاكم قوم من أهل الكتاب أن يحكم بينهم.

    وقد ورد في ذلك حديث المرأة والرجل اليهوديين الذين زنيا، فقال قومهم: نذهب إلى محمد صلى الله عليه وسلم فنسأله عن الحكم فيهما؛ لأن اليهود كانوا قد غيّروا حكم الله الذي هو الرجم وبدلوه إلى التحميم لما كثر الزنا في أشرافهم، فكان الحد يقام على الوضيع دون الشريف، فاصطلحوا فيما بينهم -أي: اليهود- على شريعة وعلى قانونٍ للزاني والزانية ألا وهو التحميم، فقالوا: إن من زنا يؤتى به وبالمرأة التي زنا بها ويركبان على حمار ظهره لظهرها ويحممان، ومن العلماء من قال: يطليان بالسواد، ويطاف بهما في الأسواق، وهذا ليس من شريعة الله سبحانه وتعالى إنما شيء اصطلح عليه اليهود في شأن الزناة.

    فلما زنا رجل وامرأة منهم قالوا: نذهب إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فإن رخص لنا اعتذرنا إلى ربنا بأن نبياً من أنبيائك قال: ليس عليهما رجم، وإن لم يرخص لنا لم نطعه، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أناشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة بشأن الزناة؟ ، فقرأ أحدهم ما في التوراة ووضع يده على آية الرجم -كما في سنن أبي داود - فقال له عبد الله بن سلام رضي الله عنه-وكان عالماً من علماء اليهود وقد أسلم- : ارفع يدك، فرفع يده فإذا هي آية الرجم مثبتة، فحكم عليهما النبي صلى الله عليه وسلم بالرجم)، فالحاصل: أنهم أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم بينهم.

    وقوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ...) ليس المراد به أن القرآن نزل ليحكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب، بل نزل للحكم به، وللتذكير به، وللتحذير به، ولبيان خبر ما سلف، وخبر ما هو آت... إلى غير ذلك، كقوله تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45] وغيرها من الآيات.

    إذاً: قوله تعالى: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) أي: بما شرعه الله سبحانه وتعالى لك، وبما أوضحه الله عز وجل لك، (وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) أي: مخاصماً مدافعاً عنهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا...) ومن يراد به

    قال تعالى: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:106] أي: إن كانت زلت قدمك أو لم تزل في مسألة فاستغفر الله إنَّ اللَّه كان غفورًا رحيمًا.

    إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يستغفر الله فغيره كذلك يؤمر أن يستغفر الله، وهذا هو دأب أهل الصلاح أنهم يكثرون من الاستغفار ويتواصون به، فقد سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (علمني شيئاً أدعو به في صلاتي يا رسول الله! قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل ما تدعو به في ليلة القدر، فقال لها: (قولي اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عني) فهذا شأن أهل الصلاح، في حياتهم وعند اقتراب وفاتهم، فنوح عليه السلام لما أقر الله عينه بإغراق القوم الظالمين، قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا [نوح:28] وقال الله لنبيه محمدٍ عليه الصلاة والسلام -والناس له تبع-: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:106].

    إن قال قائل: هل يصدر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ذنب دون الكبيرة؟ أو هل يصدر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كبائر ابتداءً؟ فالجواب: أن أهل العلم من أهل السنة والجماعة متفقون على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون في تبليغ الشريعة، فإذا بلغوا عن الله شيئاً فهم معصومون في أثناء هذا البلاغ لا يخطئون فيه أبداً، ولا يهمون، وإنما أقوالهم كما قال تعالى عن نبيه عليه الصلاة والسلام: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

    وأما صدور الذنوب منهم فمن العلماء من أجاز ذلك، واستدل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم -والنص عام- نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها الخطو، واللسان يزني وزناه الكلام، والأذنان تزنيان وزناهما الاستماع، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

    واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى [عبس:1-4].

    واستدلوا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد قبوله الفدية من أسارى بدر نزل عليه قوله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:67-68] فقال عليه الصلاة والسلام لـأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: (لقد عرض علي عذاب أصحابي أدنى من هذه الشجرة، ولو نجا منا أحد لكان أنت يا ابن الخطاب)، فبناءً على هذا قال بعض أهل العلم بجواز الصغائر على الأنبياء.

    أما ما ورد في قصة موسى عليه الصلاة والسلام وهو قوله تعالى: وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا [طه:40] فكان ذلك قبل أن يبعث موسى صلى الله عليه وسلم، وعقب ذلك خرج موسى عليه السلام إلى مدين وبقي فيها الثمان أو العشر سنين على الأصح، ثم اتجه بعدها راجعاً إلى مصر فنزل عليه قوله تعالى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى [طه:13] عند طور سيناء كما قال فريق من أهل العلم.

    فقوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ) من العلماء من قال: استغفر الله من اللمم أو من بعض الران، ومنهم من قال: هذا وإن كان خطاباً لرسول الله عليه الصلاة والسلام إلا أن المراد به أمته؛ إذ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وجوه.

    أحدها: أن يكون المخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد به هو نفسه فقط، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50] فقوله تعالى: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ) خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاص به.

    الثاني: خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يراد به هو وأمته، مثل قوله تعالى: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق:1]، فهذا يراد به هو عليه الصلاة والسلام، ويراد به أيضاً أمته.

    الثالث: أن يكون الخطاب لرسول الله ويراد به أمته خاصة، كأنواع الخطاب التي فيها الوصية بالوالدين، فَأَبَوَا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانا قد ماتا قبل بعثته عليه الصلاة والسلام.

    ومما استدل به على جواز الصغائر في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: ما جاء في قصة آدم عليه الصلاة والسلام وهو قوله تعالى: فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:121-122] ونحوه قوله تعالى في قصة سليمان صلى الله عليه وسلم: فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ [ص:32-33].

    ومن العلماء من منع ذلك تماماً، وقال في قوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرِ الله) هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يراد به أمته، وإن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاستغفار فإنما ذلك لرفع درجته وإعلاء منزلته، وتعليم أمته عليه الصلاة والسلام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ...)

    قال تعالى: وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء:107] أي: يخونون أنفسهم، ويكذبون على أنفسهم ويكذبونها، ويركبون أنفسهم الخيانة. للآية سبب نزول وإن كان متكلماً فيه إلا أن من العلماء من حسنه بمجموع طرقه، وحاصله: أن رجلاً من المسلمين سماه بعض العلماء طعمة بن أبيرق سرق شيئاً من بيت من البيوت، فعلم خبره، فلكي يبرئ ساحته أخذ هذا الذي سرقه وألقاه في بيت رجلٍ من اليهود، فذهب أصحاب السارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! بلغنا أنك اتهمت صاحبنا، وإنه قد نمى إلى علمنا أن الذي سرق هو فلان من اليهود، وإن شئت أن ترسل من يبحث عن الدرع في بيته فستجدها في بيته، فأرسل صلى الله عليه وسلم من يتحقق من ذلك فوجد الدرع في بيت اليهودي، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام انتقلت عنده التهمة من السارق الحقيقي إلى آخر، فنزل قوله تعالى: وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء:107] والخوان: كثير الخيانة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ...)

    قال تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا [النساء:108] فالسارق فعل هذا الفعل الذي فعله -كما في سبب نزول الآية السابقة- كي يستتر أمام الناس. الآية تحث على مراقبة العبد لربه سبحانه وتعالى، ولا يكن همه الأكبر أن ينجو أمام الناس، فهناك ملائكة لك بالمرصاد، وربك مطلع عليك وشهيد، واعلم أن المعية في قوله تعالى: (وهو معهم) معية اطلاع وإحاطة، وعلم ورؤية.

    والمعية قسمان: معية خاصة ومعية عامة، فالمعية العامة كقوله تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7] فالله تعالى مع كل الناس، يطلع عليهم ويراهم ويعلم أخبارهم.

    والمعية الخاصة كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128] فلا يقال: إن الله مع الكافرين، ولا يقال: إن الله مع الظالمين، فإن قيل إن الله مع الظالمين فمعية عامة، أي: أن الله مطلع عليهم يراقبهم، والله تعالى أعلم.

    قوله تعالى: (إِذْ يُبَيِّتُونَ). التبييت: هو التدبير بالليل، فيتآمرون ليلاً لينفذوا ما بيتوه صباحاً، ويطلق التبييت أيضاً على الغارة ليلاً، ويطلق التبييت أو البيات على العذاب الذي ينزل ليلاً، كقوله تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف:97-98].

    وقوله تعالى: (إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ). أي: يبيتون كلاماً يكرهه الله سبحانه وتعالى ولا يحبه. (وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...) وتنزيل هذه الآية

    قال تعالى: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [النساء:109].

    قوله تعالى: (هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ) الهاء في (هؤلاء) للتنبيه، وأصلها (ألاء)، ومنه قول الله عز وجل حكاية عن موسى عليه السلام: قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84]، وقوله تعالى: هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ [آل عمران:119] فالهاء تزاد للتنبيه فيقال: (هؤلاء).

    وقوله تعالى: : هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [النساء:109] هذه الآية تتنزل على المحامين الذين يدافعون بالزور والباطل من أجل عرض قليل زائل، فيقف المحامي الكذاب الأشر أمام القاضي ويدافع عن السراق والحشاشين وتجار المخدرات، وهو يعلم أن هذا تاجر مخدرات حرامي لص سارق، أو أن هذا قاتل، ومع ذلك لا يبالي أبداً، فرب العزة يقول: : هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [النساء:109] فإذا كنت -أيها المحامي- تظن أنك أنقذت صاحبك، وخرجت والناس يصفقون لك لتتقاضى الأموال، فاعلم أن هذا الذي أنجيته من الحد الذي كان يستحقه سيأتي يلعنك يوم القيامة، ويقول لك: يا ليتك تركتني حتى أقتل فأستريح من عذاب الآخرة، فالحدود كفارات.

    فليحذر كل محامٍ كذاب يأكل أموال الناس بالباطل من أصحابه الذين يدافع عنهم، فرب العزة يقول: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، ويقول تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا [الفرقان:27-29]، ويقول بعضهم لبعض: رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [ق:27]

    وقوله تعالى: (هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ). أي: بالباطل، وإلا فالجدال عن الشخص بالحق مشروع ومحمود.

    قال تعالى: (فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فيوم القيامة لا جدل؛ لأن الله تعالى قال عنه: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ) فلا أحد يتكلم بكلمة إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ:38] فمن المفسرين من قال: إن قوله تعالى: (وقال صواباً). أي: كان يقول في الدنيا (لا إله إلا الله)، ومنهم من قال: أي: يتكلم بالحق ولا يكتم الله حديثاً.

    1.   

    سعة رحمة الله عز وجل

    قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110]

    هنا فتح الله باب التوبة لمن أراد أن يتوب، وهذا مطرد كثيراً في كتاب الله عز وجل، فبعد أن تذكر العقوبات يفتح الله باب التوبة، كقوله تعالى في سورة الحجرات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات:2] إلى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [الحجرات:4] ثم فتح الله لهم باب التوبة فقال: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات:5] أي: استغفروا الله فإن الله غفور رحيم.

    فهذا حث للمذنب على التوبة، خاصة إذا كان ذنبه يلحق ضرراً بالآدميين، وقد نشرت بعض الجرائد مرة قضية تنم عن أن الإيمان موجود في قلوب ناس من أمة محمد عليه الصلاة والسلام وإن اقترفوا الكبائر، ففي بعض البلاد قُتل رجل فاتهم شخص بأنه هو الذي قتله، فأخذ الشخص المتهم، والأصل أن يحكم عليه بالإعدام، وكان للمجني عليه طفل صغير، وإذا كان للمجني عليه طفل صغير فالمحكمة تنتظر حتى يبلغ الطفل، وبعد أن يبلغ يستشار: هل ترضى بقتل قاتل أبيك أو تعفو عنه أو تقبل الدية؟ وهذا لم يكن موجوداً على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه بنى على حديث: (ادرءوا الحدود بالشبهات) فقالوا: هذا له حق في الميراث، إذ قد يطلب الدية، فله حق أن ينتظر حتى يبلغ، فجلس الرجل مسجوناً هذه المدة الطويلة إلى أن بلغ الولد الصغير، والأم تلقنه بقولها: كيف يقتل أبوك؟! فأتي به، فقيل له: ماذا تريد من قاتل أبيك: أيقتل أو تعفو أو تقبل الدية؟ فقال: يقتل.

    فجاء يوم الجمعة -والقتل عندهم يكون يوم الجمعة- وأخذ المتهم كي يقتل، وفي ساحة القتل والناس تنظر أتى بالرجل الذي يقوم بالقصاص آخذاً بثوبه من ظهره، فأوقف المتهم كي يضربه، وفي هذه اللحظة قام أربعة أشخاص، فقالوا: نحن الأربعة القتلة، ونحن الذين قتلناه فلا نريد أن نتحمل إثمين، إثم قتل النفس الأولى، وإثم قتل هذا البريء ويتم أطفاله، فقام الشخص وقدم الأربعة للمحكمة وقتلوا، ورضوا بهذا خشية من عذاب الله سبحانه بتعذيب شخصين.

    يقول رب العزة : وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110]، فأي ذنب كان -يا عباد الله!- فإن رب العزة إذا علم من صاحبه صدق التوبة إليه يغفره له ويتجاوز عنه.

    قال تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:111] هذه الآية كقوله تعالى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164].

    قال تعالى: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا) وهذا جرم آخر، أن يرتكب جريمة ويلصقها بغيره وهذا قد قال الله فيه: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:112] فلم يقتصر على كونه احتمل بهتاناً فحسب، بل احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً، والبهتان: هو الكذب والزور، وفي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) أي: رميته وذكرته بما يكره كاذباً عليه، فأنت لم تذكره بما يكره وهو فيه فقط، وإنما ذكرته بما يكره وافتريت عليه في هذا الذي ذكرت.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ...)

    قال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113]

    قوله تعالى: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) يا محمد!

    (لَهَمَّتْ) أي: أوشكت واقتربت.

    (طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) الآية تبين أن المعصوم من عصمه الله سبحانه وتعالى، حتى لو كان نبياً من الأنبياء، والمحفوظ من حفظه الله تبارك وتعالى، ولذلك قال رب العزة: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ [النساء:34] فهن حافظات للغيب لا بأسوتهن ولا بقوتهن، ولا بتماسكهن، لكن قال تعالى: بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34] أي: بتثبيت الله عز وجل لهن، فالمثبت من ثبته الله تعالى.

    ويقول الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء:74] ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، ويوسف عليه الصلاة السلام يقول: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33].

    قوله تعالى: (لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) أي: يصرفوك عن طريق الحق إلى الباطل، وعن القضاء الحق إلى القضاء الظالم الجائر، وَهَبْ أن الرسول صلى الله حكم على البريء أنه يستحق القتل فهنا قرر العلماء أن قضاء الدنيا لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً. فالرسول صلى الله عليه وسلم أعقل الناس، وسيد ولد آدم، وقاض رزين عاقل، وقاض نبي، وفيه كل صفات الخير، ومع ذلك يقول: (إنكم تختصمون لدي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من أخيه وإنما أقضي على نحو مما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما اقتطع له قطعة من نار، إن شاء قبلها وإن شاء تركها)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

    وقد يكون القاضي عاقلاً رشيداً رزيناً متحرياً في البحث عن كل القرائن المحيطة ومع ذلك يخطئ، فقد يجيء من أسلوبه ساحر كمحامٍ كذاب ساحر يسحر القاضي بمقالاته، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من البيان لسحرا) أي: من الكلام كلام سحر يغير لك الشيء عن حقيقته، فقد يكون الرجل بريئاً غاية البراءة، فيأتي محامي الخصم يتكلم فيجعله متلبساً بالقضية لا يستطيع التحرك منها، والعكس، فالقاضي يقضي على نحو مما يسمع، وليس له أن يحكم حتى بعلمه السابق، بل يحكم بالقرائن والبينات ولا يحكم بالظنون، كذلك الشهود يشهدون على نحو مما يرون، دون البناء على المخيلات والاستنباطات.

    وكما أسلفنا ابتداءً: أن من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من يقضي أحياناً قضاء لا يكون صواباً، فنبي الله داود عليه الصلاة والسلام لما اختصمتا إليه المرأتان في الطفل إذ كان لكل امرأة منهما طفلٌ فجاء الذئب وعدا على طفل أحدهما وهرب به، فبقي طفل واحد، فكل امرأة ادعت أن هذا الطفل لها، فتحاكمتا إلى نبي الله داود عليه الصلاة والسلام، فجاء نبي الله داود يحكم والبينات غير واضحة، فقضى نبي الله داود عليه الصلاة والسلام بالطفل للكبرى خطأً، لكنه مأجور عليه الصلاة والسلام، فخرجتا من عند داود وسليمان واقف على الباب فسألهما: لمن قضى بهذا الطفل؟ قالتا: للكبرى، فأتى بسكين وقال: نقطعه بينكما نصفين، فدب الحنان إلى قلب أمه الحقيقية فقالت: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فعلم بالقرينة أن هذا الطفل إنما هو للصغرى فحكم به لها.

    فالقاضي قد يخطئ إما لعدم توفيق الله سبحانه وتعالى، أو لعدم توفر البينات، أو لعدم توفر العلم الكافي في بعض الأوقات، كما روي أن أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه رأى امرأة يسحبها الناس، فقال: ما هذه؟ قالوا: هذه مجنونة بني فلان زنت، فأمر بها عمر رضي الله عنه أن ترجم، فقال: على رسلكم، فذهب إلى عمر وقال: يا أمير المؤمنين! أما بلغك أن الحد رفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق...؟ وذكر الحديث، فأمر عمر رضي الله عنه بإلغاء الحكم فلم ترجم المجنونة.

    فعلى كل من يقضي بين الناس أن يجتهد قدر الاستطاعة، ويسأل ربه التوفيق والسداد، فالمسدد من سدده الله، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسأل ربه فيقول: (اللهم إني أسألك السداد سداد السهم).

    قوله تعالى: (وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ) أي: أنهم إذا أضلوك أضلوا أنفسهم بالدرجة الأولى، فمن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه، وهذا على فرض أنه تم لهم الإضلال، ولكن لم يتم الله لهم نياتهم السيئة.

    1.   

    فضل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم

    قال تعالى: وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [النساء:113] من العلماء من قال: إن المراد بالحكمة: السنة، واستشهد بأن سنة رسول الله وحيٌ يوحى، فالمعنى يستقيم (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) أي: الكتاب والسنة، وفي الحقيقة السنة كلها حكمة.

    ومن أهل العلم من قال: إن المراد بالحكمة هنا: الفقه في الدين. أي: تنزيل النص في المحل الذي يحتاج إليه، فلا يأتِ المرء إلى حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) ويلقيه على رجل يسرق أو يزني، ولا يأتِ عند الخوارج ويقول لهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام)، فهذا من عدم الحكمة، فالحكمة أن تضع النص في محله الذي يناسبه ويراد له، وهذا واضح.

    وأصل الحكمة: المنع، فرجل حكيم: أي: يمنعه عقله وحكمته من أن يفعل شيئاً يؤاخذ عليه، ومنه قول الفرزدق:

    أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا

    أي: يا بني حنيفة امنعوا السفهاء الذين فيكم من الحديث، فإنكم إذا لم تمنعوا السفهاء سأغضب وألقي فيكم شعراً، أو أفعل بكم وأفعل.

    ومنه قيل لما يربط به المعز أو الحمير أو البقر حكمة؛ لأنها تحكمها وتمنعها من التصرف المخل، أو التصرف الذي لا يراد، فكذلك الرجل الحكيم يمنعه عقله وما معه من العلم أن يتصرف تصرفاً طائشاً.

    قوله تعالى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء:113] أي: من أمور الإيمان والفقه ونحوها، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلم ما الكتاب ولا الإيمان كما قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ [الشورى:52].

    وقال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف:3] فالذي علمه هو الله فينسحب أيضاً إلى مسائل القدر أن المُعلَّم من علمه الله سبحانه وتعالى، ومنه: قول موسى للخضر عليهما السلام: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66]، وقول الملائكة: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:32]، فالمعلم أي علم كان، طبّاً، أو هندسة، أو صيدلة، أو علم كتابة، أو علماً شرعياً إنما علمه الله، ولذلك يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، فمنشأه وأصله من الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ...)

    قال تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114].

    (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ).

    النجوى: هي الكلام الذي يتسارر به، أي: يسر بعض الناس إلى بعض به، فيحدث به الناس سراً، وأكثر الكلام الذي يتكلم به الناس كلام فارغ ليس له فائدة إن لم يكن إثماً، فرب العزة يقول: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ)، ومن العلماء من قال: (لا خير). أي: في الكلام، فإذا فهمت المفهوم المخالف فأكثر كلامهم شر.

    قوله تعالى: (إِلّّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) هذا من الأمور المستثناة التي ليست بشر وهو أن يتناجى أحد مع الآخر، ويصحبه ويقول له: ما رأيك أن تتصدق اليوم، ونذهب عند فلان الفقير نزوره، وندخل البيوت نعطي أهلها، ونذهب اليوم إلى المستشفيات نعود المرضى ونعطيهم بعض ما يسره الله، وقليل الذين يتناجون بهذا.

    قوله تعالى: (أَوْ مَعْرُوفٍ) أي: فعل أي معروف كان، وقوله تعالى: (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) هذه مما فرط فيها الكثير، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (تعدل بين اثنين صدقة)، وفي رواية : (تصلح)، و(تعدل) بمعنى (تصلح).

    1.   

    لا قبول للعمل عند الله تعالى بدون إخلاص

    قال الله تبارك وتعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ [النساء:114] أي: يأمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس.

    وقوله تعالى: (ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ) قيدٌ لذلك العمل بطلب ثواب الله، أما إذا فعله مرائياً فلا شيء له، فإن ذهب شخص يصلح ليقول عنه الناس: إنه رجل مصلح حلّال للمشاكل والعقد وكانت هذه نيته فلا ثواب له.

    فأفعال البر التي يثاب عليها الشخص قيد فعلها بابتغاء مرضاة الله، كما في هذه الآية وغيرها من الآيات كقوله تعالى: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39]، وقوله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان:8-9]، وقال تعالى: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى [الليل:19-20].

    وقال تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ [الرعد:22] فالذي يصبر ويثاب هو الذي يصبر ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، فيصبر على الفقر والبلايا، ويصبر على الأسقام والأوجاع، ولكن يرى في نيته أنه يصبر طلباً لثواب الله ومرضاته الله سبحانه وتعالى، فهذا الذي يثاب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى...)

    قال تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115].

    قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى). أي: يخالف أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام من بعد ما تبين له طريق الصواب ومن بعد أن تبينت له أحكام الله وأحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ومعنى (يشاقق): أي: يصبح في شق والرسول صلى الله عليه وسلم في شق، فهو في ناحية والرسول عليه الصلاة والسلام في ناحية أخرى، ورأيه في ناحية، والكتاب والسنة في ناحية أخرى، فمن يفعل هذا الفعل فيأخذ شقاً آخر غير شق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ويخالف ويعاند رسول الله صلى الله عليه وسلم، (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا )، ومن أهل العلم -كالإمام الشافعي رحمه الله تعالى- من احتج بهذه الآية على مشروعية الإجماع والعمل به، من قوله تعالى: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ)، وهذه المسألة عليها جماهير السلف والخلف، ومن العلماء -وهم قلة قليلة- من أبى الإجماع وقالوا: إنه يتبع كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، أما الإجماع فلا حجة فيه عندهم، فأجيب عليهم بأن الكتاب والسنة فيه: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى [النساء:115]، ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، وألزموا بإلزامات فقيل لهم: هناك مسائل لا يسعكم فيها إلا أن تذعنوا للإجماع، وإلا أتيتم بمحدثٍ من القول مبتدعٍ، كما في مسألة تعدد الزوجات إلى أربع؛ إذ يقال فيها: ما الدليل على جواز الأربع فحسب؟ فإن قالوا: إن الله يقول: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]، قيل لهم: ليس في الآية تحريم فوق الأربع، والواو أحياناً تقتضي الجمع وأحياناً تقتضي التخيير، فما الذي حملكم على أن تقولوا: إنها بمعنى التخيير؟ فإن قالوا: في الباب حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أن غيلان الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطلق ستاً ويبقي أربعاً، قيل لهم: الحديث معل، فلم يبق في هذا الباب حجة إلا إجماع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ إذ لم يرد أن أحداً من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج فوق أربع، فصرنا إلى اعتبار الإجماع لهذا، ومما ينبغي الإشارة إليه أن من العلماء من هو متسرع في ادعاء الإجماع، كـابن عبد البر والنووي رحمهما الله تعالى: فكلاهما رحمة الله عليهما متسرعان في ادعاء الإجماع.

    إذاً: ثبت الإجماع عمل به، والإجماع على مراتب:

    فمن العلماء من يطلق الإجماع ويريد به إجماع الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله، فيقول: (أجمعوا) ويقصد به الأئمة الأربعة، ومنهم من يطلق الإجماع ويقصد به نوعاً خاصاً، ومنهم من يطلق الإجماع ويقصد به إجماع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقط، ومنهم من يطلق الإجماع على إجماع أمة محمد عليه الصلاة والسلام كلها.

    وأما مقالة الإمام أحمد المشهورة (من ادعى الإجماع فهو كاذب) فلا يراد بها إطلاقها، وإنما يراد بها إجماعاً من نوع معين، وإلا فكثير من الحنابلة نقلوا الإجماع في عدة مسائل، فإذا قصد في حكاية الإجماع المعتبرين المشهورين من أهل العلم فله ذلك.

    والأئمة الأربعة رحمة الله عليهم أجمعين إذا أجمعوا على مسألة فرأيهم في الغالب مسدد موفق، لكن لا يكون دليلاً يعمل به؛ لأن هناك أئمة آخرون غير الأئمة الأربعة.

    والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718655

    عدد مرات الحفظ

    754751799