إسلام ويب

يوم الفرارللشيخ : خالد الراشد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اليوم الآخر آت لا محالة، وكل امرئ محاسب فيه على كل صغيرة وكبيرة، ومن آمن به وما يقع فيه من الأهوال كان رادعاً له عن المعاصي والسيئات.

    1.   

    الإيمان باليوم الآخر

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله وخيرته من خلقه أجمعين، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى من استن بسنته واهتدي بهديه إلى يوم الدين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    أيتها المؤمنة.. أيتها التقية النقية! حديثنا هو عن اليوم الآخر، اليوم الآخر الذي لا يوم بعده، ولا يوم مثله.

    إن الإيمان بالله واليوم الآخر ركن من أركان الإيمان وعقيدة من عقائد الإسلام الأساسية، فقضية الإيمان باليوم الآخر هي التي يقوم عليها بناء العقيدة بعد قضية التوحيد، واليوم الآخر وما فيه من الأمور الغيبية التي لا يدركها العقل، ولا سبيل لمعرفتها إلا بالنص القرآني والسنة النبوية.

    وفي كتاب الله من ذكر اليوم الآخر وما فيه من الأهوال الشيء الكثير، فما تكاد تخلو صفحه من صفحات الكتاب الحكيم من صور ذلك اليوم أو موقف من مواقف ذلك اليوم العصيبة، فهو الذي لا يوم مثله ولا يوم قبله ولا بعده، إنه اليوم العقيم، قال سبحانه : وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [الحج:55].

    ولأهمية هذا اليوم العظيم نجد أن الله تعالى كثيراً ما يربط الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر، قال سبحانه: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:177]، وقال عز من قائل: ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [الطلاق:2].

    1.   

    أهمية الكلام عن اليوم الآخر

    لماذا هذا الموضوع؟ ولماذا الكلام عن اليوم الآخر؟

    أقول: لأسباب عدة:

    أولها: الغفلة التي قد استحكمت على حياة كثير من الناس، وأصبحوا لا يبالون من حلال أم من حرام يأكلون، قال سبحانه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1].

    ثانياً : الانشغال بالدنيا وعمارتها أكثر من الانشغال بالاستعداد لليوم الآخر، قال سبحانه: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281].

    ثالثاً -وهو الأهم-: أن الإيمان بالله واليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب هو الموجه الحقيقي والضابط الحقيقي لسلوك الإنسان، فهناك فرق بين سلوك من تؤمن بالله واليوم الآخر ومن لا تؤمن بالله واليوم الآخر، فإن من تعلم أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الأعمال الصالحة هي زاد الآخرة، لن تنشغل بعمارة الدنيا عن الآخرة، أما قال سبحانه: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197].

    وقال صلى الله عليه وسلم: (من جعل الهموم هماً واحداً -يعني: هم الآخرة- كفاه الله هم الدنيا وهم الآخرة) فهناك فرق بين سلوك من تؤمن بالله واليوم الآخر وسلوك ضعيفة الإيمان.

    قال صاحب الظلال: فالمصدق بيوم الدين يعمل وهو ناظر لميزان السماء لا لميزان الأرض، ولحساب الآخرة لا لحساب الدنيا. انتهى كلامه رحمه الله.

    فترى في المؤمنة بالله واليوم الآخر نظرة مختلفة للحياة، ترى فيها استقامة على الدين، ترى فيها سعة تصور وقوة إيمان، ترى فيها ثباتاً في الشدائد وصبراً على المصائب، فهي تعلم أن ما عند الله خير وأبقى، أما التي لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وما فيه من حساب وجزاء، فهي تحاول جاهدة أن تحقق مآربها في هذه الحياة، لاهثة وراء متعها، حريصة على جمعها، الدنيا أكبر همها ومبلغ علمها، تقيس الأمور بمنافعها ومصالحها الخاصة، لا تلتفت إلى بنيات جنسها إلا في حدود ما يحقق لها المصلحة، فتباً لها ولأمثالها!

    1.   

    دلائل اليوم الآخر

    أنكروا قضية الإيمان بالله واليوم الآخر، أنكروا قضية البعث والنشور، قال الله عنهم: وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام:29]، قال سبحانه عنهم: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7].

    لهذا أيتها المؤمنة! ركز القرآن على قضية الإيمان باليوم الآخر، وإثبات البعث والنشور والجزاء، وجاءت أدلة كثيرة على ذلك.

    النشأة الأولى

    النشأة الأولى قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ [الحج:5]، فمن قدر على خلق الإنسان في أطوار متعددة فإنه لا يعجز عن إعادته مرة أخرى، بل الإعادة أهون عليه من البدء.

    جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبيده عظمة بالية أكل الزمان عليها وشرب، فوضعها بين كفيه ثم فتها، ثم نفخها في الهواء وقال: يا محمد! ربك يحيي هذه بعد أن جعلتها هباء منثوراً؟ قال بأبي هو وأمي صلوات ربي وسلامه عليه: نعم، ويدخلك النار، فقال سبحانه عنه وعن أمثاله: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:77-79].

    سبحانه جلت قدرته، وعلا سلطانه.

    المشاهد الكونية المحسوسة

    قدرة الله المتجلية في خلق ما هو أعظم

    الحكمة الإلهية

    1.   

    أحوال الآخرة

    النفخ في الصور

    كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88].. كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].

    في حديث الصور من حديث أبي هريرة قال: (ثم يأمر الله عز وجل إسرافيل فينفخ نفخة الصعق، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فإذا اجتمعوا أمواتاً جاء ملك الموت إلى الجبار، فقال: قد مات أهل السماء والأرض إلا من شئت، فيقول سبحانه وهو أعلم، من بقي؟ فيقول: يا رب! بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقي حملة العرش، وبقي جبريل وميكائيل وإسرافيل وبقيت أنا، فيقول الله عز وجل: ليمت جبريل وميكائيل، فينطق العرش فيقول: أي رب، يموت جبريل وميكائيل؟ فيقول سبحانه: اسكت، إني كتبت الموت على من كل تحت عرشي، فيموتان، قال: ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار جل جلاله، فيقول: يا رب! قد مات جبريل وميكائيل، فيقول سبحانه وهو أعلم، من بقي؟ فيقول: يا رب! بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقي حملة العرش، وبقيت أنا، فيقول: ليمت حملة العرش، فيموتون، فيأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل، ثم يقول سبحانه: ليمت إسرافيل فيموت، ثم يأتي ملك الموت فيقول: يا رب! قد مات حملة عرشك، فيقول: وهو أعلم، من بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت أنا، فيقول الله: أنت خلق من خلقي، خلقتك لما رأيته فمت، فيموت.

    فإذا لم يبق إلا الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فكان كما كان أولاً، طوى السماء كطي السجل للكتب، ثم قال: أنا الجبار.. أنا الجبار، لمن الملك اليوم، فلا يجيبه أحد، فيقول جل ثنائه وتقدست أسماؤه: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، فينادي لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، فيقول سبحانه: لله الواحد القهار، بنفخة واحده يصعق من في السماوات ومن في الأرض، ويفني كل شيء إلا وجهه).

    إنها أهوال وشدائد في ذلك اليوم، الذي جاء ذكره في كتاب الله عز وجل: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ[الأنبياء:104].

    إنه يوم يقول الله عنه: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [المطففين:10-13].

    وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ[الزمر:67].

    قال الله عن أهواله: إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار:1-5].

    وقال الله عنه وعن أهواله: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير:1-14].

    أهوال وكرب وشدائد.

    ثم نفخة ثانية: فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ[الزمر:68] يخرجون من القبور ينفضون من على رءوسهم التراب يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ[المعارج:43] خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ[القلم:43].. يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا[طه:108].

    وقال سبحانه: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [طه:111-112].

    المشي إلى أرض المحشر

    أرض المحشر

    حال الناس في أرض المحشر

    دنو الشمس من رءوس العباد

    ثم تزداد الأهوال وتزداد الكرب فتدنو الشمس من رءوس العباد، فيغرقون في عرقهم.

    عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق، حتى تكون منهم كمقدار ميل) قال سليم بن عامر : فوالله ما أدري ما يعني بالميل، أمسافة الأرض أم الميل الذي تكتحل به العين.

    قال: (فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً).

    أمة الله! تفكري وتدبري في الموقف وشدته، تفكري في ذل الخلق وانكسارهم في ذلك اليوم الطويل، الأبصار خاشعة، والقلوب وجلة، وأنا وأنت والجميع في انتظار، كيف تكون النهاية وكيف يكون المصير، تخيلي وتمثلي!

    مثل لقلبك أيها المغرور

    يوم القيامة والسماء تمور

    قد كورت شمس النهار وأضعفت

    حراً على رءوس العباد تفور

    وإذا الجبال تقلعت بأصولها

    فرأيتها مثل السحاب تسير

    وإذا النجوم تساقطت وتناثرت

    وتبدلت بعد الضياء كدور

    وإذا العشار تعطلت عن أهلها

    خلت الديار فما بها معمور

    وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت

    وتقول للأملاك أين نسير

    فيقال سيروا تشهدون فضائحاً

    وعجائباً قد أحضرت وأمور

    وإذا الجنين بأمه متعلق

    خوف الحساب وقلبه معذور

    هذا بلا ذنب يخاف لهوله

    كيف المقيم على الذنوب دهور

    الإتيان بجهنم لها تغيظ وزفير

    ثم تزداد الشدائد وتزداد الأهوال، فيؤتى بجهنم يسمع لها تغيظ وزفير، قال سبحانه: كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:21-30].

    عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتي بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) رواه مسلم .

    قال سبحانه: إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا [الفرقان:12-14].

    انتظار الحساب

    إنه اليوم الطويل.. إنه يوم مقداره خمسون ألف سنة.. إنه يوم الطامة.. ويوم الصاخة.. إنه يوم الحاقة.. ويوم القارعة.. إنه يوم الفرار يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].

    والناس على هذه الحال.. والموقف شديد.. والكرب العظيم.. ويطول الانتظار.. والكل ينتظر الحساب.. والوقوف بين يدي الملك الديان.

    ثم يأتي الفرج بعد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديث أبي هريرة في مسلم : (كنا في دعوة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقدمت إليه الذراع وكان يحبها، فنهس منها نهسة ثم قال: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، أتدرون مم ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فلا يغادر منهم أحداً، فيبصرهم الناظر ويسمعهم الداعي، فتدنو الشمس من رءوس العباد، فيغرق الناس في عرقهم كل على قدر عمله، فتزداد بهم الأهوال والشدائد، فينظر بعضهم إلى بعض فيقولون: ألا ترون ما نحن فيه.. ألا تدرون ما قد بلغنا من الهم والغم والكرب.. ألا ترون من يشفع لنا عند ربنا، فيقول بعضهم لبعض: أبوكم آدم، فيأتون آدمً فيقولون: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأمر الملائكة أن تسجد لك، ألا ترى ما نحن فيه.. ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم والكرب.. ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباًً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن تلكم الشجرة فعصيت، نفسي.. نفسي.. نفسي، اذهبوا إلى نوح.

    فيأتون نوحاً فيقولون: أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك لله عبداً شكوراً، أما ترى ما نحن فيه.. أما ترى ما قد بلغنا من الهم والغم والكرب.. ألا تشفع لنا عند ربنا، فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي.. نفسي.. نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم.

    فيأتون إبراهيم فيقولون: يإبراهيم أنت نبي الله وخليله، ألا ترى ما نحن فيه.. ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم والكرب.. ألا تشفع لنا عند ربنا، فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كذبت ثلاث كذبات، ثم يقول: نفسي.. نفسي.. نفسي، اذهبوا إلى موسى.

    فيذهبون إلى موسى فيقولون: يا موسى! أنت نبي الله وكليمه، ألا ترى ما نحن فيه.. ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم والكرب.. ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي.. نفسي.. نفسي، اذهبوا إلى عيسى.

    فيأتون عيسى فيقولون: أنت نبي الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، ألا ترى ما نحن فيه.. ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم والكرب.. ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله -ولا يذكر ذنباً- ثم يقول: نفسي.. نفسي.. نفسي، اذهبوا إلى محمد).

    تخيلي أمة الله! هذا حال الأنبياء، هذا حال أولو العزم من الرسل، يسألون الله السلام، فكيف سيكون حالي وحالك. (فيأتون محمداً -وفي رواية- فيأتوني فيقولون: يا محمد! أنت نبي الله وخاتم المرسلين، غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، أما ترى ما نحن فيه.. أما ترى ما قد بلغنا من الهم والغم والكرب.. ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول الحبيب: أنا لها.. أنا لها، فينطلق إلى العرش ويخر أمام العرش ساجداً، فيفتح الله عليه من المحامد والثناء عليه ما لم يفتحه على أحد من قبل، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، وشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي.. أمتي.. أمتي).

    الحبيب لم ينسنا على شدة الموقف، على شدة الأهوال نادى بأعلى الصوت: أمتي.. أمتي.. أمتي.. فأين أمته من سنته سيرته ونصرته ونصرة دعوته فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].

    (فيقال: يا محمد! ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي.. أمتي.. أمتي، فيقال: أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من الجنة، وهم شركاء للناس في سائر الأبواب يقول: والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، وليأتين عليها يوم وهي كظيظ من الزحام).

    الحوض

    أخيه! هل سمعت عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم ومن يرده ومن يصد عنه؟

    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ترد عليّ أمتي الحوض، وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله، قالوا: يا نبي الله! أتعرفنا، قال: نعم، لكم سيما -يعني: علامة- ليست لأحد غيركم، تردون عليّ غراً محجلين من آثار الوضوء، وليصدن عني طائفة منكم فلا يصلون، فأقول: يا رب! هؤلاء من أصحابي، فيجيبني ملك فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك؟) رواه مسلم .

    وقد اختلف العلماء متى يكون الورود على الحوض وأين؟

    فقيل: قبل الصراط، وقيل: إنه يكون بعد الحساب والميزان والصراط.

    أما وصف الحوض فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه -يعني: آنيته- كنجوم السماء، من شرب منه فلا يظمأ أبداً) متفق عليه.

    اللهم لا تحرمنا فضلك، واجعلنا ممن يرد حوض نبيك، ويشربون من يده الطيبة المباركة شربة لا يظمئون بعدها أبداً.

    الحساب

    ثم يبدأ الحساب وتكشف الحقائق وتظهر الفضائح يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].

    تذكري -أمة الله- أنك بين يدي الله موقوفة، وسيكلمك ربك ليس بينك وبينه ترجمان، تنظرين أيمن منك فلا ترين إلا ما قدمت، وتنظرين أشأم منك فلا ترين إلا ما قدمت، وتنظرين أمامك فلا ترين إلا النار، فاتقي النار ولو بشق تمرة.

    ستقفين وستسألين عن القليل والكثير.. عن الصغير والكبير.. ستسألين عن العمر فيما أفنيته، وعن الشباب كيف قضيته، وعن المال من أين اكتسبته وفيما أنفقته، سيكون الحساب عسيراً وشديداً، إنه حساب بالذرة وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].

    يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30].

    إنه يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [النحل:111].

    فيه: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].

    ستسألين أخيه عن صلاتك كيف أديتها وهل حفظتها، ستسألين عن الصوم والزكاة، ستسألين عن كل صغيرة وكبيرة، بل سوف تسألين عن كل كلمة قلتها وسمعتها، ستسألين عن كل حقوق وواجبات، وأوامر ومنهيات، فمنهم من يحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهله مسروراً، ومنهم من يحاسب حساب عسيراً ويدعو ثبوراً.

    عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه -أي: ستره- فيقول: أتعرف ذنب كذا.. أتعرف ذنب كذا، فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى العبد في نفسه ورأت الأمة في نفسها أنها قد هلكت، قال الله: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعط كتاب حسناته).

    أما الكفار والمنافقون فينادي بهم على رءوس الخلائق: هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18].

    أيتها المؤمنة! إنها محكمة شعارها لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر:17]، قاضيها الملك الديان الذي لا يظلم أحداً، سيشهد عليك سمعك وبصرك ولسانك، قال سبحانه: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت:19-24].

    فلا إله إلا الله كيف يكون الحال إذا شهدت العينان، وقالت: أنا إلى الحرام نظرت!

    ولا إله إلا الله إذا شهدت الأذنان وقالت: أنا إلى الحرام استمعت!

    ولا إله إلا الله إذا شهدت اليدان وقالت: أنا للحرام أخذت وبطشت!

    ولا إله إلا الله إذا شهدت الرجلان وقالت: أنا للحرام مشيت!

    فرح المؤمن وندم الكافر عند أخذ الكتب يوم القيامة

    لقد أنذر الله وحذر فقال: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:39-40].. وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94].

    أيتها المؤمنة! تخيلي الموقف وقد تطايرت الصحف والكتب، إلى أي الفريقين ستنتمين، إلى أصحاب اليمين أم إلى أصحاب الشمال، بأي يد ستأخذين الكتاب بالشمال أم باليمين، قال سبحانه: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:19-20] النتيجة: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:21-24].

    وفي المقابل: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ [الحاقة:25-26].

    الأمنية: يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:27-29].

    النتيجة؟ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [الحاقة:30-37].

    فإلى أي الفريقين تريدين أن تنضمي، إن كنت تريدين الفوز والنجاة إذاً لابد من العمل والصدق والإخلاص، والصبر والاحتساب، وإلا ستقولين:

    واحسرتى واشقوتي من يوم نشر كتابيه

    وا طول حزني إن أكن أوتيته بشماليه

    وإذا سئلت عن الخطأ

    ماذا يكون جوابيه

    وا حر قلبي أن يكون

    مع القلوب القاسيه

    الصراط

    لم ينته الموقف، ولم تنته الشدائد، ستؤمرين بعدها أن تعبري الصراط الذي بعده إما جنة وإما نار.

    جاء في حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه ذكر: (ويضرب جسر على متن جهنم، قال صلى الله عليه وسلم: فأكون أول من يجيز ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم اللهم سلم، وبه كلاليب مثل شوك السعدان، -نبت له شوك معكوف- قال: أرأيتم شوك السعدان؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإنه مثل شوك السعدان، غير أنها لا يعلم قدر عظمها إلا الله، فتخطف الناس بأعمالهم، فمنهم الموبق بعمله -يعني: المهلك- ومنهم المخردل -يعني: المقطع بالكلاليب- ثم ينجو.

    فمنهم من يعبره كطرف البصر، ومنهم كالبرق، ومنهم من يعبره كالريح، ومنهم من يعبره كأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، وناج مخدوش، ومكردس في نار جهنم، ومنهم من يحبو حبواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يسحب سحباً).

    فقولي لي بالله كيف سيكون العبور؟

    قيل لأحد الصالحين وقد مات ورئي في المنام: ماذا صنع بك ربك؟ قال: وضعت قدماً على الصراط والقدم الأخرى في الجنة.

    كيف ينهي ذلك اليوم، وكيف يكون المصير.

    ينقسم الناس إلى فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير، قال سبحانه : وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:71-72].

    والفريق الثاني: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر:73-75].

    فريق في الجنة وفريق في السعير، ينادى أهل الجنة: أن خلود بلا موت، إن لكم أن تصحوا فلا تمرضوا أبداً، إن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، إن لكم أن تقيموا فلا تظعنوا أبداً.

    ينادى أولئك: أن يا أهل النار خلود بلا موت ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود:103-105].

    فلك الخيار أن تختاري إلى أي الفريقين تريدين، لابد من الاستعداد لهذا اليوم -أخية- قبل أن نصيحي بأعلى الصوت: رباه ارجعون! فلا يستجاب لك.

    1.   

    مسئولية استشعار اليوم الآخر

    إنها مسئولية عظيمة مسئولية اليوم الآخر، استشعار ذلك اليوم وما فيه من الشدائد والأهوال، لم يكن من فعله صلى الله عليه وسلم ربط الناس بالدنيا، بل كان دائماً يذكرهم بالله واليوم الآخر، ما وعدهم بحطام الدنيا إنما ربطهم بالله وجنته.

    ها هي سمية أم عمار تعذب وتضطهد فيمر عليها النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة).

    يدخل على أصحابه يضحكون، فيقول لهم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) .

    إذا اشتد الحر قال لهم: (إن أشد ما تجدون من حركم من سموم جهنم)، وإذا اشتد البرد قال لهم: (إن أشد ما تجدون من بردكم من زمهرير جهنم).

    يربطهم دائماً بالله وباليوم الآخر، تأتي فاطمة رضي الله عنها تطلب خادماً، فيقول لها: (ألا أدلك على ما هو خير من خادم؟ إذا أويت إلى فراشك فقولي: سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثاً وثلاثين، وقولي تمام المائة: الله أكبر، فذلك خير لك من خادم).

    إنه البشير النذير والسراج المنير، الذي أرسله الله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد.

    وتعلم هذا الهدى أصحابه من بعده، قام عمر ليلة وافتتح قوله تعالى: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ:1-3] فما استطاع أن يتجاوزها حتى بزغ عليه الفجر وهو يبكي ويردد عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النبأ:1-2].

    ها هو الحسن البصري كما يقول عنه ابنه: أمسى أبي صائماً حتى حانت ساعة الإفطار، فأحضر له الطعام وقيل له: الطعام يرحمك الله، فاسترجع ثم قرأ قوله سبحانه: إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا [المزمل:12-13] فبكى وأبكى حتى عافت نفسه الطعام، حتى أصبح صائماً لليوم الثاني لم يذق الطعام ولا الشراب، حتى حانت ساعة الإفطار وجئ له بالطعام، وقيل له: الطعام يرحمك الله، فاسترجع وبكى وقرأ قوله سبحانه: إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا [المزمل:12-13] فبكى وأبكى حتى عافت نفسه الطعام، حتى أصبح صائماً لليوم الثالث على التوالي لم يذق الطعام ولا الشراب، حتى حانت ساعة الإفطار فذهب ابنه إلى ثابت البناني ويحيى البكاء فقال: أدركوا أبي ثلاثة أيام لم يذق الطعام ولا الشراب.

    إنها مسئولية الآخرة التي حرمتهم لذة الطعام ولذة الشراب ولذة المنام فـكَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18] حالهم يتضرعون إلى ربهم: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [الفرقان:65].

    فالمسئولية عظيمة، واليوم أشد مما تتصورين، فاستعدي أخيه، فخذي من دنياك لآخرتك، ومن صحتك لسقمك، ومن فراغك لشغلك، فإنك لا تدرين ماذا يكون اسمك غداً، ولا تدرين في أي مكان تنامين.

    فاتقي الله أيتها المؤمنة! اتقي الله واستعدي للقاء الله تبارك وتعالى.

    وأستغفر الله العظيم، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755823888