إسلام ويب

الخلاف في أهل الوعيدللشيخ : سفر الحوالي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • نفى الشيخ حفظه الله عن المرجئة أنهم يقولون: ( إن الإيمان لا يضر معه ذنب )، وبين أن عقيدة الإرجاء من العقائد التي ظهرت في عصور الإسلام المتقدمة، وقد قال أوائل المرجئة بعدم دخول أهل الكبائر النار. كما بيّن وجوب اقتران المحبة بالخوف والرجاء، موضحاً خطر عبادة الله بالمحبة وحدها؛ لأنها تؤدي إلى الزندقة، وخطر عبادة الله بالخوف وحده؛ لأنها تؤدي إلى الغلو في الدين، وخطر عبادة الله بالرجاء وحده؛ لأنها تؤدي إلى الإرجاء.

    1.   

    موقف الفرق الإسلامية من أهل الكبائر

    الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:

    فيقول ابن أبي العز -رحمه الله- في شرح العقيدة الطحاوية:

    وأراد المصنف رحمه الله بقوله: [ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله] مخالفة المرجئة وشبهتهم كانت قد وقعت لبعض الأولين، فاتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك؛ فإن قدامة بن مظعون شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة، وتأولوا قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [المائدة:93] فلما ذُكِرَ ذلك لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه، اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا، وقال عمر لـقدامة: [أخطأت استُك الحفرة، أما إنك لو اتقيت، وآمنت، وعملت الصالحات، لم تشرب الخمر]اهـ.

    الشرح:

    قال المصنف -رحمه الله-: وأراد الشيخ رحمه الله بقوله: "ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، مخالفة المرجئة".

    لكن هذا القول لم يثبت عن قائل معين من المرجئة أنه يقول: '' لا يضر مع الإيمان ذنب '' كما ذكر ذلك شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله، ولكن الثابت من مذهبهم هو مسألة حكم أصحاب الوعيد والكبائر، فإن المرجئة أو طوائف منهم يرون أنه يجوز ألا يدخل النار أحدٌ من أهل الكبائر، فما كان دون الشرك فإنه يجوز أن يغفره الله تعالى للناس كافة، فلا يدخل النار أحد من أهل الكبائر، وإنما الذي يدخلها فقط هم أهل الكفر والشرك، وفي معتقدهم هذا يقابلون الخوارج حيث تقول الخوارج: إنه لا يدخل أحد من أهل الكبائر الجنة، وجعلوهم خالدين مخلدين في النار كالكفار المشركين بالله تعالى، أما المرجئة فوصفوا أهل الكبائر بالإيمان والتوحيد، وقالوا: حاشا الله أن يجعل المسلمين من المجرمين والموحدين كالكافرين؛ فلذلك يجوز ألا يدخل النار أحد من المسلمين ولو كان عاصياً.

    وأهل السنة والجماعة وسط بين أهل التفريط وأهل الإفراط، وأهل الغلو وبين أهل التقصير، فقالوا: يدخل النار قطعاً بعض أهل الكبائر من أهل التوحيد، ويغفر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لمن شاء منهم فلا يدخلونها، وكل صاحب كبيرة عليه أن يخاف وأن يتوقع أنه ربما يكون ممن لا يُغفر له، لكن النهاية لا يمكن أن يخلد أحد من أهل التوحيد والإيمان في النار، وإنما الخلود فيها لأهل الكفر والشرك، فأهل النار الذين هم أهلها كما بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الجهنميين هم أهل الشرك والكفر، وأما من دونهم فإنهم يخرجون منها.

    ويدل على ذلك ما تقدم في موضوع الشفاعة من أحاديث كثيرة، ولذلك فـالخوارج ينكرون الشفاعة؛ لأن هذا الإنكار مبني على مذهبهم الخبيث في مرتكب الكبيرة، فالأدلة الدالة على الشفاعة كثيرة جداً، ومنها حديث الجهنميين الذين يخرجون بشفاعة الشافعين، وكلها برحمة الله وفضل منه، فيخرجون من النار بعد أن لبثوا فيها ماشاء الله أن يلبثوا.

    أيضاً هناك كثير من الأحاديث الصحيحة الثابتة في دخول أهل المعاصي النار، ومن ذلك الأحاديث الواردة في الإسراء والمعراج وفي رؤيا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث رأى الزناة، وأكلة الربا، والذين يأكلون لحوم الناس وغير ذلك.

    والمقصود هنا هو إجمال المذاهب الثلاثة، وأن فيها طرفين ووسط، وأن أهل السنة والجماعة هم المذهب الوسط، وأما المرجئة فيلزم من قولهم أن من كان من أهل التوحيد فلا يضره ذنب؛ لأنه لن يدخل النار فليفعل ما يشاء.

    تأويل الصحابة للنصوص

    ثم قال: وشبهتهم -شبهة أن الإيمان لا يضر معه ذنب- كانت قد وقعت لبعض الأولين ممن ليسوا من المرجئة، واتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك، فإن قدامة بن مظعون شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة، وتأولوا قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات [المائدة:93] .

    هذه قصة عظيمة وعجيبة، وفيها كثير من العبر والأحكام العقدية والفقهية؛ حيث إن قدامة بن مظعون وهو رجل من الصحابة ومن السابقين، وقد جاء في سيرته أنه هاجر إلى الحبشة، وشهد بدراً وسائر المشاهد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتوفي سنة (36هـ).

    وكانت هذه الشبهة العظمى التي وقعت له في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان له صلة بـعمر رضي الله عنه فإنه خال حفصة وعبد الله ابني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأخوه هو الصحابي المعروف بـعثمان بن مظعون الذي دعا له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برفع الدرجة، حيث قال: {أما عثمان فقد أتاه اليقين من ربه}.

    فهذا قدامة رجل من السابقين والمهاجرين، ولكنه وقعت له هذه الشبهة، وهذا يدل على أن الشبهة العلمية أو الاعتقادية تعرض -مثلما تعرض الشهوة النفسية والجسدية- لأهل الفضل والخير والسابقة، والمعصوم من عصمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذه القصة أوردها كثير من العلماء منهم: عبد الرزاق في المصنف، وابن أبي شيبة، والحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (12/70)،.

    والقصة مذكورة في كتب الفقه عامة كـالمغني وغيره، والمقصود أن هذه الحادثة حادثة عزيزة، حيث ذكر العلماء أن رواية ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: شرب قوم من أهل الشام الخمر، وعليهم يزيد بن أبي سفيان أخو معاوية بن أبي سفيان، وقد كان والياً لـعمر رضي الله عنه على الشام، وكان قدامة ومن معه يسكنونها، فقالوا هي لنا حلال، وتأولوا هذه الآية: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [المائدة:93].

    فكتب يزيد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستشيره في شأنهم، فأشار عليه رضي الله عنه وسائر الصحابة بأنهم يستتابوا، فإن تابوا جلدوا ثمانين جلدة -وهي حد الشرب- وإن لم يتوبوا قتلوا؛ لأنهم استحلوا المحرم القطعي، ولذلك نجد عبارة المصنف: '' اتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك ''؛ لأن القصة اشتهرت عندهم، واستدعاهم عمر -رضي الله عنه- واستشار فيهم الصحابة، وعَلِمَها كافةُ الناسِ وأهلُ الشورى وأهلُ الرأي، واتَّفَقَ رأيهم على هذه الفتوى، فأصبحت كأنها إجماع.

    كيفية معاملة المتأول والمستحل

    وهذا يدل على كيفية معاملة المُتَأَوِّلِ والْمُسْتَحِلِّ، فأما المتأول فتكشف شبهته، وكل من استحل محرماً أو وقع في شرك أو بدعة أو محرمٍ بشبهة، فتكشف -أولاً- الشبهة، ويناقش مناقشة علمية، والناس في هذا على نوعين والوسط هو الحق والعدل، فبعض الناس إذا رأوا من فعل ذلك، قالوا: هذا من أهل العلم، أو إمام مشهور، أو صحابي جليل، فلا يفعل هذا الشيء إلا وهو محق، فيقلدونه.

    وبهذا التقليد ارْتُكِبَ كثيرٌ من المحرمات -نسأل الله العفو والعافية-، وهذه الشبه تقع كثيراً، حتى في موضوع الخمر، فأهل الكوفة وفقهاء العراق يرون أن الخمر المحرم هو ما كان من العنب إذا غلى وقذف بالزبد، وأما ما عداه فهو لا يقاس عليه.

    ولهذا روى البخاري رحمه الله أحاديث كثيرة عن أنس رضي الله عنه وعن غيره من الصحابة أنهم قالوا: نزلت آية الخمر وما في المدينة زبيبة؛ إنما كان فيها التمر ولم يكن يصنع الخمر بـالمدينة من العنب، لكن وقعت هذه الشبهة.

    فالمقصود أن من الناس من إذا وقعت مثل هذه الفتنة اتبعوا من فعلها، وقالوا: هؤلاء أئمة، وفي المسألة خلاف، ولم يكن الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- على هذه الحالة، ولو أن الإنسان تتبع أخطاء العلماء وتأويلات المتأولين لكان مصيره كما قال بعض العلماء: من تتبع رخص الفقهاء تزندق. فيأخذ من هذا شيئاً يتعلق بالوضوء، ومن آخر شيئاً في الصلاة أو الزكاة أو الصيام، ثم يجمعها؛ فلا يبقى لديه من الدين شيئاً صحيحاً، فيصبح زنديقاً مارقاً، كما ذكر أبو نواس الشاعر الماجن الخبيث لما قال:

    أجاز العراقي النبيذ وشربه     فقال الحجازي كلاهما خمر

    قال:

    وقال الحجازي: الشرابان واحد     فحلت لنا من بين قوليهما الخمر

    فيقول: إن فقهاء العراق يقولون: إن النبيذ حلال، وفقهاء الشافعية وأهل المدينة يقولون:

    قال الحجازي: الشرابان واحد     فحلت لنا من بين قوليهما الخمـر

    فهو أخذ من هذا ومن هذا، فقال: بما أن النبيذ حلال كما يقول أهل العراق، ولا يقولون إذا أسكرت حرام، فأخذ منهم أن النبيذ حلال، وأخذ من قول أهل الحجاز أنهما واحد فحكمهما سواء، ثم توصل إلى أن تكون الخمر حلالاً والعياذ بالله، فلا شك أن من تتبع رخص العلماء تزندق واستحل المحرمات.

    ومن ذلك من يسمون بفقهاء الحيل الذين ابتدعوا الحيل الشرعية، وهي ليست من شرع الله ولا من دينه، كنكاح التحليل وأشباهه مما أطال فيه العلماء، كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله في كتابه إغاثة اللهفان، فذكر كيفية تلبيس الشيطان على أصحاب التحليل والحيل، فهؤلاء هم الطائفة الأولى.

    وأما الطائفة الأخرى فما أن يقع من عالم زلة وإن كان صحابياً أو تابعياً، فإنه يسقط من أعينهم بالكلية، ويشنعون عليه، ولا يحفظون له قدراً ولا مقاماً، وهذا جور وظلم وإجحاف.

    حكم الصحابة على المتأولين للأحكام

    وأما الصحابة -رضوان الله عليهم- فإنهم تعاملوا بالعدل الذي أمر الله تعالى به فقالوا : تكشف شبهتهم، وتقام عليهم الحجة، ويُوَضَّحُ لهم الْحَقُّ، فإن استجابوا وعادوا فإنهم يجلدون الحدَّ، وذلك ردعاً لهم ولغيرهم؛ حتى لا يتأول أحد فيما أحل الله أو فيما حرم الله، فيعلم أنه بسبب شربه الخمر لابد أن يجلد، وإن أصر على ذلك بعد أن تقام الحجة وتكشف الشبهة، فإن حكمه في هذه الحالة هو القتل؛ حتى لا يأتيَ أحدٌ فيفتريَ على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويشرع في دين الله ما لم يأذن به الله، وهذا مما اتفق عليه الصحابة -رضوان الله عليهم- عليه بالنسبة للفرد.

    وكذلك الطائفة: إذا كانت طائفة أو قبيلة أو مدينة أو إقليم أو دولة اتفقت وتواطأت على شيء من هذا، فهذه تسمى الطائفة الممتنعة، ينظر فإن كانت لديهم شبهة كشفت وبينت، وإن لم تكن فإنهم يقاتلون على ما استحلوا مما حرم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد جاء في المسند: {أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أخبر عن وفد اليمن أو بعض قبائل من أهل اليمن أنهم لا يتركون الخمر فقال: إن تركوها وإلا قاتلوهم}.

    فلو أن طائفة أو قبيلة أبت أن تترك شرب الخمر، فإنها تقاتل حتى تتركه، وكما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله حيث يقول: اختلف العلماء فيمن ترك بعض السنن المؤكدة مثل صلاة الخسوف، فلو تواطأت قرية أو قبيلة، وقالوا: نترك صلاة الخسوف أو صلاة الاستسقاء أو ركعتي الفجر، فهؤلاء قد اختلف فيهم العلماء، فما كان من الواجبات الظاهرة كالأذان لو ترك، أو كان من المحرمات الظاهرة كاستحلال الخمر أو الربا فإنهم يقاتلون. وقد ذكر شَيْخ الإِسْلامِ أنه ورد في بعض السير -أن قبيلة ثقيف أرادت أن تَسْتبقِيَ الرِّبَا، ولا تُحَرِّمَه بالتحريم الذي وصفه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبة الوداع، وكان الربا من آخر ما نزل من الأحكام، وآياته من آخر ما نزل من القرآن، فتجهز النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقتالهم.

    فالمقصود أنه إذا أَصَرَّت على ترك الواجب الظاهر من دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أو ارتكاب المحرم الظاهر في التحريم، فإن حكمها هو الاستتابة، وتقام عليهم الحجة العلمية؛ فإن لم يتوبوا فإنه يجب قتالهم، فهذا الذي اتفق عليه الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- بشأن هؤلاء كما يقول المصنف:

    فلما ذكر ذلك لـعمر رضي الله عنه اتفق هو وعلي بن أبي طالب. لأنه استشاره بذلك '' وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا، وقال عمر لـقدامة: [[أخطأت استك الحفرة]] وفي هذا كناية عن الخطأ في الرأي، ويقصد أنك أخطأت في هذا الرأي، حيث فهمت استحلال الخمر من قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات [المائدة:93] فقال له: [[ أما إنك لو اتقيت، وآمنت، وعملت الصالحات، لم تشرب الخمر]] لأن شرب الخمر يتنافى مع الإيمان والتقوى والعمل الصالح، فكيف تجمع بين هذا وهذا؟!

    سبب نزول قوله تعالى: [لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ...]

    ثم بين المصنف رحمه الله سبب نزول هذه الآية، فقال: وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب أن الله سبحانه لما حرم الخمر وكان تحريمها بعد وقعة أحد، فقال بعض الصحابة: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، بين فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم يحرم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين، كما كان مِنْ أمرِ استقبال بيت المقدسحيث إنه لما حولت القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه [البقرة:144].

    وبعد أن صلّى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه ثمانية عشر شهراً تقريباً إلى بيت المقدس، وكانوا في حرج شديد، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حرج من ذلك، ويريد أن يستقبل الكعبة فنزلت هذه الآية: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة:144] فتحول الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- وحولت القبلة إلى الكعبة، وكان ذلك أحد العلامات الفاصلة بين المسلمين وبين أهل الكتاب، فأصبحنا لا نستقبل قبلتهم ولا هم يستقبلون قبلتنا، ولا نتبعهم ولا يتبعوننا، فلما حصل ذلك جاء السؤال من بعض الصحابة وقالوا: كيف حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ هل تقبل منهم صلاتهم أم لا تقبل؟ فإن الناس كانوا حديثي عهد بالنسخ، ولم يتعودوا أن ينزل أمر من أمور الدين ثم ينسخ، وخاصة مثل هذا الأمر الظاهر المعلوم لدى كل فرد من المسلمين، فقالوا: إذا كانت الصلاة لا تقبل إلى بيت المقدس، فما حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إليها؟

    فأنزل الله تبارك وتعالى تطميناً لهم فقال: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] فصلاتكم إلى القبلة المنسوخة باقية، ولكم عليها أجر كبير؛ لأنكم أطعتم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في استقبالها، وفي تركها واستقبال القبلة التي أمر الله تبارك وتعالى بها، وبهذا يتبين أن من حكم النسخ العظيمة الابتلاء والامتحان للمؤمنين.

    فالعبد المؤمن دائماً يقول: سمعنا وأطعنا، ولا يقول كما قال أهل الكتاب من قبلنا: سمعنا وعصينا، وهكذا كان حال السلف الصالح -رضوان الله تعالى عليهم-، ومن حكم النسخ تحقيق العبودية، فلو أعجبتك طاعة من الطاعات، لكن الله تعالى يأمرك في وقت معين بطاعة أخرى غيرها لسبب من الأسباب الشرعية، فلا تذهب إلى ما تميل إليه نفسك، بل تتعبد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فتفعل ما أمر الله به وما أمر به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    فالمقصود أن الموضوع الأول هو موضوع القبلة، والموضوع الآخر هو موضوع تحريم الخمر؛ لأنه كما جاء في الصحيح: {مات قومٌ يوم أحد والخمر في بطونهم} وهم من أفاضل الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-، فاستشهدوا في سبيل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والخمر في بطونهم، فجاء هذا السؤال مرة أخرى عند الصحابة الكرام، فقالوا : ما حال إخواننا الذين ما توا وهم يشربون؟ وروى الحاكم وغيره أن هذا السؤال أثاره اليهود، وهذا لا يستبعد.

    فتحريم الخمر ليس حدثاً هيناً، بل هو أمر عظيم جداً، فقد أنزل الله تحريمها، وبَلَّغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك للمؤمنين، فجرت بها سكك المدينة وطرقها، وقال الله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:91] قالوا: انتهينا، وكلٌ أراق ما عنده، فأصبحت الخمر تجري في طرقات المدينة، كأنها السواقي أو الأنهـار الحمراء من هذا الشراب الخبيث؛ وانتهوا لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرهم بذلك، فحسدتهم اليهود، وقد حسدوهم عندما تحولت القبلة، فقال اليهود: حرمت عليكم الخمر؟ قالوا: نعم؛ قالوا: فكيف حال إخوانكم الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية تطميناً لهم.

    التوبة والمغفرة بين المعتزلة والخوارج وأهل السنة

    فلما علم قدامة ومن معه أنهم ارتكبوا حراماً، وانكشفت لهم الشبهة، قالوا: الخمر كبيرة، ولن يغفرها الله، فأيسوا من التوبة والرحمة، لأنهم تصوروا الأمر بهذه الفظاعة، والبشاعة، والمؤمن وسط بين الحالين، فلا يستهين بالمعاصي والذنوب، ولا يقنط من رحمه الله تبارك وتعالى، ولهذا لما ندموا ووصل بهم الحال إلى أن يئسوا من التوبة قال: '' [[فكتب عمر إلى قدامة يقول له: حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذي الطول [غافر:1-3] ما أدري أيُّ ذنبيك أعظم، استحلالك المحرم أولاً؟ أم يأسك من رحمة الله ثانياً]]''.

    فكتب له هذه الآيات من صدر سورة غافر، التي بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها هذه الثلاث الصفات، غافر الذنب، قابل التوب، شديد العقاب؛ وهناك فرق بين معنى غافر الذنب ومعنى قابل التوب، فغافر الذنب: هو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يغفر الذنب لمن يشاء قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

    فمن لقي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو مذنب، ولم يتب فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يغفر لمن يشاء، وأما قابل التوب: فإنه يقبل توبة من تاب وأناب حتى ولو كانت من الشرك، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في المشركين في صدر سورة (براءة): فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11] وفي الآية الأخرى فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5].

    فالتوبة تكون من جميع الذنوب، أما المغفرة فلا تكون للمشرك أبداً، فإن من مات وهو مشرك فلا يغفر الله تعالى له أبداً، وأما من مات وهو مرتكب ذنوباً من دون الشرك، فهو إلى رحمة الله ومشيئته: إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، كما هو فهم أهل السنة والجماعة، أما المعتزلة والخوارج فإنهم قالوا -حتى يُخَرِّجوا الآية على أصلهم الفاسد-: إنما يغفر الذنوب لمن تاب فَيُرَدُّ عليهم، ويقال: إن الله تعالى وصف نفسه بوصفين مختلفين: غافر الذنب وقابل التوب، فكيف يكون غافراً فقط لمن تاب؟! وهذه الثلاثة الأوصاف لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فهو يغفر الذنب لمن يشاء مالم يك مشركاً، ويقبل التوبة من كل من تاب من أي ذنب.

    وهو شديد العقاب؛ حتى لا يقول أحد من الناس: (إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غافر الذنب وقابل التوب، وبناءً على ذلك سأفعل ما أشاء) وهذا من فقه عمر رضي الله تعالى عنه، فقد كتب بهذه الآية إلى قدامة، ولو أنهم في البداية تذكروا أن الله شديد العقاب، وأنه قد حرم الخمر وسيعاقبهم بها لما شربوها واستحلوها، ولو أنهم في النهاية علموا أنه غافر الذنب وقابل التوب لما قنطوا ويئسـوا من رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

    1.   

    الانحراف في العبادات

    فهذا دليل على أن المؤمن لابد أن يكون دائماً بين الخوف والرجاء، كما قال عبد الله بن المبارك رضي الله تعالى عنه وغيره من السلف: "الخوف والرجاء كجناحي الطائر للمؤمن" وللسلف عبارة مأثورة في هذا، قالوا: "من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري".

    من أسباب الزندقة

    فمن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق. حتى إن بعضهم يسميه العشق الإلهي، كما يقولون عن رابعة العدوية: شهيدة العشق الإلهي، كما ذكر عبد الرحمن بدوي وأمثاله، فهؤلاء يعبدون الله تعالى بالحب فقط، ويقولون: لا نعبده طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره، إنما نعبده محبة لذاته حتى ولو كان مصيرنا إلى النار، عياذاً بالله! ويبنون على هذه المحبة أن الله لا يعذبهم، ويقولون: إن الحبيب لا يعذب حبيبه!!

    وهؤلاء كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عمن قبلهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [المائدة:18] فدعوى أن الإنسان إذا أحب الله فإن الله لا يؤاخذه هي دعوى الزنادقة الذين كانوا في القرن الثاني وأول القرن الثالث، ومن تتبع وقرأ سير أئمة التصوف الكبار والمشهورين كـالجنيد، أو النوري، أو الكرخي، أو ذي النون المصري، لوجد أنهم كانوا متهمين بالزندقة -والعياذ بالله- سواء صحت أم لم تصح؛ لأنهم كانوا يتدينون بهذا الدين، وهو من بقايا الرهبانية النصرانية، وهي مأخوذة عن رهبانية الهندوس، الذين غلوا في المحبة، وادعوا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحبهم ويحبونه، وإذا فعلوا ذلك فلا حرج عليهم كما ينسبون إلى رابعة:

    أحبك حبين حب الهوى     وحب لأنك أهل لذاكا

    فأما الذي هو حب الهوى     فشغلي بذكرك عمن سواك

    وأما الذي أنت أهل له     فكشفك للحجب حتى أراك

    فينقلون هذا الكلام عن أولئك العباد الذين اتهموا بالزندقة كما قال أبو داوود رحمه الله قال: ورابعة رابعتهم في الزندقة، وكان قد ذكر جابر بن حيان ورياح بن عمرو القيسي وكليباًً ثم قال: ورابعة رابعتهم على الزندقة، والمقصود أن من عبد الله بالحب وحده أو ادعى ذلك أو زعمه، فإنه زنديق.

    ومن اعتقد ذلك فقد أزرى بالأنبياء، وقد أزرى بالصحابة الكرام الذين كانوا يعبدون الله خوفاً وطمعاً، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما روى عنه خادمه أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه وهو من أكثر الصحابة خلطة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول : {كان أكثر دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}، والله تعالى يقول عن أولئك الأنبياء: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَبا [الأنبياء:90] وقال: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57].

    وتفسيرها هو أن أولئك المدعوين والمعبودين الذين يدعوهم المشركون هم عباد يعبدون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويبتغون هم أنفسهم إلى ربهم الوسيلة، ويرجون القرب، ويرجون رحمة الله ويخافون عذابه سواء كانوا من الملائكة أو من الأنبياء أو من الصالحين، فإذا كان هذا حال المدعوين؛ فكيف يكون حال الداعين؟! فيجب عليهم أن يتوبوا وأن يستغفروا الله تبارك وتعالى؛ كما قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُم [آل عمران:31].

    فمن ادعى محبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وجب عليه أن يطيعه باتباع رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه هي آية الامتحان كما قال بعض السلف : [[ ادعى قوم محبة الله، فأنزل الله تعالى آية الامتحان قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [آل عمران:31] ]] فهذا جواب الشرط المقترن بالفاء "فإن كنتم تحبون الله فاتبعوني"، ثم جعل جواب الشرط شرطاً له جواب آخر حيث قال: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31].

    فالمقصود أن محبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا تعطى لكل من زعم أنه يحبه، وإلا فعبّاد الهندوس يحبون الله، وعباد النصارى يتقربون ويدعون ويبكون ويخشعون ويقولون: (نحب الله)، لكن هل الله يحبهم؟ هذا هو الأهم. شرط حصول محبة الله أن يكون العبد متبعاً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومؤمناً به، فمن كان كافراً به، ومن كان يدعي الانتساب إليه أو أنه من أمته ولكنه لا يعبد الله كما شرع لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالدعوى باطلة.

    منشأ الغلو في العبادة

    ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري. وهذا هو حال الخوارج، نسأل الله العفو والعافية! فإنهم ضيقوا على أنفسهم، وأخذوا من الدين جانب الرهبة والخوف والترهيب والإشفاق والحذر، وقد تقع شبهتهم لبعض العُبَّاد وإن لم يكونوا على مذهب الخوارج، كعُبَّاد البصرة وغيرهم ممن ذكرهم في كتاب حلية الأولياء أو صفوة الصفوة، حيث كان بعضهم يغلو غلواً شديداً في الخوف من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مما يؤدي إلى اليأس من رحمة الله.

    وهذا النوع دخل فيهم أهل التصوف حتى أفسدوا عليهم عبادتهم!! وهذه من الحكم التربوية العظيمة، وهي أن الإنسان إذا غلا في الخوف والرهبة، فإنه قد يؤدي به ذلك إلى الوقوع فيما هرب منه، وحتى يعلم الناس أن الحق مع السنة التي لا غلو فيها ولا جفاء، كما قال الحسن -رحمه الله- في أهل السنة: [[ إن أهل السنة لم يذهبوا مع أهل الغلو في غلوهم، ولا مع أهل الترف في ترفهم، وإنما هم وسط بين ذلك ]].

    فلو رأيت إنساناً مشدداً على نفسه وعلى أتباعه في أمور كثيرة، بحيث يجعل المستحبات واجبات والمكروهات محرمات، فاعلم أنه سيقع في استحلال المحرمات؛ لأن من خرج عن المنهج الصحيح في تهذيب النفس وتقويمها، فإنه لا بد وأن يقع في ضده، فـالخوارج أول ما ابتدءوا، ابتدءوا بهذا الغلو الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أحاديث صحيحة متواترة حيث قال: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وقراءتكم إلى قراءتهم} وبعد ذلك جاءهم أناس فناقشوهم، وقالوا لهم: هذه سورة يوسف ذكر فيها العشق، وذكر فيها أن امرأة العزيز راودت نبياً من الأنبياء، وغلقت الأبواب، فقالوا: هذه ليست من القرآن! فكفرت طائفة منهم بسورة يوسف.

    ومن كفر بحرف من القرآن فقد كفر به كُلَّه، وكَفَّروا الصحابة الكرام، وكانوا بذلك كفاراً، وأدى بهم الغلو إلى أنهم كانوا يقعون فيما كانوا ينفرون منه، كاغتيابهم الصحابة، بل واستحلوا دماءهم، فقتلوا عبد الله بن خبيب وبقروا بطن جاريته، وهو ابن الصحابي الجليل خبيب بن عدي، ثم وجدوا نصرانياً في الطريق فقالوا: لا تخفروا ذمة نبيكم!.

    ووجد أحدهم تمرة سقطت من نخلة فأخذها، وذهب إلى الأمير وقال : هل يجوز أن نأكلها؟ ففكر وقال: قد تكون من نخل الخراج أو من نخل الصدقة، قد تكون.. لا، لا، اتركها، فهذا الغلو شر، فالمقصود أن من عبد الله بالخوف وحده فهو حروري.

    الإرجاء في عبادة الله بالرجاء

    ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ. وهو ما حصل لأمثال هؤلاء في القديم والحديث، حيث يعبدون الله تعالى بالرجاء وحده، وهذه ظاهرة عامة عند أكثر المسلمين، فتجدهم يُغَلِّبون الرجاء، لأن النفوس بطبيعتها مجبولة على ترك الواجبات وترك الالتزام بالحلال والحرام؛ لأنها تحب الحرية وارتكاب الشهوات، وقلة من النفوس التي تحب أن تتقيد وهنا يقع الغلو عند هذه النفوس التي تحب القيود والالتزام بها؛ ولذلك تجد أن الناس إذا ذكِّروا بالذنوب والمعاصي والنار، قالوا: نحن برحمة الله، والله غفور رحيم، فهذا مذهب الإرجاء.

    والمقصود: أن من استحل شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة كالمحرمات المعلومة التحريم من الدين بالضرورة، أو من حرم شيئاً مما أحل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأصر على ذلك فإنه يكفر، كما جاء في حديث عياض بن حمار في صحيح مسلم قال: {وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم، وحرمت عليهم ما أحللتُ لهم}.

    فتحريم الحلال كتحليل الحرام كما نص على ذلك شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله، لأنه لا يُحِلُّ ولا يُحَرِّمُ إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إما في كتابه وإما على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ [النحل:116] ومن فعل ذلك فإن كان فرداً فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإن كانت طائفة فإنها تقاتل، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد بَيَّنَ في كتابه حالَ المشركين الذين وقعوا فيما وقعوا فيه من تحريم أو تحليل بغير ما شرع الله وبغير ما أذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بالنسبة للأنعام والحرث والبحيرة والوصيلة والحام وغيرها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755914666