إسلام ويب

أهمية أعمال القلوبللشيخ : سفر الحوالي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد حثنا الدين الإسلامي الحنيف على الاهتمام بالقلب وتزكيته، وتطهيره من الشوائب والأمراض، وذلك لأن عليه المعول في صلاح الأعمال أو فسادها، وفي هذه المادة يبتدئ الشيخ حديثه عن أهمية الاهتمام بأعمال القلوب، مبيناً أن الإيمان هو أعظم أعمال القلوب، مستعرضاً لأقسام القلوب، ومحذراً من أمراضها التي قد تؤدي أحياناً إلى موتها. ولقد اتخذ أهل البدع من أعمال القلوب مدخلاً لدس بدعهم وخرافاتهم، وخلخلة عقيدة الأمة ودينها. فعلى المسلم أن يكون حريصاً على دينه ولا يؤتى من قبل هذه الدعوى..

    1.   

    موقع التربية من الدعوة إلى الله

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله الأمين، محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.

    وبعــد:

    فإن موضوعنا سوف يكون عن جانب عظيم ومهم جداً من جوانب الإيمان، وهو ما يتعلق بأعمال القلوب التي غفل كثير من الناس عن أهميتها، ولا أعني بالغافلين عنها الذين انحرفوا فيها كالمتكلمين والصوفية، ولكنني أقصد تقصيرنا نحن أهل السنة والجماعة المتبعين لمنهج السلف الصالح، ومنهج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الدعوة والتزكية والتربية، نحن قد لا نعطي لهذه الأمور ما تستحق من العناية والتركيز, مع أنها من أهم الأمور كما سنوضح بإذن الله تبارك وتعالى.

    والتذكير بالأمور الأساسية والمهمة واجب لا يجوز ولا ينبغي لأحد أن يجد غضاضة منه، فإن الله تبارك وتعالى أكثر ما ذكر في القرآن ووعظ ونوَّع في الأساليب بالإيمان بالله وتوحيده والإيمان باليوم الآخر، مع أن المخاطب به قوم قد آمنوا بذلك من قبل في الغالب، لكن هذه هي الأمور المهمة والأساسية والأصلية التي تنبني عليها حياة المؤمن وعبادته وأعماله والتي يجب أن يُذكِّر بها، وأن يُتَحَدَّث عنها كثيرا،ً فكيف إذا وجدنا أنها ربما أهملت لأسباب مختلفة.

    1.   

    الاهتمام بأعمال القلوب

    إنَّ علينا جميعاً -نحن طلبة العلم- أن نراجع أول ما نراجع موقف قلوبنا مع ربنا تبارك وتعالى، وحال هذه القلوب من التزكية والطهارة والتصفية والنقاوة، وأن نتعرف على أعمال القلوب،ونعلم مقدار ما لدينا منها، وماذا ينقصنا، وكيف فهمنا لها، ومعرفتنا وعلمنا بها، أهي كما يرضي الله عز وجل وكما كان السلف الصالح, أم هنالك شيء من الخلل فيها فيتدارك، فإذا صلحت هذه القلوب؛ فإن الحال يكون كما في الحديث الصحيح (ألا وإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ) رواه البخاري ومسلم وابن ماجة والدارمي وأحمد.

    إنَّ هذا الدين إنما نزل في حقيقته لتزكية القلوب وإصلاحها، ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أنا دَعْوَةُ أبي إِبْرَاهِيمَ) رواه أحمد.

    ودعوة أبينا إبراهيم هي ما في قوله تعالى: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ [البقرة:129] فإبراهيم عليه السلام دعا الله لما بنى هذا البيت العظيم "العتيق" أن يبعث في هذه الأمة هذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبهذه الأهداف والأغراض، وقد استجاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دعوة إبراهيم عليه السلام كما في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2].

    فنلاحظ هنا أن هذه الأمور الثلاثة المدعو بها اختلف اختلفت ترتيبها، فتقدمت التزكية على التعليم، ولاشك أن الإنسان لا يمكن أن يتزكى إلا بأن يتعلم الكتاب والسنة، فيتعلم الهدى الذي جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكن عندما تتقدم التزكية فهي من باب تقديم الغرض والغاية على الوسيلة التي تؤدي إلى هذه الغاية.

    فالأصل هي: تزكية هذه القلوب التي هي موضع نظر الله من العبد كما في الحديث: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ) رواه مسلم، وهذه القلوب هي محل الابتلاء والتمحيص ومحل الأعمال التي لو استعرضناها؛ لعجبتم ولعلمتم أن لهذه القلوب شأناً عظيماً عند الله تبارك وتعالى، كيف لا والقلب هو الذي إذا كان حياً فإن الجسد يحيا معه، وإذا مات مات الجسد.

    حياة القلب وموته

    فالحياة حياة القلب، والموت موت القلب، والمرض مرض القلب.

    ولذلك نجد آيات عظيمة وكثيرة تتحدث عن أعمال القلوب، وأعظم هذه الأعمال بلا ريب هو الإيمان الذي هو الدين كله، ونحن الذين خاطبنا الله تبارك وتعالى باسم الإيمان حيث قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:104] والمقصود به: الذين استجابوا لله تبارك وتعالى، وأذعنوا ظاهراً وباطناً، قولاً وعملاً، فالإيمان عند أهل السنة والجماعة هو -كما تعلمون- (قول وعمل).

    فالقول قولان والعمل عملان.

    فالقول: قول القلب وهو: إقراره وتصديقه، وقول اللسان وهو: إقراره وتصديقه، أي: نطقه.

    والعمل عملان: عمل القلب، وعمل الجوارح.

    فلا أحد من المسلمين يجهل أنه لا بد من عمل الجوارح كالصلاة والصيام والزكاة وما أشبه ذلك، والأوضح عند المسلمين عامة الإقرار باللسان أي: (قول اللسان), لكن ما يتعلق بالقلب -وهو الأهم- قد يخفى على كثير من المسلمين.

    ولهذا نجد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يخاطبنا بذلك ويبين لنا أهمية القلب فمثلاً: لما جاءت الأعراب، وقالوا -كما حكى الله عنهم-: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] فالأعراب أسلموا بمعنى أنه: حصل منهم الانقياد الظاهر، وأصل الإقرار والتصديق الذي يكون بالقلب، ولكن لم يدخل الإيمان في قلوبهم.

    فالقلب لم يصل بعد إلى أن يكون قد آمن حقاً، وهذه درجة لا يجوز لأحد أن يدعيها، فالإيمان في الحقيقة هو إيمان القلب، ولهذا قال: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:7] وذلك في مخاطبة المؤمنين، فهكذا يكون تزيينه في القلب، ودخوله فيه، أما المؤمنون السابقون فقد زينه في قلوبهم، وأما الأعراب فهو لما يدخل قلوبهم بعد، مع أن الجميع مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, مثلما نكون نحن الآن في الصلاة -مثلاً- في المسجد وفي الجهاد, فكلنا في مسجد واحد وفي معركة واحدة, لكن بين هذا وذاك من التفاوت مثل ما بين السماء والأرض، بقدر الإيمان وبقدر أعمال القلوب من الإخلاص والخشوع والإنابة والإخبات وغير ذلك من أعمال القلب.

    أما أعمال الجوارح فإنها لا تكفي من دون أعمال القلب كما حصل في عهد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الرجل الذي كان يبلو بلاءً شديداً ضد المشركين، ومع ذلك يقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هو من أهل النار}، ربما يكون ذلك مع وجود من هو من أهل الإيمان والتقوى ومن أهل الجنة في الجيش, ولم يبل ذلك البلاء ولم يقتل مشركاً واحداً ولم يَصُلْ ولم يجل في المعركة، وكذلك في الإنفاق والصدقة والإحسان وسائر أعمال الخير التي إنما نريد أن نعبد ونتقرب إلى الله تبارك وتعالى بها.

    إذاً: الإيمان هو: إيمان القلب، والتقوى -أيضاً- هي: تقوى القلب، كما قال الله: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32] ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا، وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} رواه مسلم، وأحمد، فمحل التقوى هو القلب، والتقوى تشمل كل أعمال الخير والبر والصلاح، ولاسيما إذا أفردت, وقد بحث هذه المسألة شَيْخ الإِسْلامِ في أول كتاب الإيمان عند كلامه على لفظ البر ولفظ التقوى، وأمثالها من الألفاظ التي تأتي في القرآن والتي إذا جاءت فهي تشمل كل أعمال الإيمان الظاهر منها والباطن.

    أقسام القلوب

    أقسام القلوب ثلاثة وهي التي تسلم، أو تقسو، أو تمرض، والقسوة هي الموت، وهذه الثلاث الحالات تنتاب القلوب.

    أما القلوب السليمة: فقد جاءت في كتاب الله تعالى، كما في قوله تعالى: يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] أي: خالص متجرد من الشرك، لا تشوبه شائبة من شرك، أو نفاق، أو رياء.

    ويقول الله تبارك وتعالى في موضع آخر عن سلامة القلب في حق إبراهيم الخليل: إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات:84] فإبراهيم عليه السلام حقق ذلك، ولذلك أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالائتساء والاقتداء به؛ لأن قلبه عليه السلام سَلِمَ من الشرك، ومن الولاء لغير الله، ومن المداهنة، والرياء، والنفاق، فخلص وتجرد، وتطهر لله وحده لا شريك له.

    أما القلوب المريضة: فكمـا قال الله تعالى: أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ [النور:50] فالقلوب تمرض، والآيات التي تذكر مرض القلب كثيرة منها قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً [البقرة:10].

    وهناك طائفة كبيرة محسوبة ومنسوبة إلى هذا الدين, ويأتي الحديث عن أمراض القلوب غالباً مقترناً بها، وهم المنافقون -نسأل الله العفو والعافية- وهل هناك مؤمن يخاف من شيء أكثر من خوفه أن يكون منافقاً، فهذا أخشى وأخطر ما يجب أن نخافه، فلا ينفعنا عمل مهما كبر وعظم مع النفاق، لأن المنافقين ينفقون ولكن ينفقون وهم كارهون، ويصلون ولكن يصلون وهم كارهون، ويخرجون للجهاد ولكن كما قال تعالى لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً [التوبة:47].

    فليست المسألة في أن الأعمال تقع، لكن أن تكون هذه الأعمال تقع مع قلب سليم من المرض، ولهذا خاطبهم الله ووصفهم بأنهم قالوا: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، فلا ينفع من آمن بفيه ولم يؤمن قلبه، إلا السلامة من سيف المؤمنين في الدنيا؛ لأنه قد دخل في دائرة من عصم دمه بقول هذه الكلمة ظاهراً، ولهذا لما ضرب الله تعالى المثل لهم في أول سورة البقرة قال فيهم: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ [البقرة:19] أي: أنهم ليسوا كالكفار الذين لم يروا نوراً مطلقاً، فقد رأو نوراً ولكن هل ينفعهم هذا الصِّيب، وهذا البرق؟

    لا ينفعهم مطلقاً، بل هو مخيف لهم،لأنهم لم يذعنوا بقلوبهم لله تبارك وتعالى, ولو أذعنوا وآمنت قلوبهم لاستنارت ولما كان ذلك إلا نوراً في قلوبهم وحياة يحيون بها، ويزكون بها أعمالهم، وتسلم قلوبهم من المرض فتطمئن، كما قال الله: الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

    وأما القلوب الميتة: فإنه إذا اشتد المرض بالقلب؛ حصل الموت، والموت:هو القسوة كما في قول الله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ [البقرة:74] وقوله تعالى أيضاً: فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم [الزمر:22].

    من نتائج مرض القلوب

    هناك ألفاظ قريبة من القسوة أو شبيهة بها تدل على موت القلب -والعياذ بالله- إذا كان صاحبه ممن أهمله حين مرض, ولم يتنبه له ولم يعالجه بذكر الله؛ فأوصله إلى نتائج مرض القلب مثل:

    1- أن يقفل عليها، كما قال تعالى: أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] فيقفل على هذه القلوب.

    2- الران، قال تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُون [المطففين:14].

    3- أو التغليف، كما قال تعالى: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة:88].

    4- عدم الفقه، كما قال تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا [الأعراف:179].

    6,5- الطبع والزيغ، كما قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5].

    7- العمى، قال تعالى: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور [الحج:46]، وقد ذكر الله تبارك وتعالى الكثير من نتائج موت القلب من مثل هذا، ولو تدبرنا في القرآن حق التدبر لوجدنا الكثير من هذه المواضع، فيما يتعلق بمرض القلب وموته، وأكثر من ذلك أو مثله فيما يتعلق بأعمال القلوب.

    1.   

    أعمال القلوب

    حياة القلوب لها أعمال ولها صفات وأحوال، والأعمال القلبية كثيرة جداً منها:

    الوجل

    المحبة

    والمحبة قطعاً محلها القلب؛ ولذلك يقول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا ُيحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله [البقرة:165] ويقول: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31] ويقول: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18]، فهذه مزاعم ودعاوى باطلة، ولكن المؤمنين هم الذين يحبون الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحبون المؤمنين والصالحين وكل ما من شأنه أن يقربهم إلى الله عز وجل، وإلى محبته ورضاه.

    الإخلاص

    الإخلاص عمل عظيم، وبه يكون الفارق بين المؤمنين والمنافقين، لأنَّ المنافقين حتى وهم يشهدون شهادة الحق، فإنهم يشهدون وهم كاذبون، فإذا أردنا أن نفرق بين المؤمنين والمنافقين فالصدق والإخلاص هما أساس ذلك, وهما من أعظم أعمال القلوب إضافة إلى المحبة واليقين، قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة [البينة:5] نعم هكذا أمروا، فلو عبدوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من غير إخلاص, لما قبل منهم ولما نفعهم ذلك في شيء، لا سيما إذا فقد الإخلاص كله, أما إذا كان الإخلاص ناقصاً أي غير مفقود فشابته شوائب؛ فهذا له حكم أهل الوعيد والعصاة.

    الإخبات

    الخبت في اللغة: هو الأرض المنبسطة، والإخبات: أخبت إذا طأطأ حتى يساوى بالأرض، ففي هذا دليل على كمال الانقياد والإذعان فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ [الحج:54] فالإخبات هو عدم الاعتراض, فلو ارتفعت لكان فيها نوع من الاستكبار.

    ولهذا يقولون في قلوب الكفار: إنها قلوب متكبرة جبارة, وكثيراً ما يصفهم الله بوصف الاستكبار؛ لأنهم يستكبرون عن عبادة الله وطاعته والانقياد لأمره، فالاستكبار ضد الإخبات.

    والإخبات في الشرع هو: الخضوع الكامل والمطلق، فكأنه التصق بالأرض، فليس لديه أي اعتراض على ما يأتي من عند الله تبارك وتعالى، فهو كما قال الله عز وجل: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] والتسليم هو: حالة الإحسان التي ذكرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث جبريل العظيم المشهور، وهو: {أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك} لأنه كما قال ابن القيم رحمه الله تحكيم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مقام الإسلام.

    فمن لم يحكم رسول الله على قلبه ونفسه, ويجعل هواه تبعاً لما جاء به في أصل التحكيم؛ فإنه ليس بمؤمن ولا بمسلم, إذ التحكيم في مقام الإسلام هو كما قال: حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ [النساء: 65]، وانتفاء الحرج يكون في مقام الإيمان، فالإيمان درجة أعلى من درجة الإسلام، فالدرجة هذه أنه حكم وانتفى الحرج من قلبه فلا حرج فيما يحكم به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    والمقصود هو: ما جاء به عامة، أي: ما جاءنا من حكمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهديه وسنته الظاهر منها والباطن، فنجعل كأنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بنفسه قائم بين أظهرنا, يقول: اعملوا كذا ولا تعملوا كذا.

    فرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غاب بجسده, وأما دينه وسنته وهديه فهي بين أيدينا وحجته قائمة علينا, فلا بد من انتفاء الحرج هذا في مقام الإيمان.

    التسليم

    يقول: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] وهذا التسليم هو الذي لا يخطر على البال معه أدنى اعتراض كما كان الصديق رضي الله عنه.

    ففي صلح الحديبية كان الصديق رضي الله عنه هو الوحيد من بين الصحابة جميعاً الذي سلم في هذا ولم يعترض، أما ثاني رجل في هذه الأمة في الإيمان والدين، وهو عمر رضي الله عنه فقد أبى واعترض، وقال: {يا رسول الله! ألسنا بالمؤمنين، وأليسوا بالكافرين، قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟!} فكأن الشروط مجحفة وما سلم تسليماً، لكن ليس في ذلك رد لأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو تقديم بين يدي الله ورسوله، وإنما ذلك غيرة منه على دين الله، وحرصاً منه على علو الدين وظهوره وتمكينه وانتصاره على أعدائه, فيرى أن هذه الشروط مجحفة للمسلمين -كما هو ظاهر الحال- فما سلم تسليماً بحيث لا يكون لديه أي ممانعة أو مدافعة أو منازعة، وإذا علمنا ذلك علمنا أهمية أعمال القلوب، وأن التزكية تحتاج إلى صبر ومصابرة ومثابرة ومجاهدة ومحاضن تربوية، وعمل ذاتي من المربي أو المزكي بنفسه ومن المجتمع أو الأمة، حتى تصلح هذه القلوب وتصلح هذه الحالة (حالة الإحسان).

    ولهذا يقول عمر رضي الله عنه: [[فأعتقت وتصدقت لذلك]]، أي: أعتق وتصدق من أجل موقفه في ذلك اليوم, لأنه أنزله عن دائرة التسليم المطلق الذي فعله الصديق رضي الله عنه، وكان الصحابة مع عمر لكن لم يستطيعوا وليس فيهم جرأة عمر رضي الله عنه، فلما رأوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحلق ويتحلل؛ عندها أذعنوا عملياً لمشورة أم المؤمنين رضي الله عنها.

    الإنابة

    قال تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر:54] والإنابة معناها قريب من معنى الإخبات، وأناب في اللغة معناه: عاد ورجع، فالإنابة: أن يعود الإنسان ويرجع إلى الله رجوعاً كلياً متجرداً خالصاً لله تبارك وتعالى، فيرجع عن كل ما لديه من أهواء، وشهوات، ودوافع، ونوازع ويجعل همه هو رضا الله تبارك وتعالى.

    الخشية

    الخشية أمرها عظيم، وقد مدح الله وأثنى على الذين يخشونه، كما قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] ولا خير في علم لا يؤدي إلى خشية الله تبارك وتعالى.

    الخشوع

    قال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16] والخشوع هذا بمعنى الخشية أو قريب منه.

    فأعمال القلب تتقارب؛ لأنها أعمال باطنة، فنجد -مثلاً- الوجل، والخوف، والخشية، والخشوع؛ متقاربة المعنى، ولكل واحد منها معنى, لكنها متقاربة في ذلك وكلها تدل في النهاية على كون هذا القلب خاضعاً وذليلاً للعزيز الجبار المتكبر الذي خلقه فسواه وعدله، وافترض عليه ما افترض، وشرع له ما شرع، وتعبده بما تعبد.

    فإذاً الوجل والخوف والخشية والخشوع هي جملة من أعمال القلب لها دلائل، ويقابلها الرجاء والمحبة والرضا والفرح, فتتوازن النفس الإنسانية بين هذه الأربعة وتلك الأربعة, فيكون الإنسان حقاً قد جمع كل أعمال القلوب وأنواعاً من العبوديات التي يحبها الله تبارك وتعالى والتي لا يريد أن يقع أو يحصل بعضها ويترك ويهمل البعض الآخر.

    التوكل

    إنَّ أعمال القلوب كثيرة، والقاعدة في ذلك: كل ما نسب إلى القلوب أو إلى الصدور في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فهي من أعمال القلوب، وهي أحياناً لا تنسب إلى القلب أو إلى الصدر ولكن هي محلُ ذلك، كالتوكل مثلاً، فهو من أعظم أعمال القلب؛ لأن التوكل يدخل في الاستعانة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة الفاتحة التي هي أم القرآن والسبع المثاني يقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وكل الدين داخل في هذه الآية وهذه، كما قال الله تعالى: قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [الملك:29]، فـ إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] هي آمَنَّا بِهِ [الملك29] ووَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] هي وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَاِ [الملك29].

    فهناك أمران: أن يكون الله تبارك وتعالى وحده هو المعبود والغاية وهو المراد الذي نسعى إليه, وأن يكون هو المستعان به وحده على تحقيق هذه الغاية, والمتوكل عليه وحده في أمورنا وحدها، فأعمال القلوب كثيرة نستطيع أن نستخلصها من كتاب الله.

    1.   

    ضلال الناس في أعمال القلب

    كيف ضلت الأمة في أعمال القلوب، وكيف أخطأت، وكيف صار حالها؟

    في أول الحديث تعرضنا من أجل بيان أهميتها إلى التقصير والخلل الذي يحصل من أهل السنة والجماعة في هذا، فلعلنا نبدأ في هذا ثم ننتقل إلى المناهج الأخرى التي ضلت وانحرفت، فنقول:

    إن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم والسلف الصالح، فهموا كتاب الله تبارك وتعالى, وأقاموه علماً وعملاً، وعلموا أهمية الإخلاص واليقين والصدق والمحبة وغير ذلك من أعمال القلوب، فتحققت فيهم العبودية الكاملة لله عز وجل، وعلموا أن لا إله إلا الله ليست كلمة تقال باللسان، وعلموا أن الإنسان إذا انقاد بقلبه وخضع وخشع، فلابد أن يعمل وأن تنقاد جوارحه؛ ولذلك كانت حياتهم واقعاً وترجمةً وتجسيداً لهذه الحقائق الإيمانية التي تعيشها قلوبهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

    أما الذي حدث في العصور المتأخرة لبعض أهل السنة والجماعة -ولا نتكلم عمن عداهم- أنهم اعتراهم ما اعترى غيرهم, ولكن بقدر، فاعتراهم الضعف، وانحسر وتضاءل المفهوم في أذهانهم، فأصبح الدين كأنه الشعائر الأساسية, وأصبحت شهادة أن لا إله إلا الله مجرد قول فقط.

    فلم يعد أهل السنة بتلك القوة وفي تلك القمة العالية التي كانت عليها الأجيال أو القرون الثلاثة؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) هؤلاء الذين يأتون بعد القرون الثلاثة، ليسوا من أهل البدع ومن أهل الأهواء، بل هم على نفس الخط ولكنهم أقل، ففيهم ضعف، وفيهم من الأمور التي لا تخرجهم عن السنة، لكنها تخرجهم وتنزلهم عن درجة القرون الثلاثة المفضلة التي هي في قمة العمل والإيمان والتصديق بهذا الدين.

    ودليل ذلك: أن الذين فهموا حقيقة أعمال القلوب من العلماء وتكلموا عنها قوبلوا بشيء من الاستغراب, فقد استغربهم أو ربما أنكر عليهم البعض, ولا نعني بالبعض أهل البدع, ولكن بعض أهل السنة ظنوا كأنما جاءوا بشيء جديد, أو كأن هذا العالم أتى بأمر ما كان يؤتى به من قبل، أو أنه على الأقل جاء بشيء هم لم يألفوه من شيوخهم، وانظروا -مثلاً- كيف استُغْرِبَ ما جاء به شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وما جاء به الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تبارك وتعالى، فبعض الناس فيه الخير والصلاح, ولا يحب أهل البدع ولا يركن إليهم، وكانوا أيام دعوة الشيخ محمد وفي أثنائها وقبلها ومع ذلك ما دعوا إلى مثل ما دعا إليه ولم يجددوا مثل ما جدد؛ لأنهم ما فطنوا إلى ما فطن إليه، لكن الشيخ -رحمه الله تبارك وتعالى- وقبله ابن تيمية والإمام أحمد، فهموا وعلموا أن هذه العقيدة قول وعمل، وأن القلب إذا حيَّ وتحرك وانطلق, فلا بد أن تتحرك الجوارح وتنطلق في الحياة, فليست المسألة تقرير بأن نجلس ونقرر عقيدة الأسماء والصفات، وعقيدة القدر, وعقيدة اليوم الآخر، وكل منا يحفظ هذا العلم، ثم ينصرف راشداً إلى بيته ويكون قد حصل له الخير والعلم والفضل، لا شك أنه حصل له خير وعلم وفضل والحمد لله وهذا شيء عظيم، لكن الأمر أكبر من ذلك أما هؤلاء الأئمة فقد تعلموا كما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم الصحابة الإيمان قبل القرآن.

    وهؤلاء الذين ورثوا هذا العلم علموا أنه لا بد أن يتحول هذا العلم إلى عمل ودعوة وجهاد وصبر ومصابرة، لذلك انطلقوا في واقع الحياة، فلا يمكن أن يقر الإمام أحمد الأمة وهي تنصرف وتنحرف عن العقيدة الصحيحة إلى عقيدة فاسدة، وإنْ أُوذِي، وضرب، وجلد، وإن حصل له ما حصل -كما تعلمون- وكذلك شَيْخ الإِسْلامِ أراد أن يحرك هذه الأمة في الجهاد وهو في أول الصفوف، فيجاهد طواغيت التتار ويذهب بنفسه ويخاطبهم بأقوى الكلام.

    أما الباطنية فيأخذ طلابه ويجاهدهم بالجدال، ويدعو الأمة لمقاتلة الصليبيين، إنها حياة حقيقية التقت فيها حياة أعمال الجوارح مع حياة القلب، وعمل القلب, ولكن ليست كل الأمة فيها ذلك, فالتقصير حصل عند أهل السنة في هذا, فعندما أتت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- كان الأمر كذلك.

    والآن ونحن -والحمد لله- نعيش على هذه العقيدة وعلى بقايا هذه الدعوة, نجد فينا من الضعف الظاهر البيّن، والواضح الجلي، والذي يدل على أننا لم نحقق أعمال القلوب كما ينبغي، وإن كنا -والحمد لله- في الجملة مجانبين لأهل الأهواء والبدع، ولكن ليس الأمر فقط أن تجانب أهل الأهواء, ولكن أن ترتقي في درجات الإيمان واليقين والإخلاص والدعوة، ولذلك كم من المسلمين ومن طلاب العلم من لا يعلم شروط لا إله إلا الله، والتي هي: العلم والإخلاص واليقين والصدق والقبول والمحبة والانقياد، ولو رجعنا لأعمال القلب التي نتحدث عنها، فـ: "لا إله إلا الله" تقتضي هذه الشروط، والتي هي أساسيات الإيمان، فنحن رجعنا إلى هذه القضية، فالشخص الذي لم يتعلم هذه الشروط ولم يوفقه الله لها، بل ربما لا يتخيل أن لها شروطاً أو أركاناً أصلاً، لكن مع ذلك فهو إن شاء الله تبارك وتعالى على الإيمان والسنة وفيه خير ولا يأتي بالبدع، ولكن هذه الإشارة تكفي لنعلم أن الأمة لديها هذا الخلل والنقص الواضح.

    1.   

    أعمال القلوب عند المبتدعة

    ما ذكرناه من أهمية أعمال القلوب، هو ما يعتقده أهل السنة أما غيرهم من أهل البدع فلهم مواقف أخرى.

    الطائفة الأولى: أهل الكلام

    إنَّ أهل الكلام: هم الذين تُقرر كتبهم ومناهجهم الآن في الجامعات والمعاهد والمدارس الإسلامية خارج هذه البلاد إلا ما رحم الله, بل ربما قررت هنا في بعض الجامعات وتدرس في بعض المساجد.

    عقائد أهل الكلام التي يقولون فيها -كما يقول الباقلاني وهو من أكبر أئمة المذهب الأشعري المتقدمين والجويني-: ''إن الإيمان هو التصديق دون سائر أعمال القلب والجوارح'' فالإيمان عندهم مجرد التصديق دون سائر أعمال القلب والجوارح, والجويني في الإرشاد يأتي بالخلاف فيقول: قال جهم: ''الإيمان هو المعرفة بالقلب وقال: السلف الإيمان قول وعمل ثم يقول: والذي نرتضيه ديناً هو: أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط'' أي: غيَّر عبارة جهم والتي هي المعرفة، وجاء بالتصديق.

    إذاً: هو يرفض مذهب السلف بعد أن نقله وأورده وذكره، فكيف يكون هؤلاء من أهل السنة والجماعة كيف يكونون متبعين لمنهج السلف الصالح وهم يذكرونه ويتعمدون مخالفته، وإلى أي رأي يخالف! إلى رأي ليس ببعيد عن رأي جهم، وإن غيروا المعرفة وجعلوها تصديقاً.

    فإذا تجرد التصديق عن العمل، وعن بقية أعمال القلب والجوارح؛ فإنه يصبح في الحقيقة علماً مجرداً أو معرفة مجردة لا أكثر ولا أقل، فكأن الاختلاف بينهما -بين الأشاعرة والجهمية- لفظي فقط.

    إذاً: ماهي نتيجة أن تدرس عقائدهم الباطلة من أقصى إندونيسيا مروراً بـالهند وبنجلادش وباكستان وغيرها إلى الدول العربية إلى تركيا إلى إفريقيا وتكون هذه هي المناهج التي يتعلمها الناس، فيقال لهم: إن الإيمان فقط هو التصديق ولا يدخل فيه أعمال القلب ولا أعمال الجوارح.

    إنه يترتب على هذا الكلام خطر عظيم، وهو الواقع في أحوال المسلمين اليوم؛ حيث اعتقدوا أن الكفر هو التكذيب، ما دام أن الإيمان هو التصديق، فمن اعتقد أن الله حق، وأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صادق؛ فقد صدق وهو مؤمن، فالكافر هو الذي يعتقد أن الله تبارك وتعالى ليس حقاً وأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس صادقاً، وكم من المسلمين من يعتقد ذلك؟!

    قليل جداً.

    فلما أهملوا التوكل والاستعانة واليقين والإخلاص... وغير ذلك من أعمال القلوب؛ استُعين بغير الله، واستُغيث بغير الله، ودُعي غير الله، وعُبد غير الله؛ فامتلأت بلاد العالم الإسلامي بالقبور، والأضرحة، والمشاهد، والمزارات، وأصبح الناس يتقربون إليها، ويطوفون حولها، ويدعون أصحابها، ويبتهلون إليها، ويتضرعون إلى أصحابها، ويذبحون لهم، ويهدون إليهم، فإذا قلت: هذا شرك، وهؤلاء يقعون في الشرك، قالوا: ليس هذا بشرك أو كفر؛ لأنهم تعلَّموا أن الكافر هو الذي كذَّب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يؤمن به، وهذا مصدق، فإذاً أنتم مبتدعة، وأنتم على مذهب الخوارج! وتهمة الخوارج هذه إذا سمعتموها وأنها تقال لمن ليس من أهلها، فاعلموا أن هذه هي سنة الله تبارك وتعالى كما قال: أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:53]، وكما قال الله تبارك وتعالى لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [فصلت:43]، فيقال: خوارج لكل من دعا إلى الله تبارك وتعالى على علم وبصيرة, وهو واضح أنه مجانب لمذهب الخوارج مثل ما بين السماء والأرض.

    فهكذا يتهم أهل الباطل وأهل الإفك من أراد أن يجرد التوحيد وأن يخلصه لله تبارك وتعالى، في القديم والحديث، وفي كل زمان ومكان.

    إن إغفال أعمال القلوب هو الذي أدى إلى هذه الظاهرة العجيبة جداً لو تأملناها، وربما أن من خرج من هذه البلاد ورآها، تعجب كل العجب، فتجد أستاذاً جامعياً في كلية الشريعة أو في غيرها على درجة كبيرة من العلم يقول: ذهبت عند ضريح الشيخ فلان أدعو، فيقال: أنت دعوته، فيقول: لا أنا ما دعوته ولكن دعوت الله تبارك وتعالى بواسطته، فإذا قلت له: فما رأيك فيمن يدعوه! يقول: حتى من يدعوه فغرضه التوسل، فإذا قلت: وأين الدليل؟

    يقول: الله تبارك وتعالى يقول : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35] سبحان الله! كل هذه الآيات التي في أعمال القلوب تهمل, ويؤتى بمثل هذه الآية, ويتأولونها على غير وجهها, ويجعلونها معارضة لكل الآيات الصريحة الدلالة الواضحة على أنَّ القلوب لا بد أن تتجرد لرب القلوب تبارك وتعالى.

    الطائفة الثانية: الصوفية

    ولقد انحرفت الصوفية انحرافاً عظيماً في أعمال القلوب,فهم لم يهملوا أعمال القلب كالذين أغفلوها من المتكلمين، فـالصوفية من جنس الضالين, وأما أهل الكلام فهم من جنس المغضوب عليهم.

    فمن ضل من أهل الكلام -وهم كلهم أهل ضلال- فهو من جنس المغضوب عليهم الذين عرفوا الحق ولكنهم تعمدوا مخالفته ولم يعملوا به، فعندهم علم في أقوالهم، ولكنهم يتركون ذلك، أما الصوفية فهم من جنس الضالين، لأنهم يعلمون أهمية التوكل، فأكثر ما يدعون ويتكلمون عن أعمال القلوب ويركزون على اليقين والإخلاص والإخبات والإنابة، ويجعلونها مقامات وأحوالاً.

    وهم يعادون أهل الفقه، أو أهل الظاهر, أو الشريعة، إلى غير ذلك من الألقاب التي ينبزون بها العلماء لأنهم يرون هؤلاء العلماء يغفلون عن أعمال القلوب, فيجلس أحدهم في المسجد يتكلم عن كتاب المياه والطهارة والوضوء والصلاة والحيض والغسل والزكاة, ولا يتكلم عن اليقين أو الإنابة أو الإخلاص أو الخوف أو الرجاء أو المحبة أو الخطرات أو الوساوس أو الشكوك أو غيرها، فيقولون: هؤلاء أهل الظاهر فقط، أي: أحكام ظاهرة فقط، ويتركون الأساس، نعم هذا تقصير كما ذكرنا أن تهمل هذه الجوانب، لكن لا يفر من انحراف إلى انحراف آخر.

    أما التوكل -مثلاً- عند الصوفية فهو التواكل، ولهذا عندما يأتي الغزالي في الإحياء فيجعل درجات الناس في هذا العمل العظيم, يقول: ''الناس درجات، منهم عامة الناس وهؤلاء يعملون ويتخذون الأسباب''، أي: يكدحون من أجل الحصول على لقمة العيش.

    ثم قال: ''ومن مقامات التوكل الذي يعتزل في المسجد ويذكر الله ويسبح الله ويتوكل على الله برجاء ما يقدم له''، أي هذا يعطيه دينار والآخر درهم، وآخر يقول: تعال اليوم العشاء عندي، وهو جالس يعبد الله تبارك وتعالى في المسجد، انظروا كيف يكون هذا مقام من مقامات التوكل.

    ثم قال: ''ومقام أعلى منه كمقام الخواص وأمثاله من أئمة الصوفية وهو الذي ينطلق ويمشي في البرية بغير زاد، توكلاً على الله تعالى، وترك الأخذ بالأسباب''، فإذا كان يريد الحج -مثلاً-: من بغداد، أو من خراسان، إلى مكة، فيخرج في البرية من غير زاد، وذلك ثقة في الله، وتوكلاً عليه، ولا يأخذ أي شيء، وهكذا يهيم في الصحراء... وهذه هي الدرجة العليا من التوكل عند الصوفية، سبحان الله!

    كيف سيكون حال الأمة الإسلامية لو أخذت بذلك؛ لتركت الأسباب، ولتواكلت، ولأفنُيت تماماً، فيفنيها التتار والصليبيون وأمثالهما، -وفعلاً- فلما جاء الصليبيون اعتزل الغزالي الدنيا ولم يكن له أي مشاركة، والمقصود من هذا النموذج بيان خلل الصوفية في فهم أعمال القلوب كالتوكل.

    أما الرضا وهو عمل عظيم, فقالت عنه الصوفية: الرضا أن ترضى بكل ما ترى في هذا الكون، أي أن تشهد الحقيقة الكونية، فكل ما قدره الله تبارك وتعالى ترضى به، فالكفر، والشرك، والسحر، والزنا، والفساد، والسرقة، والظلم، والإفك، ترضى بها لأنها من عند الله تبارك وتعالى فتشهد الحقيقة الكونية.

    حتى أن بعضهم فعل الأعاجيب، فلما دخل هولاكو إلى بغداد أتى أحد شيوخ الطريقة وأخذ يقود الفرس لـهولاكو، فقال الناس: شيخ وتقود الفرسان لعدو من أعداء الله, سبحان الله! لكن الشيخ أجاب: بأن هذا من شهود الحقيقة الكونية، فهذا قد يكون منافقاً في الحقيقة، ولا شك أن مثل هؤلاء عملاء، وفي الأصل هو أجاب بما اصطلحت عليه الصوفية، بأن هذه عقوبة من الله على المسلمين بذنوبهم، فيدخل مع أعداء الله تبارك وتعالى فيا سبحان الله على هذا الفهم!

    ولو أن كل واحد من المسلمين فهِم كفهم هذا الشيخ الضال، لكان كلما داهمنا عدو، ذهبنا مع اليهود، أو الصرب، أو الأمريكان، أو المجرمين، في كل مكان يحاربون فيه أو يهاجمون فيه المسلمين، سبحان الله!

    أما المحبة, فقالوا: المحبة إذا تعلق المحب بالمحبوب؛ رضي عنه ولم يؤاخذه بشيء, فأصبحوا -حتى في عبادتهم- إن تقربوا إليه بشيء تقربوا إليه بما يثير المحبة، يقولون: نحن أحببناه فلا يؤاخذنا في شيء، لأن الله تبارك وتعالى لما قال: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [المائدة:18] قالوا: فإذا أحب الله العبد لا يعذبه بذنوبه، إذاً نحن نحب الله ويحبنا الله تبارك وتعالى فلا يعذبنا.

    فكل ما يعملونه هو تهييج المحبة فقط، فيجلسون ويجتمعون رجالاً ونساء، كباراً وصغاراً ومرداناً، وينشدون الأناشيد في المحبة والعشق والهيام والغرام، ومنها قصيدة امرؤ القيس فيأتون بها، والقصائد التي قالها المجنون في ليلى يأتون بها وليس فيها تغيير، ويتناغمون، ويتمايلون عليها ويقولون: هذه تهيج المحبة وتجعلنا نحب، فإذا جئنا إلى محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهم يرون أنها عشق للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانظر إلى سوء الأدب حتى في التعبير، يرون العشق هو عشق النبي، وقد هجاهم المعري على ما فيه من الانحراف لما قال:

    أرى جيل التصوف شر جيل     فقل لهم وأهون بالحلول

    أقال الله حين عشقتموه      كلوا أكل البهائم وارقصوا لي

    لقد بلغت -كما أوردت بعض المصادر- تكاليف بعض حفلات الصوفية التي كان يحضرها سلاطين المماليك وغيرهم آلاف الدنانير والمسومات والروائح والأطياب، فترى الشيء العجيب من الترف والبذخ، فعندما يحتفلون بعيد ميلاد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المبتَدَع ترى بذخاً هائلاً جداً، فيأكلون من هذا البذخ ثم يقومون يرقصون ويتمايلون إلى الفجر، فقول المعري هنا على ما فيه من الزندقة ينطبق عليهم:

    أقال الله حين عشقتموه     كلوا أكل البهائم وارقصوا لي!!

    فإن أنكر هذه البدعة عليهم منكر, قالوا: هذا لا يحب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا تستغرب منه أن يقول: هذا خارجي، أو وهابي، أو هذا لا يحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو كان يحبه ويحب الله لأكل كما يأكلون ولرقص كما يرقصون, نسأل الله تبارك وتعالى العفو والعافية، إذاً هذا فهمهم للمحبة، ولذلك من غلوهم في فهم المحبة أنسوا الناس الخوف، بعكس الخوارج الذين أخذوا الخوف فقط، وأغفلوا الرجاء، فـالصوفية أهملوا الرجاء كما قال الهروي: ''الرجاء أضعف مقامات المريدين''، إذاً هم أخطئوا وضلوا في الرجاء، والخوف، والرضا، والمحبة، وحتى في اليقين.

    أما اليقين عند الصوفية فهو شيء عجيب جداً، فاليقين عندهم أن الواحد منهم ينام بعد أن يدعو بدعاء معين ابتدعوه فيرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في تلك الليلة، بل وصل الحال بهم إلى أنهم يرونه -كما يزعمون- يقظة، بل ويدعون أن الله تعالى يكلمهم وهم يسمعونه.

    إذاً: وصلت الأمة إلى ما ترون من الحال، فالطائفة الأولى أناس انصرفوا إلى فقه مجرد, مع أن الفقه في حقيقته هو العلم الشريف العظيم الذي منه الفقه الأكبر وهو التوحيد، ولكنهم انصرفوا إلى مجرد أحكام ومسائل يبلغون فيها الدرجات والمناصب، ولكنهم في بعدٍ كامل وشديد عن تزكية القلب وتطهيره وتنقيته، والإجلال لله تبارك وتعالى والخشوع، والخضوع والإنابة له وتوحيده كما أمر الله تبارك وتعالى.

    والطائفة الأخرى التي ينظر إليهم على أنهم هم أهل العبادة وأهل الذكر، تجدهم في الموالد وعند الأضرحة، وتجد العمائم والمظاهر ولكن كما قيل في القديم: ''العمائم أبراج، والأكمام أخراج، والعلم عند الله تبارك وتعالى''، هذا هو حالهم، فهم أصحاب موائد، ومناسبات، واحتفالات، ويتكلمون عن أمور هي من أصل الدين كالمحبة والرضا واليقين وما أشبه ذلك, والكرامات والولاية وكيف يصل الإنسان إلى ولاية الله تبارك وتعالى، والموضوع نفسه موضوع عظيم لكنهم يتكلمون فيه بجهل، وبدع وضلال؛ فضاعت الأمة بين هذا وذاك.

    والحق هو الوسط وهو ما كان عليه سلف هذه الأمة كما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث المعلوم، حديث الافتراق فقال: {من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي}.

    نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يرزقنا العلم النافع إنه سميع مجيب

    1.   

    الأسئلة

    صلاح القلب وفساده

    السؤال: نحن نعلم أن القلب من الناحية التشريحية عبارة عن عضلة تتصل بها الشرايين والأوردة, وأنها تضخ الدم, فكيف تكون هذه العضلة موضعاً لأعمال مختلفة مثل الحب والكره والحسد وغيرها، وما هي إلا عضلة تضخ الدم؟ وآخر يقول: إنه مع التقدم في طب القلب ربما يغير للإنسان عضلة قلبه، فهل تتغير أحوال المرء بتغيير القلب، ما رأي فضيلتكم؟

    الجواب: نحن لا نخلط بين عالم الغيب وعالم الشهادة، فحتى نحن عندما يقال هذا فلان، فإنك أخذته كعِلْمِ شهادة مجرد, الذي هو الطول والعرض والارتفاع، واللون والشعر والعصب واللحم، لكن إن أردت بفلان حقيقته الذاتية المعنوية، فأنت تتكلم عن شيء آخر غير ذلك تماماً, فلا نخلط بين الأمرين.

    والمقصود شرعاً بالقلب ليس هو مجرد ما يقصد به تشريحاً أنه هذه العضلة وغيره، إنما الحديث عن الجانب المعنوي الذي هو من عالم الغيب، فنحن نجهل الروح كما قال تعالى: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85] وهذه العضلة توجد عند الميت والحي والحيوان، وتوجد عند أتقى الأتقياء، وأفجر الفجار، ولكن ليست القيمة بهذا الشكل المادي المشاهد المحسوس، وليس هو المقصود في كلام الله ورسوله بذاته المادية المحسوسة، وإنما المقصود القلب بكيفيته المعنوية، التي لا تدخل تحت الحس ولا تحت النظر, وهكذا سائر الأعمال وما يتفرع عن القلب من ذلك، فأرجو من الأخ أن لا يخلط بين عالم الغيب وبين عالم الشهادة، وكلام الإخوة الأطباء والمشرحين وأمثالهما له موضعه كناحية عضوية بحتة، ونحن نتكلم من الناحية المعنوية البحتة.

    اتهام النفس بالنفاق

    السؤال: إني أعد نفسي منافقاً حيث إني في الظاهر أمام الناس طيب وملتزم, ولكني إذا خلوت بنفسي ارتكبت المعاصي، ولا أستطيع أن أتركها إذا تذكرتها، ماذا أفعل هل أخبر الناس أنني أرتكب المعاصي؟

    الجواب: نسأل الله أن يعفو عنا جميعاً، ومن منا ليس كذلك يا أخي، إذا كان بعض الصحابة يقول: [[لو تعلمون ما أُغْلِق عليه بابي ما تكالبتم وتجمعتم هكذا]] وهو من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو لا يقصد بذلك أنه ينتهك المحرمات، ولكن المقصود -كما في حديث حنظلة- أن حالهم مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير حالهم مع الخلوة، ونحن كذلك ليس حالنا في بيوت الله وفي حلقات الذكر ومع الإخوة الطيبين، كحالنا في حالة الضعف والخلوة وغلبة الشيطان، ولكن هل يعني ذلك أننا لا بد أن نكون بين حالتين، إما أن نكون على حال واحدة كما تخيل حنظلة، فيكون حالنا على وتيرة واحدة من ازدياد الإيمان ونتخيل أن الإيمان يبقى على حالة واحدة لا يقل ولا يضعف ولا يفتر, لا في حالة الوحدة والانفراد, ولا في حالة الاجتماع, ولا في حال إقبال النفس وتشوفها إلى الطاعة, ولا في حال جرمها وعنادها وإما أن نتصور النفاق والسقوط الذي قد يدفع إلى القنوط -والعياذ بالله- فعند ذلك يقول:

    الأفضل أن أترك هذه الأعمال الظاهرة, بل أقول للناس: أنا وإن صليت فإني أفعل كذا، ولو اتقيت ظاهراً فإني أفعل كذا، ليس الأمر هكذا، إما هذه وإما تلك، بل نحرص على أن نستديم هذه الحالة ما أمكن، فإذا ضعفت, فاعلم أن النفس طبيعتها الضعف، وطبيعة الإنسان هي الظلم والجهل، والله تبارك وتعالى يريد منك أن تقاوم هذا الظلم وهذا الجهل لتقوِّم النفس وتزكيها.

    ولهذا قال بعض السلف : جاهدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت، أي: قبل الأربعين كان يظن أنها لم تستقم بعد، ومع أنه كان في مثل هذه الحالة لكنه لم يقنط بل جاهدها، ولما سمع بهذه المقولة آخر: قال أو قد استقامت!! تعجب من أنها قد استقامت، لأنه يقول: نحن سنموت وما زلنا نجاهدها ولما تستقم، وهكذا كان حالهم رضي الله عنه، ولهذا يجب أن نبعد القنوط عنا وأن لا نُحدِّث الناس بذنوبنا, بل نحمد الله تبارك وتعالى أن ستر عنا ذنوبنا التي لا يعلمون.

    وأيضاً يجب علينا أن نجاهد أنفسنا وأن نحارب هذا النفاق والرياء، وهذا الخلل والتقصير ما استطعنا, فالحال حال مجاهد لا يضع سلاحه ولا يجد راحة, كما قال الإمام أحمد رحمه الله: ''لا يجد المؤمن راحة دون لقاء ربه'' فلا تجد راحة إلا إذا لقيت الله -تبارك وتعالى-, ولا تطمئن إلا إذا وضعت قدميك كلتيهما في الجنة، وهكذا نحن في دار ابتلاء فلا بد أن نصبر على ذلك وأن نجاهد ونصبر ونصابر، ولا نيأس ولا نقنط, فما دمت على هذه الحالة يا أخي, فأنت كما قال الحسن البصري رحمه الله عن النفاق: ''ما أمنه إلا منافق، وما خافه إلا مؤمن''، لأن المنافق يرى ذنبه كذباب وقع على أنفه ففعل به هكذا فذهب، فلا يبالي بذنبه، أما المؤمن فيرى ذنبه كالجبل العظيم يوشك أن يقع فيخاف منه.

    فما دمت تخاف من النفاق -والحمد لله- وتستشعر هذه الحالة؛ فلا يدفع بك الشيطان إلى القنوط, ويقول: أخبر الناس وحدثهم بما خفي من أعمالك التي تخالف ظاهرك، بل احرص على أن تصلح باطنك، ونسأل الله أن يصلح سرائرنا وظواهرنا وأن يثبتنا على الحق إنه سميع مجيب.

    الانشغال عن ذكر الله

    السؤال: أنا طالب في كلية الطب، والإغراق في دراسة هذا العلم تشعرني بقسوة في القلب، بماذا تنصحني وكيف أجمع بين دراسة الطب والعلم الشرعي؟

    الجواب: أنا أخالف الأخ في أن دراسة الطب تؤدي إلى قسوة في القلب، أما إن كان القصد حال المذاكرة للاختبار فإن هذه توجد في أي علم، حتى لو كان في التفسير أو الفقه أو الحديث، لكن إن كان الإنسان في مجال كمجال الطب، وهو يرى عجائب خلق الله تبارك وتعالى، وأسرار ما أودع الله في هذا الجسم البشري الذي آمن بسببه كثير من الناس وكانوا من عمالقة الكفر لما رأوه وتفكروا فيه، فما بالك بالمؤمن الذي يجب عليه أن يتفكر ويتدبر, وأعتقد أن هذا الأخ لو حدثنا عن تشريح العين وعن وظائف الكبد أو الكلية أو البنكرياس، لازددنا إيماناً بالله كما لو أننا سمعنا آيات الله سبحانه وتعالى وأحاديث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    والمقصود: أن يحصل الإيمان بهذه أو بتلك، ولو أصلحنا هذه العلوم والمناهج وأخلصنا فيها النية والهدف؛ فيمكن أن نسمي هذه العلوم علوم التوحيد المساعدة، كما في الاصطلاح الأكاديمي حيث نسمي بعض العلوم: العلوم التخصصية والعلوم المساعدة، فعلم التوحيد الحقيقي الذي نعلمه نجعله هو الأساس، لكن علم التوحيد المساعد هو علم الطب والتشريح والكيمياء والفيزياء وغير ذلك؛ لأنها كلها تأمل وتدبر في ملكوت الله تبارك وتعالى وفي السماوات والأرض، وفي الأنفس, قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53]، فيجب أن نسعى وننظر ونتأمل ونتدبر في السماوات والأرض والجبال، وفي الإبل والشجر، والماء، وحتى في الألوان، وفي مبدأ خلق الإنسان، وكيف تتكون النطفة، وكيف يتكون الجنين، وكيف يتعلم الإنسان بعد أن لم يكن كذلك، وأمور عديدة كلها تقوي الإيمان.

    أما إن كان الأخ ينظر إلى ما بعد التخرج, فالمشكلة بالنسبة للطب هي ما بعد التخرج، لأنك قد تعمل ثمان ساعات وفي مجال كله منكرات، وربما لا تستطيع أن تدعو إلى الله تبارك وتعالى كما ينبغي؛ لأنك مشغول دائماً بعمليات وبمعالجات, فنقول: كل ميسر لما خلق له، فليست هذه الأمة ميسرة لأن تكون كلها أطباء، ولا فقهاء، ولا محدثين، ولا وعاظاً، ولكن الله تبارك وتعالى نوّع فيها، فهذا يصلح للوعظ، ولا ينبغي له أن ينصرف عنه إلى غيره، وهذا الذي أعطاه الله تبارك وتعالى الفقه والقرآن والتلاوة وحسن العلم والتفقه في الدين لا ينبغي له أن يذهب ليصبح مثلاً مهندساً ميكانيكياً، لكن الذي لم يؤتَ إلا ذلك, فلا نقول له: أرغم نفسك ودع ما خُلقتْ له ويُسِّرَ لك, واذهب إلى هذا المجال الذي لا تحسنه ولا تتقنه بل كل يعمل فيما يحسن، فتتكامل الأمة لأن كُلَّاً منا قد عمل ما يتناسب مع ما خَلَقَهُ الله وجَبَلَه وفطره عليه, وكلنا ندعو إلى الله، فهذا الواعظ يدعو من جهة، وهذا الطبيب من جهة، وذاك من جهة، ورب طبيب يسلم ويهتدي على يديه ما لا يهتدي على يد عدد من طلاب علم يحدثون ويعظون ويعلمون في المساجد.

    معنى: أن العبد سائر بين مشاهدة التقصير ومطالعة المنة

    السؤال: هناك عبارة في كتاب مدارج السالكين هي: ''العبد سائر بين مشاهدة التقصير ومطالعة المنّة''، أرجو توضيح هذه العبارة؟

    الجواب: عبارات ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى وأمثالها، عبارات عظيمة وعالية، وهي من أجود وأروع ما أبدعه العلماء أنهم عندما يتكلمون عن أعمال القلوب، يأتون بعبارات وبمصطلحات يجهلها علماء النفس المعاصرين.

    مثلاً الصبر: يتكلم عنه أي إنسان، لكن أن تقول: إن الصبر يأتي على عشرة أوجه، أو على كذا، لا يستطيع أحد أن يقولها، وكذلك اليقين له معانٍ وتفصيلات، فكلها أعمال خفية باطنية قلبية، فكيف إذا قسمت عمل القلب إلى أعمال، فكيف إذا قسم العمل الواحد إلى درجات وأنواع! فهذا علم عظيم لا يمكن أن يتمكن منه أو يعلمه ويدركه إلا الراسخون في العلم، ولا شك أن السلف الذين تكلموا في هذا قد بلغوا الغاية, ولا أظن أحداً بلغ في هذا مثل ما بلغ ابن القيم وابن تيمية رحمهما الله ورضي الله عنهما، وربما قد يسهل عليك فهم العبارة ولكن لا تستطيع بقلبك أن تستوعب المراد منها.

    فمثلاً: عندما تسمع بعض الآيات لا تستطيع أن تشرحها أو تفسرها لغيرك، لكن يظهر في قلبك أن هناك معانٍ عظيمة جداً, وبما أنَّ هذا العلم مأخوذ من مشكاة القرآن والسنة، فهو يشبه إلى حد محدود مثل ما جاء في القرآن والسنة.

    فالعبد في سيره إلى الله تبارك وتعالى بين مطالعة شيئين: التقصير والمنة، أي أن يعرف نفسه ويعرف ربه، تعرف ربك بجوده ومنِّه، وكرمه وفضله، فهو الذي هداك وأنعم عليك وأعطاك وعلمك، فأنت حتى لو عبدته وأطعته فالفضل له وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتعرف نفسك بضعفها وجهلها وعجزها وتقصيرها ونسيانها ومعصيتها، فأنت كلك تقصير فلو وُكِلْتَ إلى نفسك طرفة عين لهلكت.

    فأنت في سيرك إلى الله تبارك وتعالى لا بد أن تراعي الأمرين: أن تعلم نفسك وتقصيرها، وأن تطالع منَّة الله تبارك وتعالى عليك الذي له الفضل كله حتى في هدايتك وعبوديتك فإنك إن أطعته واتقيته فبمحض فضله وهدايته، ولك على ذلك الجزاء الأوفى في الجنة, وهو عز وجل غير محتاج إلى طاعتك, وهو تبارك وتعالى غير مطالب بإثابتك ومجازاتك، ولكنه سبحانه كتب على نفسه الرحمة وفتح لك الأبواب، كما في الحديث الذي رواه أهل الشام {يا عبادي... يا عبادي} فهو سبحانه يفتح لك الباب ويدعوك، و{ يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار, ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل} فأنت المحتاج المضطر بذاتك إليه تبارك وتعالى.

    ثم هو بعد ذلك لو فعل بخلقه ما شاء, لو لم يبعثهم ولم يجازهم، ولم يخلق الجنة ولا النار، فمن الذي يسأله، قال تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، ومع ذلك جعل لأهل التقوى الجزاء العظيم، الذي فيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولأولئك العذاب الأليم الذي نسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظنا منه.

    فهذه معانٍ قلبية قد يَقْصُرُ تعبيرنا نحن المتأخرين عن إدراكها ولكن نتأمل ونفكر فيها, ونحاول أن نشرحها وأن نفهمها، وأنا أنصح بمطالعة كتاب مدارج السالكين ما أمكن وغيره من كتب السلف, وإن شقت عليك بعض العبارات, فكلما طالعت كلما فهمت واستوعبت، أما قراءة المختصرات ومطالعة الكتب العصرية، أو الشروحات من كلام المعاصرين -وإن كان مأخوذاً من كلام المتقدمين- فإنه لا يغني طالب العلم عن الرجوع إلى نفس كلام المتقدمين رحمهم الله.

    الكلام على كتاب الرعاية للمحاسبي

    السؤال: ما رأيكم في كتاب الرعاية لحقوق الله للمحاسبي، وهل تنصح بقراءته؟

    الجواب: أما كتب المحاسبي فقد حذر منها السلف وإن كان فيها حديث عن الوساوس والخطرات، ولكن كما عبر أبو حاتم الرازي، وأبو زرعة، فقالوا: حسبنا ما قاله السلف.

    الفتور في الطاعة

    السؤال: إنني شاب مستقيم، وفي بداية التزامي كنت أقوم بالاعتناء بنفسي وإيماني كثيراً، ولكن مع طول الطريق، بدأت في التكاسل وانقلبت كثير من الأعمال إلى عادات، ويشكو آخرون بنفس الشكوى من أنهم بعد فترة من التزامهم شعروا بقسوة في قلوبهم, نرجو توجيه نصيحة لي وللباقين؟

    الجواب: نسأل الله أن يثبتنا وإياكم، هذه سنة الله أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الحديد:16] لا شك أن طول الأمد وإن كان هو نسبي أنه يؤدي إلى ذلك، ولهذا نحتاج إلى تجديد الإيمان، كما في حديث: {إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب} أي: يبلى كالثوب إذا جئت إليه وقد بلي فإنه يتفتت في اليد، فالإيمان يبلى في القلوب فيحتاج إلى تجديد، فنحتاج جميعاً أن نجدد إيماننا.

    ومن هنا كان قدوم الإنسان خمس مرات إلى المسجد وسماعه في كل مرة آيات يقرؤها الإمام في المغرب ثم في العشاء، وما يلقى من مواعظ تجعل الإنسان يتدبر فيما يتكرر عليه، ومثل ما يتكرر كل يوم: موعظة الليل والنهار، ولكن أكثر الناس قد لا يتذكرها مرة واحدة، وبعضهم يتذكرها مرة واحدة، لكن المؤمن يحتاج في كل مرة وفي كل يوم أن يتذكر ويتفكر كما قال الله تبارك وتعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62]، فينظر إلى الليل وما فيه من حِكم أو عجائب، وإلى النهار من طلوع الشمس إلى غروبها، فلم يأتِ يوم من الأيام يقول الناس فيه: لم تطلع الشمس اليوم, سبحان الله! كذلك في الليل وفي أنفسهم، فهذه مجددات ومقومات الإيمان مما يتكرر، فما بالك فيما لا يتكرر، فعلى الإنسان أن يحرص على تجديد إيمانه.

    ولا شك أن الإنسان في بداية أمره وأول التزامه -وغالباً التائب- يكون أصدق ما يكون, كما جاء في حديث الرجل الذي قتل مائة نفس، عندما توجه بقلبه بصدق إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لكن سبحان الله! بعد أن يتوب ويطمئن ويدخل في غمار الإيمان فترة, تبدأ الغفلة في الظهور ويمسه طائف من الشيطان, وما أشبه ذلك, وهذا حال القلوب جميعاً, ولكن لا بد من المصابرة ومن تجديد الإيمان بذكر الله، وقراء القرآن، وزيارة المقابر، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، والاعتبار بمصير الأحياء والأموات، وكل ما من شأنه أن يحيى إيمان القلب إن شاء الله.

    صحة علامات قبول العمل

    السؤال: هل عبارة: (من علامات قبول العمل: إتباع الحسنة الحسنة) صحيحة وعلى إطلاقها، لأنني هذا العام وبعد انتهاء صيام رمضان ارتكبت بعض المعاصي وفاتني صيام الست من شوال؟

    الجواب: هذه العبارة كقاعدة عامة صحيحة، لكن لكل قاعدة استثناء, وليس من أطاع الله تبارك وتعالى وأدى فريضة من فرائضه خالصة من قلبه يعصم فلا يقع في معصية، لا. فالنفس معرضة للضعف والذنوب والتقصير, وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون, ولكن من علامة القبول، أن يتبع الحسنة حسنات, فإن أذنب أتبع ذلك الذنب توبة، فما دام أنه كلما أذنب تاب، فإنه ما يزال متبعاً للحسنة حسنة -إن شاء الله- وليس المقصود أن يعصم فلا يقع في الذنوب، لكن ما دام أنه يتوب فهذا يدل على أن قلبه حي.

    والمقصود هو حياة القلوب، ولهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وصيته الجامعة: {اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها} فكان في إمكانه أن يقول: ولا تعصِ الله مطلقاً, وهذه لا شك أنها مطلوبة, لكن في مقام الإرشاد العملي والواقعي الذي يخاطب النفس على واقعها وحقيقتها لا يمكن أن يعيش الإنسان فلا يعص الله تبارك وتعالى فكل ابن آدم خطاء.

    إذاً: عليه أن يتبع السيئة الحسنة حتى تمحها, فهذا من الاستقامة أنك كلما عصيت الله كفرتها بحسنة، أما الانحراف فهو الخروج عن الطريق بالكلية، أي: يستمرئ الإنسان المعصية ولا يبالي أن يتوب أو يستغفر الله تبارك وتعالى أو ينيب ويرجع إليه.

    التقرب إلى الله لأمر دنيوي

    السؤال: بوَّب صاحب كتاب التوحيد: (باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا) فهل إذا قام الإنسان مثلاً بالتصدق، وأراد بذلك دفع الضر عنه, أو مثلاً قام ليلة بالدعاء في أمر دنيوي هل هذا من الشرك، أرجو تفسير هذا وتوضيحه؟

    الجواب: ذكر رحمه الله الآية أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ [هود:16] ثم ذكر بعدها حديث: {تعس عبد الدرهم, تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة} والحديث يوضح الآية وهو أنَّ الإنسان إذا لم يريد من الزكاة أو الصدقة إلا أن يبارك الله له في ماله فقط، وهذه حالة تقع لكثير من الناس، فيقول: خشيت ألا أربح في البضاعة الفلانية، فتصدقت ذلك اليوم بألف أو ألفين ثم ربحت في الصفقة, وكثير من الناس يرى أن الصدقة وأن الإحسان له بركة فيدفع الله تبارك وتعالى به البلاء، ولكن لم يرد بذلك الدار الآخرة ولا ما عند الله تبارك وتعالى، فأصبح هذا ممن يريدون حرث الدنيا وحدها، دون الآخرة مطلقاً، فهذا وقع في الشرك الخفي، الذي قل من ينجو منه، فهذه الحالة يقع فيها كثير من الناس وهم لا يشعرون، وهذا ينافي الإخلاص لله وابتغاء ما عنده، فيجب عليك أن تصوم وأن تصلي وأن تحج لله عز وجل، أما الذي يصلي أيام الاختبارات لينجح:

    صلى المصلي لأمر كان يقصده     فلما انقضى الأمر لا صلى ولا صاما

    أو يتصدق من أجل أن يربح، فهذا يدخل بلا ريب في هذا النوع من أنواع الشرك، نسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظنا منه دقيقه وجليله.

    والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755928076