إسلام ويب

قصة مسجد أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنهللشيخ : محمد المنجد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • فضائل أبي بكر لا تحصى، عرفها من عرفها وجهلها من جهل، فإنه كان صاحب فضل وخير على الناس في الجاهلية والإسلام، ولا أعظم من أن يكون أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولذا استبقاه للهجرة معه، وفي هذه المحاضرة شرح لحديث الهجرة، ومنه يتبين فضل أبي بكر، وتوضيح لقصة بنائه لمسجده الذي جعل كفار قريش يفزعون منه، ويخشون على نسائهم وأطفالهم من أن يدخلوا في دينه.

    1.   

    سياق حديث الهجرة وشرحه

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فهذا الدرس سيكون عن قصة مسجد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

    عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفيَ النهار بكرةً وعشية).

    وأبوها أبو بكر وأمها أم رومان رضي الله تعالى عنهما؛ ومعنى: يدينان الدين تعني: يدينان بدين الإسلام، فهي منذ أن وعت في هذه الدنيا وعرفت أبويها؛ عرفتهما مسلمَين.

    وعائشة رضي الله عنها تقول: (لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يومٌ إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفَي النهار بكرة وعشية، فلما ابتُلي المسلمون ...) يعني: بأذى المشركين من كفار قريش وحاصروهم في الشعب، وآذوا المسلمين بالضرب والسجن والقتل والنفي (خرج أبو بكر مهاجراً قِبَل الحبشة ...) أي: ليلحق بمن سبقه من المسلمين إلى الحبشة ، وهؤلاء المسلمون المهاجرون إلى الحبشة ساروا أولاً إلى جدة، وهي ساحل مكة ليركبوا منها البحر إلى الحبشة ، بعدما أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم. (فخرج أبو بكر مهاجراً قِبَل الحبشة حتى إذا بلغ بَرْك الغَماد ...) وبَرْك الغَماد : موضع على خمس ليالٍ من مكة إلى جهة اليمن .

    فلما ابتعد أبو بكر من مكة مسيرة خمس ليالٍ وبلغ هذا الموقع، وهو بَرْك الغَماد (... لقيه ابن الدَّغِنَة ، وهو سيد القارَة ...) من هو ابن الدَّغِنَة هذا؟

    هو رجلٌ مشركٌ كافرٌ يُنسب إلى أمه، وقيل: إلى أم أبيه، والدَّغِنَة معناها في اللغة: المسترخيه، وأصلها الغمامة الكثيرة المطر، ابن الدَّغِنَة هذا هو سيد القارَة؛ والقارَة قبيلة مشهورة من خزيمة بن مدركة بن إلياس، وكانوا حلفاء بني زهرة من قريش، وكان يُضرب بهم المثل في قوة الرمي، ولذلك يقول الشاعر:

    قد أنصف القارَة من رماها     ....................

    فـأبو بكر لقي ابن الدَّغِنَة في هذا الموضع بعدما خرج من مكة يريد الهجرة إلى الحبشة . (... فـابن الدَّغِنَة قال: أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي ...) أخرجني قومي أي: تسببوا في إخراجي من بلدي مكة ، وأنا أريد أن أذهب متوجهاً إلى الحبشة .

    والسياحة في اللغة: أن لا يقصد الإنسان موضعاً بعينه ليستقر فيه، فهو في سياحة يسافر ويرحل بدون قصد موضع معين للإقامة، هذه هي السياحة في اللغة.

    فيقول أبو بكر : (... فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، قال ابن الدَّغِنَة : إن مثلك لا يَخرج ولا يُخرج؛ فإنك تكسب المعدوم. وفي رواية: المعدَم، وتصل الرحم، وتحمل الكلَّ -ومعنى الكل: العاجز الفقير الذي يحتاج من يعوله- وتقري الضيف -يعني: تكرم الضيف- وتعين على نوائب الحق ...) وهذه الصفات مثل الصفات التي وَصَفَت بها خديجة النبي عليه الصلاة والسلام. فهذا الرجل المشرك يثني على أبي بكر الصِّدِّيق بأنه يعين في النائبات، وأنه كريم، وأنه يساعد ويغيث الملهوف.

    يقول: (... وأنا لك جارٌ -أي أجيرك وأمنعك ممن يؤذيك- فارجع فاعبد ربك ببلادك، فارتحل ابن الدَّغِنَة ورجع مع أبي بكر فطاف في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرج، أتخرجون رجلاً يُكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكلَّ، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟! فأنفذت قريش جوار ابن الدَّغِنَة ...) فلم تكذب قريش جوار ابن الدَّغِنَة ، وأقرت بجواره، وقبلت شفاعته؛ لأن ابن الدَّغِنَة كان سيداً في قومه, وكان له مكانة عند قريش، ولذلك قبلوا شفاعته في أبي بكر ، وكفوا عن أبي بكر الأذى.

    قالت عائشة : (وآمنوا أبا بكر ، وقالوا لـابن الدَّغِنَة : مُرْ أبا بكر فليعبُد ربه في داره، فليصلِّ وليقرأ ما شاء، ولا يؤذنا بذلك، ولا يستعلن به) أي: ليس عندنا مانع أن نبقي أبا بكر ؛ بشرط أن يخفي دينه في بيته ولا يظهره، ولا يتكلم بشيء من دينه جهراً (فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فقال ذلك ابن الدَّغِنَة لـأبي بكر فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره فترة، ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير ذلك، ثم بدا لـأبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره وبرز، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقَصَّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم؛ يعجبون منه، وينظرون إليه، وفي رواية: فيتقذَّف إليه) ومعنى ذلك: أنهم يزدحمون عليه حتى يسقط بعضهم على بعض فينكسر، ومعنى يتقصفون: يجتمعون اجتماعاً عظيماً حتى إنهم يتساقطون من الزحام والرغبة في السماع، قالت عائشة : (وكان أبو بكر رجلاً بكَّاءً، لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين) وذلك لما يعلمونه من رقة قلوب النساء والشباب من أولادهم، وقد يميلون إلى دين الإسلام (فأرسلوا إلى ابن الدَّغِنَة ، فقدم عليهم، فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفناء داره، وأعلن الصلاة والقراءة، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فائته، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فَعَلَ، وإن أبى إلا أن يُعلن ذلك فسَلْه أن يرد إليك ذمتك، فإنا كرهنا أن نخفرك ...).

    أي: إذا رضي أن يعود إلى داخل الدار فله ذلك، وإذا رفض وأصر على الجهر بدينه فاطلب منه أن يرد الأمان الذي أعطيناه بسببك. (... فإنا كرهنا أن نخفرك ...) أي: نحن لا نريد أن نغدر وقد أعطيناه الأمان بسببك، لا نريد أن نغدر به ونخفر الذمة، فاطلب من أبي بكر أن يرد إليك الجوار إذا كان يريد أن يستمر على هذا الإعلان. ()... فإنا كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لـأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة : فأتى ابن الدَّغِنَة أبا بكر فقال: قد علمتَ الذي عقدتُ لك عليه -أي: الشرط بيني وبينك- فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إليَّ ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أُخفرت في رجلٍ عقدتُ له ...) أي: لا أحب أن يكون صيتي بين العرب وسمعتي أنني أعطيت إنساناً جواراً ثم إن هذا الإنسان غُدِر به، وأن جواري لا قيمة له، فإنني أكره ذلك، فماذا كان جواب الصِّدِّيق رضي الله عنه؟

    قال أبو بكر : (... إني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله) ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ بـمكة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد أُرِيت دار هجرتكم، رأيت سبخة ذات نخلٍ بين لابَتين) أي: أرض مالحة لا تكاد تنبت، وبين لابتين: هما الحرتان، فهاجر مَن هاجر قِبَل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع إلى المدينة بعض مَن كان هاجر إلى أرض الحبشة ، وتجهز أبو بكر مهاجراً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على رسلك! فإني أرجو أن يؤذن لي، قال أبو بكر : هل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السَّمُر أربعة أشهر).

    هذه رواية مختصرة لحديث الهجرة ساقها الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الحوالة من صحيحه ، وهو قد ساق هذا الحديث في عدد من الأبواب من صحيحه ، ومنها ما هو في المناقب.

    وهكذا كان من شأن أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه.

    1.   

    الفوائد المستفادة من حديث الهجرة

    هذه القصة فيها عدد من الفوائد:

    جواز النزول في جوار المشرك ما لم يكن ذلاً

    أولاً: فمن المسائل الفقهية المتعلقة بهذا الموضوع: أن الإنسان المسلم يجوز له أن ينزل في جوار مشرك إذا لم يترتب على ذلك محظور شرعي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بكر رضي الله تعالى عنه نزوله في جوار هذا المشرك، ولأن دخول الصِّدِّيق رضي الله عنه في حماية هذا الرجل الكافر لم ينبنِ عليه وقوع معصية من أبي بكر ، أو وقوع شرك، أو تنازل عن شيء من الدين، وإنما كان ذلك حماية مجانية من ابن الدَّغِنَة ، ولم يكن فيها كذلك ذلٌ للصديق رضي الله عنه، ولذلك فإن القبول بمثل هذا في هذه الحالة جائز، بخلاف ما لو ترتب على دخول المسلم في أمان مشرك أو جوار مشرك أن يتنازل عن شيء من دينه؛ كأن لا يقيم شيئاً من الدين، أو ترتب عليه وقوع في معاصٍ، أو ذل، أو أنه يعطي الدنية في دينه.

    جواز بناء المسجد في مباح لا يضر بالناس

    ثانياً: وكذلك من فوائد هذا الحديث الفقهية ما عنون البخاري رحمه الله عليه في كتاب الصلاة، باب: المسجد يكون في الطريق من غير ضرر بالناس.

    فيجوز للإنسان أن يبني مسجداً في مِلكه، ويجوز أن يبني مسجداً في منطقة مباحة بحيث لا يضر بأحد، وأما بناؤه في مِلك الغير فهو ممنوع بالإجماع.

    فإذاً: المسجد يمكن للإنسان أن يبنيه في ثلاثة أماكن:

    يبنيه في مِلكه.

    الثاني: أن يبنيه في مِلك غيره.

    الثالث: أن يبنيه في مكان ليس لأحد.

    فأما بالنسبة لبنائه في ملكه فهذا جائز بالإجماع.

    وأن يبنيه في ملك غيره فهذا ممتنع بالإجماع.

    وأن يبنيه في مكان مباح ليس لأحد، هذا جائز إذا لم يكن فيه ضرر على أحد.

    و أبو بكر رضي الله عنه قد بنى المسجد بفناء داره، فهو مِلكه يفعل فيه ما يشاء.

    ويجوز للإنسان إذا كان عنده بيت كبير أن يبنى مسجداً في جانب منه ويجعل له باباً إلى الخارج ليدخل إليه الناس؛ وهذا لا بأس به ولا حرج، وقد فعله الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه.

    جواز الأخذ بالشدة في الدِّين

    ثالثاً ومن الفوائد الأخرى في هذا الحديث: جواز الأخذ بالشدة في الدين:

    فإنه كان يجوز لـأبي بكر الصِّدِّيق في هذا الوضع أن يبقى في حماية ابن الدَّغِنَة ، ويعبد ربه في داره، ولكنه أخذ بالشدة، وأخذ بالأمر الشاق، ورد جوار المشرك، وقبل أن يتحمل الأذى، وقال له: (أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله) فهذا دال على قوة يقين أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، وعلى الأخذ بالأشد في الدين، وأن عنده قدرة على التحمل، ولذلك رد جوار المشرك، ورضي أن يتعرض للأذى في مقابل أن يعلن دينه.

    أهمية التزام الأبوين لبناء شخصية الطفل

    رابعاً: أهمية نشوء الطفل في أول أمره بين أبويَن مسلمَين في بيت مسلم، وأن هذه النشأة لها أثر بالغ عليه في المستقبل:

    فـعائشة رضي الله عنها من أعقل النساء، وأفضل النساء، وأعلم النساء، بل هي أعلم نساء المؤمنين على الإطلاق.

    ومن أسباب ذلك: أنها نشأت في أول أمرها بين أبوَين صالحَين، لم يضع من عمر عائشة فترة من الزمن وهي في جاهلية أو شرك أو جهل، أو كفر أو فسق، تقول: ( لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين ) ولذلك كلما كان التزام الأبوين بالدين مبكراً كان ذلك في صالح الولد أكثر.

    وأي تأخر في التزام الأب أو التزام الأم بالدين؛ إنما يكون على حساب الولد؛ لأنه سيضيع فترة من عمر الولد بدون اهتمام أو تعليم؛ لأن الأب جاهل أو بعيد عن الدين، وكذلك الأم.

    فلا شك أن الولد ...

    وينشأ ناشئ الفتيان فينا     على ما كان عوَّده أبوهُ

    فكلما كان التبكير بالأخذ بالدين والالتزام به، كلما كان ذلك في منفعة الولد ومصلحته.

    شدة علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بالصديق

    خامساً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان وثيق الصلة بـأبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه:

    وكان يشاوره في أمور الدعوة ولا شك، ولذلك كان لا بد أن يمر على الصِّدِّيق يومياً: (ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرَفي النهار بكرة وعشية) وهذا يدل على منزلة الصِّدِّيق من النبي عليه الصلاة والسلام، فهو وزيره الأول.

    الهجرة بالدين

    وسادساً: أن الإنسان إذا لم يستطع أن يظهر شعائر الدين في بلده فإنه يُشرع له أن ينتقل إلى بلد آخر.

    فلما ابتلي المؤمنون خرج الصِّدِّيق مهاجراً، وانتقال الإنسان من بلد إلى بلد آخر لإقامة الدين أمر مهم، بل يجب على المرء إذا لم يستطع أن يقيم شعائر الدين في بلده ما لم تكن في البقاء مصلحة أكبر من مصلحة الهجرة، وأن سلامة الدين أهم من سلامة المال، أو البقاء في البلد، أو الديار، أو الأهل، أو الوطن، وأن الغربة في سبيل الله مطلوبة، ولذلك رضي بها الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهاجر قسم كبير منهم؛ لأجل أنهم لم يكونوا يستطيعون إقامة شعائر الدين في مكة .

    أهمية السمعة الطيبة للمسلم

    وسابعاً: مكانة وأهمية سمعة الإنسان المسلم بين الناس:

    فإن الصِّدِّيق رضي الله عنه لا نفاقاً ولا رياءً، وإنما هذا من طبعه رضي الله عنه أنه كان كريماً صاحب معروف، يعطي المعدوم، يصل الرحم، يقري الضيف، يعين العاجز الفقير في النوائب، وهذه الأعمال الخيرية التي كانت في الصِّدِّيق كان لها انتشار بين الناس حتى عُرِف بها الصِّدِّيق ، ولذلك لما رأى ابن الدَّغِنَة الصِّدِّيق خرج من مكة قال: (إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرج) أي: لا يمكن أن مثل هذا يَخرج أو يُخرج إنسان هذه صفاته، وذكر لهم صفات الصِّدِّيق .

    فسمعة الإنسان المسلم بأعمال الخير التي يعملها تكون سبباً في نجاته بإذن الله، وييسر الله له من الناس، ولو من الكفرة والمشركين مَن يحميه أو يدافع عنه بسبب أعماله الخيرية، فيجب أن يحرص المسلم على أن يكون له باعٌ في عمل الخير، لا من أجل أن يحمي نفسه، أو من أجل أن يكون له شافع من الناس، أو جار يجيره، ولكن ذلك من طبيعة هذا الدين، والله تعالى يوصلها إلى الخلق، ويصبح هذا الشخص صاحب سمعة طيبة بين الناس، وعمل الخير ينفع صاحبه دائماً، وفي أوقات الشدة يكون هذا العمل من الأشياء التي تعين الإنسان على إقامة دينه.

    نصر الله الدين بالرجل الفاجر

    ثامناً: أن الله تعالى قد يقيض من الكفار من يحمي المسلم:

    إن من الغرائب أن يوجد كافر يحمي مسلماً؛ لكن الله عز وجل يقيض لبعض المسلمين مَن يحميه من الكفار، كما حصل من جوار ابن الدَّغِنَة لـأبي بكر رضي الله تعالى عنه.

    أهمية إعلان الدعوة

    الفائدة التاسعة: خطورة وأهمية إعلان الدين والصدع بالحق:

    وأن إعلاء كلمة الدين والوصول بها إلى المنابر، وإلى الأماكن التي تنفُذ من خلالها إلى الناس أمرٌ في غاية الأهمية, وأن تلك الوظيفة الإعلامية المهمة في نقل الدين إلى الناس لها شأن تأثيري عظيم لا يُستهان به، وأن الكفار كانوا يخشون من مجرد قراءة القرآن، والإعلان بالدين، يخشون على نسائهم وأطفالهم أو شبابهم من وصول كلمة الحق إليهم.

    فوجود أماكن ومنابر ووسائل يُنْقَل بها الدين للناس أمر في غاية الأهمية.

    قبول الحق والتأثر به ولو كان السامع كافراً

    والفائدة العاشرة: أن هناك من الكفار من يسمع الحق ويقبل به، ويتأثر بالحق:

    فإن هؤلاء النساء والشباب الصغار من الكفار؛ كانوا يجتمعون لدرجة أن بعضهم يركب بعضاً، ويزدحمون على دار الصِّدِّيق ، حتى ربما سقط بعضهم من الزحام، ولذلك قال الراوي: (فيتقذَّفوا. وفي رواية: يتقصَّفوا -يزدحمون عليه- حتى يسقط بعضهم على بعض فيكاد ينكسر) فهذا من شدة الاجتماع والحضور، قد يوجد من الكفار من يستمع.

    الإخلاص عامل تأثير في السامعين

    والفائدة الحادية عشرة: أن الإنسان المسلم إذا كان مخلصاً تأثر بكلامه الآخرون، وازدحموا عليه وسمعوا منه، وليس مجرد اجتماع وتجمهر، فإن ذلك يمكن تحصيله بوسائل جمع الناس، لكن التأثير في الناس مسألة قلبية، فأنت ترى في مناسبات كثيرة في الأرض يتظاهرُ آلافٌ مؤلفةٌ، وعشرات الآلاف، ومئات الآلاف؛ ويُجمَعون بوسائل كثيرة من ترغيب أو ترهيب؛ لكن مَن الذي يتأثر ويؤثر، التأثير إنما يكون بناءً على الصدق والإخلاص، فإن الصِّدِّيق رضي الله عنه كان صاحب تأثيرٍ بصِدْقِه وقلبه النقي في الآخرين، حتى خشي الكفار على أولادهم وشبابهم من أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، وقالوا: ( فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا ).

    أثر القرآن في الدعوة إلى الله

    والفائدة الثانية عشرة: أن هذا القرآن له أثر كبير في نفوس الناس:

    ماذا كان يفعل الصِّدِّيق غير قراءة القرآن؟ لا شيء، إنما كان يجهر بالقرآن، كل الذي كان يفعله أبو بكر الصِّدِّيق هو أنه كان يجهر بالقرآن؛ ولكن القوم كانوا عرباً فصحاء يفهمون معاني القرآن، ويتأثرون به، وهكذا ارتضعوا اللغة منذ نعومة أظفارهم، ولذلك كان نساؤهم وشبابهم وصغارهم يتأثرون بالقرآن.

    فإذاً: ينبغي أن لا يُغفل دور القرآن في الدعوة إلى الله أبداً، بل ربما يخطب الإنسان خطبة كلها من القرآن، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب بسورة ق.

    ومن أثر القرآن، ومكانة القرآن وخطورة شأن القرآن في الدعوة إلى الله، قال الله تعالى في كتابه العزيز عن القرآن: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً [الفرقان:52] جاهدهم به: الـهاء ترجع إلى القرآن، فيقول للنبي صلى الله عليه وسلم: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ [الفرقان:52] أي: بهذا القرآن جِهَاداً كَبِيراً [الفرقان:52] فَعُلِمْنا بهذه الآية أن القرآن وسيلة عظيمة للجهاد.

    مكانة الجوار والذمة عند العرب واستغلال القرابة في خدمة الدعوة

    الفائدة الثالثة عشرة: أن الجوار والذمة كان لها عند العرب شأن كبير:

    ولا زال الأمر كذلك عند كثير من أهل البادية؛ أنهم يقيمون وزناً للجوار والذمة، وأن هذه المسألة يمكن أن يستفاد منها في الدعوة إلى الله تعالى كما حصل هنا في حماية الداعية إلى الله وهو أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه.

    والنبي صلى الله عليه وسلم قد استفاد من علاقاته القَبَلِيَّة، واستفاد من قراباته؛ فمَنَعَه قومُه وأقرباؤه، وبنو هاشم كان لهم دور، وعهد الصحيفة وحصار الشعب إنما انتهى بأن قام ناس من الكفار فأنهوه لقرابتهم من بني هاشم.

    إذاً: فالقرابات والعلاقات لها أثر في حماية الدعوة أو الداعية، فإنه لا ينبغي أن يُستهان بها، ولولا أن علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بأقربائه كانت قوية لِحُسْنِ معاملته لما دافعوا عنه، ولا ردوا عنه، ولا أُنْهِي حصار الشعب.

    فإذاً: ينبغي أن تُقَدَّر هذه القضية حق قدْرها.

    فضل أبي بكر الصديق وخشيته لله

    وكذلك يؤخذ من هذا الحديث: فضل البكاء من خشية الله:

    وأن أبا بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه من مناقبه: أنه كان رجلاً بكاءً، إذا قرأ القرآن لم يملك عينه، يعني: من الدمع والبكاء، وهذا من مناقبه رضي الله عنه، وكثير من الناس مع الأسف لا يعرفون مناقب الصِّدِّيق جيداً، ولا يتعرفون على شخصيته جيداً، وربما بعضهم يعرف بعض الأشياء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أو عن علي بن أبي طالب ؛ لكن لا يعرفون كثيراً عن الصِّدِّيق ، مع أن الصِّدِّيق أفضل الجميع بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فينبغي معرفة شأن الصِّدِّيق رضي الله عنه في رقة قلبه وإيمانه، وسبقه في الخير والدعوة، وعموم أفعال البر التي كان يعملها، ومكانته عند النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يمر عليه في اليوم مرتين بكرة وعشية، وأنه الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقى حتى يهاجر معه، وأخبره عليه الصلاة والسلام أنه يرجو أن يؤذَن له بالهجرة، فيبقى الصِّدِّيق لكي يهاجر معه، ولذلك حبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلف الراحلتين وجهزهما، وحماه، وخاف عليه، وأصيب بالحزن لما اقترب الكفار من الغار، وهو الذي حلب له اللبن وبرَّده، وكان يضع له ذلك الشيء في الظل حتى يستريح عليه، وكان يورِّي، فكان يقول إذا سئل في الهجرة: (هذا رجل يهديني الطريق) حتى لا يعرف النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الذي أتى بغلامه ليدل على الطريق، وهو الذي أتى بابنه يرعى الغنم، وهو الذي أتى بابنته أسماء التي كانت تأتي بالطعام وتربطه بنطاقَيها، حتى سميت بـذات النطاقين.

    ففضل الصِّدِّيق في الدعوة إلى الله وفي الإسلام، ومكانة الرجل في الإسلام عظيمة ينبغي أن تحفظ له، وأن ندعو الله سبحانه وتعالى لهذا الرجل العظيم أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، لما قدم وأعان في نصرة هذا الدين.

    وهذا الحديث من تأمل فيه يجد مزيداً من الفوائد؛ خصوصاً في مجال الدعوة والتعامل مع الآخرين، وكيف يستفيد الإنسان من الواقع، ومن الإمكانات المتاحة في الدعوة إلى الله عزوجل.

    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرفع الصِّدِّيق في الدرجة العالية وأن يجزيه خير الجزاء.

    والله أعلم.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755951479