أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله عز وجل في السر والعلن: (الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني).
أيها المؤمنون: قد تكلمنا في الجمعة الماضية عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن أهميته وفضله وفضل أهله، وعن اللعنات القاسية، والعقوبات القاضية، التي تلحق الأمة إذا هي تركته، وتخلفت عنه، ونواصل حديثنا اليوم.
وهذا هو الغزالي رحمه الله يقول: "فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم لهذا الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه، وأهمل علمه وعمله، لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمَّت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد".
لذا -يا رعاكم الله!- نقل طائفةٌ من أهل العلم الإجماع على وجوبه؛ لأنه من شعائر الإسلام الظاهرة، كـالنووي والجصاص وابن حزم ... وغيرهم، بل وقرر شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى أنه بما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه تُقاتَل الطائفة الممتنعة عنه.
وأما التفصيل في وجوبه العيني والكفائي فعلى اختلاف الأشخاص والأحوال، كما هو مبسوطٌ في كتب العلم، مما يضيق التفصيل عنه هنا.
وهنا ملحظٌ خفيٌ دقيق وهو أن الآمر والناهي إذا رد عليه أمره، أو انتقص في كلامه، أو أوذي، فقد ينتصر لنفسه، وهذا مذهبٌ للإخلاص، فعن أرطأة بن المنذر قال: "المؤمن لا ينتصر لنفسه، يمنعه ذلك القرآن والسنة، فهو ملجم".
لكن مما ينبغي التنبيه عليه أنه لا يشترط أن تكون عالماً فقيهاً، بل يكفي أن تعلم أن هذا منكر فتنكره، وأن هذا معروفٌ فتأمر به.
قال العارفون: "من وطَّن نفسه على الأذى، وأيقن بثواب الله، لم يجد مس الأذى". نعم، فكثيرٌ من الناس تكره من يقطع شهواتها، ويكدر لذاتها حتى وإن كانت محرمة، فلا يأسفن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر على من هجره وقلاه، ولا يحزنن على من فارقه وجفاه، فتالله إنه بهذا يقطع أطماعه في الخلق ليحصر تعلقه برب الخلق.
ومما هو متعلقٌ بما قبله الحلم، فالصبر والحلم صفتان متلازمتان، فإن لم يكن الآمر والناهي ذا حلمٍ، فالغالب أن الناس لا تقبل منه، ويالله! انظر لما في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عنه وعن وجهه ويقول: ربِّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).
لكن مما ينبغي أن يعلم أن الحاجة قد تدعو إلى العنف والشدة أحياناً، وذلك بحسب المنكر وصاحبه كما بين الأب وابنه، والمعلم وتلميذه ونحو ذلك.
إن اللبيب إذا بدا من جسمـه مرضان مختلفان داوى الأخطرا |
والتدرج بالناس على طريق الخير، واستلال الشر من نفوسهم أدبٌ شرعيٌ عظيم امتثله الأنبياء مع أقوامهم، فبدءوا بالتوحيد، وما بعده وهكذا، وكذلك رسل الأنبياء، وليست قصة معاذ وإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم إياه إلى اليمن ، والتدرج مع الناس هناك عنا ببعيد، فالمنكرات لا سيما في زماننا هذا منتشرة، فهناك ما هو أشد نكارةً من بعضها البعض، فيبدأ بالأشد وهكذا.
ولا شك أن العلماء، وطلبة العلم، والهيئات، عليهم من الحق ما ليس مثله على غيرهم، لكن سكوت المجتمع، واكتفاء أفراده بحوقلاتٍ وأنات في زوايا المجالس، هذا الأمر لا ينفع، ولا يجدي، بل لا بد من الإنكار بالطرق الشرعية، بالحكمة والموعظة الحسنة، في رسالةٍ لمسئول، وفي استنهاض لهمة عالم، ومباشرة زيارة صاحب المنكر، والإنكار عليه إن أمكن ذلك، وإلا فالساكت شيطانٌ أخرس، فانهضوا عباد الله قبل أن تحل اللعنة.
إن الله لم يطلب منا النتيجة، بل أمرنا بالبلاغ وبذل السبب، والله سبحانه من وراء ذلك، وسواء تغير المنكر أم لم يتغير، كفاك أنه إبراءٌ للذمة أمام الله، ناهيك أن الرائي يرى أن المنكر إذا أنكر لا سيما من أناسٍ كثير، لا سيما من عامة المجتمع غُـيِّر هذا المنكر، أو خفف ضرره، أو تأخر شرٌ كثير كان سيأتي تباعاً بعده، أما أن تقع الفواجع ويقال وقعت وانتهى فلا، إن الشر خطوات، وشياطين الإنس والجن لا يكفون عن الوسوسة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
وبعد:
عباد الله: نحن في زمن كثرت فيه الفتن والمنكرات، والشهوات والمغريات، ورسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكاد تضعف في أوساط كثيرٍ من الناس، لذا ينبغي -وربي- أن تكون تلك الرسالة مسئولية الجميع، تُمارس في بيوتنا، ومحيط أسرنا، يمارسها المعلمون والمعلمات مع طلابهم وطالباتهم، ويمارسها الطلاب فيما بينهم، وهم يرون بينهم من المنكرات ما قد لا يراه غيرهم، ويمارسه المواطنون، ويمارسه الموظفون في دوائر أعمالهم، والجيران فيما بينهم، انظر إلى بيته الذي عن يمينك، فيه ولدٌ لا يصلي ماذا قدمت له، انظر لذاك البيت الذي أمامك يتصدر أعلاه طبقٌ فضائي، فهل نصحت صاحبه -بادر أُخي- قبل أن تحل اللعنة، انظر إلى شوارع المسلمين وما فيها، ماذا قدمت؟ هل أمرت.. هل نهيت؟
يقول ابن القيم رحمه الله: "وأي دينٍ، وأي خيرٍ، فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها، وهو بارد القلب، ساكت اللسان، شيطانٌ أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطانٌ ناطق؟! وهل بلية الدين إلا من هؤلاء؟! إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين ...". إلى آخر كلامه رحمه الله.
ألا إن مما ينبغي التنبه له أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مجرد عاطفةٍ تثور ثم تخبو، ولا مجرد حماسٍ طارئ ثم ينتهي، فهذا مكمن الخطأ الذي ينبغي النظر إليه، وهي ألا نعيش في حياتنا ردود أفعال، بل يواصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل وقتٍ وآن، فأهل المنكرات يبذلون لباطلهم ولا يفترون، ويجتهدون ولا ينقطعون، والصراع بين الحق وأهله والباطل وأهله قائمٌ منذ أن قامت السماوات والأرض، ومستمرٌ حتى قيام الساعة.
هذا وصلوا وسلموا على محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة: أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة، واصرف عنهم بطانة السوء يا ذا الجلال والإكرام! اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، اللهم احفظ علينا أمننا، وإيماننا، ونساءنا، وأعراضنا يا ذا الجلال والإكرام! يا من له الدنيا والآخرة.
اللهم عليك بالمنافقين، والعلمانيين، اللهم اشدد عليهم وطأتك، وارفع عنهم عافيتك، وأنزل بهم نقمتك، ومزقهم كل ممزق، واجعلهم عبرةً لكل معتبر، اللهم رد كيدهم في نحورهم، وافضحهم في عقر دورهم، يا ذا الجلال والإكرام! يا من له الدنيا والآخرة! يا من عز فارتفع! وذلك كل شيءٍ لعظمته وخضع!
اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الشرك والزيغ والفساد، اللهم انصر إخواننا المؤمنين المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين، اللهم أيدهم بتأييدك، اللهم أيدهم بتأييدك، اللهم أيدهم بتأييدك، اللهم عليك باليهود الغاصبين، اللهم عليك باليهود الغاصبين، اللهم رمل نساءهم، ويتم أطفالهم، اللهم زلزل الأرض من تحتهم، وبث الرعب في قلوبهم، وفرق جمعهم، وشتت شملهم يا ذا الجلال والإكرام!
يا من لا إله بحق غيره! ولا رب لنا سواه! اللهم عليك بسائر أعداء الدين، اللهم عليك بسائر أعداء الدين، اللهم عليك بسائر أعداء الدين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله الجليل العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر