يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد:
فكثير من الناس وإن كان من أهل السنة والجماعة إلا أنه لا يدري أهو منها أم خارج عنها؛ وذلك لجهله بأصول أهل السنة والجماعة وآياتها وعلاماتها.
ولما اختلط الحابل بالنابل، وأجلب علينا الملاحدة في هذا الزمان بخيلهم ورجلهم، ولبَّس الشيطان عليهم الحق بالباطل ضلت كثير من الأذهان والأفهام، وسأل كثير من الطلاب عن معنى السلفية، أو معنى أهل السنة والجماعة، أو معنى الفرقة الناجية، أو الطائفة المنصورة؛ لذا كان يحسن بنا من هذا المنطلق وفي هذا المقام أن نبين من هم أهل السنة والجماعة، وما هي أماراتهم وعلاماتهم، وما هو منهجهم في الأخلاق والسلوك، وما هي معتقدات هذه الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، حتى يهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.
أما قوله: (وإنه يخرج من أمتي) فبصيغة المضارع، أي: أن المروق من الدين والخروج عن حد طاعة الله ورسوله دائم ما دامت الحياة، يخرج باستمرار في كل زمان ومكان ممن انتسب إلى أمة النبي عليه الصلاة والسلام أقوام يهوون هوى، فيبين النبي عليه الصلاة والسلام أن هذا الخروج وأن هذا المروق من الملة إنما سببه اتباع الهوى، أو الجهل، أو اتباع الشبهات والمشتبهات في كتاب الله عز وجل، كما قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران:7] أي: من القرآن: ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]. أهل الإيمان لهم موقف من كتاب الله عز وجل يختلف تمام الاختلاف عن موقف أهل الأهواء والبدع والخصومات في الدين، وأصحاب الرأي الذين قدموا القياس على قول الله وقول الرسول، وعلى إجماع أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وإنه يخرج من أمتي أقوام يهوون هوى)، أي: يميلون وينحرفون عن الصراط المستقيم بسبب اتباعهم لأهوائهم، (تتاجرى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه)، الكلب: داء يصيب الإنسان إذا عضه الكلب، ألا ترون أن سم الكلب الزعاف يدخل في كل أجزاء بدن المعضوض؟ الأمر كذلك، وهكذا الأهواء إذا أطلق الإنسان لها العنان ولم يجاهد نفسه ويدفعها عنه ما استطاع تمكنت منه حتى دخلت في كل عرق ومفصل في جسده، ومن هذا المنطلق أحب الشيطان وأحب إبليس البدعة أكثر من حبه للكبائر والمعاصي؛ لأن صاحب الكبيرة ربما تاب منها، وصاحب المعصية الصغيرة ربما تاب منها، أما صاحب البدعة فإنه يتصور أنه على الحق، أو أنه لفرط اتباعه لهواه استقر ذلك في قلبه وألفه وصار عادة له، فلا يُمكن مِن ترك البدعة أو نبذها، ولذلك حذر أهل العلم من الوقوع في البدع أكثر من تحذيرهم من الوقوع في المعصية، وقالوا: المعاصي ثلاثة أنواع: الكفر بالله العظيم، ثم البدعة في الدين، ثم الوقوع في سائر المعاصي، فجعلوا البدعة والابتداع في الدين في منزلة وسط بين الشرك بالله وبين اقتراف الكبائر والصغائر؛ لخطورة الابتداع في الدين، ولعلم أهل السنة والجماعة من أهل العلم والمجتهدين بخطورة هذا الأمر.
قال: (تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى) وانظر إلى اللفظ (يتجارى)، أي: يدخل دخولاً شديداً في كل أجزاء الجسم حتى يتمكن من دمه ولحمه وعظمه وعقله وفكره وفؤاده، فلا يبقى أمامه مجال لأن يخرج منه وأن يدخل مرة ثانية في دائرة أهل السنة والجماعة.
المسألة الأولى: هل هذه الفرق فرق كافرة، وبالتالي تستحق الخلود في النار مع الكافرين؛ لقوله: (وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)؟ هذه الواحدة هي الناجية من النار بشهادة النبي عليه الصلاة والسلام، وبشهادة الله تعالى في قرآنه.
لكن المبحث هنا: هل هذه الفرق كافرة وخارجة عن دائرة الإسلام وحد الإسلام بالكلية؟ لا مانع أن يكون منهم من كان حاله على هذا النحو، كالذي يرد أصول الإسلام وقواعده العامة، ويتخذ الضلال له منهجاً وفكراً واعتقاداً يسلكه إلى قيام الساعة، فإن من أنكر قدر الله عز وجل، وأن الله عز وجل على كل شيء قدير، وأن الله يفعل في خلقه ما يشاء، أو قال: إن الله لا يعلم ما يكون إلا بعد أن يكون. لا شك أن هذا كافر بالله العظيم، وعلى ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم، وهو الإجماع المعتبر.
وأما من قال: إن محمداً أشبه بـعلي كالغراب بالغراب، والنملة بالنملة، والنحلة بالنحلة، وهو قول فرقة من غلاة الشيعة؛ ويسمون الغرابية لأنهم يلحقون محمداً بـعلي في الشبه كما يشبه الغراب الغراب، ولا يستطيع أحد أن يميز بين الغرابين، أو بين النحلة والنحلة، والنملة والنملة، وبئس المثل الذي ضربوه؛ لأن العرب لا تضرب المثل بالغراب إلا لمثل السوء، فالغراب عند العرب من الطيور المحتقرة لا من الطيور المحترمة، ولذلك هم ضربوا بهذا المثل ويريدون أن يصلوا إلى أن جبريل عليه السلام لفرط الشبه بين محمد وعلي نزل خطأً بالوحي على محمد، وكان حقه أن ينزل على علي بأمر السماء! ولذلك هم يتقربون إلى الله -بزعمهم- بسب ولعن صاحب الريش، يعنون جبريل عليه السلام، ومن كان هذا حاله لا شك أنه خارج عن دائرة الإسلام، ومخلد في النار مع الكفار الأصليين.
فكل من غالى من جميع هذه الفرق استحق الخلود في النار بسبب مروقه وخروجه عن حد الإسلام ودائرة الإيمان، أما من لم يكن مغالياً، أو كان جاهلاً تابعاً في جهله لغيره، وكان على استعداد لأن يقبل الحق إذا عرفه واطلع عليه، فلا شك أن هؤلاء في دائرة الإسلام وإن كانوا على خطأ.
إذاً: ليس كل هذه الفرق كافرة، إنما يكفر منها الغلاة، وبعض أهل العلم كفرها كلها أخذاً بظاهر الحديث: (كلها في النار)، ولكن أهل التحقيق من الفقهاء والمحدثين قالوا: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار) لا يعني الخلود الأبدي السرمدي الدائم في النار، وإنما المراد الخلود في لغة العرب، ومعناه المكث الطويل، وأن هؤلاء إذا دخلوا النار خرجوا منها لا محالة بشفاعة الشافعين، أو بعد أن يستوفوا الجزاء الذي ترتب على انحرافهم وميلهم عن صراط النبي عليه الصلاة والسلام.
ولذلك نقول: ما ذنب من نشأ في إيران على حب علي رضي الله عنه، بل على المغالاة في حب علي وذم معاوية رضي الله عنه؟ وما ذنب من نشأ بالشام يحب معاوية ويغالي فيه ويذم علياً رضي الله عنه وهو من الجهل بمكان، لا يدري ما تحقيق هذه المسائل؟ وهذا كلام الذهبي عليه رحمة الله في كتابه العظيم سير أعلام النبلاء.
الشاهد من هذا: أن خلود الكثير من أتباع هذه الفرق إنما هو بمعنى المكث الطويل.
هذه الفرق لم تكن موجودة في زمن النبوة الأول، إلا أن ملامح بعضها قد بدأ في زمانه عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (سيخرج من أمتي أقوام يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم)، يعني: لا يجاوز حلوقهم، إلى القلوب والأفهام والعقول، وإنما حظهم من كتاب الله التلاوة فحسب، لا يتدبرونه ولا يعرفون معناه، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، وهذا الذي أتاه فقال له: (يا محمد! أعطني من مال الله، فإنه ليس مالك ولا مال أبيك) هكذا خاطب النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أعطوه ما يريد، ثم لما ولى الرجل وأخذ نواله، قال النبي عليه الصلاة والسلام: سيخرج من ضئضئ هذا -أي: من ظهر هذا أو من فكره ويكون تابعاً له في المعتقد- أقوام يقاتلونكم، وفي رواية: يقرءون القرآن ويحتجون به عليكم، تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية).
ولذلك كثير من عامة الناس يغتر بأصحاب العبادات، وإن كانت العبادة المحضة لله على مراده ومراد رسوله من أعظم ما يمكن أن يتقرب به المرء إلى الله، ولكنها ليست وحدها الحاكمة على العبد بالاستقامة، فكثير من الزهاد والعباد إنما يعبدون الله تبارك وتعالى بجهل، ويسيئون أكثر مما يصلحون، ولذلك كان علي بن أبي طالب يضرب العباد في محاريبهم قائلاً لهم: (تفقهوا قبل أن تعبدوا). حتى يعبدوا ربهم على بصيرة ونور.
هذه الجماعة، وإن شئت فقل: هذه الفرقة، لماذا هي فرقة؟ لأنها تبعت أجدادها وأسيادها وآباءها الذين خرجوا في زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فتبنى هؤلاء أصول أولئك، وتبنى هؤلاء هدم القواعد الكلية والقواعد العامة في الشريعة الإسلامية كما هدم أجدادهم، فاستحقوا بذلك أن يكونوا فرقة من الفرق الضالة بخلاف غيرهم.
أما الخلاف في الأصول العامة والقواعد الكلية فإنه كفر بواح، فمثلاً: الخلاف على أن الله تعالى فرض الحج وفرضه في أشهر معلومات، فإن من نازع في ذلك كافر، ومن خالف في أن الله تعالى افترض على المسلم خمس صلوات في يومه وليله تؤدى ونازع في ثبوت ذلك فإنه كافر بالله العظيم، وقس على هذا غيره مما أجمع عليه أهل العلم بناء على ثبوته في الكتاب والسنة، فإن هذا مما لا يسع المسلم فيه الخلاف، ولا يمكن أن يأتي إنسان ويدعي أن هذا من باب الاختلاف في الدين، وأن هذا أمر مباح، وأن هذا خلاف سائغ معتبر، فإن من قال هذا فقد فَقَدَ دينه وعقله على السواء.
ولذلك قوله: (إلا واحدة)، يدل على أن الحق واحد؛ لأن مصدر الحق لم يختلف عليه أحد من أهل السنة والجماعة، وأن مصدر الحق هو كلام الله تعالى في كتابه، وكلام النبي عليه الصلاة والسلام في سنته الصحيحة، وإجماع أهل العلم خاصة إجماع الصحابة رضي الله عنهم، فيكون منشأ العلم الرد إلى الله تعالى، والرد إلى رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، وهذا قد بُين في قوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، فبين أن صراطه واحد لا اثنان، وفي قول الله تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، فلم يقل: ردوه إلى قياس على غير أصل، أو إلى رأي فاسد، أو إلى زعماء هذه الفرق، أو أمراء الجماعات أو غير ذلك، وإنما إذا وقع النزاع والتفرق والاختلاف أن يكون الرد لله تبارك وتعالى ورسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، وما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم مما لم يرد في كتاب الله ولا في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام بالأمر الصريح إنما أجمعوا عليه استنباطاً واجتهاداً من أدلة الكتاب والسنة، فلابد أن تفهم هذا فإنه مهم غاية الأهمية، بل لابد أن تضع هذه الأصول نصب عينيك تنير لك الطريق.
أما النبي عليه الصلاة والسلام فلم يعين هذه الفرق، قال: (ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة)،لم يقل: الأولى من أهل النار، هي كيت وكيت وكيت، وأصولها كيت وكيت وكيت، ولم يفعل هكذا في كل فرقة من الفرق، وإنما بين أوصاف وعلامات وأمارات الفرقة الناجية؛ لأنها الأولى بالبيان؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام إذا بين صحة اعتقاد فرقة بعينها دل على أن غيرها من الفرق على معتقد باطل.
ويدل كذلك تعيين هذه الفرقة دون سواها أننا مطالبون ابتداء بمعرفة هذه الفرقة بجميع أصولها وقواعدها العامة الكلية؛ ثم اعتقاد أن بقية الفرق ما استحقت النار والخلود فيها إلا لأجل مخالفتها لهذا الحق الذي عليه الفرقة الناجية والطائفة المنصورة.
ولذلك لا يعجبني قط كما لا يعجب أحداً من أهل العلم انطلاق بعض المشايخ وأهل العلم في تعليم الطلاب ما هي الشيعة، وما هي القدرية، ومن هم الخوارج، ومن هم الروافض، ومن هم المعتزلة، ومن هم الأشعرية، قبل أن يتأهل المستمع في العقيدة السليمة، فإذا ترسخت هذه العقيدة في قلب السالك إلى الله عز وجل، وأصول الفقه والحلال والحرام والأخلاق والسلوك والآداب فلا مانع، وكثير ممن يفيق في هذا الزمان إنما يفيق بعد سن الأربعين، فلا يكفي ما تبقى له من عمر أن يدرس أصول هذه الفرق وفروع هذه الفرق، إنما يكفيك أن تنجو بنفسك، يقال: انج سعد فقد هلك سعيد.
الذي يلزمك لزوماً أكيداً أن تنطلق في البحث عن عقيدة أهل السنة والجماعة فتدرسها، وتتعلم أصولها وفروعها حتى لا تضل بك تلك الأهواء، وألا يدخل فيك داء الكَلَب الذي إذا دخل في كل عرق ومفصل منك لم يدع منك شاردة ولا واردة إلا أضلك فيها كما ضل من سبق.
والناظر في القرن الثالث الهجري في زمن أحمد بن حنبل يرى أن الولاة والأمراء والقضاة والحكام وغيرهم كانوا على الاعتزال -وهي فرقة باطلة-و أحمد رضي الله عنه وحده على الحق، ولذلك ناقشه رجل، وقال: يا أحمد لقد ظهر ما تزعم أنه الباطل على الحق الذي تزعم أنك عليه، ولو كان هذا باطلاً لم يكن له ظهور. فقال له أحمد: ومن قال لك أنه ظهر؟ لا والله ما ظهر، إنما الظهور انتقال القلوب من الحق إلى الباطل، أما قلوبنا فمستقرة بالحق بإذن الله.
فواحد على الحق يؤثر بل ويقض مضاجع أهل الباطل وإن كثروا؛ لأن الباطل لجلاج ضعيف هزيل، لا يصمد أمام كلمة حق واحدة.
انظروا إلى سلطان جائر لو خرج عليه رجل وقال له: اتق الله في حكمك واحكم بشرع الله، كيف سيهتز؟! ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، فعد النبي عليه الصلاة والسلام هذا من أعظم مراتب الجهاد، مع أنه كلام يقال باللسان من شخص لشخص يملك أمة، والأمة كلها معه، وإذا استطاع أن يعمل فيها الخوف أو السيف لفعل دون أن ينكر عليه أحد، ثم يقول له: اتق الله فأنت ظالم فاجر، ويقيمه على الجادة إن أراد الله تعالى وهو واحد.
وبعضهم قال: الجماعة هي: جماعة الصحابة على جهة الخصوص؛ لأنه لم يثبت أن صحابياً واحداً خرج عن منهاج النبوة، أو كان مع أصحاب الفرق الضالة، وأن الله تبارك وتعالى عصمهم في مجموعهم؛ وما وقع بينهم من الاختلاف إنما هو من باب الاختلاف السائغ المعتبر، أما الخلاف في أصول الدين وقواعده الكلية فلم يكن ذلك كما كان فيمن أتى بعدهم، ولذلك استحق الصحابة رضي الله عنهم يرضا الله تعالى عنهم، ورضا النبي عليه الصلاة والسلام وترضي أهل السنة والجماعة عنهم.. استحقوا أن يكونوا القدوة والأسوة بعد النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا أمر لا يتأهل له غيرهم ممن أتى بعدهم.
وبعضهم قال: إن القوم إذا اجتمعوا على أمير صاروا جماعة.
وربما يحدث هنا لبس، فتقول هذه الجماعات المتناثرة المترامية في الأرض شرقاً وغرباً: نحن الجماعة! وليس الأمر كذلك، بل المقصود جماعة الإمام الأعظم والخليفة العام الذي ينتظره كل مسلم، فهؤلاء الحكام والأمراء والزعماء والقواد والملوك ليسوا في حقيقة أمرهم خلفاء، وإن زعم بعضهم أنه خليفة، وأمر الخطباء والوعاظ والعلماء بالدعاء له على المنابر وفي محاضراتهم ودروسهم باسم الخليفة، ليس الأمر كذلك، بل الخليفة عند أهل السنة والجماعة هو من تولى أمر المسلمين عامة في الشرق والغرب على وجه الأرض، وعين الولاة والأمراء، فعينوا هؤلاء القضاة وحكام القرى والريف وغير هؤلاء.
فالخليفة الذي ننتظره بعد أن سقطت الخلافة العثمانية في تركيا على يد الهالك المجرم الغاشم الآثم الكافر مصطفى كمال أتاتورك لعنه الله، لما سقطت الخلافة على يديه سنة 1924م قامت هذه الجماعات مجتمعة لتسد بعض الثغرات التي نتجت عن سقوط الخلافة العثمانية، أو الخلافة الإسلامية.
هذه أقوال أهل العلم في بيان معنى الجماعة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
وبعد:
فهذه الفرقة الناجية والطائفة المنصورة هم أتباع أهل العلم إلى قيام الساعة، ولكن السؤال الذي دائماً يحير سائله: من هم أهل السنة والجماعة؟ ولماذا سموا بهذا الاسم؟
والسنة عند الفقهاء تعني مقابلة الفرض، فالسنة عند الفقهاء وعند أهل الفقه تختلف عن الفرض، فالظهر فرض وما قبله وما بعده من النوافل تسمى سنة.
على أي حال العلم شرف لأهله، ولذلك وردت آيات في كتاب الله عز وجل، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وأقوال سلف الأمة تبين فضل العلم والعلماء، وأن أحداً لا يوازيهم ولا يضاهيهم في الفضل والعلم والفكر والفهم والعمل والعبادة، ولذلك نص أهل السنة والجماعة على ذلك في كتب أصيلة عظيمة من كتب الإسلام، وأن أهل السنة والجماعة إنما يعرفون بعلامات وسمات وأمارات، ولذلك قال سفيان لـيوسف بن أسباط : يا يوسف ! إذا سمعت برجل من أهل السنة بالمغرب فأرسل إليه السلام، وإذا سمعت برجل من أهل السنة في المشرق فأرسل إليه السلام، فأهل السنة جزء واحد كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (والمسلمون يسعى بذمتهم أدناهم) قال العلماء: المسلمون في هذا الحديث يعني بهم عليه الصلاة والسلام أهل السنة، (يسعى بذمتهم أدناهم)، (والمؤمنون في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد)، (والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)، وقال عليه الصلاة والسلام: (وكونوا عباد الله إخوانا)، وغير ذلك من الأدلة التي وردت في الكتاب والسنة تدل على أن أهل السنة والجماعة هم من كانوا على أصول ثابتة وقواعد عامة كلية في الشريعة والاعتقاد، وإن تباعدت أوطانهم، واختلفت ألوانهم وألسنتهم.
وهذه الفرقة الناجية ما سميت ناجية إلا لنجاتها من النار، وما نجت من النار إلا لتمسكها بسنة النبي المختار صلوات ربي وسلامه عليه.
أما أهل السنة والجماعة والفرقة الناجية فإنهم جعلوا العقل تابعاً للنقل، الأصل عندنا قال الله. قال الرسول. أجمع العلماء، ثم قياس صحيح على هذه الأصول، وإذا اختلف العقل مع هذا النقل فلا يخرج الحل عن أحد أمرين:
الأمر الأول: أن النقل لا يثبت، ولذلك أنتم تسمعون دائماً في إذاعة القرآن الكريم وغيرها، أن النبي صلى الله عليه وسلم نقل عن ربه أن الله تعالى في الحديث القدسي قال: (وإني خلقت العرش من نور محمد، وخلقت محمداً من نور ربك يا
الأمر الثاني عند تعارض العقل والنقل: لابد أن نتهم عقولنا؛ لأن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق العقول وخلق أصحابها، وعلم ما يصلحها وما يفسدها: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، وشرع الله تبارك وتعالى شرعه ليصلح العباد والبلاد، لا لأجل أن يوقعهم في الاضطراب واللبس والحيرة، فالفساد صفة نقص لا تليق بالله عز وجل، ولذلك إذا تعارض حديثان في عقلك، أو دليلان في عقلك، أو دليل واحد مع عقلك فقل: آمنت بالله ورسوله، كما كان يفعل الصحابة رضي الله عنهم إذا سمعوا النص من كتاب الله أو سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنهم يسرعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه عن معنى الآية أو الحديث، فإذا بين لهم ذلك أخذوه وانطلقوا يقولون: آمنا بالله ورسوله، أما أن ترد النص وترد العقل لأول وهلة لأنه اختلف مع عقلك، فتحسن الظن بعقلك وتسيء الظن بالله ورسوله، فهذا كفر بواح، بل أنت مأمور أن تقول: سمعنا وأطعنا، وهذه علامة وآية على إيمانك واستسلامك وذلك وخضوعك بين يدي الله عز وجل العليم القدير.
أول أصل من هذه الأصول: أن تقدم كلام الله ورسوله أولاً، وما أجمع عليه أهل العلم، وكل ذلك مقدم على عقلك وفكرك، أن تسلم دائماً لله، ولذلك كثير من أصحاب الفرق الضالة أوقعهم فيما وقعوا فيه تقديمهم لأهوائهم وقلوبهم وعقولهم وأمزجتهم وأذواقهم ووجدهم؛ قدموا كل شيء وأخذوا كلام الله وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، فاستحقوا أن يضرب الله تبارك وتعالى عليهم العقوبة القدرية الدنيوية، التي هي عقوبة من ضل عن السبيل؛ بأن يجعله كبني إسرائيل يسير في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا، أصحابه يظنون أنهم على الهدى ويدعونه إليه، تعال معنا، فيذهب معهم فتتجارى به الأهواء، حتى تدخل منه في كل عرق ومفصل فلا يستطيع أن يترك هواه، كما أن من وقع في شهوة صعب عليه جداً أن يترك شهوته، فالبدع شر في التمكن من القلوب والأفئدة والعقول من تمكن هذه الشهوات.
اللهم احفظ عقولنا بالإسلام.. اللهم احفظ عقولنا بالإسلام.. اللهم احفظ عقولنا بالإسلام.. اللهم إنا آمنا بك وبرسولك، وآمنا بكتابك وسنة رسولك، فاحفظنا عليها قائمين، واحفظنا عليها قاعدين، واحفظنا عليها إلى يوم الدين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر