أما بعد:
فقد انتهى بنا الدرس إلى مقطوعة مؤلمة محزنة وهي قول المصنف: [اشتداد حلوكة الليالي والأيام على الحبيب عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام] ولكن قبل هذا نذكّر بنتائج وعبر المقطوعة السابقة: في شعب أبي طالب:
قال: [أولاً: بيان ما وصلت إليه قريش في الظلم والتعسف والجور، وذلك باتخاذها قرار المقاطعة الجائر الهادم لكل خلق وقيمة إنسانية] لما انهزمت بعثتها عند الملك أصحمة الحبشي وانتصر المهاجرون اشتد حنق المشركين، واشتد ظلمهم، فاتخذوا قراراً من أفظع القرارات -وقد اتخذته الأمم المتحدة في هذه الأيام على دولة عربية- هذا القرار هو حصار النبي صلى الله عليه وسلم وأقربائه في شعب أبي طالب ثلاث سنوات لا يباع لهم ولا يبتاع منهم، واتخذوا لهذا القرار ورقة كتبوها وعلقوها في الكعبة، حتى اضطر المؤمنون إلى أكل ورق الشجر وتقرحت شفاهم من أكله.
وهذا ابتلاء وامتحان، ومن صبر ظفر، فبعد ثلاث سنوات فرجت الأزمة، بعد أن تجلت حقيقة الصبر للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان ذلك بأن انبرى خمسة من رجال المشركين من ذوي المروءات وشنعوا على قريش جريمتها ونددوا بها في شجاعة، ثم أقدموا على الصحيفة فمزقوها، وقد عرفتم أن الأرضة أكلتها، ولم تبق منها إلا كلمة واحدة وهي: (باسمك اللهم). وهذه آية من آيات الله.
[ثانياً: بيان ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من أذى واضطهاد من كفار قريش
ثالثاً: بيان صبر المؤمنين وجلدهم وذلك في ذات الله عز وجل.
رابعاً: بيان أن أهل المروءة والكرم لا يخلو منهم زمان ولا مكان، والحمد لله] هؤلاء الخمسة الرجال الفحول هم الذين عزموا على نقض هذه الاتفاقية وبالفعل نقضوها.
[خامساً: تجلي آية النبوة المحمدية في أكل الأرضة الصحيفة الجائرة إلا اسم الله تعالى، وإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك] قبل أن تمزق الورقة [فكان الأمر كما أخبر] فداه أبي وأمي والعالم أجمع [إذ نزعت الصحيفة فلم يجدوا فيها إلا جملة: (باسمك اللهم)، وما عدا ذلك أكلته الأرضة.
فهذه خلاصة المقطوعة التي سبقت، والآن مع مقطوعة أخرى، والله أسأل أن يحملنا على الصبر حتى لا نبكي، فإن بكينا انقطع الدرس، وهي والله مبكية محزنة للمؤمنين الصادقين.
قال: [مرض أبو طالب مرضه الذي توفي فيه، وعلم به كفار قريش، فجاءوا يطلبون منه أن يفاوض لهم ابن أخيه علهم يظفرون بصلح معه قبل وفاة عمه] شعروا بخطورة مرض أبي طالب ، فحاولوا أن يتوسط لهم في صلح بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم [فبعث أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحضر] بعث إليه رسولاً أن احضر فامتثل أمره النبي وحضر [فقال له: يا ابن أخي!] أبو طالب قال للنبي صلى الله عليه وسلم، يا ابن أخي! وحقاً هو ابن أخيه، فـعبد الله أخو أبي طالب ، وكلاهما ابنا عبد المطلب ، ولكنها آداب رفيعة [هؤلاء أشراف قومك] أي علاتهم وساداتهم، من الشرف الذي هو العلو [قد اجتمعوا لك؛ ليعطوك وليأخذوا منك] أين درس أبو طالب ؟ كيف تحصل على هذه السياسة؟ في كلية السياسة في لندن؟ والله لا يساوون أبا طالب خريجو تلك الكليات.
وقد عرفتم تلك اللطيفة التي منّ الله بها علينا، وهي أن البشرية بدأت بكمالاتها العجب، ولا زالت تنمو المروءات والكرم والشجاعة والطهر والصفاء حتى بلغت سن الكهولة، ثم أخذ عمرها ينزل حتى أصبحت في هذه الأيام في حال الشيخوخة، لا تبالي بالفجور والشر والظلام والفساد، فلا حياء لا مروءة ولا كرم، لقد هبطت؛ وسبب ذلك -فيما أعلم- كبر سنها، فقد أوشكت على النهاية.
والواقع شاهد، فلا يوسوس لك شيطان، فنحن في آخر الأيام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( بعثت والساعة كهاتين )، ويقول الله عز وجل: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، وقد مضى من يوم بعثته صلى الله عليه وسلم ألف وأربعمائة سنة فكم بقي؟ فلهذا سوف تظهر العجائب وتقوم الساعة ولا يوجد من يقول: لا إله إلا الله، أو الله. فهذا الهبوط المشاهد في العالم مثله مثل الشيخ إذا كبر أصبح يهذر ويقول ما لا يعلم.
واسمع كلمات المشركين في صفائها ومكانتها وذوقها، أبو طالب يقول: يا ابن أخي! هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك؛ ليعطوك وليأخذوا منك، لا أنهم يأخذون بدون عطاء، ولكن بالعدل والإنصاف، أي: يعطونك شيئاً ينفعك ويأخذون منك شيئاً ينفعهم.
قال: [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( نعم كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم )] والعالم ما بين عرب وعجم، وأبيض وأسود [فقال أبو جهل : وأبيك وعشر كلمات] (وأبيك) يعني: حلف بأبيه أن يعطيه عشر كلمات ليس كلمة واحدة فقط [فقال صلى الله عليه وسلم: ( تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه )] أي: تبرهنون على أنكم قلتم هذا في صدق لا في نفاق بأن تخلعوا عبادة غيره عنكم. هذه هي الكلمة الواحدة التي تدين بها العرب بها العجم [فصفقوا بأيديهم] فرحين أم ساخطين؟ نحن نصفق إذا فرحنا كالنساء، إذاً هم خير منا في هذا الأمر!
والآن في المؤتمرات العربية والإسلامية إذا خطب الخطيب ورفع الهمم وقفوا يصفقون وهم قيام، كأنهم مجانين، وشاء الله وانتهت هذه البدعة مع الزعماء والأحزاب، قضى الله عليها، وفي مؤتمر عربي حضرناه ثلاثة من المملكة فقط، وحضره نساء العرب ورجالهم إلا ما كان من المملكة بلا نساء، كنا جالسين فقام الزعيم ليخطب وقاموا يصفقون فقلنا: لهم هذا منكر وهو تقليد للنصارى. فنحن إذا أُعجبنا بشيء سبحنا الله أو كبرناه، لا أننا نصفق كالنساء.
والمهم: أن المشركين لما سمعوا كلمة الحبيب صلى الله عليه وسلم صفقوا بأيديهم [وقالوا: أتريد يا محمد! أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً] إذاً صفقوا متعجبين من هذه الكلمة، كيف تصدر من عاقل مثل محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: [إن أمرك لعجب] يعني كيف تمحو الآلهة كلها أو تجمعها كلها في إله واحد؟ هذا غير ممكن! وكل إله يعبده قوم [ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل الذي يعطيكم شيئاً مما تريدون] عرفوا صلابته صلى الله عليه وسلم وعرفوا ثبات مبدأه ومنهجه، فقالوا: ما هو بالرجل الذي يعطيكم ما تريدون، يعني ايئسوا منه [فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه] وهذا كلام موحدين؛ لأنهم كانوا يؤمنون بالله ولكنها الشهوات والأهواء والتقليد [ثم تفرقوا وفيهم نزلت الآيات الأولى من سورة (ص_ وهي قول الله تعالى بعد بسم الله الرحمن الرحيم [ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص:1] إلى قوله: إِنْ هَذَا إِلَّا اختلاقٌ [ص:7]..] والآيات كاملة هي: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ [ص:1-2] عزة ظهرت في كلامهم! كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ * أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ [ص:3-8].
قال: [واشتد المرض بـأبي طالب فعاده الرسول صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده بعض المشركين]يعودونه؛ لأن عيادة المريض من أخلاقهم أيضاً وآدابهم مع كفرهم [فعرض عليه الشهادة] أي: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله [فقال] في عرضه لها عليه [( يا عم! قل لا إله إلا الله كلمة أُحاج لك بها عند الله يوم القيامة )] يعني: إذا قلتها ومت عليها أنا بإذن الله تعالى أطالب بنجاتك يوم القيامة بهذه الكلمة [فنظر أبو طالب إلى أشياخ الشرك حوله] الذين جاءوا يعودونه في مرضه [فقالوا له: أترغب عن ملة عبد المطلب ؟] بعد شاهدوا منه ملامح الرغبة في أن يجيب ابن أخيه ويقول الكلمة التي سيحاج له بها عند الله، فلما شاهدوا الحال قالوا هذه الكلمة الساحرة: أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ يعني هذه ملة أبيك وجدك، فكيف ترغب عنها بكلمة أخرى؟ [فقال: هو على ملة عبد المطلب ] وختم له بالموت على الشرك [ومات، فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم] حزن على موت عمه؛ لِما كان يحصل عليه من نصرته والوقوف إلى جنبه ودعمه في دعوته [فقال -صلى الله عليه وسلم:- ( لأستغفرن لك ما لم أنهَ عن ذلك )] وهذا الذي يملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واللام في قوله: (لأستغفرن) لام القسم، يعني: والله لأستغفرن لك ما لم أنه عن ذلك، أي: إن نهاني ربي فالأمر له [فأنزل الله تعالى من سورة التوبة: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113]] وسورة التوبة سورة مدنية، فالآيات كانت تنزل في مكة وبعد سنتين أو ثلاثة أو أربعة توضع في السورة المدنية؛ لأن القرآن نزل آيات وسور، لم ينزل نزل جملة واحدة كالتوراة والإنجيل. نعم هو موجود في اللوح المحفوظ كما هو، قال الله عز وجل: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:21-22]، لكنه نزل في ثلاث وعشرين سنة، فكان يقول لهم جبريل : ضعوها الآية الفلانية في المكان الفلاني، والرسول صلى الله عليه وسلم يبلّغ، وكتبة الوحي يضعونها، فالآية السابقة الذكر من سورة التوبة وسورة التوبة مدنية بحتة، ولكن هذه الآية وضعت في هذا المكان منها.
[وأخبر هو صلى الله عليه وسلم بعد: أن عمه أبا طالب في ضحضاح من نار يصل إلى كعبيه يغلي منه دماغه] بعدما مات ودخل النار، بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وأعلم بأن أبا طالب في النار، وأنه في ضحضاح منها يغلي منه مخه، ونظير هذا: عندما كان صلى الله عليه وسلم عائداً من مكة إلى المدينة، مر بالأبواء حيث توفيت والدته آمنة هناك في الجاهلية وهو صغير، والأبواء قريباً من رابغ، فوقف على قبرها يبكي طويلاً، فسأله أصحابه: ما أبكاك يا رسول الله؟! قال: ( بكيت؛ لأني استأذنت ربي في أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي )، لأن من مات ونفسه خبيثة بأوضار الشرك والآثام لا تقبل فيه شفاعة ولا يُرفع له صوت، حكم الله بهذا وانتهى، وقد أقسم الجبار بقسم العظيم، قال تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8]، وهي تسعة أو عشرة أيمان من أجل هذا الحكم الخطير، وهو: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].
فلهذا كن ابن من شئت، كن ابن موشي ديان -أخبث اليهود- وزك نفسك بالإيمان وصالح الأعمال، وأبعدها عن الشرك وأوضار الآثام، فلا يضرك كون أبيك يهودياً، ولا قيمة له، وكن ابن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم سيد الخلق، وخبث نفسك بأوضار الشرك والفسق والفجور فلا ينفعك النسب أبداً.
ولا تعجبوا فالقرآن شاهد، أن أبا إبراهيم ( آزر ) في النار، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بحادثة بأنه ( إذا قامت القيامة ووقف الناس في عرصاتها جاء إبراهيم إلى ربه وقال: أي رب! لقد وعدتني أن لا تخزني يوم القيامة وهذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أعظم من هذا الخزي؟! فيقول له الرب تبارك وتعالى: انظر تحت قدميك -لأنه واقف ويسأل- فينظر وإذا بأبيه
هذا إبراهيم مع وعد الله تعالى له في قوله: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:87-89]، ظن أن الله استجاب له.
وهذا نوح أبو البشرية الثاني عليه السلام، هل شفع في ولده كنعان ؟ لم يشفع، ولمّا سأل متعجباً: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ [هود:45] قال الله له: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46] وفي قراءة: (إنه عَمِلَ غير صالح) فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:46].
ولكن هبطت الأمة، وأصبح مشايخ الطرق والزوايا يعيشون على صدقاتها وإحسانها، على أن يشفعوا لمريديهم، وكانوا الناس -والله- يتصدقون بالبساتين عندما يضمن لهم الشيخ هذا، وكأنهم لا يقرءون القرآن، وهم يقرءونه ولكن على الموتى لا على الأحياء.
قال الله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا [التوبة:113] أي: نحن منهم ليس النبي وحده أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113] يعني أصحاب القرابة مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113]، وكل من مات على الشرك والكفر من أصحاب الجحيم، أما من مات على التوحيد وكان شارباً للخمر أو قاتلاً للنفس المحرمة فلا نحكم عليه بالنار ولا بالخلود فيها، بل نفوض أمره إلى الله عز وجل.
قال: [وبعد خمسين يوماً من موت أبي طالب تقريباً، ماتت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وتتابعت المصائب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتد الكرب وعظم الحزن. مات العم الذي كان عضداً قوياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حرزاً منيعاً] أي: له صلى الله عليه وسلم [وماتت بعده خديجة المؤنسة ساعة الوحشة، والمؤمنة المطمئنة ساعة القلق والخوف، وخلت الساحة للمشركين] وبدأ الكرب من جديد[فأخذوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يكونوا ينالونه من قبل، فقد رموا بالأقذار عليه] عقبة بن أبي معيط عليه لعائن الله جاء بسلا جزور من ساحة المروة أو الصفا ولما سجد صلى الله عليه وسلم وضع ذلك القذر على كتفيه، والمشركون يضحكون حول البيت، وجاءت فاطمة -وهي طفلة صغيرة- فأخذته من على ظهره ونالتهم سباً وشتماً، وهم أهلٌ لذلك، ولكن لمروءتهم أيضاً ما تكلموا عليها؛ لأنها صغيرة، أما لو كانوا من جماعتنا اليوم لألحقوها بأبيها، وغمسوا رأسها في السلا، لكن لهم ميزات رغم كفرهم.
إذاً: خلت الساحة للمشركين فأخذوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يكونوا ينالونه من قبل، أيام وجود عمه كالأسد إلى جنبه.
قال: [وعلى باب داره، بل وداخل الدار، حتى رموا بالقذر في القدر الذي يطبخ فيه] طعامه صلى الله عليه وسلم. ولكنه صبر، فأين صبرنا نحن؟ لو صبرنا عُشر صبره صلى الله عليه وسلم لارتفعت راية لا إله إلا الله في كل مكان.
يا عبد الله! ايئس من نجاة من مات على الشرك! ولهذا قامت دعوة المصلحين في هذه الديار، تحارب الشرك من أيام شيخ الإسلام إلى اليوم ونفع الله بها، وإلا كان ثلاث أرباع العالم الإسلامي مشرك، كانوا يقرءون القرآن ويشركون بالله، في الدعاء، والاستغاثة، والحلف، والنذر. وعورضت هذه الدعوة بأشد أنواع المعارضة، ومن تكلم بها قالوا: وهابي خامسي!! كانت الأمة هابطة، ولكن شاء الله أن يرحمها، فهيأ الأسباب وقامت هذه الدولة، ويسّر الله الاستقلال للعرب والمسلمين، وانتشرت دعوة الله، وأصبح الذين يعيشون على الشرك عدد قليل لا يساوي شيئاً، كانوا يحلفون بـ: لا ورأسك! والملح الذي أكلنا! وحق سيدي فلان، وينذرون للسيد فلان في النجاح والانتصار في الخصومة، وكان كل ذلك عبادة لغير الله بكل الوضوح.
فالحمد لله على حالنا الآن، فقد كان إخوانكم وآباؤكم يموتون إلى جهنم، فمن مات على الشرك لا ينفعه صلاة ولا صيام، واقرءوا قول الله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65] وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر