أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:53-55].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هيا نتدارس هذه الآيات.
قال ربنا جل ذكره: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ [النور:53]. هذا خبر، يخبر فيه تعالى بأن المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل في هذه المدينة النبوية هؤلاء المنافقون الذين أظهروا الإسلام في ألسنتهم، وأخفوا الكفر في قلوبهم ونافقوا؛ حتى يأمنوا على أرواحهم وأموالهم بين المسلمين، وأما الكفر فهو مستقر في نفوسهم، وتتجلى حقائقه من سلوكهم، وهي تدل على كفرهم وعلى نفاقهم. فاسمعوا الله تعالى يقول عنهم: وَأَقْسَمُوا [النور:53]، أي: حلفوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ [النور:53]. وبالغوا في الأيمان، فهم يقولون: والله .. وعزة الله .. وجلال الله .. وكمال الله، وأقسموا بالغوا في الإقسام، وحلفوا وبالغوا في الحلف، وحلفوا وبالغوا في أيمانهم على أنك لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ [النور:53] يا محمد! ويا رسول الله! أن يخرجوا إلى الجهاد وبالجهاد لَيَخْرُجُنَّ [النور:53]. وهذا لما يتخلفون عن الغزوة ولا يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فقد كانوا يعتذرون ببعض الأعذار، ويقولون: والله إن خرجتم يوم آخر لكنا معكم، كما قال تعالى هنا: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ [النور:53] يا رسول الله! بالخروج إلى الجهاد مرة ثانية بعدما وقفوا وحبسوا أنفسهم ولم يخرجوا لَيَخْرُجُنَّ [النور:53]، أي: معكم للقتال.
ثم قال تعالى لرسوله: قل لهم يا رسولنا! لا تُقْسِمُوا [النور:53]، أي: لا تحلفوا، فأقسم يقسم كحلف يحلف. فقال لهم: لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ [النور:53] إن أنتم أطعتم طاعة للرسول وإلى ما يدعوكم إليه فيكفي ذلك من الكلام والقول، وإن رفضتم الطاعة فأمركم مكشوف أيضاً.
ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [النور:53]. فهددهم وتوعدهم وكشف الستار عنهم؛ حتى يتوبوا توبة صادقة، وأما هذه الألاعيب وهذا الكلام وهذا الحلف فهذا كله لا معنى له، ولا قيمة له، بل اصدقوا الله ورسوله، واصدقوا في إيمانكم، واخرجوا مع رسولكم، وقاتلوا المشركين والكافرين.
وقوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوا [النور:54]، أي: قل لهم يا رسولنا! وبلغهم عنا: أن أطيعوا الله وأطيعوا الرسول بفعل الأمر وترك النهي. فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ [النور:54]، أي: على الرسول مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ [النور:54] أنتم أيها المنافقون! مَا حُمِّلْتُمْ [النور:54].
والرسول حمله الله أن يبلغ ويصبر، وقد يؤذى .. يسب .. يشتم، وقد يضرب وقد يقتل، ولكن يجب أن يبلغ دعوة الله، فهذه هي رسالته، وعليه ما حمل. وأنتم عليكم ما حملتم من واجب الإيمان، وطاعة الله وطاعة الرسول. هذا بيانه تعالى.
وقال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [النور:55] أولاً؛ إذ الإيمان أولاً، والعمل الصالح ثانياً؛ وهذا لأن من المستحيل أن تعمل الصالحات وأنت كافر؛ لأنك ميت قبل الإيمان، فإذا آمنت حييت، والحي يستطيع أن يقول ويفعل ويترك، وأما قبل الإيمان فلا حياة لك، ولا تؤمر بصلاة ولا زكاة. فلابد من الإيمان أولاً؛ لأنه بمثابة الروح للإنسان، ثم بعد ذلك يصدق إيمانك وأنك حقاً مؤمن في قلبك يصدقه عملك الصالح، فإن رفضت العبادة فإيمانك باطل، ولست والله بالمؤمن، والذي لا يعبد الله والله ما هو بمؤمن، ولو آمن بالله ربه وإلهه وأنه خلقه ورزقه لعبادته، وأن مصيره إليه في الدنيا والآخرة لم يستطع أن يعصيه، ويفسق عن أمره ويخرج. وهذا ليس معقولاً أبداً. ولهذا ضعاف الإيمان أعمالهم الصالحة قليلة، وأقوياء الإيمان أعمالهم الصالحة كثيرة؛ لأنهم قادرون على العمل، وأما فاقدو الإيمان فلا عمل صالح لهم؛ لأنهم لا يستطيعون أن يفعلوا خيراً.
وقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [النور:55] وعدهم لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55]. وهذا وعد عظيم. وقد تجلى هذا أولاً: في الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، إذ استخلفوا بعد رسول الله واحداً بعد واحد، وكانت مدة خلافتهم ثلاثين سنة. وقد أخبر الرسول بهذا قبل وفاته، فقال: ( الخلافة ثلاثون سنة، ثم ملك عضوض ). والثلاثون سنة كانت مدة الخلفاء الراشدين، فـأبو بكر استخلف سنتين، وعمر عشر سنوات، وعثمان اثنتي عشر سنة، وعلي ست سنوات. فمجموعها ثلاثون سنة، ثم انتقلت إلى ملك وملوك.
إذاً: هذه البشرى تناولت أولاً الخلفاء الراشدين، ثم هي بعد ذلك عامة إلى يوم الدين، فهي إلى الآن، وإلى ما بعد الآن، فمتى وجد من آمنوا حق الإيمان وعملوا الصالحات إلا استخلفهم الله في الأرض، وسادوا وحكموا.
وأضرب لكم مثلاً حياً: لما هبطت أمة الإسلام من علياء سمائها إلى الأرض بسبب كيد اليهود والنصارى والمجوس، واستعمرهم الشرق والغرب، وأيسوا أن يعود لهم دولة أو شأن في المستقبل، وهبطوا إلى الحضيض، قام عبد العزيز مع جماعة من رجاله، وعبدوا الله وآمنوا به، ووحدوا الله في عبادته، وأقبلوا على الله في صدق، فاستخلفهم الله، وملكهم هذه المملكة والله العظيم، وهذا وعد الله، فقد قال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ [النور:55]يحكمون ويسودون، كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور:55]. وهم بنو إسرائيل، ودولتهم في فلسطين كانت أعظم دولة، وقد استخلفهم بعد ما كانوا مشردين تائهين، فكانت دولة سليمان دولة عالمية بعد التشريد والهبوط؛ لأنهم آمنوا وعملوا الصالحات، فعادت إليهم دولتهم.
وقوله: كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور:55] هذا أولاً. وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [النور:55]. ويصبحون يعبدون الله بالدين الحق الذي هو الإسلام. وتم هذا والله، فما هي إلا خمس وعشرون سنة - أي: ربع قرن- إلا والإسلام في فارس وعاصمتها وفي بلاد الروم، وحدث هذا في خمس وعشرين سنة، وتم وعد الله في قوله: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ [النور:55] الذي كان يحارب من كل إنسان، ويكفر به كل إنسان، فقد تمكن، وأصبح سائداً، وأصبح الناس يعبدون الله به في الشرق والغرب، والشمال والجنوب. وهذا وعد الله في قوله: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [النور:55]. والدين الذي ارتضاه الله لعباده هو الإسلام، لا اليهودية ولا النصرانية، ولا المجوسية ولا البلشفية، فليس هناك دين ارتضاه الله لعباده إلا الإسلام فقط، الذي هو إسلام القلوب للرب، والوجوه له تعالى. فمن أسلم قلبه لله فأصبح قلبه لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، وأسلم وجهه لله، ولم يقبل بوجهه على صنم ولا حجر، ولا إنسان ولا غير ذلك، وجعل أمله ورجاءه ورحمته وخوفه كله في الله، فذلكم هو المسلم الذي أسلم الشيء أعطاه، فهو من أسلم يسلم، إذا أعطى الشيء، وأسلمت أنت وجهك وقلبك لله بمعنى: دخلت في الإسلام.
هذا معنى قوله تعالى: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [النور:55]. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: لا تقوم الساعة حتى يبلغ هذا الدين ما بلغت الشمس، وسيدخل كل بيت مدر أو وبر. فهذا الوعد قائم إلى الآن. ووالله أن أي دولة إسلامية تدخل في الإسلام بحق وصدق وتطبقه فوالله ليملكها الله الأرض بهذا الوعد، وقد أنجزه، فقد وعد قائلاً: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ [النور:55]. يخلفون غيرهم، فيسودون ويحكمون، ويعبدون الله ويدعون إلى عبادته، كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [النور:55]. ألا وهو الإسلام. وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55]. وقد كانوا في المدينة عندما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم في العام الأول والثاني لا يمشي أحدهم إلا بسيفه، ولا يذهب للتغوط إلا بسيفه، ولا ينام إلا وسيفه بين يديه وعند رأسه، فقد كان المشركون واليهود وكل الناس ضدهم، ومع هذا استجاب الله، وبدل الخوف أمناً، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( والله ليتمن هذا الدين حتى يخرج الرجل من صنعاء اليمن إلى حضرموت ) في الجنوب ( لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ). وتحقق هذا أيام عبد العزيز ، فقد كان والله يمشي الرجل في المملكة من المدينة إلى نجد .. إلى حائل .. إلى كذا لا يخاف إلا الله والذئب، ولا يسلب منه شيء. وهذا وعد الله عز وجل، فقد قال: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55]، أي: يعبدونني وحدي، ويطيعونني في أمري ونهيي، وعلى لسان رسولي في أمري ونهيي، ولا يشركون بي شيئاً من الشرك أو الشركاء، لا ولي ولا نبي، ولا ملك مقرب ولا غير ذلك أبداً، بل لا يعبدون إلا الله.
ثم قال تعالى -واسمعوا هذا، فهو وعيد وليس وعداً-: وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55]. وهذا الذي أصاب المؤمنين بعدما كفروا عبادة الله وتركوها، وأضاعوها وأهملوها، وفسقوا عن أمر الله، فقد أذلهم الله وفرقهم ومزقهم، وأصبح الخوف ينتابهم في كل مكان. فافهموا هذا الكلام الإلهي.
ثم جاء الوعد الإلهي: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم [النور:55] بالدولة والسلطان والحكم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ [النور:55] وجحد وأنكر وترك أمر الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55] والعياذ بالله تعالى.
فافهموا عن الله هذا الكلام. وهكذا يجب أن يقرأ القرآن في مساجدنا وفي بيوت ربنا كل يوم وطول العام، ولو عاش المسلمون على الجهل، ولم يجلسوا هذه الجلسة ولا مرة في العام والعياذ بالله لم يعلموا. ووالله إن ما تشاهدون من الظلم والفسق والفجور والكفر والهبوط والسقوط في آدابنا وأخلاقنا سببه الجهل بالله وبآياته، وأقسم بالله. ولست واهماً في هذا، بل الدليل القاطع على هذا: ادخل أي قرية واسأل أهلها من أصلحهم، فإذا قالوا: فلاناً فستجده أعلمهم بالله ولقائه والله العظيم، وستجد أفجرهم أجهلهم بالله ولقائه، ولا شك في هذا.
يقول الشارح غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم: [ معنى الآيات:
مازال السياق الكريم ] أي: سياق الآيات وحديث الله [ في ذكر أحوال المنافقين، فأخبر تعالى عنهم بقوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ [النور:53]، أي: أقسموا للرسول صلى الله عليه وسلم مبالغين في ذلك، حتى بلغوا غاية الجهد، قائلين: لئن أمرتنا بالخروج إلى الجهاد لنخرجن معكم. وهنا أمر تعالى رسوله ] صلى الله عليه وسلم [ أن يقول لهم: لا تُقْسِمُوا ، أي: ما هناك حاجة إلى الحلف وتأكيده، وإنما هي طاعة منكم معروفة لنا، تغنيكم عن الأيمان ] فدعوا الأيمان وأطيعوا واستجيبوا.
[ وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [النور:53]، تأنيب لهم وتأديب حيث أخبرهم تعالى بأنه مطلع على أسرارهم، وما يقولونه ويعملونه في الخفاء ضد الرسول والمؤمنين.
ثم أمر تعالى رسوله أن يقول لهم: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، في كل ما يأمران به وينهيان عنه. فَإِنْ تَوَلَّوا ، أي: تعرضوا عن الطاعة وترفضوها فإنما على الرسول ما حمل من البلاغ والبيان، وعليكم ما حملتم من وجوب الانقياد والطاعة، ومن أخل بواجبه الذي أنيط به فسوف يلقى جزاءه وافياً عند ربه.
وقوله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ، هذه الجملة عظيمة الشأن جليلة القدر للمؤمن، أن يحلف بالله ولا يحنث، على أن من أطاع رسول الله في أمره ونهيه لن يضل أبداً، ولن يشقى. فالهداية إلى كل خير كامنة في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ] فقوله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ ، أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالهداية إلى كل خير كامنة وموجودة في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا . فقلها وتغن بها إلى يوم القيامة، فمن أطاع الله والله اهتدى إلى كل خير، ومن عصى رسول الله شقي وخرج عن كل خير.
[ وقوله تعالى: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]، أي: ليس على الرسول هداية القلوب، وإنما عليه البلاغ المبين لا غير، فلا تلحق الرسول ] صلى الله عليه وسلم [ تبعة من عصى فضل وهلك ] أبداً. فالرسول بريء من هذا.
[ وقوله تعالى في الآية (55): وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ، أي: صدقوا الله والرسول، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، فأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وعدهم بأن يستخلفهم في الأرض، أي: يجعلهم خلفاء حاكمين في أهلها، سائدين سكانها، استخلافاً كاستخلاف الذين من قبلهم من بني إسرائيل، حيث أجلى الكنعانيين والعمالقة من أرض القدس، وورثها بني إسرائيل ] على عهد داود وسليمان.
[ وقوله ] تعالى: [ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ، وهو الإسلام، فيظهره على الدين كله، ويحفظه من التغيير والتبديل والزوال إلى قرب الساعة ] وصدق الله.
[ وقوله تعالى: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ، إذ نزلت هذه الآية والمسلمون خائفون بالمدينة، لا يقدر أحدهم أن ينام وسيفه بعيد عنه؛ من شدة الخوف من الكافرين والمنافقين، وتألب الأحزاب عليهم. ولقد أنجز تعالى لهم ما وعدهم، فاستخلفهم وأمكن لهم، وبدلهم بعد خوفهم أمناً، فلله الحمد والمنة.
وقوله ] تعالى: [ يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ، هذا ثناء عليهم، وتعليل لما وهبهم وأعطاهم، يعبدونه لا يشركون به شيئاً، وقد فعلوا، وما زال بقاياهم من الصالحين إلى اليوم يعبدون الله وحده، ولا يشركون به شيئاً. اللهم اجعلنا منهم ] واحشرنا في زمرتهم.
[ وقوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55]، وعيد وتهديد لمن كفر بعد ذلك الإنعام العظيم والعطاء الجزيل، فأولئك هم الفاسقون عن أمر الله، الخارجون عن طاعته، المستوجبون لعذاب الله ونقمته، عياذاً بالله، ولا حول ولا قوة إلا بالله ] وقد أصاب هذا المسلمين.
[ من هداية الآيات:
أولاً: مشروعية الإقسام بالله تعالى، وحرمة الحلف بغيره تعالى ] فمأذون لنا أن نحلف بالله، ولكن يجب أن نكون صادقين في حلفنا، وألا نكون كاذبين، فمن حلف كاذباً انغمس في الإثم، ثم في جهنم، والعياذ بالله. وثانياً: يحرم الحلف بغير الله، وما دام أذن في الحلف به فقد حرم ونهى عن الحلف بغيره، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر: ( ألا إن الله ورسوله ينهيانكم عن الحلف بغير الله، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ).
[ ثانياً: عدم الثقة في المنافقين؛ لخلوهم من موجب الصدق في القول والعمل، وهو الإيمان ] فمن هداية الآيات التي تدارسناها: عدم الثقة في المنافقين، فيجب ألا نثق في المنافق إن قال؛ لأنه يقول بلسانه وهو عازم على العمل بخلافه بقلبه. والمنافق هو الذي يظهر الإسلام وقلبه فارغ من الإيمان، ولم يؤمن بالله ولا برسوله، ولا بكتاب الله ولا بلقائه، ويتظاهر بالإيمان؛ ليعيش مع المسلمين آمناً على بدنه وماله. فهذا المنافق إذا عرف لا يوثق فيه، فالثقة فيه ممنوعة، ولا يصدق بشيء.
[ ثالثاً: طاعة رسول الله موجبة للهداية؛ لما فيه من سعادة الدارين، ومعصيته موجبة للضلال والخسران ] فمن هداية هذه الآيات كما علمتم: طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر والنهي موجبة لسعادة الدنيا والآخرة، ومعصيته وعدم طاعته موجبة أيضاً للخسران في الدنيا والآخرة، فقد قال تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54]. وهذا خبر، فمن أطاع رسول الله اهتدى، ومن عصاه ضل وغوي وهلك.
[ رابعاً: صدق وعد الله تعالى لأهل الإيمان وصالح الأعمال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ] فقد صدق وعد الله تعالى في قوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم [النور:55]. وقد أنجز لهم ما وعدهم، فحكموا وسادوا في الشرق والغرب، وانتصرت دعوة الله عز وجل، وزال ذلك الخوف وذلك الاضطراب الذي كان في أول الأمر. فهذا وعد الله عز وجل، وقد أنجزه. ومع العلم والله العظيم لو أن أهل دولة من دول المسلمين في الشرق أو الغرب تظهر مظهر الصدق والوفاء وتعبد الله وتدعو إليه فإنها إذا غزت نصرها الله عز وجل، ونشرت الإسلام، ومكن لها.
[ خامساً: وجوب الشكر على النعم بعبادة الله تعالى وحده بما شرع من أنواع العبادات ] فيجب الشكر لله تعالى على أنه خلقنا ورزقنا، وخلق الحياة كلها من أجلنا، وعلى أنه أرسل رسوله إلينا، وأنزل كتابه علينا، وهدانا إلى دينه وصراطه المستقيم، وإن لم نشكر هذه النعمة فإنها تسلب منا، والعياذ بالله. فيجب علينا أن نشكر الله بعبادته وطاعته وطاعة رسوله، وإلا فإنها تسلب منا كما حصل، فقد سلبت.
[ سادساً ] وأخيراً: [ الوعيد الشديد لمن أنعم الله عليه بنعمة أمن ورخاء، وسيادة وكرامة، فكفر تلك النعم ولم يشكرها، فعرضها للزوال ] فيجب أن نذكر هذه. ونبدأ أولاً بالحاضر، فقد كنا مستعمرين لفرنسا وإيطاليا، وأسبانيا وبريطانيا، وبلجيكا وهولندا، ثم نصرنا الله عز وجل بدعوة الإسلام، فعدنا واستقللنا. فلا نعرض عن تطبيق شرع الله، ولا نكفر تلك النعمة، ولا نسمح بأن تضاع الصلاة بيننا، وتمنع الزكاة، ولا يؤمر بمعروف، ولا ينه عن منكر؛ لأن معنى هذا: أننا ما شكرنا النعمة، وإذا فعلنا هذا والله لتسلب، فإما أن نشكر وإما تسلب. وهذه سنة الله في الخلق ولو بعد ألف سنة، فقد قال تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر