فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فمع الباب الحادي عشر والأخير من كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات وهو (باب: في دية الجنين ووجوب الدية في قتل الخطأ وشبه العمد على عاقلة الجاني).
الدية تكون في القتل العمد على القاتل إذا عفا أهل القتيل عن القصاص، بخلاف القتل الخطأ أو شبه العمد فإن الدية على العاقلة، وسميت العاقلة بهذا الاسم؛ لأنها تأتي بالدية وتعقلها في دار أولياء القتيل.
فقوله: (باب دية الجنين). أي: باب إثبات دية الجنين ووجوب الدية في القتل الخطأ، إلا أن يعفو الأولياء. وكذلك وجوب الدية في شبه العمد على عاقلة الجاني. وهناك فرق بين قتل العمد، وشبه العمد، والخطأ؛ لأن هذه الصور الثلاث يتم بها القتل، فمنه ما يكون عمداً كأن يقصد قتل فلان بمحدد، أو بمثقل، أو بآلة من شأنها القتل، فيضربه بها فيقتله، ويزداد هذا العمد بظروف أخرى ربما يكون لها تأثير فيما يسمى عند الفقهاء بالإصرار على القتل، كأن يحمل معه آلة من شأنها القتل كالسكين، أو غير ذلك، أو أن يتلصص أو يختبأ للمجني عليه في مكان يعلم يقيناً أن المجني عليه يمر به عادة الساعة الفلانية أو في الوقت الفلاني، أو أن يكون الظرف يساعد على إيقاع الجريمة كالليل مثلاً، سواء كانت جريمة قتل أو جريمة سرقة أو غير ذلك. وشبه العمد: هو استخدام آلة غير قاتلة ووقع بها القتل، هو أراد أن يضرب فلاناً لا أن يقتله، فلما ضربه بآلة ليس من شأنها القتل قتل، وربما أراد أن يقتل فلاناً من الناس فضربه بسهم فأصاب السهم رجلاً آخر. فهذه صورة الخطأ لا تنفي عنه عقوبة شبه العمد؛ لأنه تعمد القتل عموماً، ولكنه لم يقتل من تعمده إنما قتل شخصاً آخر، ويميز هذا من ذاك الآلة التي استخدمها، وهذا قد تكلمنا فيه بالتفصيل في الدروس الماضية.
[وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث -وهو ابن سعد- عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرة عبد أو أمة)] هذا الحكم والقضاء منه عليه الصلاة والسلام في الحادث الذي عرض عليه، وهو أمر المرأتين أحدهما من لحيان والثانية من هذيل، وكانتا تحت رجل واحد، فكلاهما ضرة للأخرى، فقامت إحداهما إلى الثانية فضربتها فسقط الجنين ميتاً، فقضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعل ديته غرة عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضي عليها بالغرة توفيت. (عليها هنا بمعنى لها). أي: قضي لها بالغرة، وهي أم الجنين، فالمجني عليها هي التي ماتت لا الجانية. [(فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها)]. أي: ميراث هذه الأم وهي المجني عليها لأولادها وزوجها. [(وأن العقل على عصبتها)]. والضمير في عصبتها يعود إلى الجانية، وهذه الرواية ظاهرها مشكل جداً لكن هذا هو التأويل الصحيح الذي يوافق الرواية الصحيحة التي جاءت عند البخاري (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرة عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضي لها بالغرة توفيت) أي: فكانت هي وجنينها في عداد الموتى. (فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: فحكم- بأن ميراثها لبنيها وزوجها -أي: لأولادها وزوجها- وأن العقل -أي: أن الدية- على عصبة القاتلة) وجعل الدية على العصبة؛ لأنها لم تتعمد القتل ولو تعمدت لوجبت الدية في مالها دون عصبتها.
قال: [حدثنا أبو الطاهر قال: حدثنا ابن وهب (ح) وحدثنا حرملة بن يحيى التجيبي قال: أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس -وهو ابن يزيد الأيلي- عن ابن شهاب عن ابن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها -يعني: هي وجنينها- فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معه)]. الضمير في قوله: (ورثها) يرجع إلى المقتولة. أي: جعل ميراثها خاص بزوجها وأبنائها. [فقال حمل بن مالك بن النابغة الهذيلي : (يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل)] فـحمل بن النابغة يعترض على النبي عليه الصلاة والسلام، وهو من عصبة القاتلة، فهو يقول: كيف أدفع دية الأم ودية الجنين لزوج المقتولة وإخوة الجنين والذي سقط ميتاً، فلا هو أكل، ولا شرب، ولا استهل صارخاً. يعني: لم ينزل صارخاً، أو متحركاً، أو ضاحكاً، ولم تكن فيه حياة قط. ثم قال: ومثل ذلك يطل. ومعنى يطل. أي: يهدر ولا يضمن. كأنه قال له: مثل هذا الذي ينزل ميتاً لا دية له، فكيف تحملني أن أدفع ديته غرة، وأن أدفع الدية كاملة لأمه التي ماتت فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(إنما هذا من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع)] والسجع هو: موافقة أطراف الكلام أو أطراف الجمل، ووزن السجع جميل لكنه أقبح ما فيه أنه اعتراض على النبي عليه الصلاة والسلام ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إنما هذا -أي:
قال: [حدثنا عبد بن حميد قال: أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: (اقتتلت امرأتان) وساق الحديث بقصته السابقة ولم يذكر (وورثها ولدها ومن معه) وقال: (وقال قائل)] الذي هو حمل بن النابغة ](كيف نعقل)] ففي هذه الرواية ذكر كلامه ولم يسم من القائل، الذي هو حمل.
[وحدثني محمد بن رافع حدثنا يحيى بن آدم حدثنا مفضل عن منصور عن إبراهيم عن عبيد بن نضيلة عن المغيرة بن شعبة : (أن امرأة قتلت ضرتها بعمود فسطاط، فأتي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى على عاقلتها بالدية، وكانت حاملاً فقضى في الجنين بغرة. فقال بعض عصبتها: أندي من لا طعم، ولا شرب، ولا أكل، ولا استهل، مثل ذلك يطل)].
ومعنى (أندي) من الدية. يعني: كيف نجعل له دية وهو لم يأكل ولم يشرب ولم ينطق ولم يستهل حياً. يعني: لم يعطس ولم يضحك، ولم يصرخ، ولم يتحرك. فهذه علامات الحياة، فكيف ندفع له الدية وقد نزل ميتاً؟
[فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (سجع كسجع الأعراب)] فهو ينكر على هذا السجع.
قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن المثنى وابن بشار قال: حدثنا محمد بن جعفر -غندر- عن شعبة عن منصور بإسنادهم الحديث بقصته غير أن فيه: (فأسقطت -أي: المرأة المضروبة أسقطت جنينها- فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى فيه بغرة وجعله على أولياء المرأة)] أي: على أولياء القاتلة. وهم الذين يسمون بالعصبة. ولم يذكر في الحديث دية المرأة استغناءً لما ذكره في بقية الطرق، أو أن السائل إنما سأل عن حكم الجنين إذا سقط ميتاً بأذىً وقع على أمه فذكر الشاهد من الحديث ولم يذكر الحديث بتمامه.
هذا الإسناد مما استدركه الدارقطني على الإمام مسلم وقال: هو مما أخطأ فيه مسلم ؛ لأن الصواب هو: عن هشام بن عروة عن أبيه: أن عمر سأل الناس. إلى آخر الحديث.
وقال الدارقطني : الصواب عدم ذكر المسور بن مخرمة ، وإنما هو من طريق المغيرة بن شعبة وهو محفوظ للمغيرة. وقال: وهذا الإسناد على جهة الخصوص هو من طريق هشام بن عروة عن أبيه: أن عمر سأل الناس، فعلى هذا يكون هذا من المراسيل، أو الإسناد المنقطع؛ لأن عروة بن الزبير لم يدرك عمر ؛ لأنه كان صغيراً، فليس لـعروة رواية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
والإمام النووي دفع هذا القول للدارقطني وقال: هذا لا يصح. والصواب: أن هشام بن عروة حفظ ذلك من طريق المسور بن مخرمة ، ولا يستقيم الإسناد إلا بذكر المسور حتى لا يكون هناك انقطاع، وإن كان فإن هذا أمر لا يعنينا.
ولو رجعت إلى كتاب العلل للإمام الدارقطني ستجد كلاماً طويلاً جداً في إسناد هذا الحديث، أخذاً ورداً في هذا الإسناد.
والحقيقة أن كثيراً من الإخوة دائماً يكتبون لي رسائل فيها مسائل في الفقه تقول: عند شرحك للحديث تذكر الفوائد التي فيه، وليس هذا مجال التعمق في دراسة هذه المتون؛ لأن الدرس ليس درس فقه، ولا تشرح الأسانيد ولا تتكلم عن العلل وعن الرواة جرحاً وتعديلاً.
وهذا صحيح، فأنا فعلاً أفعل هذا، وذلك لأني لا أستوعب الكلام عن الإسناد، كما أني لا أغوص في شرح هذه النصوص، والعلة تكمن فيكم أنتم؛ لأننا لما فعلنا ذلك في مكان ما من الأماكن، وتكلمنا عن ثلاثة أسانيد أكثر من ثلاثة أشهر، نتكلم عن الرواة جرحاً وتعديلاً، ونتكلم عن العلل وغيرها، فأبى هؤلاء أن يحضروا بعد ذلك، وقالوا: لا حاجة لنا أن نسمع ساعتين كاملتين في ترجمة راوٍ واحد، فـوكيع بن الجراح رجل ثقة ويكفي، وسفيان الثوري لا يحتاج إلى كلام، فإنه وسفيان بن عيينة كلاهما اتهما بالتدليس. ولما يقول ابن منده : البخاري مدلس، فإننا نقف عند هذه العبارة وندفع قول من قالها أو اتهمه بتدليس، لكن لا بد أن ندفع هذه التهمة بأدلة وإلا فلا يصح دفعها، وهذا من باب حب البخاري ، وإلا فالتأصيل العلمي لا يعرف للعاطفة سبيلاً.
[قال المسور بن مخرمة : استشار عمر بن الخطاب الناس في ملاص المرأة -والملاص هو الجنين الذي يسقط قبل أوانه- فقال المغيرة بن شعبة : (شهدت النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى فيه بغرة عبد أو أمة) فقال عمر : ائتني بمن يشهد معك، فشهد له محمد بن مسلمة]. يعني: شهد في مجلس عمر مع المغيرة بن شعبة أن النبي قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة.
قال: (قال الجوهري: كأنه عبر بالغرة عن الجسم كله). لأن الأصل في الغرة هي في الجبهة، والنبي عليه الصلاة والسلام لما أراد بهذه الدية الغرة لم يرد بها جبهة العبد أو جبهة الأمة، وإنما عبر عن الكل بالجزء، أو أطلق الجزء وأراد الكل، كما في عتق رقبة. وأصل الغرة بياض في الوجه. ولهذا قال أبو عمرو: المراد بالغرة: الأبيض منهما خاصة. يعني: سواء كان ذلك عبداً أو أمة، لأنه لو كان الأسود مراد النبي عليه الصلاة والسلام فلا قيمة أن يذكر الغرة، وسوف يقول: دية الجنين عبد أو أمة. وإنما قال: (غرة عبد أو أمة) ليثبت أن المراد هو الحسن والجمال في العبد أو الأمة الذي جعل دية لهذا الجنين.
قال أبو عمرو : ولا يجزئ الأسود، ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد بالغرة معنى زائداً على شخص العبد والأمة لما ذكرها. فالمعنى الزائد هو: أن يكون عبداً أبيضاً مليحاً، أو أمة بيضاء أو حسناء، أو زهية، أو غير ذلك، لأن الفرس الأغر هو الفرس الذي في وجهه بياض، كما جاء في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام زار المقبرة فقال: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمؤمنات يغفر الله لنا ولكم، ليتنا نرى إخواننا. فقالوا: يا رسول الله أولسنا إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني يأتون من بعدي يؤمنون بي ولا يروني) نسأل الله أن نكون كذلك، وألا نكون مبدلين ولا مغيرين فنطرد عن الحوض.
(قالوا: يا رسول الله! كيف تعرفهم؟ قال: يأتون غراً محجلين). فالغرة بياض في الجبهة. والتحجيل بياض في الساق. (من آثار الوضوء). أي: بسبب الوضوء (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل). ولذلك أبو هريرة رضي الله عنه كان إذا توضأ شمر عن عضديه وساقيه فجعل الماء يبلغ إبطه. يعني: كان يغسل ذراعه إلى حد الإبط، وكان يتخبأ إذا فعل ذلك، وكان يغسل رجليه حتى يبلغ ركبتيه، فلما رآه أو اطلع عليه أحد أصحابه قال: يا أبا هريرة ماذا تصنع؟ قال: أو قد رأيتني، إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تبلغ الحمية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء) والحمية أي: تبلغ الغرة والتحجيل من المؤمن حيث يبلغ الوضوء. فـأبو هريرة ما ترك ذلك قط بعد أن سمع هذا الحديث من النبي عليه الصلاة والسلام، والشاهد من ذلك كله: أن الغرة بياض في الوجه، ولولا أن النبي عليه الصلاة والسلام أراد اختيار الأمة الحسناء أو العبد الجميل المليح أن يكون دية للجنين الذي مات بسبب الاعتداء على أمه لما كان لقوله: (غرة) معنى؛ فدل ذلك على أن المراد بالغرة معنى زائد على مجرد أن هذا عبد أو أمة، وهو الحسن، أو الشيء النفيس.
قال الإمام النووي : وهو خلاف ما اتفق عليه الفقهاء. يعني: أبو عمرو يقول: لا يجزئ الأسود بل لا بد أن يكون صاحب حسن، وجمال. لكن الإمام النووي يقول: هذا القول من أبي عمرو خلاف ما اتفق عليه الفقهاء أنه يجزئ فيها السوداء ولا تتعين البيضاء، وإنما المعتبر عندهم أن تكون قيمتها عشر دية الأم.
ونحن نعرف أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، وإذا كانت دية الرجل مائة بعير فدية المرأة خمسين بعيراً، فإن دية الجنين عُشر دية الأم. أي: خمسة أبعرة.
قال: (وإنما المعتبر عندهم أن تكون قيمتها عشر دية الأم، أو نصف عشر دية الأب. قال أهل اللغة: الغرة عند العرب هي أنفس الشيء وأطلقت هنا على الإنسان؛ لأن الله تعالى خلقه في أحسن تقويم، وأما ما جاء في بعض الروايات في غير الصحيح (بغرة أمة، أو عبد، أو فرس، أو بغل) فرواية باطلة، وقد أخذ بها بعض السلف. وحكي عن طاوس وعطاء ومجاهد : أنها عبد، أو أمة، أو فرس. وقال داود: كل ما وقع عليه اسم الغرة يجزئ؛ فالغرة هي: عبد، أو أمة. ومن قال أنها فرس أو بغل فهذا قول لم يصح به الدليل، حتى وإن أخذ به بعض أهل العلم.
(وحكى القاضي عن بعض العلماء: أن الجنين كعضو من أعضاء الأم فتكون ديته لها خاصة؛ لأنه انسلخ عنها فكان كما لو وقع الاعتداء على ذراعها فقطع، أو أذنها، أو أنفها، أو أي جزء أو عضو من أعضائها).
لكن مذهب الجمهور هو الصواب: أن الجنين عضو منفصل عن الأم. والقول فيه أو في ديته: أن الورثة يرثونها.
واعلم أن المراد بهذا كله إذا انفصل الجنين ميتاً؛ أما لو نزل حياً ثم مات فإن فيه دية كاملة، وهي مائة من الإبل؛ لأن هذا اعتداء على نفس حية، فلو أنه استهل صارخاً، أو متحركاً، أو باكياً، أو غير ذلك وعلمت حياته ثم مات بسبب الضربة ففي هذه الحالة سيأخذ الدية كاملة؛ لأنها دية النفس. فلو أن شخصاً ضربك بسكين فقعدت أربعة أيام في المستشفى وبعد ذلك مت، وقرر الأطباء أنه بسبب الضربة، فإنه يعد قتل عمد، والقتل العمد فيه قصاص.
وإذا نزل الجنين حياً ثم مات فتجب فيه الدية كاملة، فإن كان ذكراً وجب مائة بعير، وإن كان أنثى وجب خمسون بعيراً، وهذا مجمع عليه.
والدية التي هي الغرة تكون على العاقلة، واختلاف الفقهاء فيما يتعلق بأنها على الجانية نفسها لا على العاقلة، لأن مذهب الجمهور أن هذه المرأة لما ضربت الأخرى على بطنها فأسقطت جنينها ميتاً لم تكن تقصد القتل.
الجمهور قالوا: الأصل عدم توجه الإرادة والقصد إلى قتل الجنين، بل هي من العداوات التي تكون بين الضرائر، والقانون المصري يعتبر أن من ضرب شخصاً على ظهره فمات أن هذا قتل شبه عمد، وهذا من الإجرام، أنهم لم يعتبروه قتل خطأ وإنما قتل شبه عمد، وهذا بصراحة إجرام لا يمكن أن يكون هذا دين أبداً، هذا قتل خطأ، غير متعمد للقتل، ولم تتوجه الإرادة لقتله وإنما ضربه لينفعه فضره بذلك بغير قصد.
وحجتهم أنهم قالوا: كان ينبغي أنه يتوقع أنه سيموت من هذه الضربة، مثل المرأة لما تمسك فسطاط حديد أو تأتي بحجر وتضرب به ضرتها، لكن ربما لم تقصد أنها تضربها في بطنها، ربما أرادت أن تضربها في ظهرها فأدارت جسمها فوافق الحجر إليها فأصاب بطنها مع أنها قصدت أن تضربها في ظهرها، لكنها ابتداءً تعمدت وقوع الضرر والأذى، لكن قصدها ونيتها لم تنصرف إلى قتل الأم ولا إلى قتل الجنين، فكيف يتفق أن تكون هذه الصورة شبه عمد؟
ولذلك الذي يترجح هو المذهب الأول: أن المرأة التي ضربت ضرتها إنما قصدت إيقاع الضرر الذي يكون بين الضرائر لا أنها قصدت بضربها أن تسقط الجنين، أو أن تميته في بطنها. والذي يترجح: أن هذا القتل الذي تم لهذا الجنين ونزل ميتاً إنما تجب فيه الدية، وديته على العاقلة؛ لأن القتل قتل خطأ، وليس كل ضرب بحديد أو بحجر يقصد الضارب إيقاع القتل به، لا يلزم منه ذلك، ولذلك قد ورد في طرق هذه الروايات أن الأم وجنينها قد ماتا، أما الأم فديتها كاملة وهي خمسين بعيراً، وتجب على العاقلة. ومنهم من قال: بل تجب على الجانية. أما الجنين فالقول الراجح فيه: أن دية الجنين على العاقلة؛ لأن الضارب أو الضاربة لم يقصدا إحداث الموت، وإزهاق الروح.
قال: (متى وجبت الغرة فهي على العاقلة لا على الجاني. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وسائر الكوفيين).
قال: (فيكون شبه عمد تجب فيه الدية على العاقلة، ولا يجب فيه قصاص، ولا دية على الجاني. وهذا مذهب الشافعي والجماهير).
وقوله هذا عند العلماء على وجهين:
الوجه الأول: أنه عارض به حكم الشرع، ورام إبطاله.
وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما هذا من إخوان الكهان) يحتمل معنيين:
المعنى الأول: أنه اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم في حكمه ورام إبطال الشرع في هذه القضية.
المعنى الثاني: أنه تكلف في مخاطبته، وربما لم يقصد الرجل إبطال الشرع وإنما قصد إلحاق السجع أو إيجاده، فعابه النبي عليه الصلاة والسلام عليه؛ لأنه تكلفه، والسجع المتكلف مذموم، بخلاف السجع الذي ليس فيه تكلف، وفي القرآن من السجع الذي لا تشعر فيه بالتكلف، وفي كلام النبي صلى الله عليه وسلم من الكلام الذي هو مسجوع بغير تكلف الشيء الكثير، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يحسن قرض الشعر، وإنما كان أحياناً إذا أراد أن يقول شعراً صحح شعره أبو بكر الصديق ، فيرد عليه ويقول له: لا يا رسول الله! الأمر ليس على ما قلت، الأمر كذا وكذا، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلف الشعر، ولم يتعمد إيجاد السجع، وإنما كان أحياناً في كلامه سجع غير متكلف.
ولذلك قال: (وهذان الوجهان من السجع المذمومان، أحدهما الذي فيه تكلف، وأما السجع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله في بعض الأوقات وهو المشهور في الحديث فليس من هذا؛ لأنه لا يعارض به حكم الشرع ولا يتكلف).
إذاً: السجع في الشعر المذموم هو الذي يدعو إلى الرذيلة، أو يكون متكلفاً فيه السجع، أو يعارض الشرع، أما الشعر الذي يدعو إلى الفضيلة ويثبت الأحكام، أو يشهد للقرآن أو السنة فهذا كلام جميل، وهو من كلام العرب، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يقال بين يديه الشعر الجميل الحسن فلا ينكر ذلك، بل طلب عليه الصلاة والسلام من حسان بن ثابت أن يقوم فيرد على المشركين قولهم، فقام وقرأ الشعر بين يديه، وفي هذا إقرار النبي عليه الصلاة والسلام لـحسان بن ثابت وغيره.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (إن من البيان لسحرا) البيان هو الفصاحة، والشعر باب من أبواب البيان، فيشهد لما قلناه.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً) المراد به: الشعر المتكلف الذي يدعو إلى الرذيلة، أو يعارض به حكم الشرع، وهذا جمع بين الروايات التي وردت تمدح الشعر في ناحية، وتذم الشعر في ناحية أخرى، فلا بد أن يحمل المدح على الشعر الهادف الذي يدعو إلى مكارم الأخلاق وغير ذلك، ويحمل الذم على الشعر المتكلف المسجوع بغير فائدة، الذي يعارض به حكم الشرع أو يدعو إلى الرذيلة. هذا هو وجه الجمع بين هذه الروايات.
أما قوله: (سجع كسجع الأعراب) أي: هذا كلام متكلف مسجوع، أشار إلى أنه مذموم، وأنه كسجع الأعراب المذموم.
قوله: (فجعل النبي صلى الله عليه وسلم دية المقتول على عصبة القاتل) هذا دليل لما قاله الفقهاء أن دية الخطأ على العاقلة إنما تختص بعصبات القاتل سوى أبنائه وآبائه؛ لأن الأبناء والآباء في حكم الشخص نفسه، ونحن نعرف أن أصحاب الأصول وإن علوا، والفروع وإن نزلوا هم أصحاب الفرائض، أما العصبات فهم ما دون ذلك من الورثة، ولذلك الدية تجب على العصبات لا على أصحاب الفروض.
يقول في باب دية الجنين:
واشترط الشافعي في حالة ما إذا مات في بطن أمه أن يعلم بأنه قد تخلق وجرى فيه الروح، وفسره بما ظهر فيه من صورة الآدمي كظهور اليد والأصبع، وأما مالك فإنه لم يشترط هذا الشرط بل قال: كل ما طرحته المرأة من مضغة أو علقة مما يعلم أنه ولد ففيه الغرة). وهذا الكلام هو مذهب الجمهور ليس كلام مالك فحسب.
ويرجح رأي الشافعي بأن الأصل براءة الذمة، وعدم وجود الغرة، فإذا لم يعلم تخلقه فإنه لا يجب شيء، وقدر الغرة في دية الجنين هي غرة عبد، أو أمة، أو فرس، أو بغل، أو غير ذلك، وهذا كله بالنسبة لجنين المسلمة.
قال: (والشافعي قال: دية الذمي هي ثلث دية المسلم. ومالك قال: دية الذمي نصف دية المسلم). يعني: المسألة فيها خلاف.
أما مسألة على من تجب الدية فعند مالك وأصحابه والحسن البصري أنها تجب في مال الجاني. لكن الجمهور يقولون: تجب على العاقلة، وهي جناية خطأ فوجبت على العاقلة، وهذا هو الراجح. وأما مالك والحسن فقد شبهاها بدية العمد إذا كان الضرب عمداً. ولكن الأول أصح، فالدية للورثة على قدر حصصهم، والرأي الثاني تجب للأم على اعتبار أن الجنين عضو من أعضائها، والراجح أنها دية للورثة.
انتهى الكلام في كتاب القصاص والقسامة، ونتوقف إن شاء الله تعالى في الكلام على كتاب الحدود، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر