وأما: قال لي، وذكر لي، فكانوا يستخدمونها في المذاكرة والمسامرة، وليست من صيغ التحديث.
فهو قد جالس الشيخ وسمع منه وروى عنه علمه، فهو يقول: حدثني فلان؛ لأنه سمع منه مباشرة ومشافهة، وروى عنه أحاديث لم يسمعها منه، فلا يقول: حدثني فلان، وإنما يقول فيها: عن فلان، أو قال فلان، أو أي صيغة تحتمل، ولا يقول: حدثني وسمعت؛ لأنه إن لم يكن حدثه كان كذاباً.
وحديث المدلّس ضعيف، وحديث الكذّاب موضوع ومصنوع، وحديث المدلّس يرتقي إذا جاء من طريق آخر، وأما حديث الكذّاب فلا يرتقي، ففرق بين الحكمين.
فزيادة (وعاصره) خطأ؛ لأن اللقيا تفيد المعاصرة.
والمعاصرة تعرف بمعرفة المواليد والوفيات، فإذا قال شخص: أخبرني فلان، فسئل: متى أخبرك؟ فقال: سنة (204هـ)، ثم يتبيّن أن فلاناً هذا مات سنة (198هـ) فعند هذا يكون كذاباً؛ لأنه مات قبل المخابرة بست سنوات.
فكلمة (أو عاصره) فيها خلط بين نوعين من أنواع علوم الحديث، وهو التدليس والمرسل الخفي.
ولم ينتبه لذلك إلا الحافظ ابن حجر، وأما العلماء قبله فكأنهم كانوا مجمعين على هذا التعريف، ولم ينتبه لهذه اللفظة إلا الحافظ ابن حجر حيث قال: هذا خلط بين تدليس الإسناد وبين المرسل الخفي.
فتدليس الإسناد هو: رواية الراوي عمن لقيه وسمع منه ما لم يسمع منه بصيغة تحتمل السماع، كقال وعن.
وأما المرسل الخفي: فهو رواية الراوي عمن لقيه ولم يسمع منه، أو عمن عاصره ولم يلقه. وهذا هو الفرق بين التدليس وبين المرسل الخفي.
وحكم تدليس الإسناد أنه مكروه جداً.
وهو: أن يبقي الراوي شيخه ولو كان ضعيفاً، ويحذف شيخ شيخه من الإسناد.
فمثلاً: بقية بن الوليد كان مشهوراً بتدليس التسوية، ولكنه لا يدلس عن شيخه، والأصل في المدلس أنه يدلّس عن شيخه مباشرة، وأما في تدليس التسوية فالراوي يحذف شيخ شيخه أو من علا في الإسناد، وأما الرواية بينه وبين شيخه فسليمة (100%).
فـبقية بن الوليد يقول: حدثني الأوزاعي عن فلان، فيلحق صيغة التدليس بشيخه، وليس بنفسه، والأوزاعي في أصل الرواية يقول: حدثني فلان، ولكن لما كان شيخ الأوزاعي ضعيفاً حذفه بقية.
وبقية مشهور جداً بالتدليس، وهذا النوع يسمى تدليس التسوية، فهو يسوي الإسناد، أي: يحذف الراوي الضعيف من أجل أن يكون كل الإسناد ثقات على السواء؛ لأن وجود الراوي الضعيف هذا سوف يغير الحكم على الإسناد.
يقول أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر: أحاديث بقية ليست نقية -أي: أنها ليست مستقيمة ولا مضبوطة- فكن منها على تقية. أي: احذرها.
فتدليس التسوية هو: أن يعمد الراوي المدلس إلى إسقاط شيخ شيخه ومن علا من الإسناد حتى يسوي الإسناد كله ثقات، فالناظر في الإسناد لأول وهلة يقول: كل رواته ثقات، ولكن فيه علة خفية وهي إسقاط راو من الإسناد، وهذا الراوي هو شيخ شيخ المدلس أو من علا، فهو لا يحذف شيخه؛ لأن الناس سيعرفون أنه مدلّس.
ولابد في حديث من يدلس تدليس التسوية من التصريح بالسماع على مدار الإسناد كله؛ لأنه لا يؤمن وقوع التدليس في أي طبقة من الطبقات، فلابد أن يكون التصريح بالسماع في كل طبقات السند حتى نأمن التدليس.
ولما سئل بقية : لماذا تدلّس على الأوزاعي وتسقط شيوخه الضعاف؟ قال: أنا أجل الأوزاعي عن الرواية عن أمثال هؤلاء، يعني: هو أجل قدراً من أن يروي عن الضعيف! فهو يعرف قدر الأوزاعي أكثر من الأوزاعي نفسه، فنزه الأوزاعي عن الرواية عن الضعفاء، واتهم هو في دينه وأمانته.
قال الخطيب : وربما لم يسقط المدلس شيخه، ولكن يسقط ممن بعده رجلاً ضعيفاً أو صغير السن؛ ليحسن الحديث بذلك، وكان الأعمش والثوري وبقية يفعلون هذا النوع.
والعلماء في كتب المصطلح لا يهتمون بتدليس التسوية، ويقولون: إن التدليس نوعان: تدليس الإسناد، وتدليس الشيوخ. والصواب: أن هؤلاء الثلاثة هم رءوس التدليس.
وحكم تدليس التسوية الحرمة.
فتدليس الشيوخ هو: أن يروي الراوي عن شيخ حديثاً سمعه فيسميه أو يكنيه أو ينسبه أو يعرفه بما لا يُعرف به كي لا يُعرف. هذا النوع الثالث من أنواع التدليس.
وقد ذمه أكثر العلماء، وكان شعبة بن الحجاج العتكي من أشد الناس ذماً له حتى قال فيه: لأن أشرب من بول حمار أحبُّ إليّ من أن أُدلّس! وقال مرة: لأن أزني أحب إليّ من أن أدلس!
وهذا الكلام محمول على المبالغة في الزجر عن التدليس وكراهته، ولا يقصد به الحقيقة، ولا يعقل أن يكون الزنا وشرب بول الحمير أحب على الحقيقة إلى شعبة من التدليس، فهذا الكلام محمول على المبالغة في الزجر وكراهية التدليس.
وتدليس الشيوخ لا شك أنه محرّم.
وهو: أن يحذف الصيغة ويقتصر على ذكر الشيخ، كأن يقول: الزهري عن أنس ، ولا يقول: قال، ولا ذكر، ولا حدث، ولا عن، ولا حدثني، ولا أخبرني، ولا يذكر صيغة تفيد أنه سمع أو تحتمل السماع؛ لكونه لم يسمع منه.
وهو أن يقول الشيخ: حدثنا فيكتب الطلاب، ثم يذكر راوياً ضعيفاً في سره وبهدوء ولا يسمعه أحد، كأن يقول: حدثني الحارث ، فيذكر الحارث بصوت ولا يسمعه أحد؛ لأن الحارث كذاب، ثم يقول: الزهري ، فيسمعه الطلاب يقول: حدثني الزهري عن أنس ، فيكتب الطلبة: حدثني الزهري عن أنس ، ولم يسمعوا الحارث .
هو: أن يصرّح الراوي المدلّس بالسماع من شيخ ويعطف عليه آخر لم يسمع منه هذا الحديث بعينه، وكان هشيم بن بشير متفنناً في هذا النوع من التدليس، حتى أنه تحدى تلاميذه في ليلة من الليالي وقال لهم: سأحدثكم هذه الليلة، فاحذروا وانتقوا لي الأحاديث التي أدلّس فيها، فمكث طوال الليل يحدثهم، حدثني فلان وفلان، حدثني فلان وفلان، حدثني فلان وفلان، حتى قرب الفجر فقال لهم: هل دلست عليكم؟ فقالوا: لا، إنك لم تدلس قط، فقال لهم: ما حدثتكم حديثاً إلا وقد دلّست فيه، فقالوا: وكيف ذلك؟ قال: ما قلت لكم فيه حدثني فلان فقد حدثني، وأما قولي وفلان فلم يحدثني. أي: أنه عطف الثاني على الأول بحرف الواو، فكلمة وفلان اعتبرها فصلاً، وليست من باب التحديث، وهم حملوا العطف على التحديث، وهو اعتبر أن هذا العطف بداية إسناد جديد، فقال لهم: حدثني فلان وفلان، فالذي قال لهم فيه: حدثني فهو قد حدثه، والأصل إذا أراد العطف أن يقول: حدثني فلان وحدثني فلان، ولكنه لم يقل هكذا، فدل على أنه دلّس في الثاني.
ولو قال: حدثني فلان فيما وراء النهر، فيتبادر إلى الذهن أنها بلاد ما وراء النهر المعروفة، ولكنه يقصد نهر دجلة أو الفرات، أو الترعة التي بجانب بيته.
أو يقول مثلاً: حدثني فلان بالأندلس، فيظن لأول وهلة أنها الأندلس المعروفة، وهو يقصد الأندلس التي بجوارنا، أو يقول: حدثني فلان في المدينة المنورة، والمدينة المنورة اسم شارع في مصر مثلاً، أو اسم محل أو مسجد.
فتدليس البلاد: أن يحدث الراوي بمكان يتسمى باسم مكان آخر مشهور، فيوهم السامع أنه رحل إلى ذلك المكان في طلب العلم.
وهذا التدليس مكروه كراهة بسيطة؛ لأن صاحبه يتشبّع بما لم يعط، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)، وذلك مثل: أن آتي بكتاب للنووي مثلاً وأكتب عليه اسمي، ثم أنزله السوق على أساس أنني أنا الذي ألفته، فأنا هنا قد تشبعت مادياً ومعنوياً بما لم أُعط، أو بما لم أبذل فيه جهداً، و(المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور).
ومعنى الحديث: أن يعود عليّ فوائد مادية ومعنوية وغير ذلك من أمر لم أبذل فيه جهدي، ولم أستحق الدخل الذي دخل إليّ من جراء هذا العمل وهو عمل غيري وليس عملي، وأما أنا فقد نسبته إليّ زوراً وبهتاناً، فالذي يقول: حدثني فلان بالرياض وهو مصري فقد أوهم أنه رحل في طلب العلم، والرحلة في طلب العلم شرف لصاحبها، وهذا لا يستحق ذلك الشرف.
وهو: اللفظ الدخيل على متن الحديث، كأن يكون في الحديث لفظ غريب أراد الراوي أن يبينه فذكره بمعنى آخر.
مثل قول عائشة رضي الله عنها في البخاري : (وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث الليالي ذوات العدد في غار حراء). رواه الزهري بلفظ: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث -يعني: يتعبد- الليالي ذوات العدد في غار حراء). فكلمة (يتعبد) هنا لفظة مدرجة في المتن، يعني: دخيلة على المتن، تبيّن لفظة غريبة وردت في المتن، وهي يتحنث.
فهذه اللفظة إن كانت داخلة لبيان الغريب أو غير ذلك من الأغراض المسموح بها فلا بأس بها، بشرط بيان أنها مدرجة، أما لو أدرجها الراوي متعمداً الإدراج وليس لها موطن، بل يمكن الاستغناء عنها، ولم يبين أنها لفظة مدرجة؛ فهذا عده العلماء من تدليس المتن.
هذا على العموم، وذلك مثل ما لو كان الراوي ضعيفاً بسبب أنه سيئ الحفظ، فلو قال هذا الراوي الضعيف الذي اتهم بسوء الحفظ: حدثني فلان فحديثه ضعيف؛ لأنه سيئ الحفظ، وبناء عليه حُكم عليه بالضعف، فكذلك المدلّس عند هذا الفريق، فالتدليس يجرح صاحبه، فلو قال المدلس: حدثني فلان، فهذا الحديث عند قوم مردود، رغم أنه قال: حدثني؛ لأن التدليس علة كافية في ضعف الراوي، أي: في رد روايته، كما أن سوء الحفظ يجعل الراوي ضعيفاً. وهذا الرأي غير صواب.
وقال بعضهم: التدليس كله مقبول الجيد والسيئ منه؛ لأن التدليس عبارة عن إرسال، أي: إطلاق بلا قيد، فلم يقيد الراوي الرواية وإنما أطلقها. وهذا الرأي ضعيف.
وقال بعضهم بتقسيم المدلسين إلى خمس طبقات، وهذا هو الصحيح. فهناك من لم يثبت عنه أنه دلّس إلا مرة أو مرتين، وهو أصلاً إمام جليل كبير، كـيحيى بن سعيد ، فقد روى أحاديث كثيرة ولم يثبت أنه دلّس إلا مرة أو مرتين، ولا نعرف هذين الحديثين، ولن نجد من يعرفهما، ففي هذه الحالة يشهد المنطق والعقل وكل شيء بقبول الحديثين وعدم رد أحاديثه.
الطبقة الأولى من المدلسين: قوم دلّسوا حديثاً أو حديثين فيُحتمل تدليسهم؛ لأنهم من الأئمة الكبار الحفاظ المكثرين في الرواية.
والطبقة الثانية: قوم أخرج لهم البخاري ومسلم في صحيحيهما، كـسفيان الثوري ، ولكن تدليسهم كان يسيراً بجوار ما رووه من أحاديث كثيرة، وقوم لم يكونوا يدلسون إلا عن ثقات، كـسفيان بن عيينة ، فاحتمل الأئمة تدليسهم لجلالتهم وفضلهم وزيادة ووفرة علمهم.
وهذا هو الذي كانوا يسمونه الإرسال، ولم يكونوا يشترطون ذكر الشيخ، وهو مقبول مطلقاً؛ لأنه لا يدلس إلا عن ثقة؛ لأنهم كان يعتبرونه مجرد إرسال، ولم ينووا به التدليس، فهم لا يضرهم ذكر الشيخ؛ لأنه ثقة.
الطبقة الثالثة من طبقات المدلسين -وهذا هو بيت القصيد في الطبقات الخمس-: قوم اشتهروا بالتدليس، ولكنهم ثقات.
فهم مشهورون بالتدليس، أي: أن الأصل فيهم التدليس، ولكنهم ثقات.
فإذا صرّح الراوي بالسماع قُبل حديثه، وإذا روى بصيغة تحتمل السماع رد حديثه حتى يبيّن السماع.
فلو قال: حدثني فلان، أو سمعت فلاناً، أو أخبرني فلان، أو أنبأني فلان؛ فهذه الصيغة تفيد السماع فتقبل الرواية بها، ولو قال: عن فلان أو قال فلان فهي محتملة للسماع، وهي من صيغ التدليس.
الطبقة الرابعة من طبقات المدلسين: قوم عُرفوا بالتدليس حتى كان التدليس أصل روايتهم، ولم يكونوا يصرّحون بالسماع، وكانوا مع ذلك متهمون بتهم أخرى أو معلولون بعلل أخرى.
الطبقة الخامسة: قوم ضعاف ومدلسون في الوقت نفسه، فلو صرّح بالسماع فهو ضعيف، ولو لم يصرّح لبقي ضعيفاً ومدلساً، فهو في الحالتين مردود الرواية.
والطبقتان الرابعة والخامسة مردودتان بالتدليس وبغيره من العلل.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر