قال الله عز وجل في سورة غافر: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ * اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [غافر:60-63].
في هذه الآيات من سورة غافر يأمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يدعوه، قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي [غافر:60] ووعد بالإجابة على الدعاء فقال: أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] ولم يجعل بينهما شرطاً، ولم يقيد الدعاء بشيء في الآية، وإنما قال: رَبُّكُمُ ادْعُونِي [غافر:60] .
إذاً: الإنسان المؤمن يدعو ربه بما شاء من الدعاء، فالله يستجيب بقيد: لا تدع بإثم، ولا تطلب ذنباً فتسأل ربك أن يعينك عليه مثلاً، أو تدعو على أحد بشر أو بشيء تأثم أنت حين تسأل ربك ذلك، وكذلك أن تدعو بقطيعة رحم، أو تدعو بشيء يكون فيه قطيعة الرحم، فلا يستجاب لك في ذلك.
وقال عليه الصلاة والسلام: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، فيقول: دعوت فلم يستجب لي)، فعلى الإنسان إذا دعا ربه أن يصبر وليسأل ربه الخير فهو أعلم سبحانه وتعالى، فقد تسأله الشيء الذي يعلم أن فيه ضرراً لك فلا يستجيب لك، ويعطيك مكانه من الخير أشياء أخرى، وقد يعطيك في الدنيا، وقد يعطيك الثواب في الآخرة، وقد يصرف عنك من السوء بقدر ما سألت الله عز وجل من الخير، فالله يستجيب الدعوات يقيناً لا محالة في ذلك ولا شك فيه.
وأمركم أن تدعوه سبحانه تضرعاً وخفية وخيفة، فتسأل ربك سبحانه متضرعاً إليه، وتسأله في العلن وفي الخفاء، وتسأله وأنت محب له عز وجل خائف منه سبحانه.
فالدعاء هو العبادة، فتوحد ربك سبحانه بالدعاء، فتقول: يا رب! أنت وحدك الذي أتوجه إليك بهذا الدعاء، وهذا توحيد الألوهية، وأنت وحدك الذي تقدر على الإجابة، وهذ1 توحيد الربوبية، فمقتضى ربوبيته سبحانه أنه يعطي سبحانه، ومقتضى ألوهيته سبحانه أنك تتقرب إليه وتدعوه.
انظر إلى كرمه سبحانه وتعالى، يقول لك: اطلب مني، وإذا لم تطلب مني فسأغضب عليك، فأنت تطلب من الإنسان ما تحتاج إليه فتقول: يا فلان! أعطني كذا، فيكون كريماً، وتطلب منه مرة ثانية فيكون كريماً، وتطلب منه مرة ثالثة فيقول لك: ليس كل مرة تأتيني وتطلب مني! فالعبد يغضب إن طلبت منه الشيء، والرب سبحانه يغضب إن لم تطلب منه سبحانه وتعالى، ولذلك الإنسان المؤمن يعرف أن له رباً كريماً سبحانه وتعالى، يعطي سبحانه عطاء عظيماً، وعطاؤه الشيء كن فيكون، وخزائن الله عز وجل ملأى لا تغيظها نفقة، فعلى المؤمن أن يكثر من الدعاء، فالدعاء ينفعه في الدنيا والآخرة، فهو توحيد لله سبحانه وتعالى.
والله يستجيب للعبد على وجه من الوجوه التي كلها خير، فإما أن يعطيه هذا الذي سأله، أو يصرف عنه من الشر بقدر ما طلبه من الخير، أو يدخر ذلك له ويجعلها جبالاً من الحسنات يجدها يوم القيامة عند الله سبحانه وتعالى، فلا تعدم خيراً في الدعاء مهما دعوت ومهما سألت الله فكن على يقين بالإجابة على وجه من هذه الوجوه، وكن على ثقة في الله سبحانه أنه كريم جواد يستحيي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفراً، ومستحيل أن ترفع يديك وتقول: يا رب! ويردك ولا يستجيب لك، بل لابد أن يعطيك من فضله ومن كرمه سبحانه، فهو أعلم بالخير، فلا تقل: إني أدعو وربي لا يستجيب لي، فلعل هذا الذي تطلبه ليس فيه الخير لك، فإذا صرفه الله عز وجل عنك فثق أن الخير في غيره وليس فيه.
ولذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم الاستخارة في الأمور كلها، فالاستخارة دعاء تطلبه من ربك، حيث إنك لا تطلب شيئاً بعينه، بل تقول: يا رب! اختر لي، إذا كان هذا الشيء فيه خير لي فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كان فيه شر لي فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به.
فالمؤمن يرضى بما يرضى الله عز وجل به.
وقوله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونيَ أَسْتَجِبْ لَكُمْ).
فلما قال الله تعالى: (ادْعُونِي [غافر:60] وصف الدعاء بأنه العبادة، فالذي يستكبر عن دعاء الله عز وجل مستكبر عن عبادة الله سبحانه، وعمم في ذلك فقال: يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي [غافر:60] بكل صورها، فبدأ بذكر الدعاء ثم عمم العبادة.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة) ، أي: من أعظم ما يكون في العبادة الدعاء؛ لأنك وأنت تدعو تستشعر بالذل بين يدي الله عز وجل، وبحبك لله سبحانه، وبأنه يريد بك الخير ويريد لك الخير، فتسأله سبحانه وتعالى وأنت مستيقن بأنه سوف يعطي سبحانه، وأنه المستحق لأن يدعى وأن يطلب منه وحده لا شريك له.
وقد وعدنا الله عز وجل في كتابه بالاستجابة وأمرنا بالدعاء، وأخبر عن هذه الاستجابة في مواطن من كتابه سبحانه وتعالى فقال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] .
وقال سبحانه: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] ولم يجعل بين الدعاء والإجابة شرطاً، فقيد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأن تدعو وتسأل ربك، لكن احذر من الدعاء بالإثم فلا استجابة لك في ذلك، فلا تدع على نفسك إلا بخير، ولا تتعجل في الدعاء، ولا تدعُ بقطيعة الرحم.
وجاء في سبب نزولها: أن بعض الصحابة سألوا: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ والنجوى: حديث السر، فنزل القرآن يجيب عن ذلك، قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186]، والله فوق سماواته، وهو فوق عرشه سبحانه وتعالى، ومستو على عرشه، بائن من خلقه، والسماوات بعيدة عن الأرض، وسمك كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وما بين السماء والتي تليها كذلك، وفوق السموات السبع كرسي الله سبحانه، وفوق ذلك عرش الله سبحانه وتعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما السماوات والأرضون بجوار الكرسي إلا كحلقة في فلاة)، وقال تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255] وأوسع من ذلك وأعظم عرش الرحمن، وما الكرسي بجوار العرش إلا كحلقة في فلاة، ومع ذلك كله فهو القريب سبحانه، قال تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، فهو قريب بسمعه وبصره واستجابته وقدرته سبحانه وتعالى، فالله يحكم في عباده ويفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، وهو أقرب لعباده من حبل الوريد بسمعه وبصره وقدرته سبحانه، وبلطفه بعباده، وبرحمته وحنانه سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] أي: كل داع يدعو ربه فالله يستجيب له سبحانه وتعالى، وقوله: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي [البقرة:186] أي: فليدخلوا في ديني: وَلْيُؤْمِنُوا بِي [البقرة:186]أي: وليصدقوا بما جئتهم به من كتاب، وبما أنزلت في هذا الكتاب من أحكام، ومن أوصاف للرب سبحانه وتعالى، وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].
قال تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ [الرعد:14] أي: الأصنام والآلهة وهذه الأشياء الباطلة لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ [الرعد:14] .
هذه الآلهة التي يدعونها مثل بسط الإنسان يده للماء وهو يقول: تعالى يا ماء ادخل فمي، وأنى سيأتي الماء إلى فمه؟ قال تعالى: كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [الرعد:14] .
فالدعوة الحق هي لله سبحانه، والدعاء الحق الذي يكون من المؤمن للرب سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ [النمل:62] لم يقل: أرب مع الله؛ لأنه لا أحد ينكر ذلك، فأي خلق تكونون وأنتم تعلمون أن الله هو الذي يعطيكم ثم تشكرون غيره سبحانه؟ فلو أن إنساناً أعطى صديقه شيئاً، أيشكر غيره؟!
سيقولون: سبحان الله! انظروا هذا إنسان جاحد، فإذا كنا لا نرضاه بين الناس، فهل نرضاه لربنا أن يعطينا ونشكر غيره ونعبد غيره؟! وكرر الله سبحانه وتعالى نعمه على عباده، وفي كل نعمة يذكر وراءها (أإله مع الله) أي: هل هناك إله يستحق العبادة مع الله الذي يفعل بكم ذلك؟ لا إله إلا هو، قال تعالى: قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [النمل:62].
كذلك يذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الدعاء والعبادة، ويذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث منها قوله صلوات الله وسلامه عليه: (الدعاء هو العبادة، وقرأ هذه الآية: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء)، فدعاؤه كرم منه سبحانه فكيف ستكون الإجابة؟! فمن أكرم ما تتقرب به إلى ربك سبحانه الدعاء، وقال صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء) .
فإذا أحببت أن يستجيب الله لك في وقت الأزمة والشدة فأكثر من الدعاء في وقت الرخاء.
نسأل الله عز وجل أن يستجيب دعوات المكروبين ودعوات المؤمنين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر