قال الله عز وجل في سورة الشورى:
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ [الشورى:52-53].
هاتان الآيتان الأخيرتان من هذه السورة الكريمة سورة الشورى، يختمها الله عز وجل بذكر نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ووحي الله عز وجل إليه، تفضلاً على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين أن أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم، الذي هو نور، والذي هو روح، والذي يحيي به الله عز وجل قلوب عباده، ويخرجهم من الظلمات إلى النور.
وهذا الوحي إلهام إشارة، وهو الذي يقذفه الله عز وجل في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، والذي ينزل عليه مع روح القدس جبريل عليه السلام، من وحي ومن أخبار، ومن رسالة، ومن شيء مكتوب عند الله سبحانه وتعالى، إذاً: الوحي: ما يلقيه الله إلى نبي من أنبيائه.
فما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً، عن طريق الوحي، أي: يقذف في قلبه، وفي روعه، وفي نفسه، فيقذف ما يريده من حق سبحانه وتعالى.
أو يريه رؤيا منامية، فيكون فيها معنى هذا الوحي.
إذاً: الوحي: ما يلقيه الله في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، أو ما يراه في رؤيا منامية، أو إلهام من الله عز وجل لنبي من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام.
الصورة الثانية: (مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) كما كلم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام من وراء حجاب.
ومستحيل أن يرى الله عز وجل في الدنيا، فلا يراه أحد في الدنيا، فموسى لم ير ربه سبحانه، ولما أراد أن يراه، قال: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143] أي: أنا أول المؤمنين أنك لا ترى في هذه الدنيا.
إذاً: الصورة الثانية: أن يكلم الله عز وجل عبداً من عباده، كما كلم موسى على الأرض، وكما كلم محمداً صلى الله عليه وسلم في السماء، فالله عز وجل كلمهم من وراء حجاب.
الصورة الثالثة: (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا) سبحانه وتعالى، وفيها قراءتان:
قراءة نافع وابن ذكوان: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا .
والقراءة الأخرى قراءة الجمهور: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى:51].
ولذلك جاء في حديث عن أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو: عثمان بن مظعون، يقص أنه أسلم قديماً في أيام مكة، ولكن كان إسلامه حياء من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد مر به وهو جالس بفناء بيته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا تجلس؟ قال: بلى، فجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الله عز وجل، فجلس يسمع حياء من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يشخص ببصره إلى السماء، أي: يرفع بصره عليه الصلاة والسلام إلى السماء ثم ينزل به حتى نزل إلى الأرض، ثم انحرف عني يميناً -أي: كان جالساً مع قال: فتعجبت، قلت: إنك صنعت شيئاً ما كنت تصنعه، قال: وفطنت لذلك؟ قال: نعم، قال: وما هو؟ قال: شخصت ببصرك إلى السماء ولم تزل تنزل به، ثم كأنك تستفقه من أحد عن يمينك، قال: ذاك جبريل أتاني آنفاً، فأخبرني بهذه الآية -وهي الآية التي أحبها عثمان بن مظعون رضي الله عنه- قول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل:90]
فالغرض أن الوحي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وعثمان بن مظعون قاعد، ولم ير جبريل وهو يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان الصحابة يعرفون مجيء الوحي بالتفات النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، يكون جالساً معهم وفجأة يلتفت عنهم، ويعتريه كالحر الشديد، فيتفصد عرقاً صلوات الله وسلامه عليه، وقد يحدث له رعدة عليه الصلاة والسلام، ويصقل بدنه صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يرون من يخاطب صلى الله عليه وسلم، فهذا وحي من الله يسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك كانوا يقولون: ترى ما لا نرى، وتخاطب من لا نخاطب، صلوات الله وسلامه عليه.
هذا الوحي الذي هو إلقاء من الله عز وجل يلقي عليه الكتاب العظيم، وينزل عليه جبريل ويخبره بأحكام شرعية عظيمة، وهذا كله في خفاء عن الناس، لا أحد يرى من الذي يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ماذا يقوله جبريل، ثم هو يخبرهم صلى الله عليه وسلم بذلك.
إذاً: هذا الوحي رسول من السماء يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيوحي بإذن الله ما يشاء، والعادة أن الذي ينزل من السماء على النبي صلى الله عليه وسلم هو نفسه الذي ينزل على الأنبياء قبله، ولكن قد ينزل الله عز وجل ملكاً آخر على النبي صلى الله عليه وسلم، مثلما نزل ملك من السماء على النبي صلى الله عليه وسلم، ويخبره جبريل أنه فتح باب من السماء، وهذا الملك أول مرة ينزل من السماء إلى الأرض، وقد نزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحدثه بشيء من السماء، فهذا يكون أحياناً.
فالأصل: أن جبريل هو الذي يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بما يريده الله عز وجل وبما ينزل عليه من هذا القرآن العظيم.
قال تعالى: (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ) أي: بإذن الله عز وجل (مَا يَشَاءُ) يوحي ويخبر نبيه عليه الصلاة والسلام بإذنه ما يشاء، (إنه عليُّ حكيم) سبحانه وتعالى، وله علو الشأن وعلو القهر وله علو الذات سبحانه وتعالى، علا على كل شيء، وغلب كل شيء، وقهر كل شيء، وشأنه عظيم وأعلى من أن يحاط به سبحانه وتعالى.
قوله: (وَكَذَلِكَ) أي: كهذا الذي أوحينا إلى الأنبياء وبنفس الصورة التي أوحينا إلى الأنبياء نوحي إليك أيضاً، كما أوحينا إلى الذين من قبلك.
فقوله: (وَكَذَلِكَ) أي: بطريقة الوحي من السماء إلى جميع الأنبياء، كذلك يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَاٍ) وصف القرآن العظيم بأوصاف عدة منها:
قال تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ [فصلت:41].
وقال تعالى: فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:22].
وقال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [الواقعة:77].
وقال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [إبراهيم:1]
وقال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29].
فهو الكتاب الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور.
وهو الكتاب الذي فيه التذكرة والاعتبار، وفيه أخبار من رب العالمين ننتفع بها، وفيه أحكام شرعية نعمل بها.
كذلك سماه: نوراً، ووحياً، وروحاً، فالقرآن نور من عند الله عز وجل يضيء لنا طريقنا إلى الإيمان بالله، وإلى العمل الصالح.
وروح من الله عز وجل يحيي به القلوب الميتة، فيوقظها من سباتها، ومن نومها، ومن موتها، ويحييها كما ينزل المطر من السماء فيحيي به الله عز وجل الأرض بعد موتها، كذلك هذا القرآن العظيم ينزل على القلوب الميتة فيحييها بفضل الله وبإذنه سبحانه وتعالى.
قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ) كان قبل ذلك صلى الله عليه وسلم لا يعرف أن هناك قرآناً سينزل، وأهل الكتاب كانوا يعرفون ذلك، أما هو فلم يتصل بهم حتى يعلم أن هناك نبياً سيبعث، فضلاً عن أن يعرف أنه هو النبي صلى الله عليه وسلم.
فقوله تعالى: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ) أي: ما كنت تعرف شرائع هذا الدين، وقد نزل جبريل ليعلم المؤمنين ما هو الإسلام، وما هو الإيمان، وما هو الإحسان.
فالإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إلى ذلك سبيلاً.
والإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك سبحانه وتعالى.
فلم يكن يعرف ذلك صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي من السماء؛ لذلك قال له سبحانه: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:7] أي: وجدك ضالاً عن هذه الشريعة لا تعرفها، وإن كان هو يعرف ربه عليه الصلاة والسلام.
وكان الزنا في الجاهلية شيئاً سهلاً؛ لأنهم كانوا يقعون في الزنا ولا شيء عليهم في ذلك، وهو لم يقع في ذلك أبداً صلوات الله وسلامه عليه، بل عصمه الله سبحانه وتعالى، حتى إنه وهو صغير صلى الله عليه وسلم يقول له عمه: اخلع إزارك وضعه على كتفك، وهو يحمل حجارة مع من يحملون الحجارة، رحمة من العم بابن أخيه صلوات الله وسلامه عليه، أما الكبار فكانوا يتعرون ولا شيء عندهم في ذلك، فأراد أن يفعل صلى الله عليه وسلم ما قال له عمه، فإذا بالملك ينزل عليه من السماء ويقول: خذ عليك إزارك، فإذا به يرتعد صلى الله عليه وسلم ويقع مغشياً عليه، قال: فما وضعه عنه أبداً، فقد عصمه ربه سبحانه من أن تنكشف عورته صلوات الله وسلامه عليه، حفظاً من السماء للنبي صلى الله عليه وسلم.
تقول عائشة رضي الله عنها: (كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) فكان يأتي حراء فيتحنث -أي: يتعبد- وذلك كان قبل الوحي، وقبل أن ينزل عليه شيء، فكان يحب أن يعبد الله سبحانه وتعالى، وكان يبغض الأصنام بغضاً شديداً صلوات الله وسلامه عليه، ولا يأكل من ذبائحهم التي ذبحوها لهذه الأصنام، فانظر إليه وهو يتعبد في الغار عليه الصلاة والسلام، ويرجع إلى خديجة، وكان قد تزوج خديجة وعمره خمس وعشرون سنة، ويذهب يتعبد لله سبحانه وتعالى، وتجهزه الفاضلة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها، تجهز النبي صلى الله عليه وسلم بزاده لليالي ذوات العدد، يتعبد لله سبحانه، ويرجع إليها وتجهز زاداً آخر ليذهب ويتعبد لله سبحانه وتعالى، ومكث على ذلك ليالي كثيرة في غار حراء، هذا قبل أن يوحى إليه صلوات الله وسلامه عليه.
ومع ذلك يقول له ربه سبحانه: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:7]، ويقول سبحانه: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ [الشورى:52]، وصدق الله العظيم سبحانه، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: (أنا وأنا رسول الله لا أدري ما يفعل بي ولا بكم)، وذلك لما قالت امرأة لصبي صغير توفي: هنيئاً له، عصفور من عصافير الجنة، حتى أخبره الله عز وجل بعد ست سنوات من هجرته صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه في الحديبية سورة الفتح بقوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2] فعرف قبل وفاته بأربعة أعوام ما الذي يفعل به صلوات الله وسلامه عليه، وهو قوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2].
قال له ربه: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى:6-8].
فقوله تعالى: (ضَالًّا) أي: لا تعرف الشريعة، ولا تعرف هذا الدين، ولا تعرف أصوله ولا فروعه، صحيح أنت تعبد الله، وتجتنب الفواحش، ولكن هذا بحفظنا لك، ومنة من الله عز وجل عليه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يجهز نفسه ليكون رسولاً في يوم من الأيام، ولم يكن يجهز نفسه لشيء، فلم يطلب أن يكون سيداً على القوم ولا ملكاً لهم, لم يطلب شيئاً صلوات الله وسلامه عليه حتى أنزل الله عز وجل عليه الوحي.
ولما نزل عليه الوحي نزلت سورة مفزعة، إذ نزل جبريل وأفزعه، ليثبته بعد ذلك، ويطمئنه صلوات الله وسلامه عليه بعد ذلك، فاسمع إلى هذا الخبر عن عائشة رضي الله عنها، تقول: حتى فجأه الحق وهو في غار حراء في مكة، فجاءه الملك صلوات الله وسلامه عليه فقال: اقرأ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني)، تخيل وهو صلى الله عليه وسلم، وهو في غار حراء يتعبد الليالي، وداخل الغار وفجأة يظهر له الملك ويأتيه من عند ربه سبحانه وتعالى، ويقول له: اقرأ، وكان قد جاءه قبل ذلك صلوات الله وسلامه عليه، إذ تمثل له الملك في السماء ثم غاب عنه، ومرة أخرى، وكأن الله سبحانه وتعالى يعلمه شيئاً فشيئاً ويدخل الشجاعة على قلبه شيئاً فشيئاً، فمرة رآه في السماء، ثم ظهر له مرة أخرى في السماء، ثم بعد ذلك جاءه وهو في الغار عليه الصلاة والسلام، ليأمره ويقول له: اقرأ، قال: (قلت: ما أنا بقارئ) فالنبي صلى الله عليه وسلم أمي لا يجيد قراءة ولا كتابة، أي: ما الذي أقرؤه؟ أنا لست قارئاً، لا أقرأ، والمكان مكان موحش، والأمر أمر صعب وشديد أن يأتيه ملك في هذه الحالة، فلذلك كان من حقه صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى بيته فزعاً، ويقول: غطوني غطوني، فقد خاف من الذي حدث، يا ترى ماذا سيحدث؟!
هذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول له جبريل: اقرأ، ويأخذه ويحتضنه بشدة، قال: (فغطني ثم قال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني الثالثة فغطني وقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5]).
فأنت لست قارئاً، أنت لا تعلم، وجدك ربك ضالاً فهداك سبحانه وتعالى، وعلمك ما لم تكن تعلم، فمن عليه، قال تعالى: عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:5]، وقال تعالى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء:113] صلوات الله وسلامه عليه.
ورجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى السيدة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها ترجف بوادره، وهذا أول ما نزل عليه من القرآن: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، فنبئ باقرأ وأرسل بالمدثر.
وعلم أنه رسول لما قال له ربه: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:1-7]، فالأولى: (اقْرَأْ) والثانية: قم للناس، (قُمْ فَأَنذِرْ) ولما جاءه الوحي وأنزل عليه (اقرأ) رجع إلى خديجة رضي الله عنها، فقال: (زملوني زملوني)، رجع يرتعد من شدة الخوف صلى الله عليه وسلم، وقال: (زملوني)، أي: غطوني، وقال للسيدة خديجة رضي الله عنها: (يا
هذا المنظر الذي رآه صلى الله عليه وسلم لم يكن يخطر على باله، وكان هناك أناس في مكة متوقعين ذلك، وينتظرون أن يكون فلان رسولاً، أما هو صلى الله عليه وسلم فلم يكن على باله هذا الأمر، كان يعبد الله سبحانه وتعالى، ويرجو بذلك ربه سبحانه وتعالى، ترك الأصنام لأنه يبغضها ويكرهها صلى الله عليه وسلم، ويعبد الله ويتحنث في الغار الليالي، من الذي حفظه من عبادة الأصنام؟ ومن الوقوع في المنكرات والحرام؟ إنه الله سبحانه وتعالى، حفظ نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن عليه بذلك.
قالت السيدة خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم تطمئنه: لا تخف، وهنا الاستدلال بالأسباب على النتيجة، ماذا عملت أنت حتى يبتليك الله في عقلك؟ أنت تعبد ربك سبحانه وتعالى، قالت له كلامها الحكيم الذي يدل على عقلها العظيم رضي الله تبارك وتعالى عنها، تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، هذه صفاته قبل الإسلام صلى الله عليه وسلم: إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، أي: الإنسان الذي انقطع وهو مسافر إلى مكان، ثم وقع الجمل الذي يحمله، ولم يقدر أن يكمل السفر، فقد صار كالاً هذا الإنسان، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يعطيه، ويزوده، ويعينه حتى يستطيع إكمال المسير، أبعد هذا كله يذهب الله عقله بسبب؟ لا يكون هذا أبداً.
وقولها: وتقري الضيف، أي: أنت كريم مع أهلك، وكريم مع ضيوفك، وتعين على نوائب الحق، والحق: هو الله سبحانه وتعالى، وما يعتري الناس من نوائب، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعين الخلق على نوائب الحق، فإذا كنت تفعل ذلك، فهل سيبتليك ربك؟! تستدل بفعاله عليه الصلاة والسلام، فلا يمكن أن يخزيك ربك، ولا يخذلك أبداً، وهذا الذي جاءك شيء صحيح وحقيقي.
وذهبت به خديجة إلى ورقة بن نوفل، وهو ابن عم السيدة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها، فهي خديجة بنت خويلد بن أسد، وهو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وكان امرأً تنصر في الجاهلية، إذ كان ورقة في الجاهلية يبحث عن الدين الحق، وكذلك زيد بن عمرو بن نفيل، كان الاثنان يبحثان عن الدين الحق، فلم تعجبهم الأصنام، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يبغض الأصنام، وتوجه يعبد الله عز وجل ويتحنث لربه في الغار.
وبحث ورقة بن نوفل فوجد أقرب الديانات الموجودة النصرانية، بحث عن الرهبان، وأخذ الإنجيل فكان يكتب من الإنجيل بالعربية، فتنصر في الجاهلية، إذاً: هو عرف النصرانية وعرف الرهبان، ووصل لدرجة من الحكمة العظيمة رضي الله تبارك وتعالى عنه، ورآه النبي صلى الله عليه وسلم يلبس ثياباً بيضاء في رؤيا منامية، فاستدل على أن الله سبحانه وتعالى أكرم ورقة بن نوفل.
وأما زيد بن عمرو بن نفيل فقد بحث فلم تعجبه اليهودية ولا النصرانية، وكان يسجد لله عز وجل ويقول: لو أعلم كيف أعبدك لعبدتك، يبحث عن الدين الحق، ولم تعجبه النصرانية، وكأن ورقة وجد من الرهبان من دله على الحق، أما الآخر فلم يجد، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم عن زيد بن عمرو بن نفيل: (إنه يبعث أمة وحده)، وبارك الله سبحانه وتعالى في ابنه سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فصار أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله تبارك وتعالى عنه، وأبوه في الجاهلية مات على الحق، ويبعث يوم القيامة أمة وحده.
وهذا ورقة بن نوفل قلنا: إنه استدل على الحق من معرفته بالنصارى قبل الإسلام، فقد رأى أناساً صالحين منهم، ممن كانوا ينتظرون نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فممن كان ينتظره سلمان الفارسي ، وقد مشى مع رهبان النصارى، وكل راهب يوصيه: اذهب لفلان واعبد الله معه حتى يظلك زمان فيه نبي سيظهر، حتى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم.
ورقة بن نوفل قالت له السيدة خديجة: اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ماذا ترى؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، أي: هذه الرسالة التي نزلت على موسى، جاءك الرسول من عند رب العالمين، يا ليتني فيها جذعاً، هذا الرجل الفاضل الذي عرف الحق، يقول له: يا ليتني حين يبعثك الله عز وجل وتبدأ تنشر هذه الدعوة، ويؤذيك قومه، يا ليتني كنت فيها شاباً قوياً فتياً، كنت سأنصرك، فقد نوى نية حسنة، والله عز وجل يأجره عليها رضي الله عنه، فقال: يا ليتني فيها جذعاً حين يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ فقال ورقة : نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي.
إذاً: دل هذا على أن الرجل كان يعرف الحق، فـورقة بن نوفل تنصر على ما كان من الدين الصحيح من النصرانية الذي كان قبل النبي صلى الله عليه وسلم، واطلع وعرف أن هذا رسول رب العالمين صلوات الله وسلامه عليه.
وهكذا نبئ صلى الله عليه وسلم بسورة اقرأ، فلما ذهب إليه قال: يا ليتني حي حين يخرجك قومك، وإلى ذلك الوقت لم تكن قد نزلت عليه: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2] لم تنزل عليه إلا سورة العلق، فقال له ورقة بن نوفل: إن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وفتر الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم فترة، ثم نزل عليه جبريل مرة أخرى.
وكان خلال فترة الوحي كما روى الإمام البخاري ومسلم أنه تحدثه نفسه أنه فتر عنه الوحي، وأن الناس سيقولون عنه: كاذب، فيأتيه جبريل فيثبته، أن اثبت إنك على الحق صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم أُوحي إليه، وجاءه جبريل من السماء، وكان قبل ذلك يتعبد الله سبحانه، وهذا المقصد من ذكر هذا الحديث، فقد كان يعبد الله سبحانه، ولم يكن يعبد الأصنام، بل كان يبغض الأصنام، ولذلك في قصة بحيرى الراهب لما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه إلى الشام، ولقوا بحيرى الراهب، وإذا به يرى سحابة تظلل النبي صلى الله عليه وسلم، فتعجب الرجل من ذلك، وهذا قبل الإسلام، قبل أن يأتيه الوحي من السماء.
فقال بحيرى: ابن من هذا؟ فقال رجل: ابني، قال: لا، ما ينبغي أن يكون أبوه حياً، فجاء أبو طالب وقال: ابني، قال: لا، ما ينبغي أن يكون أبوه حياً، قال: أنا عمه، وأبوه مات، فقال بحيرى للنبي صلى الله عليه وسلم: إني سائلك عن أشياء، فإذا به يختبره ويقول: باللات والعزى أخبرني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أبغضت شيئاً بغضي لهما، فعرف أنه نبي صلوات الله وسلامه عليه، وأوصى به عمه، وحذره من اليهود، أنهم إذا عرفوا أنه بهذه الصفات فسيقتلونه، وطلب منه أن يرجع به صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: قبل الإسلام لم يكن يعبد اللات ولا العزى ولا الأصنام صلوات الله وسلامه عليه، بل أيضاً كان لو وجد فرصة في أن يكسر الأصنام لَفَعَل صلوات الله وسلامه عليه.
والغرض: أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث لم يعبد الأصنام، ولم يتقرب إليها، إنما كان يعبد الله سبحانه، ويتقرب إلى ربه سبحانه، ستره الله عز وجل وهو صبي صغير، وأعطاه الحكمة صلوات الله وسلامه عليه وهو شاب كبير، حتى إن المشركين اختصموا في الحجر الأسود: من الذي يضعه؟ لما بنوا الكعبة، واختصمت على وضعه أربع قبائل، فإذا بهم يقولون: نحتكم لأول من يطلع علينا، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم أول من يخرج إليهم، فيقولون: هذا الصادق الأمين، فيأتي ويخلع رداءه ويجعله على الأرض، ويأخذ الحجر بيده الكريمة ويجعله على الرداء، ويأمر مندوباً من كل قبيلة أن يمسك بطرف من أطراف الرداء، فأمسكت كل قبيلة بطرف ورفعوا الحجر، وأخذه النبي صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة ووضعه مكانه، فكان موفقاً قبل أن يبعثه الله، ثم لما بعثه الله أكمل عليه النعمة، وهداه لهذا الدين العظيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر