يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
وصلاة الرجل جماعة في المسجد مستحبة بالإجماع وليست واجبة، والخلاف الذي ظهر بين العلماء في وجوب صلاة المرء في المسجد جماعة:
فالجمهور من المالكية والشافعية والأحناف يرون: الاستحباب، والحنابلة: يرون الوجوب، وهذا خلاف معتبر بين العلماء. وقد قال المحققون من الشافعية: إنها فرض كفاية أي: لا هي واجبة على الأعيان ولا هي مستحبة -أي: في كل منطقة فيها مسجد، وكذلك الأذان- فإن أقامها البعض سقط الوجوب عن الباقين، وإن لم يأت أحد للصلاة في المسجد أو أغلق المسجد في صلاة من الصلوات أثم الجميع.
وفي مسند أحمد بسند صحيح عن أم حميد الساعدية أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاة في مسجدي هذا)، أي: في المسجد النبوي.
وأجمل من ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن)، فـأم حميد لما سمعت ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم وعلمت أن السنة أن تقر في بيتها، أمرت الناس أن يبنوا لها مسجداً في بيتها فقرت فيه، فلم تخرج منه حتى ماتت ولقت ربها، فرضي الله عنها من امرأة أطاعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يقول.
وهذا يؤكده قول الله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]، والصحيح الراجح: أنه يجوز للمرأة أن تخرج للمسجد وتشهد الجمعة والجماعات لكنه خلاف الأولى.
وعن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه كما في الصحيح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، فقامت امرأة عمر لتخرج إلى المسجد، فهيأت نفسها ذات يوم فأرادت أن تخرج إلى المسجد، فقال ابنه: أما علمت غيرة أبي؟ فقالت: أو يمنعني عمر وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)؟
وفي واقعة أخرى: أن عمر قال لها: إلى أين تذهبين يا لكع؟ فقالت له: أذهب إلى المسجد، فوقف حائراً، فقالت: أتمنعني؟ فخشي على نفسه، فقال: لا أمنعك ولكن أكره، يعني: أكره خروجك، فلم تعبأ بالكلام وخرجت إلى المسجد عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله).
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (كانت نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن) فالنساء كن يخرجن إلى المساجد، وصلاة المرأة جائزة في المساجد، ولا إنكار عليهن، مع أنه خلاف الأولى.
بل وفي حديث صحيح عن ابن عمر : (كن يتوضأن بجانب الرجال)، أي: كان المكان الذي يتوضأ فيه الرجال والنساء مكاناً واحداً، فكان الرجال يولون ظهورهم للنساء، ويولي النساء ظهورهن للرجال، فلا هذا يطلع على هذا ولا هذا يطلع على هذا، وهذا الظن بالصحابة رضوان الله عليهم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى النساء في المسجد، ويحترم مكانهن، فقال: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها) وهذه دلالة على أنه كان يسوي هذه الصفوف، (وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها).
وأيضاً: كان يمنع النساء أن ترفع قبل أن يرفع الإمام، وكان إذا انتهى من صلاته أخر الرجال حتى تخرج النساء من المسجد؛ احتراماً لوجود النساء، ففي هذا دلالة على جواز خروج النساء للمسجد، وإن كان خلاف الأولى.
وهذا القول هو قول الجماهير، وما خالف فيه إلا عائشة وابن مسعود ، فقالا: بجواز خروج المرأة فقط في عصر النبوة، أما بعد عصر النبوة فعلى الكراهة أو على التحريم، والحديث صريح عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها كانت تقول: لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثت النساء بعده لمنعهن من المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل.
وأيضاً: قال ذلك ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وقال بذلك أيضاً: ولد لـعبد الله بن عمر عندما قال له: قال رسول الله: (لا تمنعوا إماء الله مساجد ا لله) فقال: والذي نفسي بيده لنمنعهن، أي: إذا دخلت المسجد للغيبة والنميمة والذهاب بالمكياج وغير المكياج والكلام فيما لا ينفع بل فيما يضر.
فهذه وجهة من الوجهات التي ظهرت لنا بأن عائشة رضي الله عنها وأرضاها وابن مسعود وولداً لـعبد الله بن عمر يرون كراهة خروج المرأة، وأن الجواز كان في عصر النبوة فقط؛ لأن المرأة في عصر النبوة كانت تتحرى ألا تَفتن وألا تُفتن، ثم بعد ذلك اتخذت المرأة للفتنة، والدلالة على ذلك كما ورد في الصحيح: أن أبا هريرة رأى امرأة ذهبت إلى المسجد فاشتم رائحتها وكانت تصلي، فلما صلت قال لها: ارجعي فاغتسلي فأعيدي صلاتك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أيما امرأة صلت متطيبة فلتغتسل ولتعد الصلاة) أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه.
فالظاهر يدل على أن زمن النبوة كان فيه الحرص، والإرشاد من النبي ومن الصحابة الكرام، وبعد زمن النبوة أو بعد خروج الخيرية انتشر الفساد، فأولى بهن أن يجلسن في بيوتهن على قول عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
أما العلم فعلى أبيها أو زوجها أو أخيها أن يعلموها، فإن كان أخوها أو زوجها لا يستطيعون تعليمها فيجوز لها أن تخرج بالآداب الشرعية.
ومن جملة هذه الآداب: أنها تخرج ليلاً لا نهاراً، وهذه عادة الصحابيات الفضليات، فكن يشهدن صلاة الفجر وهذا في الليل، وأيضاً في حديث صريح عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذنكم نساؤكم بالليل)، فقيد بالليل، وهذا المفهوم غير مراد، وهو يدل هنا على الأفضلية لا على أنه مكروه، قال: (إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن).
وأيضاً: ورد بسند صحيح أن أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، كانت إذا أرادات الطواف طافت خلف الرجال ليلاً على بعير، وكذلك كانت تفعل عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وفي هذا دلالة على أن الطواف يكون بالليل حتى لا تحتك المرأة بالرجل.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر