وقد بين الله سبحانه وتعالى هذا التناقض بين خلق الحسد وبين صفة الإيمان، فبين في كثير من آيات القرآن أن الحسد من أخلاق الكفار، كما بين رسوله صلى الله عليه وسلم أن الحسد لا يجامع الإيمان، فقال سبحانه وتعالى في شأن المشركين: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109]، وقال تعالى: (( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ )) إذاً: الحسد خلق من أخلاق الكفار من أهل الكتاب، حسدوا المؤمنين على أعظم نعمة وهي: نعمة الإيمان، ونعمة الإسلام، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109].
أيضاً: الحسد من أخلاق المشركين، قال الله عز وجل: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:54] قال المفسرون: المقصود بالناس هنا هذا عام أريد به خصوص النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك كما في قوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران:173].
فالمقصود بالناس في قوله: (الذين قال لهم الناس) نعيم بن مسعود فهنا كذلك: (( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ )) بل أيحسدون محمداً صلى الله عليه وسلم على ما آتاهم الله من فضله؟ أي: من نعمة الوحي والرسالة، وفي الحديث: (ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين) رواه الإمام أحمد وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها.
إذاً: الحسد أيضاً من أخلاق اليهود، والحسد كذلك من أخلاق المنافقين، فقد قال الله عز وجل في شأنهم: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]، وقال عز وجل: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [التوبة:50].
فهذا كله يؤيد هذا المعنى الذي ورد في آخر الحديث: (ولا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والحسد)، فيوجد الحسد لكن مع الكفر، سواء كفر المشركين أو كفر أهل الكتاب أو كفر المنافقين والعياذ بالله، أما المؤمن فليس من خلقه أن يحسد عباد الله سبحانه وتعالى، بتعبير آخر نستطيع أن نقول: المؤمن الكامل لا يحسد، فمن وقع منه الحسد فقد وقع في محرم حرمه الله سبحانه وتعالى عليه.
قيل للحسن البصري : يا أبا سعيد ! هل يحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك بني يعقوب لا أبا لك! حيث حسدوا يوسف، ولكن غم الحسد في صدرك، فإنه لا يضرك ما لم يعدو لسانك، وتعمل به يدك.
يعني: إذا وجد الإنسان شيئاً من هذا فليجاهد نفسه، فإنه ليس محرماً عليه في هذه الحالة، فإن هذا من جهاد النفس، إذا راودته نفسه على الحسد، وتمني زوال النعمة عن أخيه المؤمن، فعليه ألا يستسلم لذلك، ولا يسترسل ويجاهد نفسه، فيقع في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد أن يجاهد الرجل نفسه وهواه). قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وتأمل تقييده سبحانه شر الحاسد بقوله: (( إِذَا حَسَدَ )) والآن نحن دخلنا من الحديث في تفسير الآية الأخيرة من سورة الفلق، بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:2] * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3] * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4] * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:5] هذا هو المستعاذ به الأخير في هذه السورة، وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:5].
فقيد الله سبحانه وتعالى شر الحاسد بقوله: (( إِذَا حَسَدَ ))؛ لأن الحاسد قبل توجهه إلى المحسود بالحسد لا يتأتى منه شر، فلا محل للاستعاذة منه، لكن يستعاذ منه متى؟ (( إِذَا حَسَدَ ))؛ لأنه ربما يكون إنساناً متصفاً بهذه الصفة، لكنها كامنة فيه فلا تخرج، ولا يصدر منه هذا الحسد إلا إذا توجه نحو المحسود، فيقع حينئذ الحسد، ومن ثم قال الله تعالى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:5] يعني: حال حسده لغيره.
ولهذا أيضاً: نفس العقد لم يقل الله سبحانه وتعالى: (ومن شر ساحر إذا سحر)، لكن قال: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4]؛ لأن النفث في العقد هو عين السحر، ونفس ممارسة السحر يكون بالنفث في العقد، فتكون الاستعاذة واقعة موقعها عند سحره الواقع منه بنفثه الحاسد منه في العقد، أما في الحسد فقال: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:5].
فالرجل قد يكون عنده حسد، ولكنه يخفيه، ولا يرتب عليه أذى بوجه ما لا بقلبه ولا بلسانه، ولا بيده، بل يجد في قلبه شيئاً من ذلك، قد يجد في قلبه تمني زوال نعمة الغير، لكنه لا يسترسل مع هذا التمني، ولا يعامل أخاه المسلم بما لا يحبه الله، فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا من عصمه الله سبحانه وتعالى، فالقوة الكامنة في قلبه قد تنبعث إذا نشطها واسترسل معها.
لكن إذا وجدت هذه القوة بأي نوع من الشرور في قلب الإنسان، فإنها تمنيه لأي شيء من الحرام، لكنه لا يسترسل معها، وإنما يجاهد نفسه ويحبسها، ولا يطيعها ولا يأتمر لها، بل يعصي هواه طاعة لله، وخوفاً وحياءً من الله، وإجلالاً له سبحانه وتعالى أن يفرغ نعمه على عباده، فيرى ذلك مخالفة لله، يرى أنه لو وقع في حسد أخيه فهذه معصية ومخالفة لله، وبغض لما يحبه الله، ومحبة لما يبغضه الله، فهو يجاهد نفسه على دفع ذلك، ويلزمها بالدعاء للمحسود، وتمني زيادة الخير له، بخلاف إذا حقق ذلك وحسد، فرتب على حسده مقتضاه من الأذى بالقلب واللسان والجوارح، فهذا هو الحسد المذموم، وهذا كله حسد تمني الزوال.
قال الألوسي : الحسد الغريزي الجبلي إذا لم يعمل بمقتضاه من الأذى مطلقاً، بل عامل المتصف به أخاه بما يحب الله تعالى مجاهداً نفسه، لا إثم فيه، بل يثاب صاحبه على جهاد نفسه، وحب معاملته أخاه ثواباً عظيماً؛ لما في ذلك من مشقة مخالفة الطبع كما لا يخفى، أيضاً: هذا هو المقصود، أنه إذا وجد الإنسان شيئاً من ذلك، فلا يطيع هواه، ولكن يجاهد نفسه.
هذا هو الحد الذي يمكن أن يقع من المؤمن، لكنه يطرده من قلبه، ويشفق لأخيه، ولا يقع في تمني زوال نعمة الله سبحانه وتعالى عليه.
إذاً بينا أن الحسد حرام على المؤمن كما ستأتي الأدلة أيضاً مفصلة على ذلك، بل من العلماء من عده من كبائر القلب، وكبائر القلب أشد وأخطر وأعظم من كبائر الجوارح، فلماذا يحرم الحسد على المؤمن؟ لأننا كما نرى هنا نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان الكامل عن الذي يحسد، فقال: (ولا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والحسد).
فهذا مما يدل على وجوب تنقية المؤمن قلبه من أن يجامع إيمانه الحسد.
كذلك من النصوص التي وردت، والتي تبين تنافي خلق الإيمان مع خلق الحسد، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
فإذاً: نفى الإيمان عن الشخص الذي لا يحب لأخيه مثلما يحب لنفسه من الخير، فما بالك بمن يحب أن يزول الخير عن أخيه المؤمن، هل هذا يكون فيه إيمان؟ إذاً: هذا ينافي صفة الإيمان (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
ربما بعض الناس يفهم أنه لا يحب لأخيه إلا ما يحب لنفسه، أي شيء يحبه، يعني: يحب لنفسه أن يكون عنده مثلاً جهاز خبيث مثل الفيديو فيحمل الحديث (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) على هذا، كلا، ولذلك جاءت رواية أخرى تبين المقصود وهي: (من الخير)، أما هذا فشر محض، ففسر الإشكال الحديث الآخر: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير).
قول الله عز وجل في هذه السورة: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:5] حاسد هنا يعم الجن والإنس، فإن الشيطان وحزبه يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، كما حسد إبليس أبانا آدم عليه السلام، وهو عدو لذريته كما قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6]، ولكن كلمة (الحاسد) تعم الجن والإنس كما ذكرنا، يعني: الحاسد من الجن أو الحاسد من الإنس؛ لأن إبليس يحسد بني آدم أو المسلمين على نعمة الإيمان.
ولذلك يحرص على أن يضلهم، وعندما يسجد المؤمن سجدة التلاوة، يعتزل الشيطان ويبكي، ويقول: أمر ابن آدم بالسجود فسجد، وأمرت بالسجود فلم أسجد، فيحقد الشيطان ويحسد ابن آدم، قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الأعراف:27].
إذاً: هو حقود على آدم وذريته، حسود لهم يتمنى زوال نعمة الإيمان عنهم، ليكونوا شركاءه في النار، لكن الحاسد يعم الجن والإنس، الحاسد قد يكون من الجن أو من الإنس كما بينا، أما الوسواس فهو خاص بالجن، فالذي يقدر على الوسوسة شياطين الجن، والحسد أخص بشياطين الإنس، أما الوسواس فيعمهما.
يعني: صفة الوسوسة كما قال الله عز وجل في آخر السورة: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ [الناس:4] إلى مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس:6].
يعني: الوسواس يكون من الجن ومن الناس، لكن الجن أخص بصفة الوسوسة، كذلك الحسد من الجن والإنس، لكن الإنس أخص بالحسد، فكلا الشيطانين حاسد موسوس، والاستعاذة من شر الحاسد تتناولهما جميعاً، هذه السورة اشتملت على الاستعاذة من كل شر موجود في العالم مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:2]، تضمنت شروراً أربعة يستعاذ منها: شراً عاماً، وهو قوله تعالى: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:2]، شر خلق الله سبحانه وتعالى. ثم شراً خاصاً فقال: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3] فهذان نوعان.
ثم ذكر شر الساحر والحاسد، وهما نوعان؛ لأنهما من شر النفس الشريرة، أحدهما -وهو الساحر- يستعين بالشيطان ويعبده، وقل ما يتأتى السحر بدون نوع عبادة للشيطان، وتقرب إليه، الساحر لابد أن يقع في شرك يتقرب به إلى الشيطان، إما بأن يذبح للشيطان أو باسمه، يقصد الشيطان فيكون ذبحه لغير الله، وغير ذلك من أنواع الشرك والفسوق، الساحر لا يسمي هذا الفعل عبادة للشيطان، لكن هو في الحقيقة عبادة للشيطان، وإن سماه بما سماه به، فإن الشرك والكفر هو شرك وكفر لحقيقته ومعناه، لا لاسمه ولفظه.
فلو أن هناك شخص سجد لمخلوق، وقال: هذا ليس بسجود للمخلوق، ولكنه خضوع وتقبيل للأرض بالجبهة، يقول: سمه ما شئت، سمه إكراماً، سمه محبة للصالحين، فهو عبادة لغير الله سبحانه وتعالى، فمهما سمى واستعمل من الألفاظ، فإنه لم يخرج بهذه الألفاظ عن كونه عابداً لغير الله سبحانه وتعالى، فليسمه ما شاء، من سجد لغير الله، فليسم سجوده هذا ما شاء، لكن هو عبادة لغير الله سبحانه وتعالى، كذلك من ذبح للشيطان أو دعا الشيطان، أو استعاذ به، أو تقرب إليه بما يحب فقد عبد الشيطان مع الله سبحانه وتعالى، حتى ولو لم يسم ذلك عبادة.
كأن يسميه استخداماً للجن أو غيره، لكن الشيطان في الحقيقة هو الذي يستخدمه ويوقعه في الكفر المبين.
وكما بينا أن هذا الشيطان في الحقيقة هو الذي يستخدمه، وليس هو الذي يستخدم الشيطان؛ لأن الشيطان لا يفعل به كما يفعل هو بالشيطان، الشيطان لا يسجد له، ولا يعبده كما يفعل الساحر مثلاً للشيطان، فالمقصود أن هذا الفعل عبادة للشيطان، وإن سماه استخداماً، قال الله عز وجل: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يس:60].
وقال عز وجل: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ:40] * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:41]، فهؤلاء وأشباههم عباد الجن والشياطين، وهم أولياؤهم في الدنيا والآخرة، ولبئس المولى ولبئس العشير.
فهذا أحد النوعين، الحاسد الذي هو الساحر.
النوع الثاني: من يعينه الشيطان، وإن لم يستعن به وهو الحاسد؛ لأنه نائبه وخليفته، الحاسد نائب وخليفة الشيطان، والمتخلق بخلق الشيطان؛ لأن كلاً منهما عدو نعم الله، ومنغصها على عباده.
اقترن السحر بالحسد، كما في هذه السورة: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4] * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:5].
فهذا يشير إلى وجود علاقة بين كل من السحر والحسد، وأقل ما يكون من هذه العلاقة هو أن لكليهما تأثيراً خفياً، فتأثير الساحر بالسحر يكون تأثيراً خفياً، وكذلك الحسد مع الاشتراك في عموم الضرر، فهذا ضار، وهذا ضار، وهذا خفي، وهذا خفي، فكلاهما إيقاع ضرر في خفاء، فكلاهما منهي عنه.
قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله في معرض بيان حكمة اقتران السحر بالحسد: الوسواس أخص بشياطين الجن، والحسد أخص بشياطين الإنس، والوسواس يعمهما كما يأتي في سورة الناس، والحسد يعمهما أيضاً، فكلا الشيطانين من الجن والإنس حاسد موسوس، فالاستعاذة من شر الحاسد تتناولهما جميعاً.
يقول: أصل الحسد هو بغض نعمة الله على المحسود، وتمني زوالها، فالحاسد عدو نعم الله، هذا الشر هو من نفسه وطبعها، ليس شيئاً اكتسبه من غيرها، يعني: الحاسد لا يزاول أعمالاً معينة خارجة كالساحر مثلاً، وإنما هو يكون خبيث النفس، ولو نلاحظ عنوان الكلام الآن، نحن نبحث في الفروق بين الحسد وبين السحر، وأوجه الاتفاق أيضاً بينهما.
يقول: شر الحاسد يكون أصلاً خلقاً راسخاً في نفسه، ومن طبعه، لم يكتسبه من غيره، بل هو من خبثها وشرها، بخلاف السحر فإنه يكون باصطفاء أمور أخرى، واستعانة بالأرواح الشيطانية، فلهذا -والله أعلم- قرنت السورة بين شر الحاسد وشر الساحر، فهو يقول: الحسد والسحر يأتيان من شياطين الإنس والجن، بقي قسم ينفرد به شياطين الجن، وهو الوسوسة في القلب، ولذلك ذكرها في السورة الأخيرة وهي سورة: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1].
فالحاسد والساحر يؤذيان المسحور والمحسود بلا عمل منه، بل هو أذى من أمر خارج عنه، بخلاف الوسوسة فكون الإنسان مكلفاً بمجاهدة الوسوسة، ولذلك أفردها بصورة مستقلة، لكن السحر والحسد يكون الإنسان فيهما مظلوماً.
يقول: والوسواس إنما يؤذي العبد من داخل بواسطة مساكنته له، وقبوله منه؛ لهذا يعاقب العبد على الشر الذي أريد به الشيطان من الوساوس التي تقترن بها الأفعال والعزم الجازم؛ لأن ذلك بسعيه، وإرادته، بخلاف شر الحاسد والساحر فإنه لا يعاقب عليه.
يقول: كثيراً ما يجتمع في القرآن السحر والحسد -هو يريد المناسبة بين الأمرين- فاليهود أسحر الناس وأحسدهم، فإنهم لشدة خبثهم فيهم من السحر والحسد ما ليس في غيرهم، قال الله عز وجل في وصف اليهود: وَاتَّبَعُوا [البقرة:102] أي: بني إسرائيل.
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102]، هذه كلها من الشرور التي خلقها الله.
لابد -ونحن نتكلم على هذه الشرور- أن نستصحب هذا المعنى: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102] بل نستصحب أيضاً وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما، وإلا وقعنا في الشرك إذا ظننا أن الإنسان يقدر على الضرر الحقيقي بنفسه، فهذا شرك، لكن الضرر يكون بإذن الله مثل ضرر المرض، أي نوع من الشرور التي تؤذي الإنسان، فهذا من البلاء الذي يبتلى العبد به ما لم يكن تفريطاً منه: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
إذاً: لابد أن نكون على حذر حتى لا نقع في شرك، أن نظن أن الغير أو العباد يملكون ضراً أو نفعاً بأنفسهم، لكن يكون بإذن الله الكوني القدري، فالله لا يحب هذه الشرور، لكنها تكون بمشيئته قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30].
فهذا وصف اليهود بأنهم كانوا سحرة، أما وصفهم بالحسد فمثل قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:54] وقوله عز وجل: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109].
لهذا كلما كان الساحر أكثر وأخبث وأشد معاداة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم كان سحره أقوى وأنفذ؛ ولهذا سحر عباد الأصنام، طبعاً أول ما نتذكر عباد الأصنام نتذكر خيلاء المصريين، معروف أنهم كانوا بارعين في هذا النوع من الكفر؛ لأنهم كانوا مغرقين في عبادة الأصنام، والشرك بالله سبحانه وتعالى، ومعاداة رسله، فلهذا كان لهم من السحر ما ليس لغيرهم أيضاً.
كلما قويت عبادة الشيطان والوثنية في قوم قوي فيهم تأثير سحرهم.
فالمقصود أن الساحر والحاسد كل منهما قصده الشر، لكن الحاسد بطبعه ونفسه، وبغضه للمحسود، والشيطان يقترن به ويعينه ويزين له حسده، ويأمره بموجبه، أما الساحر فبعلمه وكسبه، وشركه واستعانته بالشيطان.
نستطيع أن نجمل خلاصة الفروق بين الحسد، والسحر في الآتي:
الفرق الأول: الحسد: شر كامن في نفس الحاسد وطبعه، فهو ليس شيئاً اتخذه من غيره، بل هو من خبث نفسه وشرها.
أما السحر فيكون باكتساب أمور أخرى، كالنفث في العقد وهذه الأشياء، واستعانة بأرواح الشياطين.
الفرق الثاني: الحاسد تعينه الشياطين بلا استدعاء منه للشيطان؛ لأن الحاسد شبيه بإبليس، فهو حسد آدم عليه السلام لشرفه وفضله، وهو في الحقيقة من أتباعه؛ لأنه يخدم ما يحبه الشيطان، والشيطان يحب فساد الناس، ويحب زوال النعم عنهم، والحاسد نائب الشيطان وخليطته.
الفرق الثالث: الساحر يطلب من الشيطان أن يعينه، يعني: الحاسد الشيطان يعينه بدون طلب واستدعاء، أما الساحر فيطلب من الشيطان أن يعينه ويستعينه، وربما يعبده من دون الله، ليقضي له حاجته، وربما يسجد له!
ما هو تعريف الحسد؟
الحسد كالسحر يتعذر تعريفه منطقياً لخفائه؛ لأنه شيء خفي، بل الحسد أشد خفاءً من السحر؛ لأن الحسد عمل نفسي، وأثر قلبي، وقد قيل في محاولة تعريف حقيقته: إنه كإشعاع غير مرئي، ينتقل من قلب الحاسد إلى المحسود عند تحركه بقلبه على المحسود، وقد شبه حسد الحاسد بالنار.
ومعروف أن الحسد: هو تمني زوال نعمة الغير، هذا تعريفه من ناحية الواقع، أما من حيث حقيقة تأثير الحسد كيف تتم؟ فيقول بعض العلماء: إنه كإشعاع كأي نوع من الإشعاعات التي لا تراها، لكن في الحقيقة هي موجودة لا ينكر وجودها، مثلاً: أشعة إكس -هذه التي يفعلوا بها الأشعة للعظام- تنفذ من الأجسام، فيستعينون بها في تشخيص بعض الأمراض، فهذه الأشعة مثلاً نحن لا نراها، لكن نؤمن بوجودها، والذي ينكر الحسد لأنه لا يرى بالحواس الخمسة، نقول له: لماذا يؤمن بأمور الغيب كأمور الآخرة وهذه الأشياء؟ أين الإيمان بالغيب؟ لكن من حيث الحقيقة إننا ندرك شيئاً اسمه حسد في الحقيقة، ويثبته الشرع، وواقعاً وتجربة هذا أمر مستفيض في الناس، وقوع أثر هذه النفوس الخبيثة كما سيأتي إن شاء الله.
فقالوا: إنه كإشعاع غير مرئي، لكن لا نجزم ما هي كيفيته بالضبط، لأنه حاول العلماء تعريف الحسد فقالوا: كإشعاع غير مرئي ينتقل من عين الحاسد، أو يأتي من روح الحاسد، ونفسه الخبيثة التي تحسد، وننسب الحسد إلى العين لأن العين هي الوسيلة التي يرى بها نعم الله على العباد، فينتقل هذا الشعور من قلب الحاسد إلى المحسود في حالة معينة عند تحرق قلبه عن المحسود، وعند اشتعال نار الحقد والغضب على نعمة الله سبحانه وتعالى على هذا المحسود، فيؤثر بإذن الله في هذا المحسود، ولذلك شبهوه بالنار قال بعضهم:
اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله كالنار تأكل بعضها إلم تجد ما تأكله
وقال بعض الحاسدين بعدما تاب من الحسد: كنت إذا حسدت رجلاً أجد حرارة في عيني، كأن عينه تشتعل فيها حرارة من شدة تغيظه على نعمة الله على خلقه.
وقالوا: الحسد: هو اسم يقع على إرادة زوال النعم عن الغير، وحلولها فيه.
أو إرادة عدم حصول النعمة للغير شحاً عليه بها.
من أقوى الأدلة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود قوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:5] كلمة: (( إِذَا حَسَدَ )) إثبات أن هناك حقيقة لهذا الشر.
فبعض الكتاب يذهب إلى أن الحسد: أن تتمنى زوال النعمة، ويجب أن يترتب عليها أذية باليد، وباللسان، وبالجوارح، لكن مذهب أهل السنة في هذه المسألة: أن يؤمن الإنسان بوجود الحسد حتى ولو لم يتعد إلى الأذية باليد أو البدن أو الجوارح، وإنما يؤمن بوجوده في القلب وفي النفس الخبيثة كما يبين الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، يقول رحمه الله في قوله تعالى: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:2] * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:5] تحقق الشر منه عند صدور الحسد.
والقرآن ليس فيه لفظة مهملة، اللفظة المهملة هي التي لا معنى وراءها، ومعلوم أن الحاسد لا يسمى حاسداً إلا إذا قام به الحسد، تقول: هذا رجل ضارب، قام به الضرب، شاتم، قام به الشتم، كذلك حاسد يعني: قام به فعل الحسد، قاتل يعني: قتل، ولكن قد يكون الرجل في طبعه الحسد، وهو غافل عن المحسود لاه عنه، فإذا خطر على ذكره وقلبه انبعثت نار الحسد من قلبه إليه، فوجهت إليه سهام الحسد من قلبه أو من قلبه، فتأذى المحسود بمجرد ذلك، وهذا شيء لا يقع تحت الحواس، لكن الواقع يشهد له.
فإن لم يستعذ بالله ويتحصن به، وتكون له أوراد من الأذكار والدعوات، والتوجه إلى الله، والإقبال عليه بحيث يدفع عنه من شره بمقدار توجهه وإقباله على الله وإلا ناله شر الحاسد ولابد.
إذاً: الحسد سبق بوقوع الشر، وربما لا يقع تأثيره إذا وجدت موانع في الشخص، عنده مناعة المحسود نفسه، كيف المناعة؟ بالذكر.. بالتحصن.. بالأدعية والأذكار، وقوة الإيمان، فلا يناله هذا الشر، وإلا وقع فريسة له ولابد.
قوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:5]، هذا بيان لمعنى شر الحاسد؛ لأن شره إنما يتحقق إذا حصل منه الحسد بالفعل.
وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه: {أن جبريل كان يرقي النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك}، فهذه استعاذة من شر عين الحاسد، ومعلوم أن عينه لا تؤثر بمجردها، يعني: عينه كجارحة لا تؤثر، الذي يؤثر هو نفسه، وروحه الخبيثة، إذ لو نظر الحاسد إلى المحسود نظر لاه ساه غافل عنه، ولم يقصده، ولم يوجه نفسه الخبيثة إليه كما ينظر إلى الأرض أو إلى الجبل وغيره، فإنه لم يؤثر فيه شيئاً.
وإنما إذا نظر إليه نظر من قد تكيفت نفسه الخبيثة، كأن يحصل نوع من التفاعل في نفسه الخبيثة، واتسمت واحتدت واشتعلت فيها نار الحسد، فصارت نفساً غضبية خبيثة حاسدة أثرت بها تلك النظرة، فأثرت في المحسود تأثيراً بحسب صفة ضعفه، وقوة نفس الحاسد، فمن الذي يغلب؟ حسب قوة هذا وضعف ذاك، فربما أعطبه وأهلكه كما سنرى في الأحاديث، وهذا بمنزلة من صوب سهماً -يعني: وجه سهماً- نحو رجل عريان فأصاب منه مقتلاً، لكن لو أن هذا الرجل قد ارتدى درعاً سابغاً لا يخترقه السهم، فهذا الدرع يحميه من هذا السهم، وهذا الدرع في قضيتنا هو الذكر والقرب من الله سبحانه وتعالى.
وربما صرعه وأمرضه، والتجارب عند الخاصة والعامة بهذا أكثر من أن تذكر، فهذه العين إنما تأثيرها بواسطة النفس والروح الخبيثة، وليس العين نفسها، وهي في ذلك بمنزلة الحية التي إنما يؤثر سمها إذا عضت واحتدت، فإنها تتكيف بكيفية الغضب والخبث، فتحدث فيها تلك الكيفية من السم، فتؤثر في الملسوع.. إلى آخره.
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم نوعين من الحيات قال: {اقتلوهما، فإنهما يطمسان البصر، ويسقطان الحبل}. يعني: تأثير هاتين الحيتين بمجرد رؤية الإنسان إليهما فقط، فقد يطمسان بصره، ويسقطان الحبل، فالحمل بالرؤية فقط، وليس بممارسة مادية، إذاً: هذا تأثير النفس الخبيثة لهذه الحية، فإذا كان هذا في الحيات، فما الظن في النفوس الشريرة الغضبية الحاسدة إذا تكيفت بكيفيتها الغضبية، واتسمت وتوجهت إلى المحسود بكيفيتها؟!
يقول ابن القيم : فلله كم من قتيل، وكم من سليب، وكم من معافى عاد مضنىً على فراشه، يقول طبيبه: لا أعلم داءه ما هو، فصدق.
يقول: هذا الطبيب صادق؛ لأن هذا داء ليس من علم الطبائع، لا يدخل في يد الطب هنا؛ لأنه شيء حسي واضح، وهذا من علم الأرواح وصفاتها وكيفياتها، ومعرفة تأثيراتها في الأجسام، والطبائع، وانفعال الأجسام عنها، هذا علم لا يعرفه إلا الخواص من الناس، والمحجوبون ينكرون له.
يقول: وهل الأجسام إلا كالخشب الملقى. يعني: الجسد نفسه عبارة عن إنسان بروح وجسد، في قوانين تحكم الجسد، وهذه متروكة للأطباء، وأهل العلوم المادية، وفي أشياء تحكمها المعرفة بالأرواح، وبهذه الأمور الغيبية، يقول: هل الانفعال والتأثير -حدوث ما يحدث عنها من الأفعال العجيبة والآثار الغريبة إلا من الأرواح، هل الجسد نفسه يؤثر بشيء؟
تخيل نفس الجسد وهو ميت ماذا يكون تأثيره؟ الأجسام عبارة عن آلة بمنزلة آلة الصانع، لكن المؤثر يكون الروح.
فالصنعة في الحقيقة له، والآلات وسائط لوصول أثره إلى الصنع، يقول: ومن له أدنى فطنة وتأمل أحوال العالم، ولطفت روحه، وشاهد أحوال الأرواح وتأثيرها، وتحريكها الأجسام، وانفعالها عنها. يعني: يرى من ذلك آيات عظيمة على ربوبية الله، ووحدانيته سبحانه وتعالى، ويوقن أن ثم عالماً آخر تجري عليه أحكام أخر، تشهد آثارها وأسبابها غيب عن الأبصار، فتبارك الله رب العالمين، وأحسن الخالقين الذي أتقن ما صنع، وأحسن كل شيء خلقه.
ولا نسبة لعالم الأجسام إلى عالم الأرواح، بل هو أعظم وأوسع، وعجائبه أبهر، وآياته أعجب.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: تأمل هذا الهيكل الإنساني إذا فارقته الروح، كيف يصير بمنزلة الخشبة، أو القطعة من اللحم، فأين ذهبت تلك العلوم والمعارف والعقل، وتلك الصنائع الغريبة، وتلك الأفعال العجيبة، وتلك الأفكار والتدبيرات، كيف ذهبت كلها مع الروح؟
وبقي الهيكل سواءً هو والتراب، هذه حقيقة ندركها جميعاً.
هل يخاطبك الإنسان أو يراك، أو يحبك أو يواليك، أو يعاديك، ويخف عليك ويثقل -تجد بعض الناس فتشعر أنه خفيف، وتجد بعض الناس كأنه جبل فوق رأسك وهذا بتأثير الروح، فهو شيء لا يخضع للقوانين المادية الحسية، لكن هذا عالم آخر له قوانين أخر- ويؤنسك ويوحشك، إلا ذلك الأمر الذي وراء الهيكل المشاهد بالبصر، فرب رجل عظيم الهيولى، كبير الجثة، خفيف على قلبك، حلو عندك، وآخر لطيف الخلقة، صغير الجثة أثقل على قلبك من جبل.
وما ذاك إلا للطافة روح ذاك وخفتها وحلاوتها، وكثافة هذا وغلظ روحه، ومرارتها، وبالجملة فالعلق -العلائق- والوصل التي بين الأشخاص والمنافرات والبعد إنما هي للأرواح أصلاً، وللأشباح -للأجسام- تبعاً. هذا كلام ابن القيم في إثبات تأثير الأرواح الخبيثة بالخير أو بالشر، قال أيضاً في موضع آخر: لا يمكن لعاقل أن ينكر تأثير الأرواح في الأجسام فإنه أمر مشاهد محسوس، لو تثائب رجل بحضرتك، ربما تثاءبت أنت، ربما تثاءب جميع الجالسين، هل في وصلة مادية معينة بين هذه الأجسام جعلتها تنتقل إليها التثاؤب بهذه الطريقة؟ ليس إلا من تأثير النفس الكسلان، فتجالس الكسول فينتقل إليك هذا الكسل، فإذا تثاءب تجد نفسك ترغب أيضاً في أن تتثاءب هل في سلك نراه يوصل، أو أي وصلة مادية حسية أثرت هذا التأثير؟ وهذا تأثير الأرواح على بعضها البعض.
يقول أيضاً: أنت ترى الوجه كيف يحمر حمرة شديدة إذا نظر إليه من يحتشمه ويستحي منه، ويصفر صفرة شديدة عند نظر من يخافه إليه.
هل توجد وصلات مادية هي التي أثرت، أم أنه تأثير الروح؟
والتأثير غير موقوف على الاتصالات الجسمية، التأثير قد يكون بالاتصال بفعل مباشر يعني: شخص خنق شخصاً فهذا يؤثر باتصال مباشر بمباشرة الأذية، وتارة بالمقابلة، مجرد أن يقابله وجهاً لوجه، وتارة بالرؤية، وتارة بتوجه الروح بنحو تؤثر فيه، وتارة التأثير يأتي بالرقى، والتعويذ، والأدعية.
نفس العائن لا يتوقف تأثيره على الرؤيا، العائن الحاسد لا يتوقف تأثير عينه على أن يرى الشيء الذي يحسده، فرب أعمى يوصف له الشيء، فيحسده ويؤثر فيه، وإن لم يره، وكثير من العائنين يؤثر في العين بالوصف من غير رؤيا، انتهى كلام الإمام ابن القيم في إثبات حقيقة الحسد.
يقول القرطبي : لا شبهة في تأثيره أي: في تأثير الحسد في النفوس والأموال وهذا قول عامة الأمة، ومذهب أهل السنة، وأنكره قوم مبتدعة وهم محجوجون بما يشاهد منه في الوجود.
فكم من رجل أدخلته العين القبر،وكم من جمل أدخلته القدر، لكنه بمشيئة الله سبحانه وتعالى.
والحسد نوعان: إما حسد على نعمة موجودة، أو على نعمة مفقودة، يحسد الحاسد على نعمة موجودة، بأنه إذا رأى نعمة الله على بعض عباده يتمنى أن تزول، ثم يشترط الحاسد، إما أن يتمنى أن تزول عنه لتتحول إليه هو، أو يتمنى أن تزول عنه وتتحول إلى غيره، أو يتمنى زوالها فقط غير أن يتمناها لنفسه ولا لغيره، فهذه بعض أقسام الحسد.
كذلك الحسد يطلق على إرادة عدم حصول النعمة، كاستصحاب البلاء، والمرض، والفقر لغيره، فيشفق أن تصيبه نعمة، كأنه يملك خزائن الله سبحانه وتعالى قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا [الإسراء:100].
لهذا يقولون: البخيل هو الذي يبخل بمال نفسه، والشحيح الذي يبخل بمال غيره، قال تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء:37].
فيشفق على خزائن الناس، كأنه تؤخذ هذه النعم من خزائنه هو، فيشح به على الناس، فهذه من أخبث النفوس كما نبين إن شاء الله تعالى، فالغضب يثمر الحقد، والحقد يثمر الحسد، والحسد يثمر غضب الله سبحانه وتعالى على الحاسد.
يقول بعض العلماء: الغضب شعلة نار مستكنة في طي الفئات، استكانت استكانة الجمر تحت الرماد، ترون النار عندما تكون ساكنه تحت الرماد، الظاهر رماد لكن في داخله نار، فكذلك الغضب شعلة نار عندها استعداد لأن تتوهج إذا صار الغضب على الإنسان، ويستخرجها الكبر الدفين في قلب كل جبار عنيد، كاستخراج الحجر النار من الحديد.
فمن استفزته نار الغضب فقد قويت فيه قرابة الشيطان، أي: من اشتعلت فيه نار الغضب، وخرجت من تحت الرماد أصبح عنده نسق قوي بينه وبين الشيطان، وصلة قرابة؛ لأنه خلق من نار، قال الشيطان: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12].
ومن نتائج الغضب: الحقد والحسد وبها هلك من هلك، وفسد من فسد، ومفيضهما الذي يفيض يعلن فيضان الغضب أو الحقد أو الحسد هو: (مضغة إذا صلحت صلح معها سائر الجسد) إذاً: ينبع الحقد والحسد من القلب، قال تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ [الفتح:26] حمية الجاهلية التي تصدر عن الغضب للباطل، وقال صلى الله عليه وسلم لمن استنصحه وكرر عليه النصيحة، قال له كل مرة: (لا تغضب! لا تغضب! لا تغضب!) رواه البخاري .
وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة)، ليس الشديد الذي يصرع الناس ويغلبهم، (ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) رواه مسلم .
فبينا أن الغضب يثمر الحقد، والحقد يثمر الحسد؛ لأن الإنسان إذا امتلأ قلبه حقداً على غيره، فهذا الامتلاء يدعو إلى التشفي والانتقام، فإن عمد بنفسه فالتشفي والانتقام يكون عن طريق الحسد، بعض الناس لا يكفيه الحسد، فإذا عجز عن أن يتشفى بنفسه، ولم يؤثر حسده في المحسود أحب أن يتشفى منه الزمان، وأن تأتيه مصائب، وهذه هي عين الشماتة.
فالغضب يلزمه عادة قصد من الإنسان، فإن عجز فإنه يرجع إلى نفسه ويشتد في الاحتقان والنصرة، فيصير حقداً، والحقد أن يستلزم قلبه استثقاله، والبغضة له، والنفار منه، وأن يدوم ذلك، ومن ثمرات الحقد أنه يحمل صاحبه على تمني زوال النعمة عن الشخص، فيغتم بنعمة إن أصابها، ويسر بمصيبة إن نزلت به، فهذا هو الحسد.
وأما بالنسبة لحقيقة الحسد فهو كالروح نفسها لا تعرف ماهيتها وكذلك الحسد لا تعرف ماهيته.
يعني: الإنسان الذي ينكر الغيبيات التي لا يراها بحواسه نقوله له: ما سر حياته؟ ما الفرق بين جثة الإنسان وهو حي، وبين نفس الجثة فيها نفس الحواس وهو ميت بعد لحظات؟ ما هو إلا الروح.
هناك فرق بين الإنسان العاقل، وبين الحيوان غير العاقل، أين العقل؟ هل نرى العقل؟ نؤمن بوجوده، فهناك فرق بين الإنسان والحيوان، وهو العقل، وفرق بين الميت والحي وهو الروح، فهذه لا ننكر وجودها، لكن ما هي؟ لا ندري قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، فكما ذكرنا الأمثلة هذه الأشعة، فهي غير مرئية، لكن نؤمن لأننا نرى آثارها، فلا معنى لإنكار شيء بحجة عدم رؤيته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر