وبعد:
سورة الصف من السور المدنية، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
يقول الله سبحانه وتعالى فيها: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الصف:1]، أي: نزه الله سبحانه وتعالى كل من في السموات ومن في الأرض، وعظمه سبحانه وتعالى، وهو العزيز الذي قهر، وغلب كل شيء، الحكيم في فعله وخلقه وتدبيره، كل شيء في السموات والأرض نزه الله عن كل نقص وعيب وضعف، ونزه الله عن كل مولود، وعن الوالد والزوجة والشريك كذلك.
ثم هنا عتاب لأهل الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2] ، يا من آمنتم بي، وصدقتم برسلي، وأقررتم بكتبي! (لم تقولون ما لا تفعلون) ، كَبُرَ مَقْتًا ، وكبر: أي عظم، والمقت: هو أشد البغض. كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:3]، وقد تضافرت النصوص على هذا المعنى، وذم كل من قال ولم يفعل، بل وتذم المتشبع بما لم يعط، والذي يحب أن يحمد بما لم يفعل، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44]، وقال شعيب صلى الله عليه وسلم لقومه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ [هود:88]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل من أهل النار يوم القيامة، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه -أي: تخرج أمعاؤه من بطنه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه- فيطيف به أهل النار ويكونون من حوله، ثم يسألونه: يا فلان! ما لك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! فيقول: بلى، ولكني كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه).
وقد تضافرت أيضاً أشعار العرب في ذم من هذه سبيله وطريقه، فقد قال الشاعر:
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
والأشعار في هذا الباب كثيرة.
فنصوص الكتاب ونصوص السنة المطهرة وأقوال الأفاضل والعلماء كلها تذم من قال قولاً ولم يعمل به، بل وتذم -كما سمعتم- من تشبع بما لم يعط، قال الله سبحانه: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:188] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور).
قال الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُو [الصف:2-3] ، ما هو الشيء الذي تكلم به المؤمنون ولم يفعلوه حتى عوتبوا بهذه الآية الكريمة؟ ما هو الشيء الذي من أجله عوتب المؤمنون هذا العتاب بقوله سبحانه لهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا اشتد غضب الله وعظم بغضه سبحانه وتعالى لمن قال ما لم يفعل؟
قال فريق من أهل العلم: إن هذا الشيء هو تمنيهم فرض الجهاد، وتمنيهم الإذن به، فلما أذن لهم في القتال وأذن لهم بالجهاد فر كثير منهم، كما قال سبحانه: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ [محمد:20] أي: سورة فيها إذن لنا بالقتال، وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [محمد:20-21]، فكان منهم من تمنى أن يؤذن له بالجهاد، فلما أمروا بالقتال تولوا، كما حكى تعالى قول طائفة من أهل الإيمان: لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ [محمد:20-21].
وقال الله سبحانه أيضاً في هذا المعنى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النساء:77] أي: لا تنتصروا ممن ظلمكم، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:77-78].
وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآية الأخيرة نزلت في عبد الرحمن بن عوف مع أصحاب له، أوذوا في الإسلام فقالوا: لم لم يؤذن لنا في الانتصار ممن ظلمنا، وقد كنا أعزة في الجاهلية -أي: لم يكن أحد ينال منا في الجاهلية- فلما أسلمنا أصبحنا أذلة؟ فلما فرض عليهم القتال، نكلوا عنه أو نكل فريق منهم عنه، فنزل قول الله سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا [النساء:77].
وكذلك قال الله سبحانه وتعالى في شأن بعض أهل المدينة يوم الأحزاب: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا [الأحزاب:15] ، وقد كان فريق منهم عاهد الله ألاَّ يولي الأدبار، فلما جاءهم الأحزاب يوم الأحزاب قالت طائفة منهم: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [الأحزاب:13].
فهذه النصوص مجتمعة تبين أن العتاب في قوله سبحانه: لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3] منصب بالدرجة الأولى على الذين تمنوا الإذن في الجهاد، أو تمنوا فرض القتال، فلما فرض نكلوا عنه وقصروا فيه، وإن كان عموم الآية يخرجها إلى كل من قال ما لم يفعل.
ويؤخذ من هذا: أن الشخص لا يشرع له أن يتمنى البلاء، فقد يبتلى ولا يقدر عليه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما أخرجه أبو داود بسند صحيح: (إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواهاً)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاثبتوا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف) ، فلا يجوز لك أن تتمنى مزيداً من البلاء، فإن الله قال: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [النساء:66] ، فإذا فعلت ما أمرت به ولم تطلب المزيد كان في هذا خير لك وتثبيت، وكذلك قال تعالى في الآية المشابهة: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ [محمد:21] أولى لك من أن تتمنى أشياء هي فوق طاقتك فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [محمد:21]، فلا يشرع لك أن تتمنى البلاء، ولا يشرع لك أن تتمنى الفتن، فرسولنا يقول في دعائه المأثور: (اللهم! إذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون).
فلا تدري ما تؤول إليه الفتنة معك، هل تصبر أمامها أم تضعف وترتد على الأدبار، والعياذ بالله.
ولا تنافي بين هذا وبين تمني الشهادة في سبيل الله، فتمني الشهادة في سبيل الله محمود ومرغب فيه، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)، فتمني الشهادة مشروع للرجال وللنساء، فقد تمنت أم حرام بنت ملحان الشهادة في سبيل الله، وعندما ذكر النبي الغزاة الذين يركبون ثبج البحر الأخضر، قالت: (ادع الله أن يجعلني منهم يا رسول الله! قال: أنت منهم)، فكان مآلها إلى الشهادة في سبيل الله.
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا أي: صفاً واحداً متلاحماً حتى لا يخترقهم العدو، هذا رأي أكثر المفسرين، لكن مع هذا الرأي وقفات، وآراء أخر لأهل التفسير؛ إذ الحروب تختلف في طرقها، والكر والفر أثناء القتال يستدعي مخالفة الصف، ويستدعي التقدم أو التأخر، أو الاحتيال من أجل لقاء العدو، فربنا سبحانه يقول في كتابه الكريم: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:121] فقوله سبحانه: (وإذ غدوت) أي: خرجت في الغداة، (من أهلك) أي: من عند أهلك، وهي عائشة رضي الله عنها كما في التفسير والأحاديث، (تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال) أي: تنزل المقاتلين منازلهم.
فهل يلزم هذا الآن في صور القتال التي تختلف عن تلك الصور التي كانت على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ صور القتال على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تتمثل في الضرب بالسيوف، والرمي بالسهام، والاتقاء بالدروع، ونحو ذلك، وهذه لا تتلاءم الآن مع أنظمة الحروب كما أسلفنا، فالكر والفر يستدعي أن تتقدم أو تتأخر.
وبعض المفسرين حملوا الآية على عموم الوحدة والتآلف بين المؤمنين، التآلف القلبي والتآلف الظاهري، وعلى الوحدة القلبية والوحدة الفكرية، والسمع والطاعة للإمام، وعدم الخروج عليه أثناء القتال.
فثم أقوام تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى! كما قال الله سبحانه وتعالى في شأن أهل الكتاب: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14] أي: تحسبهم في الظاهر مجتمعين على قلب رجل واحد، ولكن قلوبهم متفرقة.
والشاهد: أن من المفسرين من قال -وهو قول قوي في غاية القوة- المراد: التلاحم والتآلف بين القلوب، مع ما يترتب عليه من امتثال الأوامر الظاهرة حين يضعهم الإمام ويرتبهم، كما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يفعل، حيث كان ينزل الرماة منازلهم ويبوئ المؤمنين أماكنهم للقتال.
وحذرنا ربنا سبحانه وتعالى من التفرق والاختلاف في جملة آيات، قال سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوه [آل عمران:105]، وقال سبحانه: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].
وقال صلوات الله وسلامه عليه: (عليكم بالجماعة! فإن يد الله مع الجماعة) وأي جماعة هي المرادة؟ هي جماعة المسلمين العامة؛ إذ لم تكن ثم أحزاب ولا تكتلات على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجماعة) المراد به جماعة المسلمين العامة، التي ينطوي تحتها كل مسلم، هذا معنى كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إذ -كما أسلفنا- لم تكن الأحزاب، ولا التكتلات، ولا العصبيات، ولا القوميات موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال صلوات الله وسلامه عليه (الجماعة رحمة، والفرقة عذاب)، أي جماعة هي الرحمة؟ هي جماعة المسلمين العامة؛ إذ لم ينص في الكتاب العزيز ولا في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام على جماعة بعينها، إذ لم تكن -كما أسلفنا- هناك تحزبات ولا تكتلات على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
مع أن هذا الشعار الذي رفع: يا للأنصار! وقد أثنى الله عليهم في جملة مواطن، والمهاجرون أيضاً أثنى عليهم الله في جملة مواطن، لكن لما ولَّد هذا الشعار المرفوع فرقة واختلافاً بين المسلمين شجبه الرسول صلى الله عليه وسلم وذمه أيما ذم، ووصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنتن بقوله: (دعوها فإنها منتنة)، وكان من الذين أججوا شعار هذه الفتنة عبد الله بن أبي بن سلول ؛ إذ قال لما رأى هذا الموقف المختلف: أو قد فعلوها؟ -يعني: المهاجرين- لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فنزل قوله تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، فأصول ديننا كلها تدعونا إلى الاجتماع تحت اسم واحد، هو اسم الإسلام، ومسمى المسلمين، هذه نصوص كتاب الله كلها تنطق بذلك: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْل [الحج:78] (هو): راجعة إلى من؟
قال كثير من أهل التأويل: إن (هو) راجعة إلى الله سبحانه، أي: الله الذي سمانا المسلمين، ويدل عليه حديث الرسول عليه الصلاة والسلام الذي أخرجه أحمد وغيره بسند صحيح، عن الحارث الأشعري مرفوعاً: (تسموا بما سماكم الله به، هو سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله).
ولكن شاء الله سبحانه -ولا راد لقضائه-: أن تتفتت أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وتتفرق إلى شيع وأحزاب، كما تفرق من كان قبلها، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (سألت ربي ثلاثاً؛ فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته ألا يجعل بأس أمتي بينها فمنعنيها)، ولما نزل قول الله جل ذكره: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ [الأنعام:65]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجهك! ولما قال: أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الأنعام:65] قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك! ولما قال: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65] قال النبي عليه الصلاة والسلام: هذه أهون!).
فشاء الله أن يقتل بعض أمة محمد بعضاً، وأن يسبي بعضهم بعضاً، وأن يغير بعضهم على بعض، حكمة الله وسنة الله تعالى في خلقه، ولكن ليس لنا مخرج إلا الاجتماع تحت كتاب ربنا وسنة نبينا، والتآلف مع عموم المسلمين.
ولم يقف الأمر إلى هذا الحد، بل المذاهب أيضاً التي يفترض فيها جميعها أن يكون منطلقها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في الفتيا ثم أقوال الصحابة تعصب لها أهلها غاية التعصب، تعصب الشافعية في أوقات للمذهب الشافعي أيما تعصب، وتعصب الأحناف للمذهب الحنفي أيما تعصب، وكذلك الحنابلة، وكذلك المالكية، حتى صدرت جملة من الفتاوى تحرم على بعض أهل المذاهب الزواج من المذهب الآخر، وقد شكى من هذا الصنعاني رحمه الله تعالى صاحب كتاب سبل السلام وهو ابن الأمير الهاشمي المشهور، وذكر رحمه الله تعالى أبيات شعر يتوجع فيها غاية التوجع من أهل زمانه الذين ناصبوه العداء، لا لذنب اقترفه، ولا لإثم ارتكبه، إلا لكونه متبعاً للدليل الوارد من الكتاب والسنة فقال -رحمه الله تعالى- ناعياً على قومه، وناعياً أيضاً على أقربائه من آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام الذين تعصبوا للمذهب الزيدي، قال فيهم وفي غيرهم من المتعصبة الذين نبذوا الأدلة وراء ظهورهم:
وأقبح من كل ابتداع رأيته وأنكاه من قلب المولع بالرشد
مذاهب من رام الخلاف لبعضها يعض بأنياب الأساود والأسد
فيرميه أهل الرفض بالنصب فرية ويرميه أهل النصب بالرفض والجد
وليس له ذنب سوى أنه غدا يتابع قول الله في الحل والعقد
فإن كان هذا ذنب فحبذا به ذنب يوم ألقاه في لحدي
وفي ثناياها أبيات أخر سقطت:
يصب عليه سوط ذم وغيبة ليجفوه من قد كان يهواه عن عمد
الكل يصب عليه سياط الاغتياب، والقيل والقال، والكذب والافتراء، حتى يرفضه الآخرون وينبذونه.
وتوجع آخر فقال:
إن يسألوا عن مذهبي لم أبح به وأكتمه وكتمانه لي أسلم
ونحن لا نوافقه على مسألة الكتمان تلك، قال:
إن يسألوا عن مذهبي لم أبح به وأكتمه وكتمانه لي أسلم
فإن حنفياً قلت قالوا بأنني أبيح الطلا وهو الشراب المحرم
وإن مالكياً قلت قالوا بأنني أبيح لهم لحم الكلاب وهم هم
وإن شافعياً قلت قالوا بأنني أبيح نكاح البنت والبنت تحرم
وإن حنبلياً قلت قالوا بأنني ثقيل بغيض حلولي مجسم
وإن قلت من أهل الحديث وحزبه قالوا تيس ليس يدري ويفهم
عجبت من هذا الزمان وأهله فمن ذا الذي من ألسن الناس يسلم
اسمعوا -يا مسلمون- لسنا منتظمين مع أي جماعة من الجماعات على الإطلاق، المسلمون كلهم لنا إخوة كما قال الله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة [الحجرات:10] نتعاون مع كل مسلم في حدود استطاعتنا، وفيما يقره شرعنا، وهذه المسميات أورثت تعصبات وحزبيات وعداوات لا حصر لها، يأتي العالم ممن ليس في جماعتك فلا تحضر له درساً، ولا تسمع منه آية ولا حديثاً، ثم يأتي عالم أو جاهل من جماعتك ومن حزبك فتقوم له وتقعد، وتدعو إليه القاصي والداني، وهذا ليس من الإنصاف في شيء، فربنا أمرنا أن نكون كما قال: قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [النساء:135].
إمارات شتت المسلمين وفرقت جمعهم، وكل يدعي أن عمله الجماعي دعا إليه الإسلام، حقاً العمل الجماعي دعا إليه الإسلام، ولكن أي جماعة هي؟ إنها الجماعة العامة للمسلمين، ليست جماعة ولا حزباً يضحك عليه ويأمرِّ عليه أميراً، ويبدأ العمل السري الذي هو أخطبوط لا تدري ما مصدره ولا منتهاه.
صحيح أن العمل الجماعي مستحب، ولكن بين عموم المسلمين، والعمل الجماعي ليس محصوراً في فئة يضحك عليها شخص أنه أمير لها، ويأتي حدث من الأحداث يعين أميراً للدقهلية، أو أميراً للغربية، ويفرح بالإمارة ويبدأ في تجميع الناس حوله.
أصبحت هذه بدع بالية والحمد لله، طغت عليها كلها أقوال سلفنا الصالح من أصحاب رسول الله، ومن التابعين لهم وأتباع التابعين.
وقد كان سبب ذهاب دولة الأندلس ومطالعه وبشائره السيئة هذه الفرقة التي حدثت في بلاد المسلمين الآن، جماعات متعددة، الكل يتناحر، والكل يغتاب الآخر، والكل بعيد عن كتاب الله وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم!
فدعوة -معشر الإخوة- إلى الالتمام والانطواء تحت كتاب الله وسنة رسول الله، والسير على ما سار عليه أصحاب نبينا، وأتباع نبينا؛ إذ هم خير القرون، قال عليه الصلاة والسلام (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب) كما قال الرسول عليه أفضل صلاة وأتم تسليم.
وإنه لعجب أن يتجه أقوام إلى دينهم، يخرجون من الجاهلية، ومن لوث المعاصي، ويبتدئون في الاتجاه إلى الدين، وإذا بالأنياب تختطفهم، هذا يريدهم مع الإخوان المسلمين، وهذا يريدهم مع الجهاد، وهذا يريدهم مع التنظيم السلفي، وهذا يريدهم مع أنصار السنة! أشياء تشتت على الشخص فكره، وتشعب على المبتدئ فكره وعقله، ومن الذي يعلم الناس كتاب الله؟ ومن الذي يعلمهم سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام؟
فمعشر الإخوة! رجعة إلى أصحاب رسول الله، ورجعة إلى منهج أصحاب رسول الله.
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حدثت بينه وبين ابن الزبير خلافات، فحواها وسببها: أن ابن الزبير لما مات معاوية، وولي ابنه يزيد الخلافة عن غير إمرة شرعية حقيقية، بل كانت سنة غير متبعة، حينها بويع لـابن الزبير من أهل مكة، ومن أهل الحجاز قاطبة، ومن أهل العراق، ومن عدة دول، وامتنع عليه أهل الشام في طائفة، فجيء لـابن عباس كي يبايع، فقال: لا أبايع حتى يجتمع المسلمون كلهم على إمام واحد، وانضم إلى ابن عباس في هذه الوقفة محمد بن الحنفية العالم الحبر الكريم ابن علي بن أبي طالب ، وكان مآلهما إلى أن أخرجا وأبعدا إلى الطائف رحمة الله ورضوانه عليهما.
الشاهد: أن ابن عباس لم يرض أن ينطوي تحت لواء إلا إذا اجتمع المسلمون كلهم على هذا اللواء.
ثم يأتي من يشغب بأحاديث يفهمها للناس على غير وجهها، يشعب عليهم بحديث الرسول (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)، وهذا التشغيب مرفوض، فما هي البيعة؟ هل يصح أن آخذ ثلاثة أو أربعة، أو مائة أو ألفاً، وأخدعهم وأقول لهم: أنا أميركم بايعوني وإلا فستموتون ميتة جاهلية؟ من الذي قال ذلك؟
الإمام أحمد روي أنه قال في شرحه لهذا الحديث: هذا في الإمام الذي يجتمع عليه المسلمون، ويشار إليه بالأصابع. أما التشعبات والتفرقات فقد قال فيها نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)، فمن هو الخليفة الآن؟ إنها أصبحت فوضى، كما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام في حديث حذيفة بن اليمان إذ قال له: (فماذا تأمرني يا رسول الله؟ قال: اعتزل تلك الفرق، ولو أن تعض على أصل شجرة)، لكن العلماء يضبطون هذا الحديث: اعتزلهم في الشر، وشاركهم في الخير، شارك المسلمين في جنائزهم، شاركهم في أعمال البر التي يقومون بها، ولا تحكر نفسك على جماعة بعينها، كتاب الله ليس فيه أن جماعة باسمها يجب أن تتبع دون غيرها، سنة رسول الله بين أيدينا هي الحكم على القاصي والداني، إن زلت قدم شخص كائناً من كان أو وقع في شيء من هذه الأمور فإنه لا يتبع، هذا الله قد وطأ لذلك بفعل الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما استغفر لأبيه، فقال الله سبحانه وتعالى: إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة:4].
أيها الإخوة! مضت عهود البدع والخرافات، والضحك على الشباب، والضحك على الأخوات، مضت هذه العهود بما فيها، أيام كان الجهل فيها يغطي على الأفئدة، والآن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام ظاهرة للجميع، الكل لنا إخوان مسلمون، الكل إخواننا في الله، نحبهم بقدر ما فيهم من صلاح، ولا نحمد فيهم خصالهم السيئة، كذلك جعلنا ربنا أمة وسطاً.
قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4].
الشاهد: ( إذا أحب الله عبداً نادى جبريل )، فصفة المحبة ثابتة لله بنصوص الكتاب ونصوص السنة، وكذلك صفة البغض.
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4].
أي: في تشابكهم واجتماعهم وتآلفهم، كما في الحديث (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)
وفي قوله عليه الصلاة والسلام: ( المؤمن للمؤمن ) تعميم للأخوة، قال سبحانه: كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ .
يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ [الصف:5] (قد): هنا للتحقيق وللتأكيد، أي: وأنتم تعلمون أني رسول الله إليكم، أي: مع علمكم برسالتي.
آذوه عليه الصلاة والسلام في رسالته، وآذوه عليه الصلاة والسلام في عرضه، وآذوه عليه الصلاة والسلام في خلقه.
فآذوه في رسالته بقولهم: جْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138]، وآذوه في رسالته بقولهم كذلك: هَذَا إِلَهُكُمْ [طه:88] لما تبعوا السامري على عبادة العجل، وآذوه في رسالته بقولهم كذلك: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة [البقرة:55]، وآذوه في رسالته بجملة من الأمور في الدين.
وفي العرض كذلك، فمنهم من اتهمه بأنه قتل هارون! وأنه زنا بامرأة!
وفي خلقه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن موسى النبي كان رجلاً حيياً، فكان يستحي أن يغتسل عرياناً، فقال الإسرائيليون: ما يمنع موسى من الاغتسال عرياناً إلا أن بجسمه أُدره -يعنون أن إحدى خصيتيه أعظم من الأخرى- لذلك يمتنع عن الاغتسال أمامنا عرياناً، فالله سبحانه وتعالى أراد لتبرئته فذهب يغتسل وأبعد، واستتر بحجر ووضع ثيابه عليها، فشاء الله -والله على كل شيء قدير- أن تفر الصخرة بثياب موسى ومعه العصا، فجرى وراء الحجر يضربه ويقول: ثوبي يا حجر! ثوبي يا حجر! حتى رآه الإسرائيليون على أكمل خلق، وعلى أتم خلق، وعلى أجمل خلق، ففيه يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69]، هكذا ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما العقلانيون، والأصح ألا يقال عنهم: العقلانيون، بل هم أهل الجهل والغباء، الذين جهلوا قدرة ربهم سبحانه وتعالى، وللأسف تبعهم فريق من الكتّاب الذين كتبوا في الدين وفي الإسلام مقالات؛ إذ أنكروا كل ما لا تتصوره عقولهم، فحكموا ظلماً وعدواناً وكذباً وزوراً وبهتاناً على هذا الحديث بالضعف، لا لشيء في إسناده، ولكن قالوا: كيف يفر الحجر؟! وهذا منهم عجيب! عجيب جهلهم بقدرة الله سبحانه الذي إذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون! ألم يجعل ربنا سبحانه النار برداً وسلاماً على إبراهيم؟ ألم يجعل ربنا سبحانه الجبال تأوب مع داود عليه الصلاة والسلام، ويلين لداود الحديد عليه الصلاة والسلام؟ فالجهل بالله وبقدرة الله هو الذي حملهم على هذا الغباء، وهو الذي حملهم على هذا النفي.
الشاهد: أن هذه إحدى صور الإيذاء التي آذى بها الإسرائيليون نبي الله موسى صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم.
قال الله جل ذكره: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ [الصف:5]، و(قد): هنا ليست للتقليل ولا للتقريب ولكنها للتحقيق، أي: وأنتم تعلمون أني رسول الله إليكم، فهم كانوا يقرون برسالة موسى؛ إذ أنجاهم الله على يديه، وأغرق الله عدوهم أمام أعينهم على يد موسى صلى الله عليه وسلم، فشهادتهم له بالرسالة كائنة وثابتة.
وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ يعني: هم لم يكونوا في شك من رسالة موسى صلى الله عليه وسلم.
فالشخص إذا سلك طريق الزيغ أزاغه الله، وإذا سلك طريق الهداية هداه الله وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17]، فإذا سلكت طريق الشر ذلل لك، وإذا سلكت طريق الخير يسره الله سبحانه وتعالى لك، وعلى ذلك جملة من النصوص من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [التوبة:127]، نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67]، فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، فإذا سلكت طريق الخير أعانك الله سبحانه وتعالى على المضي فيه، وإذا سلكت طريق الشر والعياذ بالله، نالك منه كبير حظ ووفير نصيب.
قلنا: الهداية هنا هداية التوفيق، فالله سبحانه وتعالى يهدي الجميع هداية الدلالة إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد:7]، فالمراد بالهداية هنا: هداية التوفيق، أي: لا يوفق القوم الفاسقين.
يأتي سؤال آخر: كيف لا يوفق ربنا الفاسقين وقد آمن قوم من أهل الكفر والظلم؟ فكيف يقال: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف:5]؟
فالإجابة: أن المراد بالفاسقين هنا: الفاسقون الذين سبق في علم الله أنهم يموتون على الكفر والفسق، فهؤلاء كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:96-97]، فالمسلك هنا كالمسلك في: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة:264]، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258]، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف:5]، كلها على هذه الوتيرة عند أكثر المفسرين، يحملون ( الفاسقين ) هنا على من سبق في علم الله أنهم سيموتون على الفسق والكفر، هؤلاء لا يهديهم الله سبحانه ولا يوفقهم.
والفسق أنواع: يأتي بمعنى الكفر ويأتي دون ذلك، قال الله سبحانه: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الزخرف:54]، فالفسق هنا الكفر، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)؛ فسباب المسلم ليس بكفر مخرج عن الملة، وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4]؛ فالفسق هنا دون الكفر، وإسنادها ثابت بلا شك، وقد نزلت في رجال مسلمين، وكذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6]، نزلت أيضاً في رجل مسلم، والحديث حسن بمجموع طرقه.
وهذا من قواعد أهل السنة كما تقدم تقريره مراراً: أن هناك فسق دون فسق، وكفر دون كفر، وظلم دون ظلم، ونفاق عمل، ونفاق اعتقاد، وشرك أكبر، وشرك أصغر، وهذه كلها أصول يسار عليها في تقرير المسائل والأحكام، فليس حديث: (إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر) ينسحب عليه قوله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، ليست الآية منسحبة على مثل هذا؛ لأن ربنا يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فهي أصول لابد أن تفهم، إذ بها جمع أهل السنة والجماعة بين مئات من الأدلة التي ظواهرها التعارض، وبين مئات من المسائل التي أشكلت على كثير من الفرق، فوقعت بسببها إما في الإرجاء، وإما في الرفض، وإما في بدعة الخوارج، وإما في بدعة النصب عياذاً بالله من ذلك كله!
وصلى الله على نبينا محمد وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر