أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
وبعد:
إن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يذكّر وأن يعظ، فقال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا [النساء:63]، وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر من ربه، فكان يعظ خير المواعظ، حتى إن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً بليغةً وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا ..) فذكر الحديث.
وكان الوعظ أيضاً من شأن الأنبياء عموماً، فقد خرج نبي الله موسى عليه السلام ذات يوم إلى بني إسرائيل فوعظهم موعظة بليغة حتى ذرفت الدموع على اللحى، فكان -ولا يزال- الوعظ عملاً مأموراً به أمر الله به في كتابه، وفعله رسولنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم في سنته.
وخير وعظ دوماً وعظ يستقى وتستقى مادته من كتاب ربنا ومن سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ الله قال: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45]، وقال تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية:6].
فيذكر ربنا أنه آتى لقمان الحكمة؛ فعلى ذلك يستعد لاستقبال ما يعظ به لقمان، فالذي أثنى عليه هو ربه تبارك وتعالى، فمن ثمّ ينبغي أن تستقبل موعظته بآذان صاغية واعية.
أما عن لقمان فلم يرد له ذكرٌ في الكتاب العزيز إلا في هذا الموضع، ولم يرد له ذكرٌ في الثابت الصحيح -فيما علمت- من سنة النبي صلى الله عليه وسلم إلا في حديث ضعيف: ( خير السودان ثلاثة: بلال ولقمان ومهجع مولى عمر بن الخطاب) رضي الله عنه، إلا أن الخبر لا يثبت، فعلى هذا يكتفى بتعريف لقمان من الوارد في هذه الآيات، بيد أن روايات من الموقوفات على الصحابة أو التابعين ومن الإسرائيليات أفادت مطلقةً على ذلك أن لقمان كان عبداً أسود حبشياً قصيراً ذا مشافر -أي: شفاه عظيمة- عظيم القدمين مشقق القدمين، فهذه كلها في الجملة في نظرنا صفات دمامة، إلا أن الحكمة غطت هذا كله، قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
فهو وإن كان أفطس الأنف أسود الوجه ذا مشافر مشقق القدمين لكن الحديث يقول: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (التقوى هاهنا) -وأشار صلوات ربي وسلامه عليه إلى صدره ثلاث مرار.
قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ [لقمان:12]، فنعم ما أوتي لقمان؛ إذ الله تعالى قال: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269]، ونبي الله قال: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين).
وكل نعمة تحتاج إلى شكرٍ يلائمها ويناسبها، فقال تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ [لقمان:12] أي: حتى تزداد عليك هذه النعم قدم لله شكراً يوازيها، وقدم لله شكراً يكافئها. فحتى تزداد علينا نعم ربنا يلزمنا أن نقدم لها شكرا، قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
قال تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ [لقمان:12]، عائدة شكرك فعائدة عليك، وشكرك عائدٌ أثره الجميل عليك، وإلا فالله غني عن العالمين، قال تعالى: وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [لقمان:12]، فإن الله غني عنه وعن شكره، حميدٌ للشاكرين.
وفي وصيته أيضاً قال الله تعالى عنه: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132]، فبدأ لقمان في وصيته محذراً من الشرك الذي يحبط الأعمال جميعها، قائلاً: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].
قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ [لقمان:14]، ولم يجر هذا على لسان لقمان لحكمة بليغةٍ إذ هو الذي يعظ، فلا يعظ لتعود عليه عائدة من وعظه، حتى لا يُفهم أمره على غير وجهه، فجاءت الوصية بالوالدين من غير لقمان وهو الله تعالى.
قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14]، جاء بالتذكير بالوالدة بعد الوالدين؛ إذ هي أحق الناس بحسن الصحبة -كما قال صلى الله عليه وسلم- وقد سئل: (من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أبوك).
والوصايا بالوالدين تكررت كثيراً في كتاب ربكم، قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء:36]. وفي الحديث: (أي العمل أفضل يا رسول الله؟ قال: الصلاة على وقتها. قيل: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)، فَقُدّم بر الوالدين على الجهاد معشر الكرام، وكذا في أبواب الجرائم، في الحديث: (أي الذنب أعظم؟ قيل: الشرك بالله، قال: ماذا؟ قال: ثم عقوق الوالدين. وكان متكئاً فجلس. فقال: ألا وقول الزور. ألا وقول الزور. ألا وقول الزور، فما زال يكررها حتى قال الصحابة: ليته سكت)، فبر الوالدين عملٌ يستشفع به لدفع البلايا والمصائب، وتعلمون أن الثلاثة أصحاب الغار فرّج عنهم بأعمالهم، وكان عمل أحدهم بره بوالديه، وأويس الذي كان به برص دعا الله فشفاه من البرص بسبب بره بوالدته، والنصوص في هذا متظافرة متكاثرة.
قال تعالى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ [لقمان:14] أي: ضعفاً على ضعف، قال تعالى: وَفِصَالُهُ في عامين [لقمان:14] أي: وفطامه في عامين، وهو آخر أمد من الرضاعة كما قال الجمهور من العلماء، فكل رضاعةٍ بعد الحولين لا تحرم على الصحيح من قول الجماهير.
قال تعالى: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]، فقدم شكراً -أيها المرء- لربك، ثم قدم شكراً لوالديك.
ثم قال تعالى مبيناً أمراً: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]، فطاعة الله فوق كل طاعة، ثم طاعة رسول الله عليه الصلاة والسلام من طاعة الله، وهي فوق كل طاعة كذلك، ونزلت الآية في سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، وهي قوله تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [لقمان:15]، فقد أسلم سعد وكان من السابقين رضي الله عنه، وأبت أمه إلا الكفر، فدعته فقالت له: يا سعد: يا بنيّ: ما هذا الدين الذي اعتنقت؟ -وكان بارّاً بأمه- لتراجعن نفسك، ولترجعن عن دينك أو لأمتنعن عن الطعام وعن الشراب حتى أموت فتعيّر ويقال لك: يا قاتل أمه. فقال لها سعد: يا أمي! لن أرجع عن ديني -إن شاء الله- ما حييت، فامتنعت عن الطعام يوماً وليلة، فأصبحت وقد أجهدت، ثم واصلت الامتناع يوماً آخر وليلة، ويوماً ثالثاً وليلة، حتى كانوا يفتحون فمها بالقوة ويصبون لها الطعام والشراب، ففي بعض الروايات عند الطبراني أنه قال: والله -يا أميّ- لو أن لك مائة نفس، فخرجت نفساً نفسا ما تركت دين محمد، فكلي إن شئت أو لا تأكلي، فأكلت. وفي ذلك نزلت: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [لقمان:15]، فلا طاعة في معصية الله، ولكن مع ذلك: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]، ثم قال تعالى: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ [لقمان:15] أي: اسلك سبيل الصالحين، اقتفِ آثار الصالحين، اعمل كعمل الصالحين، كما قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، وكما قال تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]، فللمؤمنين سبيلٌ ينبغي أن يُسلك.
يقول تعالى: ثم إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان:15]، أي: مرجع المطيعين وكذا مرجع العصاة، وإليّ مرجع الآباء وكذا مرجع الأبناء، (فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
الصلاة هي عمود الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فهي أعظم ركنٍ بعد الشهادتين.
قال تعالى: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ [لقمان:17]، أي: لا تتقاعس يا بني عن الأمر بالمعروف، بل أمر بالمعروف وانهَ عن المنكر، ولا تترك -يا بني- الفساد يستشري، وذكّر الناس بأمر الله، وحذرهم من معصيته، ولا تكن جباناً خواراً ضعيفاً، ولا تكن ساكتاً عن الحق.
والأمر والنهي يستتبعان في الغالب ابتلاءات، فهنا تأتي الوصية بالصبر: (واصبر على ما أصابك).
أي: يا بني! إن أمرت بمعروف أو نهيت عن منكر فابتليت -وأنت تلزم الحكمة والموعظة الحسنة- فاصبر على ما أصابك، كقوله تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].
فالتواصي بالحق يستتبع بلاءً، فمن ثم جاء الحض على التواصي بالصبر، فدع الجبن جانبا.
فيا معشر الدعاة دعوا الجبن جانباً، ودعوا الخور جانباً، إن الطيب عند الله هو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والمقيم لحدود الله، أما الساكتون عن الحق فهؤلاء شياطين، والذين يرون المنكرات ويقرونها ولا تهتز لهم شعرة وحدود الله تنتهك وأوامر الله تضيع ليس لهم من الأجر نصيب.
إن أمة محمد فضلت على سائر الأمم بقول الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
ولقد حث ربنا على الأمر بالمعروف وذكّر به، قال تعالى في كتابه الكريم.
وقال تعالى: فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ [هود:116]، ومعنى (أولوا بقية) أي: من صلاح، فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ينجيه الله تعالى.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، فلماذا ترضون بالدنية في دينكم وتختارون دوماً حالات أضعف الإيمان؟ ولماذا تؤثرون أضعف الإيمان في كل الحالات وقد علمتم أن الآمر الناهي ناجٍ بإذن الله، قال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:165].
قال تعالى عن لقمان: وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا [لقمان:18] أي: لا تمش مختالاً متعالياً، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18] قال تعالى عن لقمان: a= 6003487>وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ[لقمان:19]، والمراد: الاعتدال في المشي غير الإسراع الزائد المخل بالتوازن، وغير مشية البطيء المتمارض، وهذا وجهٌ، كما قال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63]، فالمشي المتوسط مشي لا تكاد معه تسقط ويختل منك التوازن، ولا مشية المريض المتباطئ، بل التوسط مطلوب.
وهناك وجهٌ آخر أن المعنى: (واقصد في مشيك)، أي: اقتصد في أعمالك فالاقتصاد والسمت الحسن جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19]، فليس من الأدب رفع الصوت.
قال فريق من العلماء: إن الحمار يبدأ بزفيرٍ لا يبدأ بشهيق، فيكون صوته أسوأ الأصوات وأعلاها، ورفع الصوت تشبه عن التشبه بالحمير.
فالوصايا بدأت بعظائم الأمور، فبدأت بالنهي عن الشرك، وانتهت بآداب وأخلاق ومعاملات، وصدق سلمان لما قالت له اليهود: يا سلمان! نرى نبيكم يعلمكم كل شيء، فهل علمكم الخراءة -أي: كيف تقضون الحاجة-؟ قال: أجل علمنا نبينا كل شيء، وعلمنا نبينا كيف نقضي حاجتنا إذا دخلنا الخلاء... وذكر طرفا من آداب ذلك ومنه: (ألا نستقبل القبلة ببول أو غائط ولا تستدبر، ولا نستنجى باليمين، وعلمنا الإيتار عند الاستنجاء)، وذكر جملة الآداب رضي الله تعالى عنه.
فهذا وعظٌ مستقى من كتاب ربكم، فاقرءوا كتاب الله قراءة المتدبر الذي يريد أن يعمل، لا قراءة المتصفح المتفكه بما في الكتاب من قصص وحكايات، بل اقرءوا كتاب ربكم قراءة العامل المتدبر، وقراءة قارئٌ يقرأ ليفقه ثم ليعمل، ثم لينجو أمام ربه، وليكون القرآن حجة له لا عليه، أسأله جل وعلا أن يجعل كتابه حجة لنا جميعاً لا حجة علينا.
وقد أراه الله سبحانه آيات عجائب، وأراه الأنبياء، وكانت هذه الحادثة فتنة للناس، وفتنة لمن في قلبه مرض، أما أهل الإيمان فيعلمون أن الله على كل شيء قدير، ثم كان فيها من وجوه الإعجاز ما كان فيها، فكانت فيها جملةُ وجوه من وجوه الإعجاز.
ومن هذه الوجوه: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كذبته قريش وسألته عن المسجد الأقصى، قالت له: تزعم أنك ذهبت إلى المسجد الأقصى وصليت بالأنبياء فيه، فصف لنا هذا المسجد؟ ولم يكن النبي قد أدركه إدراكاً كاملا، فجلّى الله له المسجد الأقصى فرآه رأي عين، فطفق يصفه لهم وصفاً دقيقاً فتعجبوا وقالوا: أما الوصف فقد صدق فيه. صلى الله عليه وسلم. فلا شك ولا امتراء أن قضية الإسراء والمعراج حق.
ولكن لم يثبت سندٌ ببيان تاريخ هذه الحادثة، فهل هي في ليلة السابع والعشرين من رجب؟ أم هي في شهر ربيع؟ أم هي في ذي القعدة؟ أم هي في شعبان؟ أم في أوائل رجب؟ فلم يثبت بذلك خبرٌ عن المعصوم عليه الصلاة والسلام، ولا عن أحدٍ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بيد أنها وقعت إجماعاً كما بينا، ثم على فرض ثبوت تاريخ هذه الليلة، لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم احتفل بها، ولم يرد أن الصحابة من بعد رسول الله احتفلوا بها وجعلوها عيداً كما يصنع الناس الآن، ولم يرد أن التابعين احتفلوا بذلك، ولا أتباع التابعين، ولم يرد أن أصحاب المذاهب الفضلاء الأربعة احتفلوا بها، والغالب على الظن أن الذين أدخلوها هم المنسوبون كذباً على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يقال لهم: (الفاطميون) وهم البرابرة الذين أتوا من المغرب واستوطنوا مصر فأحدثوا فيها، وأدخلوا في الدين ما ليس منه، وأدخلوا في الدين هذه البدع والخرافات والترهات التي تجدونها في الموالد التي يُشرك بها بالله، ويسأل من غير الله المدد، فضلاً عما فيها من البدع.
فمن كان مقتدياً برسوله محمد فليقتد به في سنته، قال تعالى: : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]، أما أن تزعم محبة هذا الرسول وأنت تعصي أمره، وتزعم المحبة وأنت تشتري الحلوى وتشارك في البدع والمنكرات فليست تلك بمحبةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست من اتباع السنن بحال من الأحوال.
فنظرة إلى ما يجري حولنا من أمور الانتخابات نجد أنه فيها كلٌ يدلي بصوته، فالرجل يدلي بصوته، والمرأةٌ تدلي بصوتها، والمسلمٌ يدلي بصوته، والكافرٌ يدلي بصوته، والفاسق الفاجر يدلي بصوته، وكل هذا لا وجه له في الشريعة الغراء، فليس في الشريعة الغراء لكافر وجه في الإدلاء بصوته، وليس في الشريعة الغراء أن فاسقا فاجراً سكّيرا عربيدا يدلي بصوته، وفي الشريعة الغراء فرق بين الرجل والمرأة، ثم إذا رجعنا إلى عهد سلفنا الصالح لم نر تلك الانتخابات بهذا التوصيف، لا على عهد أبي بكر، ولا عمر ولا عثمان، ولا علي ، ولا غير هؤلاء.
والعلماء يقولون: تنعقد الخلافة بأحد أمور أربعة:
الأمر الأول: أن يكون هناك نص من الكتاب والسنة على واحد بعينه، فهذا لا محيد عنه. ولكن هذا لم يعد متحققاً بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد تمام لدين، وكان هذا في الأمم من قبلنا؛ إذ الله تعالى قال: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ [ص:26]، وكذلك كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم.
الأمر الثاني: أن تجتمع في الخليفة صفاتٌ تؤهله لذلك سماها نبينا، وبينت في كتاب ربنا سبحانه وتعالى، ثم يبايع أيضاً من قِبل أهل الحل والعقد من المسلمين.
الأمر الثالث: أن يأتي إلى السلطة بالقوة، فيحكم الناس عنوةً ويقيم الشرع، فهو ما وصل إلى مقامه باستخلاف رشيد، وإنما وصل بالقوة وهو يقيم الشرع، فقال كثير من العلماء -كما نقل عنهم القرطبي : -: يسمع له ويطاع في المعروف حقناً لدماء المسلمين.
الأمر الرابع الذي يتأتى به الاستخلاف -كما قال العلماء-: أن يستخلف خليفة راشد خليفة راشداً آخر، كما استخلف أبو بكر عمر رضي الله عنه.
ومن الجدير بالذكر أن عمر في مرض موته لما طُعن أتاه القوم فقالوا له: استخلف يا أمير المؤمنين. قال: إن أترك -أي: إن أترك الناس بلا استخلاف- فقد ترك من هو خيرٌ مني رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول لم ينص صراحة على استخلاف أحد، وإنما استفاد بعض العلماء من الإشارات استخلاف أبي بكر في حديث: (مروا
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش ما أقاموا الدين)، وهذا الشرط الثاني الذي عليه جمهور أهل السنة، فالأئمة من قريش، لكن ذلك مقيد بقوله : (ما أقاموا الدين) . ، فالناظر إلى عموم المرشحين يجد أن من برامجهم فصل الدين عن السياسية، وهذا منكرٌ من القول وزور، وهذا مخالفٌ لكتاب الله ولسنة نبي الله، قال تعالى: : أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85]، فأي مرشح كائنا من كان يعلن في برنامجه أنه يفصل الدين عن السياسة، لا يستحق ولا يجدر بنا أن ننتخبه إن صحت الانتخابات، وهذا دينٌ ندين ربنا سبحانه وتعالى به، ألم تسمعوا قول خالقكم: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ [ص:26]، ألم تقرأوا قول ربكم: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وفي الآية الأخرى: فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، وفي الثالثة: فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47]، ولا أقصد الحكم بكفر شخص، فهناك كفرٌ دون كفر، كما هو مقررٌ عند أهل السنة، إلا إذا استحلوا الحكم بغير ما أنزل الله، فينتقل الأمر إلى الكفر عياذاً بالله.
فمن شروط الإمام المستخلف: أن يقيم الدين، وأن يعلن عن وجهته صريحةً أنه سيقيم دين الله، أما أن يتسابق القوم المرشحون في إرضاء أهل الكفر وأتباع المذاهب الباطلة، فذلك جديرٌ أن يحملنا على هجران كل تلك الترهات.
فديننا لا يقر بحزب سوى حزب الرحمن، وإننا نقر ببطلان كل هذه المبادئ المعلنة، فديننا ليس فيه اشتراكية، ولا ديمقراطية، وليس فيه حزب التكامل ولا التكافل، ولا غير ذلك، إنما ديننا فيه حزب الله، وحزبنا الوحيد حزبٌ يأتمر بأمر الله وأمر رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، ليس لنا دين إلا ذلك، وكفانا ترهات وضلالات، فكل شخص يأتي يفرض مذاهبه ثم من يسبح بحمده.
وكنا في زمن رئيس أسبق ينادى فيه بالاشتراكية، ويؤلف فيه المؤلفون، وينادي الشعراء الماجنون فيقول قائلهم: الاشتراكيون أنت إمامهم. ويسبون الرسول، ويوصف النبي صلى الله عليه وسلم بالاشتراكية، وآخر يصف النبي بالديمقراطية، عياذاً بالله من هذه الترهات).
وقد ذكر العلماء من لوازم الإمارة ومن لوازم الملك والرئاسة أن يكون المرشح مُلماً بشيءٍ ما من أمر دينه، فيعرف الحلال والحرام، ويعرف أنواع القضاء، ويستدل لذلك بعضهم بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247] فهذه وجوه اصطفاء.
فهذه بعض لوازم الإمارة والرئاسة، ومطالعها لا تنبي عن أنها تتوافق مع أحد من هؤلاء الذين يسعون لإرضاء الأمريكان.
فالحمد الله الذي حفظ علينا عقولنا، ونسأل الله ألا يجعلنا من السفهاء، ونسأل الله ألا يجعلنا نماري ولا نجامل في دينه؛ لأننا سنسأل بين يدي خالقنا عن كل كلمة نتكلم بها، وعن كل شهادة ندلي بها، والله على ما أقول وكيل، والله من وراء القصد وبالقصد، عليمٌ ومحيط سبحانه وتعالى.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم يا ولي الإسلام وأهله: ثبتنا على الإسلام والإيمان حتى نلقاك. اللهم: ثبتنا على الإسلام والإيمان حتى نلقاك، اللهم: ثبتنا على الإسلام والإيمان حتى نلقاك، اللهم: ولِّ علينا خيارنا واصرف عنا شرارنا، اللهم: ولِّ علينا خيارنا واصرف عنا شرارنا، اللهم: ولِّ علينا خيارنا واصرف عنا شرارانا، اللهم: خيِّر لنا واختر لنا. اللهم: خير لنا واختر لنا. اللهم: خير لنا واختر لنا ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا يا رب العالمين، ربنا: هذا زاد المقل، وهذا دعاء الداعي، فمنك الإجابة وعليك التكلان، ومنك السداد يا أرحم الراحمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر