إسلام ويب

سلسلة السيرة النبوية السيرة وبناء الأمةللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أعظم مخلوق وطئ الثرى هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جعل الله عز وجل في حياته من العبر والعظات ما يجعل كل ناظر فيها يتعجب منها، ويأخذ من حياته عليه الصلاة والسلام نبراساً يستضيء به، فهو شخصية عظيمة جداً، كيف لا وهو خاتم الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام، وكل حركة من حركاته مؤيدة بالوحي.

    1.   

    عظم مكانة النبي صلى الله عليه وسلم وكبير مقامه بين الخلق

    إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فها نحن اليوم مع موضوع من أهم الموضوعات في حياة المسلمين، بل في حياة الأرض بأكملها، نحن مع سيرة رجل هو أعظم رجل خلقه الله عز وجل منذ خلق آدم وإلى يوم القيامة.

    الناس عادة يتفوقون في مجال ويتأخرون في آخر، لكن هذا الرجل تفوق في كل مجال، تفوق في عبادته، في معاملاته، في شجاعته، في كرمه، في حلمه، في زهده، في حكمته، في ذكائه، في تواضعه، في كل شيء، إن هذا الرجل بحق قد سبق غيره!

    فمع سيرة الإنسان الذي خاطبه الله عز وجل وقال له: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].

    بل قد أقسم الله جل وعلا بحياة هذا الرجل فقال: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72].

    مع سيرة الرجل الذي لن يحاسب الله عز وجل الخلائق يوم القيامة إلا عندما يشفع لهم، وكل نبي في الموقف لن يشفع حتى لأتباعه المؤمنين به إلا بعد أن يشفع هذا الرجل.

    مع سيرة الرجل الذي لن ندخل الجنة إلا خلفه، ولن نروى يوم القيامة إلا من حوضه وكوثره، وهذا متوقف على معرفتنا بسيرته ونهجه، واتباعنا له فيهما، فإن صنعنا ذلك كانت لنا النجاة في الدنيا والآخرة، وإن جهلنا طريقته أو خالفناها قيل لنا: سحقاً سحقاً.

    نحن أمام سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الماحي الذي محا الله عز وجل به الكفر، وأول من يبعث من الخلائق يوم القيامة، وحامل لواء الحمد يوم القيامة، وصاحب المقام المحمود والحوض المورود صلى الله عليه وسلم.

    أمام سيرة الرجل الذي فتحت له أبواب السماء ليخترقها بجسده إلى ما بعدها، لما صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جبريل في رحلة المعراج إلى السماء وطرق الباب أجاب الملك فقال: (من؟ قال: جبريل. قال: ومن معك؟ قال: محمد. قال: أو أرسل إليه؟ قال: نعم.) ففتح باب السماء، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكان لم يدخله بشر قبل ذلك وهو حي.

    نعم، هذا هو الرجل الذي وصل إلى مكان لم يصل إليه بشر، ولم يتجاوزه حتى جبريل الملك العظيم، ويصل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    إنه الرجل الذي شاهد الجنة والنار بعينه لا بعقله.

    ونحن هنا لا نقارن عظمة هذا الرجل صلى الله عليه وسلم بعظمة بوذا وكونفوشيوس وهتلر ولينين وستالين كما فعل صاحب كتاب الخالدون المائة، وإن كان قد جعل أعظمهم محمداً، والعجيب أنك تجد الناس فرحين بذلك الكتاب.

    إن مقام هذا الرجل لا يسمح إلا بأن نضعه في مصافِّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ في رتبة أعلى من نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وكل أنبياء الله عز وجل عليهم الصلاة والسلام أجمعين، في مقام ضخم جداً نقارنه بالملائكة أجمعين، بملك الأرزاق، بملك البحار، بملك الجبال، بحملة العرش، بل وبجبريل عليه السلام، جبريل لما وصل إلى سدرة المنتهى لم يستطع أن يتقدم، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو تقدمت خطوة لاحترقت)، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم مكنه الله عز وجل أن يتقدم، فتقدم للقاء الله عز وجل.

    إن عظم مقام هذا الرجل جعل له ذكراً خالداً، وعلى قدر هذه العظمة يجب أن يكون اهتمامنا بسيرته وحياته، وبكل دقيقة مرت من حياته الشريفة صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    حال أمة الإسلام في الوقت الحاضر

    إخواني في الله! إن دراسة السيرة النبوية مهمة في كل زمان، وهي ولا شك في زماننا أهم، فحال الأمة وما أصيبت به من تصدع وتفكك وانهيار في أجزاء، وانحلال في أجزاء أخرى، ما هو إلا أزمة خطيرة تمر بها أمة الإسلام، ونجد تبايناً كبيراً بين ما وصف الله عز وجل به هذه الأمة في كتابه الكريم وبين حال الأمة الواقع الذي نراه بأعيننا، فالله عز وجل يقول في كتابه مثلاً: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].

    ويقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].

    ثم تأتي بعد ذلك لتنظر إلى واقع المسلمين وحالهم، فتجد التأخر في كل المجالات التي يجب أن تنافس أمتنا غيرها فيه، فمثلاً على الصعيد العسكري انظر إلى أي دولة إسلامية، وضع في الحسبان أن على مساحة الأمة الإسلامية أكثر من ستين دولة، تجد أن معظم الدول الإسلامية تسليحها أقل من تسليح الدول المحاربة لها.

    ولأول مرة في التاريخ نسمع عن دولة تؤمر بتدمير أسلحتها بنفسها وإلا عوقبت، والدول المحيطة من دول العرب والمسلمين اعتقدت أن هذا هو الطريق الأمثل للنجاة، ثم تتتابع إليها الخطابات الحادة، والكلمات اللاذعة: ما زال هناك سلاح لم يدمر، ما زال هناك سلاح مداه طويل، ما زال هناك سلاح عند عدوك مثله.. ويصبح الأصل أن تدمر الدولة أسلحتها بنفسها، وإلا عوقبت.

    لأول مرة في التاريخ نسمع عن دول توقع على نفسها أنها لا تنتج سلاحاً يمتلكه عدوها، بل ونفتخر بهذا الأمر، ويعلن بصيغة الفخر، وأننا نشارك في هذه المعاهدات، مع أن معظم دول الأرض عندها نفس السلاح، وتصبح منتهى أحلام المسلمين أن ينزع السلاح من إسرائيل فقط، مع أنهم يعلمون أن فرنسا وإنجلترا وأمريكا وروسيا وحتى كوريا تمتلك نفس السلاح، لكن لا ينزع السلاح من هؤلاء.

    وما هذا في الحقيقة إلا تأخر عسكري رهيب لم يسبق في تاريخ المسلمين.

    أما الجانب الاقتصادي فإن التأخر فيه غير مفهوم مع إمكانيات الأمة الضخمة، فأمة الإسلام مشتهرة بالبترول والمعادن والكميات الهائلة من منتجات المواد الخام، ومن سيطرتها على ممرات بحرية، ولا أحد يعرف ما سبب هذا التخلف الضخم مع كل هذه الأمور؟!

    كذلك يوجد تأخر علمي، بل فجوة هائلة بيننا وبين غيرنا تقدر بمئات السنين، لا أقول بعشرات السنين أو بآحاد السنين.

    تأخر حتى في الوحدة، فلا تجد دولتين مسلمتين إلا وبينهما صراع ونزاع على الحدود.

    وهذا أمر يشق كثيراً على النفس.

    حتى في المجال الأخلاقي، نحن دائماً نقول: إن الحضارة ليست هي الأشياء المادية فقط، ليست السلاح أو المعمار أو الأموال، بل الحضارة أشياء كثيرة مجتمعة مع بعضها، ومن أهمها الأخلاق، ثم انظر إلى الأمور الأخلاقية في العالم الإسلامي، لا تسأل عن كيفية التعامل بين الجيران في البلاد الإسلامية، أو كيف يعامل الموظفون الجمهور، أو ما هي أخبار الرشوة والفساد، وأخبار الإعلام وشاشات الأفلام، والإباحية المفرطة في الأغاني والإعلانات والشوارع وفي كل مكان، حتى في أماكن العلم كالجامعات والمدارس نرى أموراً كنا نتخيل أنها لا توجد إلا في ملهى ليلي، ثم وجدناها في الجامعة، في مكان العلم، في المكان الذي يفترض أن تركز الناس فيه أكثر تركيز على رفعة هذه الأمة.

    1.   

    عوامل بناء الأمة وتحقيق النصر

    من المؤكد أن القرآن حق لا باطل فيه، وصدق لا كذب فيه، فالقرآن يقول: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، ويقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143].

    فإذا كان القرآن صادقاً وحقاً، فالخلل والعيب فينا نحن عندما لم نطبق تعاليمه، ولم نطبق سنة نبينا صلى الله عليه وسلم جيداً، لذلك حصل فينا ما حصل.

    وأنا مع هذا كله لا أدعوكم إلى الإحباط، ولكن أدعوكم إلى إعادة بناء الأمة الإسلامية، وترميم الصدع الكبير الذي حدث، فيها، وأقول لكم: هناك أمل كبير في إعادة البناء، بل هناك يقين في إعادة البناء، ووالله لسوف تقوم الأمة من جديد وتنهض؛ لأن هذا ما وعد الله عز وجل به، والله لا يخلف الميعاد، إن الله عز وجل يقول في كتابه: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]، ليس فقط يوم القيامة، بل في الحياة الدنيا أيضاً.

    يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها) فسيبلغ ملك أمة المسلمين حتماً مشارق الأرض ومغاربها، فهذا وعد ملك الملوك على لسان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

    لكن في مسألة اليقين لا بد من الحديث عن نقطتين عليهما محور هذه المسألة.

    اليقين الجازم بوعد الله بالنصر

    النقطة الأولى: أننا نريد يقيناً مثل يقين الصحابة رضي الله عنهم أجمعين خاصة في غزوة الأحزاب، والأحزاب متجمعة حول المدينة المنورة في عشرة آلاف رجل، وهذا رقم ضخم جداً في زمان الجزيرة العربية وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ضائقة شديدة جداً، والرسول صلى الله عليه وسلم في وسط هذه الضائقة يضرب الحجر الضخم الذي استعصى على الصحابة ويقول: (الله أكبر! أعطيت مفاتيح الشام، والله! إني لأرى قصورها الحمراء الساعة، ثم ضرب الثانية وقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح فارس، والله! إني لأرى قصر المدائن الأبيض، ثم ضرب الثالثة وقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح اليمن، والله! إني لأرى قصور صنعاء من مكاني).

    تخيل حال الصحابة وهم يسمعون بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح فارس والشام واليمن وهم في هذه الضائقة ماذا كان حالهم؟!

    أما المؤمنون فقد قالوا كما حكى الله عز وجل عنهم في كتابه الكريم: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]. في هذه الضائقة علموا أن نصر الله عز وجل قريب؛ لأن نصر الله عز وجل يأتي بعد اشتداد الأزمات، لكن المنافقون لما شاهدوا الفجوة الواسعة بين إمكانيات المسلمين في المدينة المنورة، وبين إمكانيات الأحزاب، قالوا كما حكى الله عز وجل عنهم في كتابه الكريم: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12]، هكذا قال المنافقون لما اعتمدوا في تقييمهم على رؤية الفجوة الواسعة الضخمة بين حال المؤمنين في هذه اللحظة وبين حال الكافرين، لم يقدروا قدر الله عز وجل، لم يقدروا عظمة الله عز وجل، لم يقدروا قوة الله عز وجل، ولما كان المنافقون لا يؤمنون كان هذا هو التقييم اللائق بهم، أما المؤمنون الصادقون الذين يعلمون قدر الله عز وجل وعظمته فقد علموا أن النصر قريب؛ لأن الأزمة اشتدت.

    وها هي الأزمة قد اشتدت على الأمة الإسلامية واستحكمت حلقاتها، وسيأتي النصر إن شاء الله رب العالمين.

    الدور المنوط بكل فرد وجماعة في بناء الأمة وفق المنهج الشرعي

    النقطة الثانية: ما هو دورك في بناء هذه الأمة الإسلامية؟!

    نحن دائماً ننتظر أناساً من الخارج تأتي لتعيد بناء الأمة الإسلامية من جديد، لكن أين الدور الذي كلفك الله عز وجل به لإعادة إعمار الأمة الإسلامية، أو لإعادة ترميم الأمة الإسلامية لكي تعود إلى الصدارة كما وصفها الله عز وجل بقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110].. كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38].. وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164].

    إن قصر كل الناس في أعمالهم فلن يحاسبك الله عز وجل إلا على تقصيرك أنت فقط، وهذا من عدل الله عز وجل.

    كل واحد منا يريد أن يعيد بناء الأمة على طريقته، وعلى منهجه، فهناك من يقول: إن كنا نريد أن نعيد بناء الأمة الإسلامية لا بد وأن نأخذ المنهج الاشتراكي، ورغم ما استفاض من أنه منهج خطأ، إلا أن بعض الدول ما زالت مستمرة في النفاح عنه، مع أن الدول التي اخترعته قد تخلت عنه.

    ثم جماعة أخرى تقول: نأخذ المنهج الرأسمالي.

    وأخرى تقول: نجرب القانون الفرنسي، وأخرى الإنجليزي، وأخرى الإيطالي... وهكذا نلملم من الشرق ومن الغرب، ونختلف ونتصارع ونتشاحن؛ لأننا مختلفون على المناهج، فعندما يأتي وقت الاختلاف من نحكم؟

    اسمع لنصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الموقف، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وصححه عن العرباض بن سارية رضي الله عنه وأرضاه، قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع، فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)، وهذه هي المشكلة التي نحن واقعون فيها الآن، يا ترى بمنهج من نأخذ؟ نأخذ بمنهج الشرق أو الغرب!!

    ثم قال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة).

    من هنا كانت دراسة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودراسة حياة الخلفاء الراشدين المهديين أمراً حتمياً لمن أراد أن يهتدي إلى الطريق الصحيح لبناء الأمة الإسلامية، ولن ينفع أن نبنيها على غير منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    سبب الاقتصار على ذكر بعض جوانب العهد المكي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم

    في هذه المجموعة من الدروس نتحدث عن جانب من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو العهد المكي من السيرة النبوية، وليس الغرض من وراء هذا المجموعة استقصاء كل واقعة حدثت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، فهذا أمر يطول شرحه، ويعجز البيان عن وصفه لأمور:

    كثرة الوقائع والتفاصيل المسجلة في حياته عليه الصلاة والسلام

    الأمر الأول: أن الفترة المكية قد سجلت كل وقائعها بدقة، وبالذات منذ مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن مات، كل لحظة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن بعث وإلى أن مات سجلت، ولم تسجل حياة إنسان على وجه الأرض بهذه الدقة، حتى دخل التسجيل إلى أدق تفاصيل حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولعل من حِكَمِ زواجه صلى الله عليه وسلم من عدد كبير من النساء: أن ينقلن الحكمة التي تعلمنها من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشخصية الداخلية التي لا يراها غيرهن، وما هذا التسجيل الضخم الدقيق إلا لأنه صلى الله عليه وسلم قدوة كاملة، وليس بعده نبي إلى يوم القيامة، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].

    إذاً: نحن مطالبون باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل خطوة من خطوات حياتنا، في رضاه وغضبه صلى الله عليه وسلم، في حزنه وسروره، وفي حله وترحاله، إذا رضي فهذا هو الموضع الذي يجب أن نرضى فيه، وإذا غضب فهذا هو الموضع الذي يجب أن نغضب فيه.

    التنوع في حياته عليه الصلاة والسلام

    الأمر الثاني الذي جعل إحصاء كل أمر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أمر صعب: التنوع العجيب في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتارة يكون مطارداً معرضاً للأذى والاضطهاد كما في حادث الهجرة، يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه فارين من أهل مكة, ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك مطلوب الرأس، وكذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، إلى أن يصلا إلى المدينة المنورة بعد أيام من الفرار، وفي نفس سيرة هذا الرجل العظيم صلى الله عليه وسلم تجد أنه ممكنّ في الأرض، يرسل الرسائل إلى كل عظماء الأرض: من محمد صلى الله عليه وسلم إلى كسرى عظيم فارس. من محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيصر عظيم الروم. إلى المقوقس عظيم مصر.

    انظروا الفرق الضخم الهائل بين حالة كان يعيشها صلى الله عليه وسلم، وبين حالة أخرى عاشها ذاته، تارة تجد أنه صلى الله عليه وسلم يعاهد قوماً، وتارة يحاربهم، تارة يكون فقيراً معدماً يربط على بطنه حجرين من الجوع، ولا يوقد في بيته النار ثلاثة أهلة في شهرين، وفي وقت آخر من السيرة تجد أن هذا الرجل ذاته قد أصبح غنياً تأتيه الأموال من كل بقاع الجزيرة العربية، وينفق الأموال في سبيل الله إنفاقاً غير مسبوق، يعطي هذا مائة من الإبل، وهذا مائة من الإبل، وهذا أكثر، وهذا أقل.. ينفق إنفاقاً عجيباً!

    هذا هو نفس الرجل الذي كان يتعامل مع المشركين واليهود والنصارى والمنافقين والمؤمنين، فتارة ينتصر عليهم، وتارة يهزم.

    كل تنوع ممكن يحصل في حياة أمة قد حدث في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    إذاً: هذا أمر يجعل إحصاء كل مواقف السيرة أمر صعب جداً، خصوصاً وأنت تريد أن تلاحظ كل هذه المتغيرات في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمن مجموعة واحدة من الدروس.

    أثره صلى الله عليه وسلم في بناء الجيل الفريد الذي غير مجرى التاريخ

    الأمر الثالث: أن هناك جيلاً رائعاً عظيماً عاش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الجيل العظيم خلق أحداثاً لا نهاية لها، تعجز عشرات المجلدات عن حملها.

    وهكذا الإنسان العظيم إذا عاش في مجتمع من الناس ليست لهم قيمة يضيع بينهم، لكن الرجل العظيم هو من يعيش في وسط عظماء يتفاعلون معه بصورة إيجابية في كل لحظة من لحظات الحياة، يتحركون بحمية، يفكرون بجدية، يتناقشون بفهم ووعي وإدراك، يفكرون بذكاء، وكل واحد من هؤلاء الصحابة قصة ضخمة في حد ذاته، فهذا أبو بكر مثلاً يحتاج إلى عشرات المجلدات لوصف مواقفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك عمر وعثمان وعلي وعائشة وحفصة وصفية ، وكل المهاجرين والأنصار، آلاف من الكتب والمراجع كتبت عن هؤلاء الصحابة، وكل هذا في النهاية هو جزء من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    حياة النبي صلى الله عليه وسلم كلها أحداث عظيمة

    الأمر الرابع: الأحداث العظيمة التي تحدث في حياة الناس، كلما عظم الحدث احتاج إلى دراسة وتحليل ووصف وشرح، أحياناً تمر على حياة الناس عشرات السنين دون حدث عظيم يؤثر في حياة مجموع البشر، لكن الأحداث المؤثرة تحتاج إلى تفصيل ودراسة، ممكن تجد دولة تعيش عشرات السنين دون أن تجد في حياتها حدثاً ضخماً مؤثراً.

    فمثلاً عندما حدث في مصر حرب رمضان المباركة، نسأل الله عز وجل أن يعيد للمسلمين أمثالها، كم جرى لها من تحليل ودراسة رغم أنها وقعت من عقود، وإلى الآن نكتب عنها، وسيظل يكتب عنها المحللون والمؤرخون؛ لأنها حدث كبير.

    كيف وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها أحداث ووقائع؟ ففي سنة (92) حدثت موقعة حربية ضخمة هي غزوة بدر، وفي (3هـ) غزوة أحد وبنو قينقاع، وفي (4هـ) بنو النضير، وفي (5هـ) الأحزاب وبنو قريظة وبنو المصطلق.. وهكذا هي حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظر كم نحتاج إلى تحاليل ودراسات.

    1.   

    قواعد في دراسة السيرة النبوية

    السيرة معين لا ينضب، وفي كل زمن ينظر المفكرون في هذه السيرة يستخرجون منها الجديد، مع أن الحدث نفسه قد فكر فيه من قبل آلاف من المفكرين والمحللين، إلا أن هناك أثراً ملحوظاً من أحداث السيرة النبوية، وهدفاً كبيراً نحن نفكر فيه، وهو إعادة بناء الأمة الإسلامية بدراسة السيرة النبوية المطهرة المشرفة، وأي دراسة للسيرة سنخرج منها بفوائد، لكن نحن نريد أن نضع بعض القواعد التي لو جعلناها نصب أعيننا أثناء دراسة كل حدث سنستفيد استفادة أكبر وأعمق، وسنضع لهذا الأمر أربع قواعد، فكل حدث حاول أن تلاحظ فيه هذه القواعد، وكل موقف يمر عليك جرب أن تطبق عليه هذه القواعد.

    السيرة النبوية المصدر الثاني للتشريع في دين الإسلام

    القاعدة الأولى: أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع في الدين الإسلامي؛ إذ المصدر الأول بلا جدال هو القرآن الكريم، والمصدر الثاني هو السنة المطهرة.

    والسنة: هي كل قول أو فعل أو تقرير لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

    بمعنى: أن أي فعل فعله أحد الصحابة وأقره عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن سكت عنه أو استحسنه فهو من السنة المطهرة، وليس من الممكن أن تعرف السنة من غير دراسة السيرة النبوية.

    إذاً: مصادر التشريع الرئيسية هي القرآن والسنة، وهناك مصادر أخرى كثيرة، مثل: الإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة والاستصحاب والعرف.. إلى مصادر كثيرة اختلف الفقهاء في ترتيبها، لكن لم يختلف أحد في أن القرآن هو المصدر الأول والسنة هي المصدر الثاني، وليس عنهما بديل.

    السنة في غاية الأهمية في التشريع الإسلامي، وكذلك السيرة لا بد منها لفهم السنة في التشريع الإسلامي، يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، من غير السيرة ومن غير السنة لن تستطيع أن تفهم القرآن الكريم.

    عندما نمر على حدث من أحداث حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن نمر على أمر من الأمور التشريعية في الدين الإسلامي لحياة المسلمين؛ لأننا ندرس في السيرة الدين، فليست دراسة السيرة مجرد شيء لطيف نقرؤه، أو نتسلى بقراءته، أو مجرد سيرة رجل عظيم، هذا هو دينك، هذا هو الذي ستقابل به الله سبحانه وتعالى وسيسألك عنه، ولو فهمت السيرة بشكل صحيح وطبقتها ستقابل ربك بوجه حسن، وبعمل صالح.

    ثم أحذركم من طائفة بعضهم من المسلمين تشك في أمر السيرة النبوية، وتزعم أنها تكتفي بالقرآن الكريم، وقد تنبأ الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الطائفة في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي ، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك رجل منكم متكئ على أريكته يُحدث بحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي حرم الله).

    ونحن أيضاً نقول لهم: استمعوا إلى كلام الله عز وجل في القرآن الكريم الذي تؤمنون به، يقول الله عز وجل في كتابه: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80].

    ويقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ [النساء:65] أي: يحكموك أنت يا محمد فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].

    ويقول سبحانه وتعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

    والصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يفرقون بين قرآن وسنة، أما لو كان أحد لا يؤمن بالقرآن أصلاً وبأوامر القرآن فلا داعي للكلام معه، إذ الأمر معه منقطع.

    إذاً: فكل حدث في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم قد يكون أمراً تشريعياً، حتى وإن كان جزئياً من الدين، لا بد أن تنتبه له لكي تطبقه، وإذا لم تطبقه فلعلك أن تضل وتبعد، ثم يقال لك: سحقاً سحقاً.

    التعرف الصحيح على شخصية النبي صلى الله عليه وسلم

    القاعدة الثانية: هي التعرف على شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، نريد أن نعرف من هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هو خير البشر أجمعين، وخاتم المرسلين، وسيد الأولين والآخرين هو أعظم شخصية سارت على هذه الأرض منذ بدء الخلق وإلى يوم القيامة، فهو شخصية جديرة بالدراسة، وهناك أشياء كثيرة نريد أن نعرفها عن شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونضعها في أذهاننا بوضوح عند كل موقف من مواقفه صلى الله عليه وسلم.

    أهم شيء في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو أنه رسول من عند رب العالمين.

    لقد شاء الله عز وجل ألا يكلم عباده في الدنيا كفاحاً، وأبقى ذلك نعيماً لمن دخل الجنة، وشاء كذلك أن يخاطب عباده عن طريق رسول من البشر، ومن كل الخلق اختار محمداً صلى الله عليه وسلم ليبلغ الناس الرسالة العالمية عنه سبحانه وتعالى.

    إذاً: رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقيقته ما هو إلا ناقل عن رب العزة سبحانه وتعالى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، وعلى هذا القدر من الأهمية يجب أن يؤخذ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا القدر من العظمة يجب أن تؤخذ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه السيرة هي النموذج العملي التطبيقي الذي رسمه الله عز وجل لخلقه كي يقتدوا به ويقلدوه.

    والسيرة هي المنهج الذي نمشي عليه، وهي الدليل في الصحراء، ومن غير الدليل سوف نهلك لا محالة.

    فلو ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل فعلاً ما، فهو ما أراده الله عز وجل منا، حتى لو كان هذا الفعل من النوافل! فهي ليست من اختراع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهناك من يظن أن الظهر فرضه ربنا سبحانه وتعالى علينا أربع ركعات، ثم اجتهد الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: أربع ركعات قبلها وأربع ركعات بعدها، الأمر ليس كذلك، فالله عز وجل قد شرع للفرائض رواتب من السنن جاءت قبله وبعده، وجعل هذه فرضاً وجعل هذه نافلة، وكل شيء في الأخير مرده إلى الله سبحانه وتعالى.

    حتى لو اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر ما خلاف الأولى، حيث كان من المفروض أن يختار كذا، ولكنه اختار رأياً آخر أقل منه درجة، فإن الوحي يأتي ليعدل المسار ويختار لرسول الله صلى الله عليه وسلم الاختيار الأكمل، الذي يصلح لهذه الأمة في زمانه وإلى يوم القيامة.

    إذاً: دراسة السيرة من هذا المنظور تعطي لها قدراً عظيماً جداً من الأهمية، نحن لا ندرس أي شخصية، نحن ندرس شخصية رسول من رب العالمين، وليس فقط أي رسول! بل خير الرسل وخاتم النبيين.

    هذه القاعدة الثانية من القواعد التي من المفروض أن نضعها في أذهاننا عند كل حدث من أحداث السيرة النبوية؛ لأننا نتعامل مع وحي من رب العالمين.

    كيفية محبة الرسول صلى الله عليه وسلم

    القاعدة الثالثة: هي أن نتعلم كيف نحب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ حب الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن يفوق كل حب، إن لم يحدث هذا الحب فهناك خلل في الإيمان، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما).

    ويقول: (لا يؤمن العبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين)، رواه البخاري ومسلم .

    وكلنا نحفظ الحوار اللطيف الذي دار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عمر بن الخطاب ، فقد جاء في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب قال: (يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي)، كلنا يحب نفسه، ولكن انتبه وقف وقفة صادقة مثلما وقف عمر مع نفسه، وراجع نفسك: هل أنت تقدم أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شأن من شئون حياتك، أم أن حبك حب سطحي، تقدم حب أشياء كثيرة فوق حب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

    إن كان سيدنا عمر قال: يا رسول الله! أنا أقدم حبك على كل شيء إلا نفسي، فقال له صلى الله عليه وسلم: (لا والذي نفسي بيده! حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر : فأنت الآن والله! أحب إلي من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر) يعني: الآن اكتمل الإيمان، الآن اكتمل الصدق مع الله عز وجل، لن تكون صادقاً مع الله عز وجل في اتباعه وفي محبته إلا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31].

    إن دراسة السيرة تعين على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قضية محورية في إيمان العبد، والتعرف السطحي على شخصية ما لا يتولد عنه عميق حب، إنما التعرف على دقائق الحياة، واكتشاف مواطن العظمة المختلفة في الشخصية هي التي تولد الحب في قلب الإنسان، ولا أحسب إنساناً صاحب فطرة سليمة يقرأ أو يسمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحبه، وكلما عرفته أكثر كلما أحببته أكثر، وكلما أحببته أكثر زاد إيمانك، إنها علاقة تفاعلية في غاية الأهمية في حياة المؤمنين.

    اقرأ عن أي موقف من مواقف السيرة، ضع إصبعك بصورة عشوائية على أي موقف من مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، منذ ولد وإلى أن مات صلى الله عليه وسلم، اقرأ في حياته كلها عن معاملاته: كيف كان يتعامل في بيته مع زوجته، مع بناته؟! كيف كان يتعامل مع أصحابه؟! كيف كان يتعامل مع أعدائه؟!

    اقرأ عن جهاده، عن أي غزوة قادها صلى الله عليه وسلم، عن صدقه، عن أمانته، عن شجاعته، عن تقواه، عن عبادته، عن قضائه، عن سياسته، عن المعاهدات التي عقدها صلى الله عليه وسلم كالحديبية مثلاً.

    اقرأ عن الهجرة، عن بدر، عن أحد، عن فتح مكة، عن أي موقف وستحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً عميقاً.

    لقد عدَّ الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم نعمة ومنة منه على الخلق، قال الله عز وجل في كتابه: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164].

    إذاً: من القواعد الهامة جداً التي تضعها في تفكيرك وأنت تدرس السيرة: أنك تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدر ما تستطيع، ركز في كل حدث من سيرته صلى الله عليه وسلم أن تزرع هذا الحب في قلبك وإلا لن تنجو، قال الله عز وجل في كتابه الكريم: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24]، المسألة ليست فقط ارتفاعاً في قدر الإيمان، بل المسألة مسألة تهديد بأن تكون من الفاسقين، كما قال الله عز وجل: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [المائدة:108].

    تعلم الحكمة في التعامل من خلال دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم

    القاعدة الرابعة والأخيرة التي نضعها في عقولنا أثناء دراسة هذه السيرة الشريفة: أن نتعلم الحكمة من خلال دراستنا لجزئيات حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بكيفية وضع الأمر في نصابه، كيف تفضل رأياً على رأي آخر؟ حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الحكمة بعينها، إذا اختار رأياً ما، فهذا هو الرأي الحكيم، إذا فعل فعلاً ما، فهذا هو الفعل الحكيم، هكذا دراسة السيرة تعلمنا الحكمة في أرقى صورها.

    مثلاً: حكمته صلى الله عليه وسلم في فن امتلاك القلوب، كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكسب قلوب الذين يتعامل معهم؟ فهو صلى الله عليه وسلم لم يكن يمتلك قلوب أصدقائه فقط، بل كان يمتلك قلوب أعدائه أيضاً، وهذه حكمة جديرة بالتأمل، والوقوف معها طويلاً.

    حكمة أخرى في منتهى الأهمية، وهي حكمة المرحلية، والاعتراف بما يسمى بفقه الواقع؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في فترة من فترات حياته يطوف بالكعبة، فما رفع معوله ليكسر صنماً، وكان بها ثلاثمائة وستون صنماً، ثم يأتي وقت آخر على الرسول عليه الصلاة والسلام لا يقبل فيه بوجود صنم واحد في جزيرة العرب، وعندما يفتح مكة يبعث خالداً إلى الطائف لكي يكسر الأصنام التي هناك، فهذا وضع وهذا وضع، فلا يصح أن تقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم عمل كذا في يوم كذا أو في سنة كذا دون دراسة الملابسات والظروف التي كانت حول الموقف الذي عمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكلام هذا لن يستقيم إلا عن طريق دراسة السيرة.

    وعاش الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشر عاماً بعد البعثة وفيها الرايات الحمر المعلقة على خيام الزانيات، فهناك من تعلن عن نفسها أنها تزني، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يعيش بينهم، ولم يحطم خيمة من خيام الرايات الحمر في وقت من الأوقات، ولكن يأتي ظرف آخر لا يتنازل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه عن إقامة الحد على امرأة واحدة زنت، فإن الغامدية لما زنت أقام الرسول صلى الله عليه وسلم الحد عليها؛ لأنها زنت، فهذا وقت وهذا وقت.

    وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في زمن يعاهد اليهود، وفي زمن آخر يحاربهم، فلا يصح أن تقول: أنا أعاهد اليهود كما عاهدهم، من غير دراسة الظروف والملابسات التي كانت حول تلك المعاهدات في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يأت هذا وقت الحرب، ولا يجوز أن أحارب في وقت معاهدة، لن نعرف هذا إلا عن طريق دراسة السيرة.

    كذلك الحكمة في اختيار القرار المناسب في الوقت المناسب، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكف يده يوماً عن القتال، ويوماً يقاتل من قاتله، ويوماً يقاتل كل الكفار.

    كان يمر الرسول صلى الله عليه وسلم على آل ياسر -ياسر وسمية وعمار - وهم يعذبون تعذيباً أليماً شديداً أدى إلى قتل ياسر وسمية رضي الله عنهما، يمر عليهم وهم يعذبون فيكتفي صلى الله عليه وسلم بقوله لهم: (صبراً آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة) لم يرفع صلى الله عليه وسلم سيفاً ليدفع به أبا جهل الذي كان يعذبهما، ولم يأمر أحداً من شبابه أو من أتباعه الأقوياء كـالزبير بن العوام أو سعد بن أبي وقاص أو فرسان الصحابة الأشداء في ذلك الزمن لقتل أبي جهل ، أو أبي سفيان ، أو أبي لهب ، وعنده مبررات كثيرة تدفعه لذلك، كأن يقول: من أجل أن تسير الدعوة في مكة، ولكن لم يفعل صلى الله عليه وسلم، لكن في يوم آخر من أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم سير جيشاً كاملاً لحرب اليهود في بني قينقاع لقتلهم رجلاً مسلماً، بعد كشف عورة امرأة مسلمة واحدة من قبل يهودي.

    تخيل الفرق الضخم بين الموقفين!

    وسير الرسول صلى الله عليه وسلم جيشاً لحرب الروم، وهي دولة في منتهى الضخامة في ذلك الزمان؛ لأنهم قتلوا رجلين من المسلمين، لكن هذا زمن وزمن مكة آخر.

    أول العهد في المدينة غير آخر العهد في المدينة، غزوة بدر غير غزوة أحد.

    انتبه وأنت تدرس كل موقف إلى الظروف المحيطة بذلك الموقف، فإنك لو فعلت ذلك ستستطيع أن تفهم ما يسمى بفقه الواقع، أو بحكمة المرحلية في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    حكمة أخرى أيضاً في غاية الأهمية في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، هي التدرج في التربية، والتدرج في تغيير المنكر، مثل: تحريم الخمر حرم بالتدرج، وليس مرة مُنع الناس عن الخمر، كذلك التدرج في تحريم الربا، وفي أمر الناس بالجهاد في سبيل الله، كل هذا أخذ مراحل ومراحل طويلة، وكل مرحلة نصل إليها نبني عليها مرحلة أخرى.

    وهناك حكمة أخرى رائعة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي حكمة الوسطية، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، لا إفراط ولا تفريط.

    ما هو تعريف الإفراط؟ وما هو تعريف التفريط؟

    في كل جزئية من جزئيات الحياة أنت لك تعريف، وأنا لي تعريف، وذلك له تعريف ثالث، فما هو المقياس؟

    المقياس هو سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بالزواج ويحض عليه ويتزوج صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لا يلهي الزواج عن الجهاد في سبيل الله، وعن النفقة في سبيل الله، وعن الدعوة إلى الله عز وجل، هذا التوازن نتعلمه من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    والعمل في أعمال الدنيا العامة، تعمل دكتوراً أو مهندساً أو عاملاً أو فلاحاً، فهذا يأمر به صلى الله عليه وسلم، ويبارك اليد الخشنة من كثرة العمل، ولكن دون إفراط في العمل حتى لا يضيع حق الله عز وجل، وحق العباد، وحق الأهل، وحق الأمة، هناك توازن في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.

    كذلك الطعام، كان لا يوقد في بيته النار ثلاثة أهلّة في شهرين، لكن إذا حضر الطعام أكل من أطيبه صلى الله عليه وسلم.

    والصلاة، كان يصلي وينام.

    والصيام، كان يصوم ويفطر، وهكذا الوسطية كمنهج عملي واقعي للأمة تراها واضحة تماماً في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا إفراط ولا تفريط.

    إذاً: دراسة السيرة النبوية أمر من أهم الأمور في حياة المسلمين، ونحن ندرس كل موقف من مواقف السيرة النبوية علينا أن نضع هذه القواعد الأربع في أذهاننا.

    أولاً: نفهم أن هذا الموقف ممكن أن يكون موقفاً تشريعياً، والعلماء لهم دور كبير في استنباط الأحكام من مواقف السيرة النبوية.

    ثانياً: ندرك أنه رسول لا يخطو خطوة إلا بوحي أو بتعديل من الوحي.

    ثالثاً: أن نتعلم كيف نحب الرسول صلى الله عليه وسلم من كل موقف من مواقف حياته.

    رابعاً: أن نأخذ الحكمة ونعرف كيف نضع الأمور في نصابها بدون إفراط أو تفريط.

    1.   

    بعض مراجع السيرة النبوية

    مما ينبغي أن يعلم أن السيرة النبوية تؤخذ من عدة كتب، وكثير من الناس يغفلون عن دراسة السيرة من خلالها، وهي كتب الأحاديث وشروح الأحاديث، مثل كتاب البخاري رحمه الله، وفتح الباري في شرح صحيح البخاري لـابن حجر العسقلاني رحمهما الله.

    كذلك صحيح مسلم وشرح النووي لصحيح مسلم.

    كذلك الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة ومسند الإمام أحمد بن حنبل رحمهم الله جميعاً.

    ومن كتب السيرة الهامة: سيرة ابن هشام ، فقد نقل معظم سيرته عن ابن إسحاق ، وسيرة ابن إسحاق رحمه الله ليست موجودة، فالذي بقي وهو كتاب سيرة ابن هشام ، ولكن هناك أحداث كثيرة غير موثقة في كتاب سيرة ابن هشام ، لذلك لا بد أن تدرس كتاباً محققاً، هناك كتاب اسمه صحيح سيرة ابن هشام ، للأستاذ مجدي فتحي السيد وهو كتاب طيب.

    أيضاً كتاب صحيح السيرة النبوية لـإبراهيم العلي.

    وكتاب زاد المعاد في هدي خير العباد للعلامة ابن القيم رحمه الله.

    وكتاب السيرة النبوية لـابن كثير رحمه الله.

    والرحيق المختوم للمباركفوري.

    والسيرة النبوية للصلابي، والأساس في السنة لـسعيد حوى ، هو كتاب كبير يقع في أربع مجلدات.

    وفقه السيرة للبوطي.

    وفقه السيرة للغزالي.

    والمنهج الحركي للسنة النبوية لـمنير الغضبان.

    والسيرة النبوية دروس وعبر للدكتور مصطفى السباعي ، وهو كتاب صغير لكنه يحتوي على معلومات هامة.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718694

    عدد مرات الحفظ

    764877816