الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .
أما بعد:
معشر الإخوة المسلمين! أحب البقاع إلى الله جل وعلا وأفضل البقاع في هذه الأرض: المساجد، فهي بيوت الله، وفيها نوره وهداه، وإليها يأوي المؤمنون الموحدون المهتدون، وقد نعت الله جل وعلا من يأوي إلى بيوته بأنهم رجال، ثم وصفهم بأربع خصال: لا تلهيهم الدنيا، ويذكرون الله ويصلون له، ويشفقون على عباد الله ويحسنون إليهم، ثم يستعدون بعد ذلك للقاء ربهم: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:36-37] .
وحديثنا في هذه الموعظة إن شاء الله في صفة من صفات هؤلاء، وهي: النفقة الواجبة.
عباد الله! إخراج النفقة الواجبة له أجر عظيم عند رب العالمين، فمن فعل هذا لن يخاف مما يستقبله، ولن يحزن على ما يخلفه، وقد ضمن الله له أجره عنده، كما قرر ربنا جل وعلا هذا في سورة البقرة فقال بعد أن حذر من الربا وزجر عنه: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:276-277] .
فمن أعطى الزكاة ودفعها كما أوجب الله وشرعها له أجر عظيم عند رب العالمين، فالتمرة الواحدة يبارك له فيها، وهكذا اللقمة، حتى تكون أكبر من جبل أحد: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [البقرة:62] ، مما يستقبلونه من شدائد ومكروهات، فالله سيتولى أمرهم، ويدخلهم نعيم الجنات، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38] على ما يخلفونه من مالٍ وأهل وولد، فالله وكيلهم على ذلك، وهو خير الحافظين سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:277] .
فمن صفات هؤلاء الأخيار: أنهم يخرجون من مالهم ما أوجبه عليهم العزيز الغفار، وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3] وهذا شامل لأمرين اثنين، كما ذهب إلى ذلك شيخ المفسرين الإمام الطبري عليه رحمة الله: شامل لإخراج الزكاة الواجبة، وشاملٌ لإخراج النفقة الواجبة على النفس والزوجة والأولاد، ويفهم من كلام الإمام ابن كثير الميل إلى هذا، والآية تشمل ذلك قطعاً وجزماً، لكنها تدل على ما هو أوسع من هذا، كما ذهب إلى ذلك الإمام القرطبي عليه رحمة الله، فالآية تشمل النفقات الواجبة الثلاث: تشمل الزكاة الواجبة ذات النصب المحددة المقدرة، كما تشمل النفقة الواجبة على النفس والأهل والولد، كما تشمل الحق الطارئ على الإنسان في ماله، كما تشمل النفقة المستحبة المندوبة، فعموم اللفظ شامل لجميع هذا: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3] من واجبات ومستحبات.
وعليه: إخراج هذا المال حقيقة برهان على محبة ذي العزة والجلال، فالإنسان عندما يخرج هذا المال كما شرع ربنا جل وعلا، يبرهن بذلك على محبته لربه جل وعلا، فلا يترك الإنسان محبوباً إلا لما هو أحب عنده لديه، فإذا ترك هذا المال -وهو محبوب عند النفس- دل على أن محبته لله جل وعلا هي المحبة الحقيقية الكاملة، وأما هذا المال فلا يتصرف فيه إلا كما يريد ذو العزة والجلال، والصدقة برهان ذلك، وفيها تزكية لنفس الإنسان، ولذلك إذا أردت أن يرق قلبك، وأن يخشع، وأن تكون محبوباً عند الله جل وعلا فأكثر من هذه الصدقة.
ثبت في مسند الإمام أحمد بسند رجاله رجال الصحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه: ( أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه قسوة القلب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ضع يدك على رأس اليتيم، وأطعم المسكين)، والحديث صحيح.
إخوتي الكرام! إذا أردت أن يرق قلبك فلاطف اليتيم واحنُ عليه وأشفق عليه، فضع يدك على رأسه براً ومؤانسة وملاطفة، ثم أطعم بعد ذلك المساكين، إذا أرت أن يرق قلبك ضع يدك على رأس اليتيم وأطعم المسكين.
ففي مسند الإمام أحمد ، وسنن الترمذي ، وصحيح ابن حبان ، ومستدرك الحاكم وإسناد الحديث صحيح، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: (أيها الناس! اتقوا الله، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم)، فأداء الزكاة سبب لدخول الجنة ولحصول رضوان الله، وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لمن حافظ على الزكاة وغيرها من شعائر الإسلام بأن له أجر الصديقين والشهداء عند رب العالمين.
ثبت في سنن النسائي ، وابن ماجه، والحديث رواه ابن خزيمة في صحيحه، وابن حبان في صحيحه أيضاً، والحاكم في مستدركه، وإسناد الحديث صحيح كالشمس، من رواية عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه وأرضاه، قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: (يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأخرجت الزكاة، وصمت رمضان وقمته، أين أنا وممن أكون؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت من الصديقين والشهداء).
إذا شهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك صليت الصلوات الخمس، وصمت رمضان وقمته، وأخرجت الزكاة، فأنت من الصديقين والشهداء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرر هذا في أحاديثه الكثيرة، فإذا سئل عليه صلوات الله وسلامه عما يدخل الجنة، وعما يقرب إليها، وعما يكون سبباً لدخولها، كان يبين عليه صلوات الله وسلامه أن إخراج الزكاة سبب لدخول الجنة.
ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان).
عباد الله! إيتاء الزكاة وإخراجها سبب لدخول جنة الله جل وعلا، وسبب لرضوان الله جل وعلا.
والأحاديث في ذلك كثيرة وفيرة، منها: ما ثبت في سنن النسائي ، وصحيح ابن خزيمة ، ومستدرك الحاكم ، وإسناده الحديث الصحيح، من رواية أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم أجمعين، قالا: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في خطبته عليه صلوات الله وسلامه: والذي نفسي بيده! والذي نفسي بيده! والذي نفسي بيده! ثم أطرق النبي صلى الله عليه وسلم وسكت. قال
إذا صلى الصلوات الخمس، وصام رمضان، وأخرج زكاة ماله، واجتنب بعد ذلك السبع الموبقات: من الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، كما ثبت التنصيص على ذلك من قول خير البريات عليه صلوات الله وسلامه، في المسند والصحيحين من رواية أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، من فعل هذا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، وقيل له: ادخل بسلام.
إخوتي الكرام! هذا فيما يتعلق بإخراج الزكاة الواجبة من فضلٍ عظيم، أوجبها الله علينا، فيها تطهير لنا من رذيلة البخل والتعلق بهذه الدنيا، فيها مواساة لعباد الله، وربط بيننا وبين عباد الله جل وعلا برباط المحبة والود والوئام، فيها بعد ذلك أجر عظيم عند ذي الجلال والإكرام، فسبحانه أعطانا المال، وسبحانه شرع لنا ما يطهرنا من أرذل الخصال، وما يؤلف بين قلوبنا، وسبحانه كيف رتب بعد ذلك أجوراً عظيمة على إخراج هذا المال!
وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن الأجر العظيم الذي يحصله من يكفل اليتيم، ويحسن إلى المسكين في هذه الحياة، ففي صحيح البخاري ، والحديث رواه الإمام أبو داود والترمذي ، وهو في مسند الإمام أحمد ، من رواية سهل بن سعد الساعدي رضي الله عن الصحابة أجمعين، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين. وأشار عليه الصلاة والسلام بالسبابة والوسطى وفرج بينهما).
والأحاديث في ذلك كثيرة، وهذا اليتيم إذا قمت بكفالته لك هذا الأجر، سواء كان يتيماً لك من قرابتك وتجب نفقته عليك، أو كان يتيماً من غير قرابتك وتجب نفقته عليك أو لا تجب، فلك هذا الأجر العظيم عند رب العالمين.
ففي مسند الإمام أحمد ، وصحيح مسلم ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث رواه الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن أمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كافل اليتيم له أو لغيره، أنا وهو في الجنة كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى عليه صلوات الله وسلامه) (كافل اليتيم له) أي: إذا كان هذا اليتيم ممن تجب عليه نفقته وهو من قرابته، كما لو كان هذا اليتيم أخاً لك فمات أبوك، وأنت قمت على كفالته ورعايته، أو كان هذا اليتيم بعيداً عنك ليس بينك وبينه صلة نسب، إنما بينكما صلة الإسلام، ومساعدة في دين الرحمن، (كافل اليتيم له أو لغيره، أنا وهو في الجنة كهاتين) وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى السبابة والتي تليها.
إخوتي الكرام! وإذا تعينت كفالة اليتيم على الإنسان وكان ضعيفاً فبذل جهداً في كفالته مع ضعفه، فله أجر لا يخطر ببال أحد عند الله جل وعلا.
ثبت في مسند أبي يعلى بسند حسن، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا أول من يفتح باب الجنة، غير أني أرى امرأة تسابقني)، أرى امرأة تبادرني، أي: تريد أن تسبقني وأن تدخل قبلي، (فأقول لها: ويحك، من أنت؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على أيتام لي) سبحان الله! امرأة تساوي نبينا عليه الصلاة والسلام في دخول الجنة، لهذا الأمر الذي قامت به! وهو قيامها برعاية أيتامها.
والحديث كما قلت: إسناده حسن، وقد روي في سنن أبي داود من رواية عوف بن مالك رضي الله عنه بإسنادٍ فيه ضعف، ويشهد له الأثر المتقدم عن أبي هريرة رضي الله عنه في مسند أبي يعلى ، ولفظ رواية أبي داود عن عوف بن مالك رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا وامرأة سفعاء الخدين في الجنة كهاتين، وأشار إلى السبابة والوسطى، امرأة آمت من زوجها -أي: تأيمت ومات زوجها- وهي ذات منصب وجمال، فحبست نفسها على أولاد لها صغار حتى ماتوا أو بانوا).
أي: تفرقوا عنها بزواج أو حسن حال، فحبست نفسها من أجل أولادها، هذه هي والنبي عليه صلوات الله وسلامه في الجنة كهاتين، كما بين لنا ذلك النبي عليه الصلاة والسلام، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المرأة: (سفعاء الخدين) أي: في خديها كدرة وتغير، وفيهما كُمودٌ، أي: ليس فيهما طراوة ولا بهجة ولا ليونة؛ لشدة العيش التي تقاسيها، وتتحملها مع أولادها، ولا يوجد من تتزين له، فعندما تحملت شدة في هذه الحياة، عوضها الله نعيماً عظيماً لا ينفد بعد الممات.
عباد الله! هذا أجر عظيم أيضاً على النفقة الطارئة التي تجب عليك ليتيم قريب ينبغي أن تقوم به، أو ليتيم غريب ليس بينك وبينه قرابة في النسب، لكن تعينت عليك مساعدته لعدم وجود من يكفله، فكل هذا مما تحصل عليه هذه الأجور العظيمة عند الله جل وعلا.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا أن من يسعى في هذه الحياة ليُعف نفسه، أو ليطعم أبويه، أو لينفق على أولاده، فلا ينقص أجره عن أجر المجاهد في سبيل الله جل وعلا.
ثبت في معجم الطبراني الكبير، والحديث في درجة الحسن، عن كعب بن عجرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمر علينا رجل فأعجب الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين من جلده ونشاطه، فقالوا: ليت هذا يكون في سبيل الله )، أي: ليته يخرج في القتال، وفي الغزوات وفي السرايا، ( فقال عليه الصلاة والسلام: إن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أولاد له صغار فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياءً وبطراً فهو في سبيل الشيطان).
إذاً: عندما يحصل العبدُ مالاً وينفق منه نفقة واجبة، على نفسه، على عياله، على والديه، فله أجر المجاهد في سبيل الله، وله على هذه النفقة أجر عند الله جل وعلا، والأحاديث في ذلك -إخوتي الكرام- كثيرة، فطيبوا نفساً بما تزكون، وطيبوا نفساً بما به تساعدون، وطيبوا نفساً بما تقدمونه إلى أهليكم وتنفقون.
ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا
نعم إخوتي الكرام! يؤجر الإنسان على ما ينفقه على أهله، وهذا له أجر عظيم يفوق أجر الصدقة النافلة عند رب العالمين؛ لأن هذه نفقة واجبة، هذا حق واجب، وأجر الواجب أكثر من أجر التطوع بكثير، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن كل ما يقدمه الإنسان إلى أهله وأولاده يؤجر عليه، حتى الماء عندما يشربونه.
ثبت الحديث بذلك في مسند الإمام أحمد ، والحديث رواه الطبراني في معجمه الكبير، ورواه البخاري في التاريخ الكبير، والحديث حسن لشواهده وتعدد رواياته، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرجل إذا سقى أهله الماء أجر)، قال العرباض بن سارية رضي الله عنه وأرضاه: فذهبت إلى زوجي وسقيتها الماء، وأخبرتها بما سمعته من خاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه: (إن الرجل إذا سقى أهله الماء أجر).
إخوتي الكرام! وقد كان السلف الصالح يدركون هذا المعنى، ويعلمون أن النفقة على الأهل يؤجر عليها الإنسان، فكانوا يبذلون هذا المال في النفقة على العيال؛ تقرباً لذي العزة والجلال.
أخرج الإمام أحمد في المسند، والطبراني في معجمه الكبير، والحديث رواه أبو داود الطيالسي في مسنده، وأبو يعلى في مسنده أيضاً وإسناده حسن، عن عمرو بن أمية الضمري ، وهو من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، قال: مر رجل بمرط -وهو: الكساء الذي تلبسه المرأة من صوف أو خز- على عثمان بن عفان أو على عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين، فكأنه استغلاه فلم يأخذه ولم يشتره، فاشتراه عمرو بن أمية الضمري ، فسأله بعد ذلك عثمان أو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين: ماذا فعلت بالمرط الذي ابتعته؟ قال: تصدقت به على سخيلة بنت عبيدة بن الحارث -وهي زوجته- فقال له عثمان أو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين: كل ما تصنعه إلى أهلك صدقة؟ يعني: إذا أعطيتها مرطاً، وقدمت لها غذاءً، وماءً، أهذا صدقة؟ وأنت تقول: تصدقت به على سخيلة ، قال: نعم، سمعت ذاك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عثمان أو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر له قول عمرو بن أمية الضمري : يا رسول الله! يقول إنك قلت: كل ما صنعته إلى أهلك -أي: يصنعه المؤمن مع أهله- فهو صدقة، فقال عليه الصلاة والسلام: (صدق عمرو ، كل ما تصنعه إلى أهلك صدقة عليهم).
فما تقدمه من مرط، من طعام، من شراب؛ كل هذا تُثاب عليه عند الكريم الوهاب سبحانه وتعالى.. سبحان الله! نفقة واجبة إذا تركتها أثمت ولعنت، ومع ذلك إذا فعلتها لك هذا الأجر العظيم عند رب العالمين، فالحمد لله الذي هدانا للإسلام، ومنّ علينا بنبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
ثبت في مسند الإمام أحمد ، ومسند البزار ، والحديث رواه الطبراني في معجمه الأوسط، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، ورواه الإمام أحمد في المسند، وابن ماجه في السنن عن عقبة بن عامر رضي الله عنهم أجمعين، وهذا لفظ حديث جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كن له ثلاث بنات، ويؤويهن، ويرحمهن، ويكفلهن، أوجب الله له الجنة البتة)، أي: قطعاً وجزماً، لا تردد في ذلك، والله أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، (فقال رجلٌ: واثنتان يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: واثنتان. قال
وأنا أقول لـجابر رضي الله عنه: ورد ما توقعته في روايات أخرى عن نبينا صلى الله عليه وسلم، ففي مستدرك الحاكم بسند صحيح كالشمس، صححه الحاكم وأقره عليه الذهبي ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كن له ثلاث بنات فصبر على ضرائهن، ولأوائهن، أدخله الله الجنة برحمته إياهن، فقال رجل: واثنتان يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: واثنتان، فقال رجل: وواحدة يا رسول الله؟ قال: وواحدة).
سبحان الله! النفقة الواجبة على هذه البنت المسكينة، إذا قصرت في النفقة تذم وتعاقب وتلعن، وإذا أنفقت عليها، وقمت بكفالتها ورعايتها، وربيتها كما يريد الله ويحب؛ فهذه المرأة توجب لك الجنة بفضل الله ورحمته.
إخوتي الكرام! أقول للذين يريدون أن يزجوا بالبنات والنساء في مجال الحياة، في الأسواق، وفي دور العمل، أقول لهؤلاء: اسمعوا إلى هذين الحديثين الشريفين، إذا كان عندك ما تطعم به هذه المرأة فاتق الله، إننا نطعم أعراضنا لا من عرق جبيننا، والله أننا نطعمها من لحومنا، ونسقيها من دمائنا، ولا تزج بها في الأماكن العامة لتختلط بالرجال، ولتتعرض للابتذال، ولتكون بعد ذلك سلعة رخيصة لكل سائم لا وزن له ولا اعتبار.
إخوتي الكرام! المرأة عندنا عرض يصان، جوهرة مكنونة، وعندما تنفق عليها يبارك الله لك في رزقك، ويرزقك من حيث لا تحتسب، ثم لك هذا الأجر العظيم عند رب العالمين، أليس من العار أن تكلف ابنتك أو أختك أو زوجتك من أجل أن تعمل لأجل أن تأكل هي، أو تأكل أنت، أو يأكل من في البيت، وبإمكانك أن تعمل؟! وإذا كان ذاك العمل بالضوابط الشرعية فالأمر فيه هوادة، أما أن تزج بها بعد ذلك في أماكن فيها اختلاط وبلاء، ثم بعد ذلك تقول: إنني محتاج، أي حاجة أيها الإنسان؟ إن الحر يأكل ورق الشجر، إن الحر يلتقط اللقيمات من المزابل ولا يعرض عرضه لهذا الدنس، وهذه الريب، وهذه الشبه.
فينبغي -إخوتي الكرام- أن نعي هذه الأمور، وأن نقنع بما قسمه الله لنا، وأن نرضى به، وأن نطيب بعد ذلك نفوسنا لما نخرجه للفقراء والمساكين عن طريق الزكاة الواجبة، وبما نقدمه للمحتاجين عن طريق الحقوق الطارئة، وبما ننفقه على الأهل والأولاد.
أسأل الله جل وعلا أن يلهمنا رشدنا، وأن يبصرنا بعواقب أمورنا، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، خير خلق الله أجمعين، اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وسلم تسليماً كثيراً.
وارض اللهم عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، اللهم أكرمنا ولا تهنا، اللهم آثرنا ولا تؤثر علينا، اللهم رضّنا وارض عنا، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، اللهم اغفر ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، اللهم ثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فأنت علينا قادر، اللهم عاملنا بفضلك وإحسانك، وجودك وامتنانك، يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.
اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا تعاقبنا بما فعل السفهاء منا، وعافنا واعف عنا.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وسلم تسليماً كثيراً.
والحمد لله رب العالمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بسم الله الرحمن الرحيم:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4] .
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر