أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان.
وبالأمس كان النداء بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:178]. وعلمنا مما علمنا ربنا في هذا النداء أنه لابد من المساواة، فلا يقتل الحر بالعبد، ولا الأنثى بالرجل، ولكن الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى.
وعلمنا أن هذا سببه: أنه كان هناك حيان من أحياء العرب، حي قاهر للآخر ومتعال عليه ومتسلط، فإذا قتل من الحي الغالب امرأة أبى إلا أن يقتل بدلها رجلاً، وإذا قتل عبد من ذلك الحي الغالب يأبى أن يقتل عبداً بل يقتل حراً، واستمر هذا زمناً، ثم جاءت أنوار الله وهداية الرحمن في هذا الدين الإسلامي، فأبطل الله تلك العادة الجاهلية، وأصبح الحر بالحر والأنثى بالأنثى والرجل بالرجل.
ثم علمنا من هذه الآية الكريمة أن من قتل له قتيل أنه مخير بين ثلاثة: إن شاء عفا وأجره على الله، وقد أحيا نفساً تعبد ربه، فله أجرها ما عبدت الله ولو ألف سنة، وإن شاء أخذ دية قننها وبينها الرسول صلى الله عليه وسلم كما علمنا، وإن شاء اقتص، فيقدم القاتل بين يدي الإمام ويقتل، فهذا فيه تخفيف من الله عنا ورحمة منه بنا. ويدلك على ذلك أن اليهود كان لا عفو عندهم ولا دية، بل القتل؛ وذلك لغلظ أكبادهم، وشدة إيغالهم في الشر والفساد، والنصارى دونهم، فلا قصاص ولا دية، وإنما هو العفو، فمن مات أبوه أو أخوه أو ولده ليس له إلا أن يقول: عفونا لله تعالى، فجاءت هذه الملة القيمة ففتحت باب الرحمة على مصراعيه، فمن شاء أن يأخذ الدية فليتفضل، ومن شاء أن يعفو فليتفضل، ومن أراد أن يقتص فليقتص، إلا أن الإمام هو الذي يجري هذه الأحكام.
وفي هذا يقول تعالى: ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ .
ثم تنبيه إلهي: إذا رضي أخونا بالدية فيجب أن نسلمها وافية كاملة بلا مماطلة ولا مناقصة، ولا نحيل على فلان ولا إلى البلد الفلاني، بل يجب أن نؤديها وافية بكل أدب واحترام، وعلى من يتسلم الدية أيضاً ويأخذها كذلك عليه أن يتسلمها بأدب واحترام، لا بعنف وشدة وغضب، ومن أخذ الدية ثم قتل فهذا أمره إلى الله وعذابه في الآخرة، والجمهور على أنه يقتل ولا دية فيه أيضاً، هذا ما علمناه، زادنا الله علماً من هذا النداء الرابع من نداءات الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه.
وإليكم النداء وتأملوا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى . وهذا الجزء نسخ بآية المائدة: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ .
وقوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ بأن رضي بالدية فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ . فالذي يطالب بالدية يجب أن يطالب بالمعروف، ولا يقول: نريد ملء الأرض ذهباً، أو لا أقبل مائة ألف، ومن أراد أن يؤدي الدية فليؤديها أيضاً بإحسان، فهذا واجب الله علينا، وبذلك رقينا وسمونا، وأصبحنا والله خير أمة أخرجت للناس.
ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ . ووجه الرحمة أنه لو فرض علينا القصاص دون الدية للزم القتل، وكذلك من التخفيف: أنه لم يلزمنا بالدية بل وشرع العفو.
فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ بأن أخذ الدية ثم قتل فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ فقد نقض العهد ونكثه، ولا يحل لمؤمن أن يقدم على مثل هذا بأن يعطي عهداً وعفواً ثم يقتل، أو يأخذ الدية ثم يقتل، حتى لا تبقى نافذة من نوافذ الشر والفساد في أمة الإسلام.
الآية (183) من سورة البقرة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] ].
والمفروض أن من حفظ نداءً في هذا المجلس وفهمه ينبغي أن يبلغه غيره، فإن كان له أسرة ففي البيت يجلس معهم ويعلمهم، وإن كان له زميل أو رفيق في الشارع يعلمه، وإن كان له صحبة مع جماعة في عمل يقول: سمعنا نداء حفظناه البارحة هو كذا وكذا، فاحفظوه وتعلموه، وبذلك ينتشر النور، ولكننا لم نعط هذه الأنوار قيمتها ولم نبال بحفظها والعمل بها أو لا، والحياة ماشية، وهذا هو الطابع الذي طبعونا به، ونحن نقول هذا فقط للتحسر والتأسف.
النية: هي قصد الفعل وعزم القلب على فعله، وهذه النية لا تكون باللفظ كأن تقول: نويت أن أصوم رمضان أو نويت أن أصوم غداً، ولا أن تقول: نويت أن أصلي العصر أو نويت أن أعتكف، بل دع هذا لله علام الغيوب، وأضمر ذلك في نفسك بأنك تريد أن تصوم، ولست في حاجة إلى أن تجهر وتقول: أريد أن أصوم. فالنية: عزم القلب والتصميم على الفعل، وهي شرط في صحة الصلاة، بل شرط في صحة أية عبادة حتى الوضوء، ولو دخلت الحمام سبعين مرة أو انغمست في البحر ولم تنوي رفع الجنابة فوالله ما ترتفع، وأنت جنب، ولا ينفعك ولو غطست في الماء سبعين مرة، فلا بد من النية، وفي الحديث الصحيح: ( إنما الأعمال بالنيات ). وهذا حصر كامل، إنما الأعمال بالنيات. فهذه النية لا بد منها، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
أي: ليس في ذلك عجب.
هذا المسك، وهو أذكى رائحة من جميع العطور، ولا يساويه البخور ولا غيره [ وقال صلى الله عليه وسلم: ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) ] وهذه الجائزة لا بد من التوبة الصادقة معها، فإذا دخل رمضان ونويت أن تصومه فانو التوبة من كل ذنب مضى، ولا تعد إليه أبداً، فإن حققت هذه التوبة فالجائزة والله كما أخبر الرسول: أن يغفر لك ما تقدم من ذنبك مهما كان ذلك الذنب، وأما وأنت مصر فلا.
ويقصد بالأكل والشرب كل ما يصل إلى الحلق أو المعدة، ولو من طريق الأذن أو الأنف أو الفم، فهذه منافذ تصل إلى الحلق، فلهذا يحسن بمن يستعمل القطرة أن يستعملها في الليل، وعلى المؤمنات أن لا يكتحلن في أول النهار؛ لأن الكحل يتحلل شيئاً فشيئاً ويصل إلى الحلق، فالمؤمنة تكتحل بعد العصر، فلا يتحلل ويصل حتى يؤذن المغرب، أو تكتحل بعد صلاة المغرب أو مع العشاء، وأما الاكتحال في أول النهار فيفسد صومها، وكذلك غير الاكتحال كالقطرة في الأنف أو العين أو الأذن، وأصحاب الإبر الأولى أن يستعملوها بالليل، فإن كان مريضاً ولا بد فلا بأس، فإن استعمل إبر للتغذية بطل الصيام، فتجوز إبر التغذية للعلاج فقط، وأما للغذاء فلا يصح، ويستعملها بالليل.
وأما البخاخ فقد أفتى العلماء بجوازه؛ لأنه ليس أكلاً ولا شرباً، وإنما هو هواء وصاحبه مضطر إليه؛ لما فيه من ضيق النفس، فلنقبل ما آتانا الله من طريق علمائنا.
[ وأن من اغتاب ] أي: تكلم في مؤمن وهو غائب، أو قال في مؤمن كلمة لو سمعها ذاك المؤمن لغضب وتأثر بها، هذا هو الاغتياب، فلا تتحدث عن أخيك وهو غائب عن المجلس وتذمه أو تشتمه أو تعيره أو تذكره بسوء حتى ولو كان ذلك فيه، فقد قال أحد الصحابة رضي الله عنهم: ( أرأيت يا رسول الله! إذا كان في أخي ما قلت؟ ) كأن أقول: أعمش وهو أعمش حقيقة؟ ( قال: نعم، إن كان فيه ما قلت فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما قلت فقد بهته ). والبهتان أعظم، ولهذا فلنحرص في مجالسنا أيها المؤمنون! ويا أيتها المؤمنات! ألا نذكر فيها مؤمناً ولا مؤمنة إلا بخير فقط، ومن أراد أن ينصح أو يوجه يذهب إلى صاحبه ويقول له، ولا يتحدث به في مجالس الناس، هذه هي الغيبة [ أو نم أو سب مؤمناً بطل أجره ] فيخرج صفر اليدين ولا حسنة، فحسناته قد تبخرت وتلاشت. ومعنى نم أي: نقل الحديث من أجل الأذية، كأن يقول: فلان سبك .. فلان شتمك .. فلان كذا؛ حتى يثير العداوة والبغضاء بين المؤمنين. هذا النمام.
ومما يؤثر عن السلف: أنه كان عبداً يباع في سوق العبيد وكان صاحبه مؤمناً، فإذا جاء أحد يساومه في ثمنه قال: بكذا على شرط أنه نمام، فكان الناس يهربون من شرائه؛ لأنه نمام، فجاء شخص شحيح مثلي فسأل عن ثمنه فقال: بألف ريال، والعبيد يساوون مائة ألف، فقال: دعه ينم، أنا محتاج إليه، فاشتراه بأرخص قيمة، ومضت الأيام، فجاء لامرأة سيده وقال لها: يا ست! - وهذه لغة مصرية، أي: يا سيدة!- تريدين أن يحبكِ زوجكِ؟ قالت: نعم. قال: خذي من لحيته شعيرات وبخري بها كالبخور، فيصبح يحبكِ أكثر النساء، فسألته كيف تصنع؟ فقال: في الليل عندما ينام ائت بمقص وقصي، أو بسكين واحلقي، وقال لسيده: أنا أرى ربة البيت ليست راضية عنك، فاحذرها يا سيدي! فأنا خائف منها، فتناوم الفحل في الظلام والليل وإذا بالسيدة بسكينها تقترب منه، فما إن رفع رأسه ووجد بيدها السكين ضربها بعصاه وقتلها؛ لأنها تريد قتله، فجاء أهل المرأة ووجدوا أن ابنتهم مقتولة، فصارت مقتلة بين الجانبين بسبب النميمة، فقد نم إليه ونم إليها الحديث الباطل.
ومن الفوائد الاجتماعية: أنه يربي الأمة على النظام والاتحاد وحب العدل والمساواة، ويكون في الصائم عاطفة الرحمة وخلق الإحسان، كما يصون المجتمع من الشرور والمفاسد.
ومن الفوائد الصحية: أنه يطهر الأمعاء، ويصلح المعدة، وينظف البدن من الفضلات ] أي: فضلات الطعام [ والرواسب ] المترسبة في أمعائه، فهذا الجوع ينفيها ويسقطها ويبعدها [ ويخفف من وطأة السمن، وثقل البطن بالشحم ] والآن يخففون السمن بما يسمونه بالريجيم، وهي كلمة إنجليزية، وكانوا من قبل يخففون السمن بالحمية، فكان أهل السمن يحتمون أشهراً معدودة بتخفيف الأكل والشرب، فيرتاحون وتعود حالهم كأحسن ما تكون بالصيام [ وفي الحديث الحسن: ] ( سافروا تغنموا ) و[ ( صوموا تصحوا ) ] والواقع يشهد لهذا.
[ واعلم أن صيام رمضان تكفي فيه النية من أول ليلة منه ] ولا يحتاج إلى تجديد النية في كل ليلة، ولك أن تجددها، ولكنها ليست لازمة ولا واجبة، بل النية أول ليلة أن تصوم رمضان وتعزم هكذا [ إلا أن يفطر لعلة مرض أو سفر فإنه يعيد النية ليلة بدئه الصيام ] واستئنافه له. فإذا مرضت فأفطرت يومين أو أسبوعاً وعدت للصيام فجدد النية؛ لأنها قد انقطعت، وكذلك إذا سافرت أياماً فأفطرت ثم عدت للصيام فلا بد من النية، وكذلك الحائض أيضاً إذا حاضت أسبوعاً فتفطر، ثم تستأنف الصوم وتنوي، فلا بد من النية، وكذلك النفساء إذا طهرت تنوي الصيام وتصوم، وأما إذا لم ينقطع الصيام فتكفيك النية في أول ليلة من ليالي رمضان على أنك صائم رمضان.
وأما في النفل فلا خلاف أبداً، فمن أكل أو شرب حتى شبع وتذكر أنه صائم فيواصل صومه ولا حرج، وأكثر ما يصيبنا هذا في الشاي والقهوة، فقد يكون صائماً متطوعاً ويأتي صاحب القهوة يصب فيشرب أخونا ولا يدري، ثم يتذكر أنه صائم، فلا شيء عليه، ويواصل صيامه إلى الليل، ولا كفارة عليه.
وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر