اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الحج: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:27-29].
فقد أمر الله عز وجل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أن يبني البيت ويرفع قواعده فرفعها، وأمره الله عز وجل أن يؤذن في الناس ويعلمهم: بأن تعالوا إلى بيت الله عز وجل لتحجوا، فقال: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا[الحج:27] وهذا وعد من الله عز وجل فافعل ذلك؛ واعلم أنهم سوف يستجيبون ويأتون، قال: يَأْتُوكَ رِجَالًا[الحج:27] أي: مشياً على أقدامهم، وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ[الحج:27]، أي: راكب على جمل أو ناقة قد هزلت من طول السفر ومشقته.
قال: وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ[الحج:27] أي: الإبل، فالتأنيث يعود عليها، يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ[الحج:27]، فهو شرف لها؛ لأنها حملت صاحبها وذهبت به إلى بيت الله الحرام ليحج. يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ[الحج:27]، الفج: هو الطريق الواسع، والعميق: البعيد بعداً شاسعاً، يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:27-28]، فيذهب الحجيج أو المعتمرون إلى بيت الله الحرام ليحجوا وليعتمروا، ولِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ[الحج:28] أي: في الدنيا وفي الآخرة.
ومن منافع الآخرة: المغفرة من الله سبحانه، وتكفير السيئات، ورفع الدرجات، أما منافع الدنيا فهي ما يكون من تجارة وبيع وشراء ومكاسب ونحو ذلك، فيشهدون منافع في الدنيا ومنافع في الآخرة بسبب الحج والعمرة.
قال: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ[الحج:28]، وهذا من أول دخول شهر ذي الحجة إلى الانتهاء من المناسك جميعها، فيذكرون الله سبحانه وتعالى ملبين ومكبرين، ويذكرون الله عز وجل على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، فيذكرون اسم الله رافعين أصواتهم بالتلبية والتكبير، فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ[الحج:28]، والأيام المعلومات: هي العشر من ذي الحجة، والأيام المعدودات الأربعة داخلة فيها أيضاً، فهم يذكرون اسم الله عز وجل في هذه الأيام جميعاً، سواء الأيام المعلومة أو الأيام المعدودة.
فالمعلومة: العشر من ذي الحجة، والمعدودة الأربعة بما فيها العيد وأيام التشريق، وقد يصدق بيان الأيام المعلومة: أنها جميع الأيام من أول شهر ذي الحجة إلى آخر أيام المناسك.
قال: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ[الحج:28]، وبهيمة الأنعام: هي التي خلقها الله عز وجل لعباده، فقال: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ[الأنعام:143]، ثم ذكر أن من الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، ويقصد بالاثنين: الذكر والأنثى، ففي الإبل: الجمل والناقة، وفي البقر: البقرة والعجل، وكذلك الجواميس فإنها داخلة فيها ذكوراً وإناثاً، وفي الغنم: التيس والماعز، فهذه ثمانية أزواج أنزلها الله عز وجل للعباد وجعلها من بهيمة الأنعام التي يأكلونها، والتي منها يحصل الهدي إلى البيت والأضحية.
قال: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ[الحج:28]، والبهيم: هو الأعجم الذين لا ينطق ولا يميز، فقالوا: البهيمة هي ذوات الأربعة الأرجل، فخرج منها ما كان ذا أربع أرجل ولكنه لا يثبت في الهدي: كالحمار الوحشي والغزلان.
إذاً: فبهيمة الأنعام: هي التي ذكرها ربنا سبحانه وتعالى في كتابه، ذكر من الغنم اثنين، ومن الماعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين.
فإذا كان قد قتل صيداً في الحرم وذبح هدياً فلا يجوز له أن يأكل منه، وإذا ترفه بإزالة أذى كحلق رأسه في أثناء الإحرام أو وضع طيب ونحو ذلك وكان عليه الهدي فيه فلا يجوز له أن يأكل منه، وإنما يجوز له أن يأكل من هدي التمتع، أو هدي القران، أو هدي التطوع.
قال الله سبحانه وتعالى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28]، وهذا في القران، فقد قرن في الأمرين بين الأكل والإطعام، وقد فرق العلماء بين الأمرين: فإطعام الفقراء فرض؛ لأن المقصد من الذبح: هو سد جوع هؤلاء وحاجتهم، لكن يجوز لك أن تأكل منه أيضاً؛ فقد أكل النبي صلى الله عليه وسلم من هديه بعد أن نحر مائة ناقة صلوات الله وسلامه عليه في حجة الوداع، فنحر بيده الكريمة نحو ثلاثة وستين وأكمل الباقي علي رضي الله تعالى عنه، فأخذ من كل واحدة منها قطعة من اللحم ووضعها جميعاً في القدر وأكل منها صلوات الله وسلامه عليه، فكونه أكل منها يبين لنا أنه يجوز لك أن تأكل من ذلك.
قال: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28]، وهنا يقول الأصوليون: إن دلالة الاقتران دلالة ضعيفة، يعني: أنه إذا اقترن أمران أحدهما للوجوب والآخر للاستحباب فإنه لا يقال حينئذ: إن الاثنين للاستحباب أو للقران، ولكن: فَكُلُوا مِنْهَا [الحج:28]، فأهل العلم يقولون: إن لك أن تأكل أو تترك؛ لأن الأكل ليس فرضاً أو أمراً تعبدياً، ولكن العبادة إطعام: وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28]، أي: الذي من أجله شرع الهدي، فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28].
والبائس الفقير: هو الإنسان الذي ناله البؤس والفقر الشديد، يقال: بئس يبؤس بأساً إذا افتقر، فإذا افتقر الإنسان صار بائساً، وقد يستعمل فيمن نزلت به نازلة من الدهر أو مصيبة من المصائب، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في سعد بن خولة الذي كان قد هاجر من مكة إلى المدينة ثم ذهب مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ومات بها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب لأصحابه المهاجرين الموت في غير المكان الذي هاجروا منه، فما كان للمهاجرين الموت في مكة؛ لكي تكتب لهم الحسنات من مكان هجرتهم إلى مكان موتهم في غيرها من البلدان، فالنبي صلى الله عليه وسلم حزن لفوات هذا الأجر عليه رضي الله عنه فقال: (ولكن البائس سعد بن خولة) يعني: أنه ضاع منه بعض الأجر، فالشاهد: أن الله سبحانه وتعالى قد أمر بذبح الهدي.
وقد وضحت هذه الرواية روايات أخرى: وهو أنهم نحروا قبل أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنه نحر بعد الصلاة، فإذا جاءت رواية أنهم نحروا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت الرواية الأخرى بأنهم نحروا قبل الصلاة فالمعنى واحد، وهو أنهم نحروا قبل الصلاة، أي: قبل نحر النبي صلوات الله وسلامه عليه، فأمرهم أن يعيدوا صلوات الله وسلامه عليه، وبين لهم أن من نحر قبل الصلاة فهي شاة لحم، أي: ليس فيها أجر الأضحية، ومن نحر بعد الصلاة فهي أضحية مقبولة.
إذاً: فالنحر هنا يكون من بعد صلاة العيد، أما إذا لم يستطع الإنسان أن يصلي العيد لعذر ما: كاختلاف أوقات الصلاة في البلد الواحد أو نحوه، وأراد أن ينحر فعليه أن ينحر بعد أول صلاة عيد أو بعد مضي وقت صلاة العيد، فيذبح الإنسان الذي لم يستطع أن يشهد الصلاة، فقد جاء عن البراء بن عازب في صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما نبدأ به في يومنا هذا يوم العيد أن نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا)، وفي حديث آخر : (من ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم).
وممن قال بأن أيام النحر ثلاثة أيام فقط: الإمام مالك ، والإمام أبو حنيفة ، والإمام أحمد ، وعند الشافعي : أربعة أيام، وإن كان الأفضل عنده ثلاثة أيام ابتداءً من العيد، وقد استدل القائلون بذلك ببعض الآثار عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأن النحر في يوم العيد ويومين بعده، لكنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث أنه قال: (كل أيام التشريق ذبح)، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال النبي صلى الله عليه وسلم : (عرفات كلها موقف)، ففي الحديث يبين النبي صلى الله عليه وسلم لهم المناسك، فيقول: (عرفات كلها موقف)، وقد وقف في مكان معين، فلا يشترط على الناس كلهم الوقوف في نفس المكان الذي وقف فيه صلى الله عليه وسلم، ولكن في كل عرفة، قال: (وارفعوا عن عرنة)، وهو مكان هنالك اسمه: عرنة قبل عرفة، وليس من عرفات، قال: (وكل مزدلفة موقف، وارفعوا عن بطن محسر، وكل فجاج منى منحر) يعني: أن النحر في أي مكان من منى، وليس له مكان معين.
قال: (وكل أيام التشريق ذبح)، وهذا الشاهد من الحديث: وهو أن أيام التشريق الثلاثة بعد العيد كلها ذبح بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن عبد البر : أجمع العلماء على أن يوم النحر يوم أضحى، وأجمعوا ألا أضحى بعد انسلاخ ذي الحجة، والمقصود: أن بعض العلماء قالوا بجواز النحر بعد العيد، والصواب: أن النحر يكون في الأربعة الأيام من العيد، فيوم النحر منها، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالذبح فيها وقال: (كل أيام التشريق ذبح)، فدل على أن غيرها لا يدخل فيها.
والراجح في هذه المسألة: أنه يجوز الذبح في الليل إذا كانت نيته أن يوزع على الفقراء، أما إذا كانت نيته الاستخفاء من الفقراء فتبقى المسألة هنا على الكراهة.
وهنا يذكر الإمام القرطبي : أن دماء الكفارات لا يأكل منها أصحابها، فإذا فرضنا أن إنساناً عليه كفارة نذر مثلاً فذبح هذا الشيء الذي نذره ثم وزعه على الفقراء، وبعد ذلك أكل منها هو، فهنا لا يجوز له أن يأكل منها، فإن أكل منها لزمه أن يشتري لحمة بالقدر الذي أكله ليخرجه للفقراء والمساكين، وهذه مسألة يكثر السؤال عنها، فنقول: إذا نذر بشيء فذبح فلا يجوز أن يأكل منه.
لكن قد ينذر الإنسان بأضحية لله، كأن يقول: عليّ نذر أن أذبح أضحية لله تعالى، والأضحية ليست واجبة على الصحيح من كلام أهل العلم، لكن إذا نذرها الإنسان صارت واجبة الذبح، ولكنها لا تزال أضحية في الحكم فيجوز له أن يأكل منها، وأن يهدي منها، وأن يخرج للفقراء، ويكون توزيعها بهذه الصورة، فكونه ألزم نفسه بالنذر لا يخرجها عن كونها أضحية، ومثلها مثل هدي التمتع، فهدي التمتع واجب على الإنسان الذي يتمتع من العمرة إلى الحج، ومع ذلك يجوز له أن يأكل منه، فكونه واجباً لا يمنعه أن يأكل منه سواء من هدي القران أو من هدي التمتع.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من هدي القران، وأن الصحابة أكلوا من هدي التمتع.
أما هدي التطوع فله حكم آخر: ففي سنن أبي داود عن ناجية الأسلمي : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بهدي تطوع)، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في المدينة وناجية مسافر لعمرة، والنبي صلى الله عليه وسلم أرسل معه هدياً تطوعاً، سواء كان ناجية متوجهاً بعمرة أو بحج، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (إن عطب منها شيء فانحره، ثم اصبغ نعله في دمه، ثم خل بينه وبين الناس)، وفي رواية: (ولا تأكل منه ولا أحد من أهل رفقتك)، وهذا في صحيح مسلم بمعناه من حديث ابن عباس .
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غاية الكرم، فكان يعطي الهدي لمن يريد الحج أو العمرة ليذبحه عند البيت ويوزعه على الفقراء، فكان يأمر هذا الذاهب مثل ناجية مثلاً رضي الله عنه: أنه إذا عطب من الهدي شيء في الطريق أن يذبح، وأن يلطخ بدمه ظهره ليعرف من يراه أن هذا هدي للبيت، فيقوم الفقراء بالأكل منه، أما منعه ورفقته من الأكل منه فلسد الذريعة، حتى لا يفرط صاحب الهدي فيه حتى ينحره فيأكل منه ورفقته بسبب الجوع، فإذا علم أنه إذا ذبح الهدي فلن يأكل منه شيئاً حافظ عليه تمام المحافظة حتى يصل به إلى هنالك، ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا عطب منها شيء فانحره، ثم اصبغ نعله في دمه) يعني: خذ النعل وضعه على دمه ولطخ به جلده بحيث يعرف الناظر أن هذا اللحم هدي لبيت الله الحرام، قال: (ثم خل بينه وبين الناس، ولا تأكل منه أنت ولا أحد من أهل رفقتك)؛ سداً للذريعة؛ لكي لا يذبحوا الهدي في الطريق ثم يزعمون بعد ذلك أنه قد عطب والله أعلم.
نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر