إسلام ويب

التوحيدللشيخ : مصطفى العدوي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن أعظم ما دعا إليه الأنبياء والرسل هو توحيد الله تعالى، ورغم أن المشركين كانوا يقرون بتوحيد الربوبية إلا أنهم أنكروا توحيد الألوهية فجعلوا لله شركاء معه، وقد جاءت الدعوة المحمدية لترسيخ هذه العقيدة في قلوب العباد، فهدمت الأصنام، وحذرت من كل ما هو ذريعة إلى الشرك من دعاء عند قبور الأولياء والصالحين، والتقدم إليهم بالقرابين، ونحو ذلك من مظاهر الشرك وصوره.

    1.   

    عمرو بن عبسة يحكي قصة إسلامه

    إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71].

    وبعد:

    فقد أخرج الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه حديثاً طويلاً من حديث عمرو بن عبسة رضي الله تعالى عنه -نذكره باختصار وإيجاز لما فيه من النفع والفوائد- قال: (كنت وأنا في الجاهلية أرى الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يزعم أنه نبي، فركبت راحلتي حتى أتيته، فإذا قومه جرآء عليه -أي: قومه متجرئون ومتسلطون عليه صلى الله عليه وسلم- قال: فتلطفت حتى دخلت عليه، فقلت له: ما أنت؟ قال: أنا نبي، قلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله عز وجل، قلت: وبم أرسلك الله عز وجل؟ قال: أرسلني الله عز وجل بصلة الأرحام، وبكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء، قلت: فمن تبعك على هذا الأمر الذي تدعو إليه؟ قال: معي حر وعبد -وكان معه آنذاك أبو بكر وبلال رضي الله عنهما- قلت: إني متبعك على هذا الأمر، قال: إنك لن تستطيع ذلك الآن، ولكن ارجع إلى بلدك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فائتني، فرجعت إلى بلدي، وطفقت أتحسس الأخبار، فعلمت أنه قد هاجر إلى المدينة وترك بلده مكة، فقدمت علي طائفة من أهل يثرب، فقلت لهم: ما شأن هذا الرجل الذي وفد إلى بلادكم وحلّ بها؟ قالوا: حاول قومه قتله فلم يستطيعوا، والناس يتبعونه سراعاً، ويدخلون في دينه أفواجاً، فركبت راحلتي حتى أتيت المدينة، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: أتعرفني؟ أتذكرني؟ قال: نعم، أنت الذي أتيتني بمكة، فقلت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فعلمني يا نبي الله! مما علمك الله وأجهله، أخبرني عن الصلاة يا رسول الله! قال عليه الصلاة والسلام: صلِّ الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان، فإذا ارتفعت الشمس فصلّ فإن الصلاة حينئذٍ مشهودة محضورة، ثم إذا استقل الظل بالرمح -يعني: وقت الزوال- فإن جهنم تسجر حينئذ -أي: تتوقد وتشتعل حينئذٍ- فأقصر عن الصلاة حتى يرى للتلول فيء -أي: حتى يظهر للتلال ظل- ثم صلِّ؛ فإن الصلاة مشهودة محضورة، ثم صلِّ حتى تصلي صلاة العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس؛ فإنها تغرب بين قرني شيطان، ثم صلِّ، قلت: فالوضوء يا رسول الله؟! قال: أما الوضوء فإن أحدكم إذا قام يتوضأ فمضمض واستنشق واستنثر خرجت خطاياه، أو خطايا وجهه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، ثم إذا غسل وجهه تساقطت ذنوبه من وجهه مع قطر الماء الذي يتساقط من لحيته، ثم إذا غسل يديه إلى المرفقين خرجت الخطايا التي ارتكبتها يداه، وتساقطت هذه الخطايا مع الماء أو مع آخر قطر الماء، ثم إذا مسح رأسه تساقطت خطايا رأسه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، ثم إذا غسل رجليه خرجت الخطايا التي ارتكبتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا أقبل على الصلاة يصلي وجمع قلبه لله سبحانه وتعالى خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) ، هذا الحديث بإيجاز واختصار أخرجه الإمام مسلم رحمه الله بشيء من الطول، وإنما ذكرنا المستفاد منه بمعناه.

    الشاهد من ذلك: أن عمرو بن عبسة رضي الله عنه كان رجلاً كافراً، إلا أنه كان يظن ويعتقد من قلبه أن الناس على ضلال وهم يعبدون الأوثان، وأن هذا ليس بدين وليس بشرع يتبع.. قوم يعبدون أحجاراً، أو أشجاراً، أو أصناماً، أو أوثاناً. كان عمرو بن عبسة رضي الله عنه يظن أن هذا كله عبث، وهذا الذي ظنه متوافق مع الفطر الصحيحة المستقيمة السوية، كما حدث نفس الشيء لـزيد بن عمرو بن نفيل والد سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنهما، وسعيد بن زيد هو زوج أخت عمر بن الخطاب من السابقين الأولين إلى الإسلام رضي الله عنه.

    أما أبوه فكان قبل مبعث رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكان قد استقر في نفسه كذلك أن الناس ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، وكان رجلاً من أهل التوحيد والاستقامة على الطاعات، حتى إن الحاكم في مستدركه أخرج بإسناد صحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث ذهب هو وزيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه إلى زيد بن عمرو بن نفيل ببعض اللحم قبل أن يبعث الرسول عليه الصلاة والسلام، فنظر زيد بن عمرو بن نفيل إلى اللحم الذي أتيا به، فرفض أن يأكل منه، وقال: إني لا آكل من لحمكم، إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم، الله خلق الشاة ثم ساق لها الرزق، ثم تذبحونها على غير اسم الله، وكان يبني على العموم، وطفق زيد يبحث عن الدين الحق المستقيم، وخرج إلى البرية يبحث عن دين سوي غير دين الشرك يتعبد به ربه سبحانه، حتى قدم على يهود، فقال: أريد الدخول في دينكم معشر يهود، قالوا: إنك لن تستطيع الدخول في ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله عز وجل، قال: والله لقد فررت من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئاً، وكيف أتحمل غضب الله، هل عندكم شيء آخر؟ قالوا: ليس عندنا شيء آخر إلا أن تكون حنيفاً قال: وما الحنيف؟ قالوا: ملة إبراهيم عليه السلام، ثم ذهب إلى النصارى فقال: يا معشر النصارى! إني أريد أن ادخل في دينكم، قالوا: لن تدخل في ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال: والله لا أتحملها، ولا أطيقها، فهل عندكم من شيء آخر؟ قالوا: لا إلا أن تكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟ قالوا: ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فخرج من عند هؤلاء وأولئك قائلاً وناظراً إلى السماء: اللهم إني أشهدك أني على ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وبه كان يفتخر الشاعر فيقول:

    وجدي الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلم يوأدِ

    1.   

    فوائد حديث عمرو بن عبسة

    كان هناك ثَم قوم أنار الله بصائرهم، وأراد لهم الهداية يبحثون عن الحق لاتباعه، ويبحثون عن الدين القويم لاعتناقه، ولا يخفى عليكم أمر سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، فهذه الطوائف أهمها أمر دينها، لم تههمها بالدرجة الأولى بطونها ولا فروجها، ولا الدراهم والدنانير، وإنما أهمهم أمر دينهم.

    موقف المتكبرين من رسل الله

    ركب عمرو بن عبسة راحلته حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فدخل على الرسول عليه الصلاة والسلام فوجد القوم مجترئين على رسول الله، سفيههم يتسلط على الرسول، وكبيرهم يَسُنُّ سنناً سيئة للتعدي على أنبياء الله، فيسخر الصغير والكبير من رسول الله، بل ويسخر العبد من رسول الله، فكان هذا شأن أهل الشرك مع رسول الله، يغرون به السفهاء، ولكن دائماً العاقبة للتقوى، وجد عمرو الرسول صلى الله عليه وسلم وقد تجرأ عليه القوم، وسخروا منه، كما هو الحال مع عموم الأنبياء وأهل الصلاح قاطبة يسخر منهم أهل الإجرام زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ، ولكن وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [البقرة:212] لم تمنع عمرو بن عبسة سخرية الساخرين من رسول الله عن أن يقدم عليه، وأن يستمع منه، ويعلم منه ما الذي يريده ويدعو عليه؟

    الأصول التي دعت إليها شرائع الرسل

    فدخل عمرو سائلاً: ما أنت؟ قال: (أنا نبي) ولم يعرف الرجل معنى النبي، فقال: وما نبي؟ أي: وما معنى قولك نبي؟، قال: (أرسلني الله عز وجل) فسأله وبما أرسلك الله عز وجل؟ قال: (أرسلني بصلة الأرحام) أي: آمر الناس بأن يصلوا أرحامهم. وهذا من الأصول التي دعت إليها الشرائع كلها، فقد دعا إليها نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، ليس في هذا اختلاف وليس في هذا افتراق، والنصوص في هذا الأمر لا تخفى عليكم، ويكفي أن القاطع ملعون كما قال الله: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23] ويلحق بذلك كل من سعى في تقطيع أرحام غيره، فإذا عمد شخص إلى التفريق بين أخ وأخيه، أو بين أخ وأبيه، أو بين امرأة وبنتها فهو ملعون مسحوب عليه اللعنة، وأعمى الله بصيرته كما قال تعالى في كتاب الكريم.

    (أرسلني بصلة الأرحام، وبكسر الأوثان) هكذا قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام أرسلني ربي عز وجل بكسر الأوثان، وسيأتي لذلك تفصيل إن شاء الله تعالى.

    (وأن يوحد الله لا يشرك به شيء) وهذا الفارق بين أهل الإسلام وغيرهم من جميع الملل والنحل الأخرى، الفارق بيننا وبين غيرنا ما جاء في كتاب ربنا بوضوح وجلاء وصفاء: أن الله واحد لا شريك له، لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [الأنبياء:22] ورد ذلك في كتاب الله في جملة هائلة من المواطن، وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [النحل:51]، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4] لا شريك لله سبحانه وتعالى، هذا الفارق بيننا وبين أهل الملل الأخرى، فبجلاء ووضوح وصفاء في كتاب الله في عدة مواطن -بل في كل المواطن- يتضح هذا المعنى، وسيقت الآيات كلها لتقرير هذا المبدأ: أن الله واحد لا شريك له سبحانه، ومن ثَم قال رسولنا: (وأن يوحد الله لا يشرك به شيء) ثم قال عمرو بن عبسة لرسول الله: فمن معك على هذا الأمر، قال: (معي حر وعبد) هذا أيضاً من محاسن هذا الدين الذي لا يفرق بين الحر والعبد، ولا بين الأبيض والأسود، ولا بين ذي المنصب والوضيع, ولا بين الغني والفقير.

    أما الأديان الأخرى فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، أطاعوا السادات والكبراء فأضلوهم السبيل، ديننا ليس فيه فرق بين أبيض وأسود، فربنا لا ينظر إلى الصور والأشكال، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال، قد تجد الرجل من ذوي الشارات الحسنة، والوضاءة في الوجوه، والوسامة فيها، قد تراه يعجبك منظره، لكن ربنا يقول عن أقوم: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ [التوبة:55]، ويقول: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4] فلا توقير في كتاب الله إلا لأهل التقوى.

    من فقه الدعوة إلى الله تعالى

    فقال الرجل: فإني متبعك، قال: (إنك لا تستطيع ذلك الآن ولكن ارجع إلى بلادك) ففيه أيضاً نوع من أنواع الفقه: أن الشخص والداعي إلى الله والآمر والناهي للناس ينبغي أن يكلفهم -إذا كلفهم- بما يطيقون، ويكلفهم بما يحتملون فإنك إذا كلفت الناس بما لا يطيقون ولا يحتملون فقد خالفت أمر ربك ابتداء ولم تُجب إلى مطلبك انتهاء، ولكن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كلف أصحابه بعمل كلفهم من الأعمال ما يطيقون وما يحتملون، وقد دعا أهل الإيمان ربهم فقالوا: رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة:286] فقال الله تبارك وتعالى لما قال أهل الإيمان ذلك: (قد فعلت قد فعلت)، وفي حديث وإن كان في إسناده كلام: (لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: وكيف يذل نفسه يا رسول الله؟! قال: يتحمل من البلاء أو يتعرض من البلاء لما لا يطيق) فرسولنا عليه الصلاة والسلام الذي أرسل رحمة للعالمين، الذي هو بالمؤمنين رءوف رحيم، قال لـعمرو بن عبسة : (إنك لا تطيق ذلك الآن، فارجع إلى بلدك) وإن أسلمت وشهدت الشهادتين، لكن لا تظهر ذلك الآن، ونفس القول قاله النبي عليه الصلاة والسلام لـأبي ذر الغفاري لما جاء وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، قال الرسول: (ارجع إلى بلدك فإذا سمعت بي قد ظهرت فائتني) قال أبو ذر : والله لأصرخن بها بين أظهرهم، وخرج وقالها في الملأ من قريش في قصة لا تخفى عليكم.

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـعمرو : (ارجع إلى بلدك فإذا سمعت بي قد ظهرت فائتني) فرجع إلى بلده، وكان يتحسس أخبار النبي عليه الصلاة والسلام، ويتسمع لها لأن هذا الأمر هو الذي يهمه بالدرجة الأولى قبل المطعم والمشرب، والزوجة والولد، والعشيرة والأقربين.

    فسمع أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد زال عنه بعض الشر الذي كان يحيط به، وزالت عنه بعض الشدة التي كانت تحل به، وهكذا فإن مع العسر يسراً، فالله يكشف الضر سبحانه وتعالى دائماً.

    ما ينبغي على المسلم تعلمه بعد الشهادتين

    جاء عمرو إلى مدينة رسول الله عليه الصلاة والسلام فعرفه الرسول ولم ينسه عليه الصلاة والسلام، وقربه إليه، فبدأ الرجل يسأل عن حاجته ويتعلم دينه، فقد كان في بادية وأهلها جهلاء، فسأل عن أهم الأمور بعد الشهادتين، سأله عن الصلاة، والظاهر أنه سأله عن مواقيتها؛ بدليل جواب النبي عليه الصلاة والسلام، قال له: (صل الصبح ثم أقصر عن الصلاة) أي: امتنع عن الصلاة (حتى تطلع الشمس؛ فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان)، فلا نفل بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وحتى ترتفع في السماء قدر رمح؛ ذلك (لأنها تطلع بين قرني شيطان، والكفار حينئذ يسجدون لها)، وقد نهينا عن مشابهة الكفار في صنائعهم، حتى لا يظن ظان أن ساجداً يسجد للشمس، وكذلك حتى لا يتعاظم الشيطان ويتعالى أثناء صلاة الناس وقت طلوع الشمس، إلا أن فريقاً من أهل العلم يستثني بالنص ذوات الأسباب من الصلوات؛ وذلك لأن الرسول عليه الصلاة والسلام صلى ركعتي الظهر بعد العصر لما شغله وفد عبد القيس عنها، ولأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يا بلال ! أخبرني عن أرجى عمل عملته؛ فإني سمعت دف نعليك في الجنة؟ قال: يا رسول الله! ما توضأت وضوءاً ولا تطهرت طهوراً في ساعة من ليل أو نهار إلا وصليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي) .

    ولحديث: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بالبيت وصلى في أي ساعة شاء من ليل أو نهار) ، فدلت هذه النصوص على جواز صلاة ذوات الأسباب في أوقات النهي.

    ثم رخص الرسول في الصلاة حتى وقت الزوال حيث قال: (حتى يستقل الظل بالرمح، ثم إذا رأيت للتلول فيئاً فصلِّ؛ فإن الصلاة مشهودة محضورة، ثم إذا جاء وقت العصر وصليت العصر فأقصر عن الصلاة حتى تغرب؛ فإنها تغرب بين قرني شيطان، ثم صلِّ فإن الصلاة مشهودة محضورة).

    ثم بيّن له النبي فضل الوضوء لما سأل عنه، وأن الخطايا تخرج مع الماء أو مع آخر قطر الماء.. تخرج خطايا الفم والأنف، والعينين، وتخرج خطايا الرأس والأذنين، وتخرج خطايا الأيدي والأرجل؛ كل ذلك بسبب الوضوء، فكما قال عليه الصلاة والسلام: (الطهور شطر الإيمان) ، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (أولا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؛ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط) .

    ثم بيّن النبي صلوات الله وسلامه عليه فضل صلاة ركعتين، بشرط أن تقبل فيهما بوجهك على الله سبحانه، وتقبل فيهما على الله بقلبك، وتجمع قلبك عليهما وعلى القراءة والاستغفار والذكر فيهما، فإنك إن فعلت ذلك خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك.

    وفقنا الله وإياكم لأعمال البر والخير.

    واستغفروا ربكم إنه كان غفاراً.

    1.   

    من معالم توحيد الألوهية

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

    وبعد:

    ما تدل عليه كلمة التوحيد

    مما لا يخفى عليكم أن كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، قد جمعت بين أمرين:

    الأمر الأول: التبرؤ من كل الآلهة.

    والأمر الثاني: إثبات الألوهية لله وحده؛ فـ(لا إله) فيها تبرؤ من كل الآلهة، و: (إلا الله) إثبات الألوهية لله وحده، وهذا المعنى ظاهر في قول الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وأيضا في قوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا [البقرة:256] أي: لا انكسار لها حتى تصل به إلى الجنان، فالآية صدّرت بقوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256]، والطاغوت على أرجح الأقوال: هو كل ما عبد من دون الله عز وجل، فيدخل فيه الساحر، والشيطان، والكاهن، والصنم، والوثن، والحاكم بغير ما أنزل الله، وكل شرع شرعه البشر لم يشرعه الله، فجدير بكل مسلم أن يكفر بالطاغوت إذ بُعث الأنبياء بذلك كما قال الله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فيجب أن نتبرأ من كل طاغوت، وكاهن وشيطان، وحاكم وحكم يخالف حكم الله، ويخالف ما جاءت به رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم، وهذا ليس بنافلة ولا بفضل منك، بل هو واجب من أوجب الواجبات قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4] أي: وتكفروا بما سواه من الآلهة، والأنداد، والأصنام، والأوثان، فلنا في إبراهيم أسوة حسنة في هذا الباب الذي ذكرنا الله تعالى به.

    معلم إسلام الوجه لله

    معشر الإخوة! لزاماً علينا أن نسلم وجوهنا لله، لا لشيء سواه في حال من الأحوال، ولذلك تضافرت نصوص الشرع توجهنا وتأمرنا وترشدنا إلى إسلام الوجه لله، وإخلاص العمل لله وحده، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] أي: وانحر لربك كذلك، فكل وجهة غير وجهة الله فهي باطلة؛ لذلك منعنا من الصلاة في المساجد التي بها القبور حتى لا تتجه قلوبنا إلى ميت من الأموات في هذه القبور، وحتى لا نشرك بالله في ذلك.

    أمرنا بألا نحلف إلا بالله حتى لا تتجه القلوب والوجوه إلى شخص يعظم مع الله سبحانه وتعالى، أمرنا بعدم الطواف بأي قبر ولا بأي بيت إلا ببيت الله العتيق حتى لا تنصرف الوجوه والقلوب عن ربها وبارئها سبحانه وتعالى.

    أمرنا ألا نعظم إلا الأعياد التي عظمها ربنا امتثالاً منا لأمر الله عز وجل، فليس ثم عيد عند أهل الإسلام إلا العيد الذي شرعه الله.

    معلم كسر الأوثان والأصنام

    توافرت النصوص لتدمير الشرك وتقويضه، ولإبراز هذا المعنى ولإظهاره، فليس في الإسلام شرك، وليس في الإسلام أوثان.

    نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أُرسل بكسر الأوثان صلوات الله وسلامه عليه، ولما ينزل عيسى عليه الصلاة والسلام حين ينزل أول ما يصنع قبل قتله للدجال -على قول- يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام صلوات الله وسلامه عليه، فكان من المقاصد في شرعنا: ألا تبقى أي وجهة إلا وجهة واحدة فيها ربنا سبحانه، تسلم الوجوه كلها لله سبحانه وتعالى.

    قال علي رضي الله عنه لـأبي الهياج الأسدي وهو من أمرائه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام: لا تدعن صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته، وقال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام لـجرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه: (ألا تريحني يا جرير! من ذي الخلصة) وهو صنم دوس الذي كان يعبد في الجاهلية، فقد كان لقبيلة خثعم من اليمن صنم يعبد وبيت مبني يقال له: ذو الخلصة، وكان يقال له: الكعبة اليمانية؛ لأن أهل اليمن يقصدون هذه الكعبة لتوقيرها وللطواف بها، وكان هذا يؤرقه عليه السلام ويشغله شغلاً زائداً أن ينصرف وجه من الوجوه إلى شيء غير بيت الله الحرام أو إلى شيء غير الله عز وجل، قال: (ألا تريحني يا جرير! من ذي الخلصة الكعبة اليمانية، فقال: يا رسول الله! إني لا أثبت على الخيل، فضرب النبي بيده في صدره، وقال: اللهم ثبته واجعله هادياً مهدياً) فانطلق جرير في رجال من أحمس -من قبيلته- إلى ذي الخلصة فحرقها، وأشعل فيها النيران، ثم رجع إلى الرسول فقال: يا رسول الله! والله ما تركتها حتى جعلتها كالجمل الأجرب، أي: حتى أحرقتها وأنهيتها تماماً، فبرك رسول الله عليه الصلاة والسلام على خيل أحمس وبرك على رجالها.

    وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا خالد بن الوليد ! اذهب إلى العزى فأحرقها) فذهب إليها خالد ، وكانت على تلال السمرات، فحرق السمرات -السمرات: أشجار كانت تحيط بها- ورجع إلى الرسول، فقال قد حرقتها يا رسول الله! قال: (ما صنعت شيئاً! اذهب فأحرقها ثانية) فذهب خالد ، فإذا امرأة قد خرجت من هذا الوثن ناشرة لشعرها، وإذا بالحجبة والسدنة والكهان يخرجون وهم يمعنون الفرار في الجبل ويقولون: يا عزى! خبليه، أي: أصيبيه بالخبل وبالجنون، يعنون خالداً، فأقبل إليها خالد غير مبال بشعوذات المشعوذين ودجل الدجالين، فتجللها بالسيف فقتلها وحرق العزى، ورجع إلى الرسول فأخبره الخبر، فدعا له رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يبارك الله فيه رضي الله تعالى عنه.

    فليس ثم وثن يعبد من دون الله، وليس ثَم وجهة يتجه إليها مع الله سبحانه وتعالى، إن النبي عليه الصلاة والسلام دخل الكعبة يوم دخل فاتحاً لمكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل يطعن في وجوهها ويكبها على وجوهها صنماً صنماً، ويقول: قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ:49] فجعل النبي يطعن في وجوهها، ويكبها على وجوهها صنماً صنماً، حتى كسرها رسول الله عليه الصلاة والسلام.

    فتكسير الأوثان وإزالة الأصنام والتماثيل مطلب شرعي يتأكد على المستطيع أما غير المستطيع فليس له أن يفعل؛ لأن الرسول لما لم يكن في وسعه أن يفعل كان يصلي في الكعبة عليه الصلاة والسلام والأصنام بها وهو بمكة لا يستطيع أن يغيرها، فلما مكنه الله سبحانه وتعالى ما تردد وما تأخر في تدميرها، وهذا فقه المسألة.

    1.   

    إزالة الأصنام في الوقت الحاضر

    نقول وبالله التوفيق: في بلادنا مصر أوثان وأنصاب وأزلام وقبور يعبد الأموات فيها من دون الله، وتماثيل وخلاف ذلك، ولكن لما لم تكن لنا في إزالتها من طاقة، وإزالتها يحمل الكثيرين ما لا يطيقون ولا يحتملون فنقول:

    يرجأ ذلك بالنسبة لنا إلى أن يمكننا ربنا سبحانه، فحينئذٍ إذا مكننا ربنا فالأمر متجه إلينا، قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41] أمّا وقد مكن إخواننا في بعض الدول من إزالة صنم، ومن إزالة تمثال لرجل كافر ملحد وهو (بوذا) الذي عبد مع الله، وليست العبادة مقتصرة على السجود له فقط، إنما الطاعة أيضاً عبادة من أعظم العبادات، فإذا مكن الله إخواننا في دولة من الدول من إزالة هذا التمثال والصنم الذي كان صاحبه المجرم الأثيم يشرع شرائع لم ينزل بها كتاب منير، ولم يأت بها رسول كريم، فمكن الله إخواننا من تدميره، فنقول لهم هنالك: جزاكم الله خيراً، فمعلم من معالم الكفر أزيل، ومعلم من معالم الكفر دمر، وينبغي أن يبث في الناس هذا الفهم: أنه ليس في الإسلام صنم، وليس في الإسلام تمثال، وليس في الإسلام وثن.

    لو كان في الإسلام أصنام وتماثيل لصنع لنبينا محمد أفضل الخلق وسيد ولد آدم تمثال يعظم به، ولصنع لأصحابه أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وعمار وصهيب وسلمان تماثيل أيضاً، ولصنع للأئمة المهديين من بعدهم كالإمام مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله، ولكن أين هذا كله؟ ليس في الإسلام شيء من هذا، بل يجب أن تتجه الوجوه كلها لخالقها وبارئها سبحانه وتعالى مسلمة خاضعة إليه.

    وإنه لعار على قوم يحملون علماً أن يظهروا تباكياً على ما وقع، وأن يأتوا بفلسفات فارغة للإنكار على ما فعل، ويشجبوا صنيع إخواننا؛ إذ كسروا الأوثان وأزالوا معلماً من معالم الشرك، وأزالوا عقيدة تتقلد من دون الإسلام، عار على رجال تقلدوا علماً أن يذهبوا ليواسوا أهل الكفر في المصاب الأليم الذي ألم بهم بزعمهم، ويتركوا المسلمين يذبحون في الأرض المباركة التي بارك الله فيها للعالمين، ولم نسمع أن شيخاً ذهب يشجب هذه الصنائع، وسمعنا عن أقوام يظهرون تباكياً على وثن أزيل.

    فنقول بوضوح وجلاء وصفاء: إن الله سبحانه ما أذن لهذه الأوثان أن تقوم، وما أذن لهذه الأوثان أن تعبد، وما شرعت هذه الأوثان في دين الإسلام أبداً، إنما هي من شرائع الكفار والمشركين، وقد قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] فلا تأخذوا ثقافتكم من صحف وجرائد ومجلات، ولا تغتروا بذهاب مبعوث من الأمم المتحدة الكافرة يبكي ويتباكى ويناشد، ولم يذهب هذا المبعوث لوقف إراقة دماء المسلمين التي تسال يوماً بعد يوم في الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، فالحمد لله على نعمته، وكما قال نبينا محمد: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)؛ فقه المسألة واضح وجلي، المستضعف يؤجل ذلك ولا يفعله؛ كأمثالنا في مصر نؤجل ذلك ولا نفعله لاستضعافنا، وقد أخر النبي ذلك لما صلى بمكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، ولكن إذا جعل الله لنا دولة فحينئذ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41].

    معشر الإخوة! إن إبراهيم عليه السلام الذي أمرنا الله بالاقتداء به: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:123] كسر الأوثان صنماً صنماً، ثم قال ساخراً من قومه: قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63].

    فيا عباد الله! اعلموا تمام العلم وتيقنوا تمام اليقين: أن التوحيد يبلغ بالعبد درجة عليا لا تبلغه بها الصلاة ولا الصيام، ولا الحج، التوحيد وإخلاص العمل لله وإسلام الوجه لله يبلغ بالعبد درجة عليا في أعالي الجنان، أما من أشرك بالله، وإن كان في الظاهر يصلي فعمله حابط لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، إنه لا ينبغي لنا في هذه الحال أن نتغنى بتراث الكفار، ولا ينبغي لنا بحال أن نتغنى وأن نفتخر بخوفو وبخفرع وبمنقرع وبأبي الهول وغير ذلك من الأوثان، لا ينبغي لنا أن نفتخر إلا بإيماننا وبإسلامنا، فوالله ليست هذه الأصنام بنافعة لنا في قبورنا، ولا في دنيانا، ولا في أخرانا كذلك، بل يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم ببعضاً، ومأواهم النار وما لهم من ناصرين، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديثه (ينادي منادٍ يوم القيامة: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد؛ فيتبع أهل الأوثان أوثانهم، ويتبع أتباع الطواغيت طواغيتهم، ويتبع أهل الصليب صليبهم)، وهكذا تتبع كل أمة ما كانت تعبد.

    فجدير بكل شخص منكم أن يوحد ربه، وألا يشرك به شيئاً، وألا يظهر تباكياً على صنم يزال، فتراث كافر لا يحق أن يقال عنه تراث أو تاريخ أو حضارة، إنما إن كانت لها مقام فللعبرة، كما قال تعالى في شأن قوم من الكفار: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات:137-138].

    فجدير بنا أن نأخذ العبرة من مصارع هؤلاء الغابرين الهلكى، ونعلم تمام العلم أن كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:29].

    أهل الإيمان أسلموا الوجوه كلها لله، وأهل الكفر أسلموا الوجوه لآلهة متعددة، فمنهم من أسلمها لحجر يظن أنه ينفع ويضر، ومنهم من أسلمها لشجر يتبرك به ويتمسح به، ومنهم من أسلمها لقبر يزعم أن فيه ولياً لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ومنهم من أسلم الوجوه لقبور ولمقبورين فيها، يذهب يمسح قلنسوته وجلبابه بقبر هالك من الهلكى يظن أنه ينفعه، وقوم أسلموا الوجوه لبقر يعبدونها مع الله، فنشهد الله على البراءة من كل دين يخالف دين الإسلام.

    نشهد الله أنا رضينا به رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، ونسأل الله سبحانه أن يمسكنا بالعروة الوثقى حتى نلقاه، نسأله سبحانه أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، نسأله أن يثبتنا بالقول الثابت عند سؤال الملكين لنا في قبورنا من ربك؟ فهل نقول ربنا بوذا؟ أو خوفو، أو البدوي؟ كلا وحاشى، فمن قال ذلك ومن تقلد شيئاً من ذلك حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين، بل ربنا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [ص:66] فاعبدوه وأسلموا له الوجوه.

    اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، اللهم مسكنا بالعروة الوثقى حتى نلقاك.

    شهدنا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وسمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار، ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك، ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد.

    اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأهلك الكفرة أعداءك أعداء الدين، واختم لنا بخير أجمعين، وارحم أمواتنا وأموات المسلمين، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756302138