إسلام ويب

ابتلاء الأنبياءللشيخ : مصطفى العدوي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن للابتلاء حكماً وفوائد كثيرة جداً، فهو يكفر الذنوب، ويرفع الدرجات، وتنال به الإمامة في الدين وتنال به محبة الله سبحانه. وإن من أشد الناس بلاءً الأنبياء، فإن من نظر في سيرهم وما لاقوا من الابتلاءات وما كانوا عليه من صبر يدرك استحقاقهم لهذه المنزلة التي بلغهم الله إياها.

    1.   

    حِكم الابتلاء

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .

    ثم أما بعد:

    فإن محبة الله تبارك وتعالى تتمكّن من القلوب وتنمو وتربو وتزداد بالاطلاع على كتاب الله عز وجل، وبالنظر إلى سنن الله تبارك وتعالى في خلقه، وبالنظر إلى الحكم والغايات المترتبة على هذا القضاء والقدر. يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون:75] ، أفادت الآية الكريمة المباركة -وكتاب الله كله كريم ومبارك، وصحفه كلها مطهرة- أن الله سبحانه وتعالى إذا عافى الناس في أبدانهم وعافاهم في أموالهم وذرياتهم تمادوا في الغي، واستمروا في الظلم والعتو والفجور، ولكن يكسر العبد حتى تقف مسيرته الفاجرة إلى فجوره، يمرض حتى تنقطع آماله في اغتراف المآثم والجرائم، فيبتلى العبد لوقف مسيرة الطغيان التي هو فيها سائر.

    وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أخرجه الإمام أحمد وغيره من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل ليحمي عبده من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم من الطعام والشراب وأنتم تحبونه)، فكما أن مريضك يتطلع إلى الطعام الشهي وإلى الشراب الهني، وأنت تعرف ذلك تمام المعرفة، لكن تمنعه من طعامه، وتمنعه من شرابه، ليس كراهية له، إنما محبة له وحفاظاً عليه، كذا ربكم سبحانه يحمي عبده من الدنيا وهو يحبه حتى لا يقع هذا العبد فيما حرّم الله تبارك وتعالى، وفيما نهى عنه، وفي الحديث عن رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله قوماً ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع) ، وكلكم قد علم أن مزيد النعم تحمل على مزيدٍ من الطغيان، وأن الابتلاءات ترد العبد إلى ربه رداً جميلاً.

    أما كون النعم تحمل على الطغيان فقد تضافرت بذلك الآيات والأحاديث، قال الله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى:27] ، وقال تعالى: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7] ، وقال تعالى: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا [الإسراء:83] ، وقال تعالى: ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر:8] ، فجرت سنة الله في الخلق على أنهم إذا أمدوا بالعافية والمال والجاه والولد بدءوا في الطغيان والتطاول على الخلق، فيبتليهم الله بالبلايا، بلاءً تلو بلاء؛ لإرجاعهم إلى طريقه.

    قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ [الأعراف:94]، لماذا أخذناهم بالبأساء والضراء؟ قال تعالى: لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [الأعراف:94] أي: لعل أكف الضراعة منهم ترتفع إلى الله تسأله وترجوه وترغب إليه وتلجأ.

    وقال تعالى أيضاً في كتابه الكريم: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76]، فيفترض أن العذاب والبلاء يحدثان استكانة لله رب العالمين.

    وقال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ [الأعراف:130] أي: بسنوات الشدة وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف:130] .

    وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن كفار قريش: (اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف)، ذلك حتى يرجعوا إلى دينهم.

    فاستفيد من ذلك كله أن من أجلِّ مقاصد البلاء وأعظمها أن يرجع الشخص إلى دينه، فأستفيد -أنا وأنت أيها المسلم- من البلاء أن نستكين لربنا، وأن نرجع إليه، وأن نغنم من هذا البلاء رجعة وأوبة إلى الله تبارك وتعالى، وكذا نغنم استغفاراً.

    تكفير الذنوب والخطايا ورفع الدرجات

    فالحكم والغايات من وراء الابتلاءات والمحن كثيرة جداً، لا يعلم أمدها ولا مداها إلا الله تبارك وتعالى، فمن أجل مقاصد تلك الابتلاءات التي تحل بنا:

    - أن نخرج منها وقد تحاتت عنا الذنوب والخطايا كما يتحات ورق الشجر.

    قال نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بذلك من خطاياه)، وفي رواية: (إلا تحاتت عنه خطاياه -أي: تساقطت عنه خطاياه- كما يتحات ورق الشجر) .

    ولما نزل على رسولكم محمد عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123] بلغت من الصحابة مبلغاً شديداً فشكوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام ما أصابهم من الهم وقالوا: (أينا لم يعمل سوءاً يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: أبشروا وسددوا وقاربوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة لذنوبه).

    وفي الحديث الآخر: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـأبي بكر رضي الله عنه لما شكا بشكوة مماثلة: (يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تتعب؟ ألست تصيبك اللأواء؟) أي: أن كل ذلك تكفر به الخطايا وتمحى به الذنوب.

    ولا يخفى عليكم أن نبيكم محمداً عليه الصلاة والسلام كان يُبتلى ابتلاءً أضعاف أضعاف ما يبتلى به غيره، دخل عليه ابن مسعود رضي الله عنه وقد وعك وعكة شديدة فقال: (أراك -يا رسول الله- يضاعف عليك البلاء، أذلك بأن لك أجرين؟ قال: أجل، إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا الأجر كما يضاعف لنا البلاء) .

    وتعلمون كذلك أن رسولكم عليه الصلاة والسلام دخل على امرأة يقال لها أم السائب وهي تشتكي الحمى وترجف ويرجف جسمها فقال لها: (مالك يا -أم السائب- تزفزفين؟ قالت: يا رسول الله! الحمى لا بارك الله فيها. فقال عليه الصلاة والسلام: لا تسبي الحمى)، وأخذ منه: أن الأمراض لا تسب فإنها كفارات، (لا تسبي الحمى فإنها تذهب بخطايا بني آدم كما يذهب الكير بخبث الحديد).

    إذاً: استفدنا من قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تسبي الحمى) أننا لا نسب عموم الأمراض؛ لأنها تمحو خطايا بني آدم، فالذي يطلقه الأطبـاء على مرض السرطان -عافانا الله وإياكم منه- إنه مرض خبيث، لا ينبغي أن يطلق هذا الإطلاق؛ وذلك لأن السرطان شأنه كشأن غيره، بل شأنه لشدته أعظم من شأن غيره في محو الخطايا وإزالة الذنوب.

    فينبغي أن ندقق -أيها الإخوة- في الاصطلاحات التي نطلقها حتى لا تتضمن وصفاً لشيء بعكس ما هو فيه، وحتى لا تتضمن اعتراضاً على قضائه وقدره.

    إن نبيكم محمداً عليه الصلاة والسلام أتته أمة سوداء تشكو إليه ما مسها من الضر، كي يدعو الله لها، قائلة: (يا رسول الله! إني أصرع -يصيبها الصرع- فادع الله لي، فقال عليه الصلاة والسلام: إن شئت دعوت الله فشفاك، وإن شئت صبرتي ولكٍ الجنة. قالت: أصبر يا رسول الله! ولكن ادع الله لي ألا أتكشف) أي: لا تنكشف سوءتي أثناء صرعي، فدعا الله لها ألا تتكشف، فكانت تصرع ولكن ببركة دعوة رسول الله لا تتشكف، فكان الحبر الكريم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما إذا رآها وقد تعلقت بأستار الكعبة تدعو ربها سائلة راجية مستغفرة يقول: (من سره أن ينظر إلى امرأة من أهل الجنة، فلينظر إلى هذه الأمة السوداء المتعلقة بأستار الكعبة) ويقص ابن عباس رضي الله عنهما على المسلمين خبرها.

    أيها الإخوة: قد عاد نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام مريضاً أعرابياً، وكما لا يخفى عليكم فالأعراب جمعوا مع جفاء القلوب جهلاً بالشريعة وأحكامها (فذهب النبي عليه الصلاة والسلام إلى الأعرابي يزوره ويعوده، فوجده قد حم حمة شديدة، فقال النبي مصبراً ومواسياً: لا بأس، طهور إن شاء الله، فقال الأعرابي: طهور؟ -أي: تقول لي: طهور- بل حمى تفور، على شيخ كبير، تزيره القبور، فقال عليه الصلاة والسلام: فنعم إذاً) أي: أن الأمر إذاً كما اخترت لنفسك، فما دمت اخترت لنفسك ألا تكون الحمى كفارة، وألا تكون الحمى تطهيراً من الذنوب فكما اخترت لنفسك.

    ويذكر الشراح بإسناد يحرر: أن الرجل ما مرت به ليلتان إلا ومات، وذلك لحلول أجله، ثم إنه لم يقبل دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، وهكذا دوماً مصير من لم يستسلم لدعوة النبي له، كما حدث نظيره لرجل يقال له: حزن وهو جد سعيد بن المسيب بن حزن فقد أتى النبي عليه الصلاة والسلام فقال له: (ما اسمك؟ قال: اسمي حزن يا رسول الله! قال: بل أنت سهل، قال: لا أغير اسماً سمانيه أبي يا رسول الله!) قال سعيد بن المسيب رحمه الله : (فما زالت الحزونة فينا) أي: أن الحزن لازمهم على الدوام.

    أيها الإخوة: لقد قال عليه الصلاة والسلام في شأن مرض شديد يحل بالأبدان ألا وهو مرض الطاعون: (الطاعون شهادة لكل مسلم)، وكذا في المبطون إذ قال: (شهداء أمتي خمسة: المطعون -أي: الذي أصابه الطاعون- والمبطون، والغريق، والحريق، وصاحب الهدم) .

    وقال أيضاً: (والمرأة تموت بجمع) أي: التي تموت في نفاسها شهيدة كذلك، كذا قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام.

    وفي الحديث: (يختصم الشهداء والمتوفون على فرشهم في قتلى الطاعون -كل يريد أن يأخذ الذين ماتوا من الطاعون إلى صفه يوم القيامة- يقول الشهداء: يا ربنا! أشبهت دماؤهم دماءنا، ويقول المتوفون على فرشهم: يا ربنا! ماتوا على فرشهم كما متنا على فرشنا، فيقول الله تعالى: انظروا إلى دمائهم، إن أشبهت دماؤهم دماء المتوفين على فرشهم فهم منهم، وإن أشبهت دماؤهم دماء الشهداء فهم منهم، فيجدون دماءهم قد أشبهت دماء الشهداء فيلحقون بهم) فضلاً من الله ونعمة منه تبارك وتعالى.

    أيها الإخوة: لقد قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (من ابتليته بحبيبتيه -أي: بفقدان عينيه- فصبر عوضته خيراً منهما الجنة) .

    أيها الإخوة: إن الدرجات ترفع بالابتلاءات، فكم من شخص منَّا له عند الله منـزلة علية! لا يبلغها بعمله، لا يبلغها بصلاته ولا بصيامه ولا بقيامه، لكن يبلغها بالصبر في الفتن، يبلغها بالهم والحزن، يبلغها بابتلاء في ولد، وبابتلاء من جار شرير مفسد بالصبر عليه، فتبلغ بهذه إلى المراتب التي لم ترفعك إليها صلاتك ولم يرفعك إليها صومك، ولم يرفعك إليها كبير عمل قدمت، لكن تبلغها بالصبر على البلاء.

    إن الفتاة التي تقدم بها السن، ولم ترزق بزوج صالح تقر به عينها، ترتفع درجتها بصبرها على قضاء الله، وعلى قدر الله، وتلك التي تزوجت ولم تنجب لعلها ترتفع كذلك بصبرها عند الله درجات، وعساها وقد حرمت الولد أن تمد يديها لربها سائلة إياه الولد.

    استخراج جوانب من العبودية

    إن الابتلاءات والمحن تستخرج منك جوانب من جوانب العبودية، لا تفعلها وقت رخائك ووقت يسارك، وإن الابتلاءات والمحن تستخرج منك دعوات مباركات كما استخرجت من زكريا عليه السلام وهو يمد يديه إلى السماء: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [الأنبياء:89] وهو يدعو ويقول: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38]. إن هذه الابتلاءات تستخرج منك دعوات لا تستشعر لها طعماً ولا تذوق لها حلاوة إلا عند البلاء.

    تستخرج منك دعوة كتلك التي دعا بها أيوب عليه السلام: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، وكالتي دعا بها نوح عليه السلام: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10] كلها دعوات لا تخرج بإخلاص وبشدة إخلاص إلا مع عظيم الألم وشدة البلاء، فتستخرج أنواعاً من العبودية كالخضوع لله، وكالإخبات إليه، وكحسن التضرع واللجوء، وهذه لا تستخرج في وقت الرخاء واليسار.

    إن الابتلاءات تستخرج منك ما كان مكنوناً، إنها أحياناً تذرف من أقوام الدمع وترقق منهم القلب، فلا تكاد تشعر بنعم الله عليك إلا إذا حرمت هذه النعم، فلا تكاد تشعر بنعمة البصر إلا إذا ابتليت برمد، فإذا ابتليت برمد، أو بدمع لا ينقطع، أو بغشاوة على العين، شعرت بنعمة الله على سلامة البصر، وبنعمة الله إذ عافاك في البصر.

    أيها الإخوة: لا يشعر أحدكم بمعنى قول الله تبارك وتعالى: نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ [الإنسان:28] إلا إذا ابتلي بسلس البول، بلعاب يسيل ولا ينقطع، أو بنخام ونخاعات تنـزل من الأنف وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ [الإنسان:28] معناها: قوينا عضلات التحكم فيهم، فعضلات التحكم في الفم شدها الله وقواها، وكذلك في الأنف، وفي العين، وفي الأذن، وفي القبل والدبر، فلا تشعر بهذه الآية إلا إذا ابتليت بسلس للبول، لا يستطيع له الأطباء علاجاً، إلا إذا ابتليت بإسهال مستمر لا تستطيع التحكم فيه، إلا إذا ابتليت بصديد ينـزل من الإذن لا تستطيع أن تتحكم فيه، فتشعر حينئذٍ بنعم الله تبارك وتعالى عليك نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ [الإنسان:28]، فالابتلاءات كما أن ترق بها القلوب بإذن الله، وبها تشكر نعم الله تبارك وتعالى على العبد.

    إن مصائب حلت لصحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، بل وبرسولنا محمد عليه الصلاة والسلام وكان من ورائها حكم وغايات لا يعلم مداها إلا الله.

    1.   

    الحكمة من ابتلاء النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة

    إن مصائب حلت لصحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، بل وبرسولنا محمد عليه الصلاة والسلام وكان من ورائها حكم وغايات لا يعلم مداها إلا الله.

    غزوة أحد وما فيها من ابتلاء وما يستفاد منها

    ابتلي النبي عليه الصلاة والسلام بالذي ابتلي به يوم أحد، ولم يكن أمراً عند المسلمين متوقعاً، فلم يكن متوقعاً عند أهل الإيمان الذين أقروا لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة أن يدال عليهم أهل الكفر، وأن يغلبهم يوماً ما أهل الكفر، لكن قدر الله وما شاء فعل، ابتلي المسلمون -ببعض ما قدمت أيديهم- بأن يدال عليهم عدوهم، ابتلي المسلمون يوم أحد بقتل أفاضل كرام، فقتل حمزة عم رسول الله، الشجاع المقدام الذي هو أسد الله بوصف رسول الله له، وتأتي امرأة آنذاك شريرة مفسدة كافرة بسكين فتبقر بطنه وتستخرج الكبد تلوكها بلسانها، وتجدع من حمزة الأنف، تقطع الأنف بالسكين، وتقطع أعضاءه وتمثل به تمثيلاً شديداً، وحمزة هو من؟ حمزة عم رسول الله عليه الصلاة والسلام.

    ولا يقف الأمر على ذلك، بل رأس النبي الكريم عليه الصلاة والسلام شج، ونـزف منه الدماء، وتأتي فاطمة عليها السلام بماء تغسل به الرأس الكريم لإزالة أثر الدماء فلا يزداد الدم إلا انصباباً من رسولنا محمد، ولا يسكن الدم، حتى تأتي بحصير وتحرقه وتأخذ رماده وتسد به جرح النبي عليه الصلاة والسلام.

    وليس هذا فحسب بل تكسر رباعيته وهو الصادق المصدوق سيد الناس يوم القيامة، فسيد ولد آدم، تكسر رباعيته عليه الصلاة والسلام! ولا يقف الأمر عند هذا بل يقف كافر عند ذاك فيقول متطاولاً ظالماً باغياً: (اعل هبل). أي: صنم هبل ارتفع يا هبل، ارتفع يا هبل فقد ارتفعت، كذا يزعم، ويقول: (لنا العزى -أي: لهم الصنم العزى- ولا عزى لكم).

    كل ذلك يفعل في خير القرون مع خير الرسل مع سيد ولد آدم، وسيتعجب أهل الإسلام فيقولون: أنّى هذا؟! كيف يحدث هذا؟! كيف يكون هذا؟! كيف يدال أهل الشرك وأهل الظلم على المسلمين؟! من أي وجه أتانا هذا؟! فيقول تعالى: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، أنتم الذين تسببتم لأنفسكم، بمعصية بعضكم للنبي عليه الصلاة والسلام.

    فيستفاد من ذلك درس، وهو أن المعاصي لها شؤم -والعياذ بالله- حتى مع خير القرون، إنها تسبب البلاء، إنها تسلط عليك العدو الباغي الأثيم، إنها تحرم الأرزاق كما حرم آدم سكن الجنة بسببها، وكما كشف عنه ستره وغطاؤه، وانكشفت عورته وطفق يستر نفسه بورق من ورق الجنة بسبب معصيته إلى أن تاب الله عليه.

    لقد تلقى المسلمون دروساً من غزوة أحد، فعلينا أن نستفيد منها نحن ونتعلم، والأمر كما قال هرقل وقد سأل أبا سفيان بن حرب عن نبينا محمد قبل أن يسلم أبو سفيان بن حرب قال له: هل حاربتم هذا الرجل؟ قال: نعم حاربناه، قال: كيف كان قتالكم إياه؟ قال: الأيام بيننا دول والحرب بيننا سجال، ينال منا وننال منه، قال هرقل -وكان كافراً لكنه كان حكيماً-: وهكذا الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة.

    إذاً: لقد تلقى المسلمون من غزوة أحد دروساً نافعة جداً، فرغم ما مسهم من الأذى وما أصابهم من القرح، من الله عليهم بمنن لا يأتي عليها الحصر من وراء هذه الغزوة المباركة، فقد علموا أنه لابد من إعداد العدة للكفار، عدة إيمانية وعدة كذلك من العتاد، كما قال تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:121].

    حادثة الإفك وما يستفاد منها من الحكم والغايات

    أيها الإخوة: إن الابتلاءات تفرز حكماً لم نكن ندركها إلا بهذه الابتلاءات، فلقد أفرز حادث الإفك الأليم حكماً وغايات لا يأتي عليها الحصر، ذكر العلماء منها مائة فائدة، منها:

    - إحسان الظن بأهل الإسلام لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النور:12-13] .

    فليست كل شائعة يطعن بها في عرض وينال بها من مسلم تصدق؛ كلا، بل يلزمنا الظن الحسن بإخواننا أهل الإسلام لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ [النور:12] وكما قال تعالى في شأن هذا الحادث لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11]، إن الصديقة بنت الصديق نالت إمامة بسبب هذا الحادث.

    - وكذا الابتلاءات تنال بها الإمامة وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]، إن الصديقة عائشة نزل في شأنها قرآن يتلى في المحاريب ويحفظ في الصدور، ويدرس في الكتاتيب، وفوق ذلك هو ثابت بين دفتي المصحف إلى أن يأتي أمر الله، ثابت ثناء الله عليها وتبرئتها في هذا الكتاب العزيز: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11]، وكذا ثابت في شأنها َالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [النور:26] كله ثناء على عائشة .

    - استفيد من هذا الحادث رغم مرارته إقالة عثرة ذوي العثرات وذوي الهيئات، إذ أن الله تبارك وتعالى قال: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22]، فالصبر الصبر.

    الصبر على البلاء سبب لمحبة الله

    أيها الإخوة! اصبروا على الابتلاءات تحظوا بمحبة ربكم، إن الله يحب الصابرين، إن الله مع الصابرين، أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:157] .

    - فمن مقاصد الابتلاء نيل محبة الله بعد نيل الإمامة، ألم تروا أن أيوب عليه السلام نال درجة علية وشهادة سامية بصبره على البلاء؟ قال تعالى: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44]، ثلاث شهادات لو نال واحدة منها شخص منا ما وسعته الدنيا بأسرها، قال: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44] .

    هل نال الصديق يوسف درجة الصديقية إلا بالصبر على ما حل به من البلاء؟! هل نال نوح درجة العبد الشكور إلا بصبره على البلاء؟! وإبراهيم الذي وفى هل نال درجة الإمامة إلا بصبره على البلاء وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]؟!

    الشاهد: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124] أي: بأوامر ونواهٍ، فقام بهن وصبر، فقال الله له: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124] فالإمامة تنال بالصبر.. محبة الله تنال بالصبر.. معية الله تنال بالصبر.. الدرجات ترفع بالابتلاءات والصبر عليها.

    جعلنا الله وإياكم من الصابرين، استغفروا ربكم إنه كان غفاراً.

    صور من ابتلاء الأنبياء

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

    وبعد:

    لقد سمعتم -أيها الإخوة- طرفاً مما ابتلي به من كان قبلنا، ولسنا جميعاً ببدع من الخلق، بل نحن خلق كسائر خلق الله تبارك وتعالى، نبتلى كالذين ابتلاهم الله تبارك وتعالى، وتتنوع علينا الخطوب وتتنوع علينا الابتلاءات كما تنوعت على من كان قبلنا، وقد قال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:2-3] وقد قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، إن المستقرئ للتاريخ عموماً وكذا المستقرئ لكتاب الله يرى ما حل بالذين كانوا من قبلنا، وهذا عرض سريع جداً للإصابات والابتلاءات التي ابتلي بها من كانوا قبلنا:

    فأبونا آدم عليه السلام فضلاً عن طرده من الجنة يبتلى بابتلاء آخر شديد وشاق عليه أيما مشقة، يبتلى بأن يقتل ولده الطالح الشرير المفسد ولده الصالح، فتخيل إذا حل بك -يا عبد الله- هذا البلاء، إذا كان لك ولدان أحدهما صالح في غاية من الصلاح، وبار بك وتقي، والآخر شرير مفسد، فيتسلط الشرير المفسد على الصالح فيقتله، كيف سيكون الأمر؟! إن رحماً قطعت، إن دماءً سفكت، إن هموماً شربت، إن أحزاناً حلت، إن نيراناً أعدت، وإن جناناً كذلك أعدت، فماذا يصنع آدم عليه السلام أمام هذا الابتلاء الشديد المر القاسي؟ ولده الطالح يتسلط على الولد الصالح المذكر بالله ويقتله قتلة شديدة بشعة، أبوك آدم يبتلى بهذا عليه الصلاة والسلام.

    كذلك نوح عليه السلام فضلاً عن تكذيب قومه له، يرمونه بالجنون! ويزداد الرمي يوماً بعد يوم، يصنع السفينة على البر فيزداد رميهم له بالجنون، يقولون: انظروا هذا الذي كان يزعم أنه نبي، فدل على جنونه عندهم أنه يصنع سفينة على البر، والسفن تصنع في البحار، وتزداد السخرية وهو يحمل فيها من كلٍ زوجين اثنين، كيف بهم وهم يرونه يجمع قطاً وقطة، جدياً وعنـزة، ديكاً ودجاجة، ويضعها على السفينة وهي على البر؟!

    إن السخرية منه قد ازدادت وازدادت؛ ولكن الله يعلم والبشر لا يعلمون، وابتلي فضلاً عن تلك السخرية والتكذيب بولدٍ عاق وبولد كافر، يدعوه نوح: يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ [هود:42] فيقول الغبي: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود:43]، فيبتلى عليه السلام بموت ولده أمام عينيه على الكفر -والعياذ بالله- فموت الولد أمر مقدر على الجميع؛ لكن موته على الكفر أمر شاق على من يعلم عن الله أوامره ومن يعقل عن الله شرعه.

    كذلك يبتلى بزوجة مؤذية شريرة تدل الكفار على من آمن فيسومونهم سوء العذاب.

    أنتقل إلى الخليل الذي وفى، يبتلى خليل الرحمن بجبار عنيد، بحاكم ظالم مبير يقول له: أنا أحيي وأميت، ويدعي أن الإلهية له، يبتلى به فيصبر إبراهيم على البلاء ولا يجبن ولا يتراجع، بل يقول له بقوة وبصراحة وجرأة بلا مداهمة ومماراة: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة:258]، ثم يقول: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258]، فكلمة الحق أمام هذا الطاغية الجائر لم تعجل بأجل إبراهيم عليه السلام، ويبتلى بنار أعدها له المجرمون وأشعلوها، وهم لا يمزحون ولا يداعبون ولا يهددون، بل قذفوه فيها وهو صابر محتسب يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.

    يبتلى كذلك في البدن فيؤمر بالختان، وهو في الثمانين سنة ولا يتردد، فيأتي بالقدوم -آلة النجار- فيقطع من نفسه الجلدة صابراً محتسباً لأمر الله، ويبتلى في ولده: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102] فيجيب الابن البار يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:102-103] أي: استسلما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] طرحه على وجهه وأتى بالسكين، فحينئذٍ نزل الفرج وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:104-107].

    أنتقل إلى الكليم الكريم موسى عليه الصلاة والسلام، ابتلاء تلو ابتلاء، من الجبابرة فرعون وهامان وقارون الكذاب، ومن بني إسرائيل، وقد ذكر في الموقوفات أن قارون أعد خطة للنيل من موسى عليه السلام، فأوعز إلى امرأة بغي من البغايا بعد أن أعطاها ألفين من الدراهم أن تقذف موسى بالزنا، فبينا موسى يخطب في بني إسرائيل قام قارون قائلاً: يا نبي الله! ما عقوبة من زنى وهو محصن؟ قال: عقوبته الرجم، قال: يا كليم الله! ما عقوبة من زنى وهو محصن؟ فقال: عقوبته الرجم، ثلاثاً، قارون يؤكد ويستثبت من الفتيا، فقال للمرأة: قومي فتكلمي. فقامت وقذفت موسى أمام الملأ بالفاحشة وهو كليم الرحمن، فقال موسى: أناشدك بالذي أنزل التوراة أهذا قد حدث؟ قالت: أما وقد ناشدتني فوالله! ما حدث هذا، ولا شيء من هذا، بل قارون أعطاني من المال كذا وكذا.

    في ذلك وفي غيره أيضاً يقول تعالى: لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69]، فتهم تقذف للأبرياء، وأعراض تنتهك، وهم عليها صابرون، والله ينجيهم ويبرئ ساحتهم.

    أما عيسى روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم، فهو الآخر يقذف من شراذم اليهود بأنه ولد زنا، وتتهم الصديقة الكريمة العفيفة المحصنة مريم عليها السلام بأنه زنى بها يوسف النجار الذي كان يدخل عليها المحراب، وهي الصديقة الكريمة التي أحصنت فرجها، فيمكن الله لعيسى شفاء المرضى بإذنه سبحانه وتعالى، من الأمراض المستعصية، يبرئ الأكمه والأبرص، بل ويحيي الموتى بإذن الله؛ ولكن يتهمونه بأنه ساحر عليه الصلاة والسلام.

    أما نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم فصنوف البلاء عليه تعددت، منذ ولد يتيماً تعددت وتنوعت، فنشأ يتيماً ثم ماتت أمه، فأصبح يتيم الأبوين، ثم يبدأ في رعي الغنم عليه الصلاة والسلام، ثم يعمل أجيراً عند خديجة بنت خويلد قبل تزوجها، ثم تمر به الأمور أمراً تلو أمر، فيؤذى في بلده، ويخرج منها وينظر إلى تلال مكة وجبالها وهو مهاجر والدمع ينحدر من عينيه قائلاً: والله! يا مكة! إنك لأحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت، ثم تتوالى عليه الابتلاءات في المدينة من يهود، ومن أهل نفاق، ويرى رؤى مزعجة لما سيحل بأمته، ثم يموت ويلقى ربه صلوات ربي وسلامه عليه، كما مات غيره من الرسل، فيبتلى المسلمون بذلك وتتنوع الابتلاءات.

    صور من ابتلاء الصحابة الكرام

    وهذا أبو بكر الصديق يبتلى بالمرتدين، ويبتلى بالطاعنين فيه من الروافض وقاتل الله الروافض الذين يقولون عن أبي بكر : إنه سرق ميراث رسول الله، وهو الذي قد تصدق بكل ماله لنصرة هذا الدين؛ لكن يبتلى من شراذم الروافض بأنه أكل ميراث فاطمة بنت رسول الله، وهو البار الصادق الخليفة العادل الراشد رضي الله تعالى عنه، وهو سيد شيوخ أهل الجنة.

    ويبتلى الفاروق عمر بالقتل وهو في صلاة الفجر، ولا يرعوي القاتل على حرمة لله، بل يقتل رجلاً عادلاً وهو يصلي صلاة الفجر، ويطعنه بخنجر وهو في صلاة الفجر، فأي فجور أشد من هذا الفجور، يقتل مسلماً وهو يصلي الفجر بخنجر مسموم، وتتحقق رؤيا عمر التي رآها قبيل وفاته: (رأيت كأن ديكاً أتاني فنقرني ثلاث نقرات)، فلما طعن الثلاث طعنات تلا عمر قول الله تعالى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب:38] .

    فمهما احترزت -يا ابن آدم- لابد وأن يأتيك قدر الله تبارك وتعالى الذي قدر لك.

    وهذا أمير المؤمنين الخليفة الراشد عثمان بن عفان الحيي الذي تستحي منه الملائكة، الذي زوجه الرسول بابنتيه، يقتل قتلة بشعة، وهو يتلو كتاب ربه، فتسيل الدماء وتنـزف وهو يتلو كتاب ربه، ولا يلوي قاتلوه على ذكرى ذكروا بها، فإنه ذكر الخوارج أمام أصحاب النبي وقال: أناشدكم الله يا أصحاب محمد! هل تعلمون أن الرسول قال: (من حفر بئر رومة فله الجنة) فحفرتها من خالص مالي، وجعلت دلائي فيها كدلاء المسلمين؟ أتشهدون لي بذلك يا أصحاب محمد؟ قالوا: نشهد لك بذلك، ثم يقول: يا أصحاب محمد! أتشهدون أن رسول الله قال: (من جهز جيش العسرة فله الجنة) فجهزته جميعاً من خالص مالي؟ قالوا: نشهد لك بذلك يا أمير المؤمنين! فقال: فبم يقتلونني؟ فبم يقتلونني؟ ثم يقول عثمان: والله! ما مسست ذكري بيميني منذ أسلمت، ولكن لا يلوي أهل البدعة على أحد، فقتلوه وهو يتلو كتاب ربه كما قال الشاعر:

    تمنى كتاب الله أول ليله وفي آخره لاقته حمام المقادر

    وهذا الخليفة الراشد علي أمير المؤمنين رضي الله عنه، ابن عم رسول الله، وزوج ابنته، يبتلى بخوارج فجرة عاثوا فساداً في الأرض، ابتلي بمكفرين كفروه، وهو أول من أسلم من الصبيان، بمكفرين كفروه وهو المبارز يوم بدر، بمكفرين كفروه وهو الذي نام في فراش النبي محمد عليه الصلاة والسلام ليلة الهجرة، بمكفرين كفروه وهو والد سيدي شباب أهل الجنة.

    ابتلي بخروجهم عليه، وقتلهم له وهو خارج لصلاة الفجر رضي الله تعالى عنه، فقتله خارجي ويفرح بقتله أشد الفرح، فلم يقتله ويحزن، بل يقتله وهو سعيد لأنه قتل علياً المبشر بالجنة، وهو أول من يجلس للخصومة بين يدي الرحمن عز وجل!

    ولا يقف الأمر عنده، بل ولداه سيدا شباب أهل الجنة حسن وحسين رضي الله عنهما، اللذان قال فيهما النبي: (هما ريحانتاي من الدنيا) أما الحسن فيذكرون أنه مات مسموماً، فالله أعلم بذلك وبمن سمه، وأما الحسين ابن بنت رسول الله فيحجب عن الماء حتى لا يشرب، والماء يشرب منه الكلب، ويشرب منه الكافر، ويشرب منه اليهودي والزنديق، وابن بنت رسول الله سيد شباب أهل الجنة مع أخيه ينظر إلى الماء وهو في أشد العطش ويحرم منه! ويأتي الآتي فيقطع رأس الحسين ويضعه في طست، ويذهب به إلى أمير غشوم ظالم يعبث بالسيف فيه، وبين الأسنان، ويطعن في حسن الحسين رضي الله تعالى عنه.

    أيها الإخوة: لقد ذهب بصر عبد الله بن عباس الذي كان يقرأ به كتاب ربه، ويلتمس أفضل التأويلات فيه، لقد ذهب هذا البصر الذي كان يطلع به على سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك صبر واحتسب رضي الله عنه، كما ذهب بصر العالم الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، وهم كرام كرام رضي الله تعالى عنهم، ومع هذا ابتلوا ابتلاءات شديدة.

    وهذا عبد الله بن الزبير أول مولود ولد في الإسلام بمدينة رسول الله يقتل، بل ويصلب على مشارف مكة التي كرمها الله، وخالته هذه زوجة رسول الله.

    أيها الإخوة: إن الابتلاءات تحل بأهل الإسلام كما تحل بغيرهم، كما قال تعالى: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:104]، فنحن كمسلمين نرجو من الله الجنة، فينبغي أن نقدم مزيد صبر على البلاء، وينبغي أن نقدم مزيد احتساب للأجر فإنا نرجو من الله ما لا يرجوه غيرنا.

    وإن كانت الابتلاءات لازمة إلا أن سؤال العافية لازم أيضاً، قال عليه الصلاة والسلام: (إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواها) ولقد كانت أكثر دعوة يدعو بها نبينا محمد: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار).

    فاللهم! ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

    اللهم! جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم! جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

    اللهم! عافنا في أبداننا وفي أسماعنا وفي أبصارنا، واجعل ذلك الوارث منا يا رب العالمين!

    اللهم! عافنا في أزواجنا وذرياتنا، وأصلح لنا الأزواج والذريات، وأصلح لنا النيات يا رب العالمين!

    اللهم! مسكنا بالعروة الوثقى حتى نلقاك، اللهم! ثبتنا على كلمتي الإيمان والهدى حتى نلقاك.

    اللهم! من أراد بالإسلام والمسلمين خيراً فوفقه لكل خير، ومن أراد بهم شراً فعليك به، فإنه لا يعظم عليك أخذه يا رب العالمين!

    اللهم! ول على المسلمين خيارهم، واصرف عنهم شرارهم يا رب العالمين!

    ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.

    اللهم! اشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين، واقضِ الدين عنا وعن المدينين، وفك أسرانا وأسرى المسلمين، وعليك بكل جبار عنيد، وبكل باغ مريد يا رب العالمين!

    اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755946151