ثم تكلم الشيخ عن واقع كثير من الشباب بعد رمضان، وحذر من السفر إلى بلاد الكفر.
أما بعــد:
أيها المسلمون: اتقوا الله عزَّ وجلَّ، فتقوى الله هي وصيته سبحانه للأولين والآخرين، قال تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً [النساء:131].
عباد الله: بالأمس القريب كنتم في شهر رمضان المبارك شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، تصومون نهاره، وتقومون ليله، وتتقربون إلى ربكم بأنواع القربات، طمعاً في ثوابه، وخوفاً من عقابه، ثم انتهت تلك الأيام الفاضلة، والليالي المباركة، وقطعتم بها مرحلةً من حياتكم لن تعود إليكم أبداً، وإنما يبقى لكم ما أودعتموه فيها من خيرٍ أو شر: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8].
وهكذا كل أيام العمر مراحل تقطعونها يوماً بعد يوم، في طريقكم إلى الدار الآخرة، فهي تنقص من أعماركم وتقربكم من آجالكم، ويحفظ عليكم ما عملتموه فيها، لتجازوا عليه في الدار الآخرة: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران:28-30].
قال الحسن البصري رحمه الله: [[لا يكون لعمل المؤمن أجلٌ دون الموت، ثم قرأ قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] ]]، وقال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
فاحذروا -عباد الله- من الرجوع إلى المعاصي بعد رمضان، فإن رب الشهور واحد، وبئس القوم من لا يعرفون الله إلا في رمضان، بئس القوم من لا يعرفون الله إلا في شهر واحد، مع التقصير والتفريط، ويعرضون عنه في أحد عشر شهراً.
فاتقوا الله -أيها المسلمون- ولا تهدموا ما بنيتم في شهر رمضان من الأعمال الصالحة، فإن من علامة قبول الحسنة إتباعها بالحسنة، وإن الرجوع إلى المعاصي بعد التوبة منها أعظم جرماً وأشد إثماً مما كان قبل ذلك، وإن أمامكم ميزاناً توزن فيه حسناتكم وسيئاتكم: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:102-104].
ومن الناس -ويا للأسف الشديد- من كان صيام رمضان أثقل عليه من الجبال الرواسي ويتمنى بزوغ هلال شوال؛ لينطلق من وثاقه، تسيره شياطين الجن والإنس؛ ليعيث في الأرض فساداً، وينتقل من معصيةٍ إلى أخرى بدون وازع من دينٍ أو خلق، وما أكثر هؤلاء اليوم الذين أشربوا في قلوبهم حب المعاصي والمنكرات، وبغض الطاعات والقربات، والعياذ بالله.
فلم يكن لشهر رمضان أثرٌ في نفوسهم وقلوبهم، هجروا المساجد والمصاحف، وأقبلوا على شهواتهم وغفلاتهم، وفسادهم ومجونهم ولهوهم، هذا هو واقع كثيرٍ من أبناء الأمة الإسلامية، والمحسوبين عليها، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
إن هذا الواقع المؤلم لا يرضي إلا أعداء الإسلام، الذين يتربصون بنا الدوائر، ويتمنون انسلاخ أبناء المسلمين من دينهم وعقيدتهم، بل ويبذلون في سبيل ذلك كل غالٍ ورخيص، ووالله إنه ليحزن من كان في قلبه أدنى مثقال حبة خردلٍ من إيمان، فاتقوا الله -أيها المسلمون- واستقيموا على شريعة ربكم، واستمروا على طاعته، وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، ووجهوا أبناءكم ومن تحت أيديكم إلى طريق الرشاد.
واتقوا الله يا شباب الإسلام، فحافظوا على أوقاتكم، واعمروها بطاعة ربكم ولا تلهيكم الملهيات، فهي كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً.
واتقين الله أيتها النساء المسلمات، فاستقمن على طاعة الله، وقَرْن، قال تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33].
وليكن شهر الصيام ذا أثرٍ بالغ على نفوسكن، ولازمن الحياء والحشمة وغضّ البصر، واحذرنَ من مزاحمة الرجال في الأسواق والأماكن العامة، وإبداء الزينة لهم، وابتعدن عن التبرج والسفور وإظهار المفاتن، واقتدين بالصالحات السالفات من المؤمنات.
سائلين الله عزَّ وجلَّ أن يهدي ضال المسلمين وأن يوفقهم لما يحب ويرضى، اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، اللهم تقبَّل منا أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعــد:
أيها المسلمون: اتقوا الله عزَّ وجلَّ، وتوبوا إليه واشكروه على سوابغ نعمه وآلائه، ومن شكره: المداومة على طاعته وعبادته.
عباد الله: إن مقابلة نعمة التوفيق لإكمال شهر الصيام بارتكاب المعاصي بعد خروجه، يعتبر من تبديل نعمة الله كفراً، فمن عزم على معاودة المعاصي بعد رمضان، فيخشى أن يرد عليه صيامه، إن هذه الشهور والأعوام والليالي والأيام كلها مقادير الآجال ومواقيت الأعمال، ثم تنقضي سريعاً وتمضي جميعاً، والذي أوجدها باقٍ لا يزول، ودائمٌ لا يحول، هو في جميع الأوقات إله واحد، ولأعمال عباده رقيبٌ ومشاهد، فاتقوه وداوموا على طاعته واجتناب معصيته، فإن كل وقتٍ يخليه العبد من طاعة الله فقد خسره، وكل ساعةٍ يغفل فيها عن ذكر ربه تكون عليه يوم القيامة حسرةً وندامة، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أيها المسلمون: إن فضل الله عليكم متواصل، ومواسم المغفرة لا تزال متتالية لمن وفقه الله لاغتنامها، فإنه لما انقضى شهر رمضان المبارك دخلت أشهر الحج إلى بيت الله الحرام، فكما أن من صام رمضان وقامه، غفر له ما تقدم من ذنبه، فكذلك من حج البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
فما يمضي من عمر المؤمن ساعةٌ من الساعات، إلا ولله فيها عليه وظيفةٌ من وظائف الطاعات، فالمؤمن يتقلب بين هذه الوظائف، ويتقرب بها إلى مولاه، فاشكروا الله على هذه النعم، واغتنموها بطاعة الله، ولا تضيعوها بالغفلة والإعراض.
واعلموا -رحمكم الله- أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً ) اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارضَ اللهم عنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، على اختلاف مللهم يا رب العالمين، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم وفق المسلمين لما تحب وترضاه، اللهم جنبهم الفواحش والفتن، ما ظهر منها وما بطن.
اللهم وفق إمامنا لهداك، اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضاه، اللهم ارزقه السداد والرشاد، والبطانة الصالحة التي تذكره إذا نسي، وتعينه على نوائب الحق يا رب العالمين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأصلح قادتهم وأمراءهم، وعلماءهم وشبابهم ونساءهم يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، والمستضعفين في أرضك، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم يا رب العالمين، قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر