وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
لا زلنا مع كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل، لإمام الأئمة ابن خزيمة، وسنتحدث عن صفة من صفات البارئ جل وعلا، ألا وهي صفة الوجه.
قال تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27]، وقال تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28]، وقال تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:115].
الوجه صفة من الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، فهي صفة تليق بجلال الله وكماله، وهذه الصفة صفة ثبوتية، أي: أن الله أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، ونحن نعتقد اعتقاداً جازماً أن الله يوصف بأن له وجهاً، ووجه الله له صفات كما سنبينها، وهذه الصفة صفة ثبوتية خبرية لا مدخل للعقل فيها، وهي ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع السلف، أما الكتاب فقد قال الله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88].
وقال جل وعلا: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27]، وقال جل وعلا: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28]، وهي أيضاً ثابتة بالسنة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام)، إلى أن قال: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، وبصر الله ينتهي إلى جميع خلقه، وقوله: سبحات وجهه أي: أنوار وجهه. وفي الصحيح أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وما بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه)، نسأل الله أن يجعلنا جميعاً ممن يتمتع برؤية وجه الله الكريم، والمعنى: رداء الكبرياء والعظمة على وجه الله جل وعلا.
وأيضاً في السنن بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علمنا إذا دخلنا المسجد أن نقول: (أعوذ بالله العظيم ووجهه الكريم وسلطانه القديم)، والشاهد: (ووجهه الكريم)، فثبتت هذه الصفة في السنة كما ثبتت في الكتاب.
وأجمع سلف الأمة على أن لله وجهاً يليق بجلاله وكماله، وأن وجه الخالق ليس كوجه المخلوق، ومن قال: إن وجه الله كوجه فلان من الناس فقوله كفر؛ لأنه شبه الخالق بالمخلوق، قال نعيم بن حماد شيخ البخاري : من شبه الخالق بالمخلوق فقد كفر، فنحن نثبت لله وجهاً لكنه يليق بجلاله ويليق بجماله وكماله جل وعلا، فأجمع سلف الأمة على أن لله وجهاً يليق بجلاله وكماله لا يشبه وجه المخلوقين، قال تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27]، ووجه الدلالة في الآية أن وجهاً عند أهل النحو يعرب: فاعلاً، وهو مضاف إلى الرب، والمضاف إلى الله نوعان، أعيان قائمة بذاتها ومعان، فمن الأعيان التي تضاف إلى الله: عيسى روح الله فقد أضيف إلى الله، ومثله الكعبة بيت الله فالكعبة مضافة إلى الله جل وعلا، ومنه أيضاً: ناقة الله، فالناقة مضافة إلى الله جل وعلا، فهذه المضافات أعيان قائمة بذاتها، والأعيان القائمة بذاتها إذا أضيفت إلى الله تسمى أضافتها: إضافة تشريف.
النوع الثاني من المضافات: المعاني، وهي: ليست أعياناً قائمة بذاتها، والمعاني إذا أضيفت إلى الله جل وعلا تكون إضافتها إضافة صفة إلى الله مثل قولنا: القرآن كلام الله، فالكلام مضاف إلى الله، ومعلوم أن الكلام معنى لا عين، والمعنى إذا أضيف لله فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، والوجه معنى من المعاني، أضيف إلى الرحمن فإضافته إضافة صفة إلى الموصوف.
الوصف الأول في الكتاب: قال الله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27]، فقد وصف هذا الوجه بأنه: ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27]، فوجه الله موصوف بالجلال، وموصوف بالإكرام، ومعنى الجلال العظمة والسلطان، فالمعنى: أن العظمة كلها لله جل وعلا، وأن السلطان لله جل وعلا بأكمله.
الوصف الثاني: الإكرام، والإكرام مصدر أكرم، وقولنا: وجه الله مكرم أي: أننا نكرم وجه الله، ولا يعني ذلك أن الله جل وعلا يحتاج لأحد أن يكرمه حاشا لله، بل إن إكرامك أنت لوجه الله يعني: الثناء عليه بالأسماء الحسنى والصفات العلى، فثناؤك على الله إكرام لوجهه جل وعلا؛ لتنال جزيل الثواب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أحد أحب إليه العذر من الله، ولذلك أرسل الرسل، وما أحد أحب إليه الثناء من الله، ولذلك أمر عباده أن يمدحوه)، وفي الحديث: (قال: حمدني عبدي، أثنى علي عبدي) فالثناء عبادة من أجل العبادات، فوجه الله مكرم أي: مثنى عليه به من عباد الله الصالحين، فأنت تثني على الله فتقول: رب له الجمال وله الكمال وله وجه يوصف بأنه له الكمال وله الجلال.
كما ثبتت صفة الوجه في الكتاب فقد ثبتت أيضاً في السنة كما تقدم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رداؤه الكبر أو الكبرياء على وجهه، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، وسبحات وجهه أي: أنوار وجهه، وكما أن وجه الله له الجلال، وله الإكرام، فوجه الله له نور، ونور وجه الله جل وعلا لو بلغ البشر لأحرقهم، وصفة الأنوار لوجه الله تعالى تجر المرء أن يقدر الله حق قدره، ولذلك عاب الله على قوم لم يعظموا الله حق عظمته، قال: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91]، وقال أيضاً: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:13]، فأنت لو علمت أن لربك الإجلال والإكرام والسلطان وأن له وجهاً له أنوار فلا بد أن تكرم هذه الوجه وتعظم الله حق التعظيم، ولذلك نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك في نفوس العباد فقال: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة) فأنت من تعظيمك وتقديرك لجلال الله ولسلطان الله ولعظمة وجه الله لا تسأل بوجه الله إلا أغلى شيء أنت تحتاج إليه وهو الجنة، فلا تسأل الله بوجهه إلا الجنة، ولذلك يعاب على امرئ يريد اللقمة أو اللقمتين أو الدرهم أو الدرهمين فيسأل بوجه الله، وهذه خسة، فالصحيح أن المرء لا يسأل بوجه الله إلا شيئاً عظيماً، وإن سئل بوجه الله فلا ينبغي أن يرد السائل بل يعطيه، من باب تعظيمه لوقار الله ولجلال الله ولكمال الله.
ولأنهم أولوها بالذات وبالثواب فقد قالوا: صفة الوجه صفة مخلوقة، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، ثم أحدثوا تساؤلاً فقالوا: هل يخص الوجه دون الذات بالبقاء فقط؟ وهل يعقل هذا أو يتكلم به أحد؟
فإن قيل: لا، قالوا: إذاً: ما ذكر الوجه إلا وهو يقصد الذات، ولا يمكن أن نقول: إن ذات الله تفنى، -حاشا لله- ويبقى الوجه فقط، إذاً قوله: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27]، دلالة على أن ذاته ستبقى، فالوجه هنا بمعنى الذات. ومما استدلوا به على التأويل أيضاً: عمل المخالف فقد خاطبوا المخالفين فقالوا: أنتم تدعون السلفية وأنكم تتبعون السلف، فلماذا أولتم قوله تعالى: أَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، فقلتم: وجه الله في هذه الآية يعني: قبلة الله، وهذا تأويل، فلنا أن نؤول فنقول: ويبقى وجه الله أي: تبقى الذات، وليس هناك ثمة فرق.
أما الرد تفصيلاً فنقول: أولاً: زعمكم أن المقصود بالوجه هنا هو الذات كلام مردود بالكتاب وبالسنة، أما بالكتاب فقد قال الله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ [الرحمن:27]، وجعل الوجه مضاف إلى الرب، ويقصد بالرب هنا الذات، فلا يمكن أن نقول: إن الله جل وعلا أنزل لنا الكتاب بلسان عربي مبين يكرر الذات مضافاً للذات، إذ إن هذا منكر في لغة العرب، وبذلك علم أن الوجه صفة مضافة إلى الذات، وأيضاً في قوله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27] كلمة: (ذو) مرفوعة لأنها صفة لوجه، وبذلك يعلم أن الوجه يخالف الذات؛ لأن الرب هنا مضاف إليه مجرور، فلو نعت بذي لقال: ذي الجلال والإكرام، لكنه لما قال: ذو دل ذلك على أنها صفة للوجه لا للرب.
أما السنة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم)، ومعلوم أن الأصل في العطف المغايرة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد استعاذ بالذات فقال: أعوذ بالله العظيم، ثم استعاذ مرة ثانية بالصفة فقال: وبوجهه الكريم، ولو كان الوجه بمعنى الذات لكان التكرار لا معنى له، وكانت الجملة الثانية لغواً، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم فيتعين أن معنى: أعوذ بالله العظيم: الاستعاذة بالذات المقدسة، ثم غاير وقال: (وأعوذ بوجهه الكريم)، فاستعاذ بالصفة.
ويبقى عليه لازم باطل وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما يقول: (أعوذ بوجهه الكريم)، استعاذ بغير مخلوق، فيرد عليهم بأن هذه الصفة مخلوقة؛ لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك، فقد استعاذ بصفة من صفات الله جل وعلا.
أما قولكم بأن الوجه في الآية بمعنى الثواب، وأن المعنى: يبقى ثواب ربك، أو: كل شيء هالك إلا الثواب فهذا مخالف لظاهر القرآن والسنة ويلزم من هذا القول لوازم باطلة هي كالتالي:
اللازم الأول: أن يوصف الثواب بأنه ذو جلال وإكرام، وهذا لا يمكن بحال من الأحوال، فوصفه بذلك باطل معلوم البطلان؛ لأن الله جل وعلا قال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27]. فوصف الوجه بذو الجلال والإكرام ولا يمكن أن يوصف الثواب بأنه ذو الجلال والإكرام.
اللازم الثاني: يلزم من قولكم أن الوجه معناه الثواب أن الثواب له بصر وله أنوار جلية تحرق البشر، ويفهم هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) فلو أن الوجه بمعنى الثواب لكان معنى الحديث: لأحرقت سبحات ثوابه ما انتهى إليه بصره من خلقه! وهذا يدل على بطلان قولهم.
اللازم الثالث: يلزم من القول بأن الوجه هو الثواب أن النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بمخلوق وحاشاه، فهو لا يستعيذ إلا بالخالق جل وعلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأعوذ بوجهه الكريم)، فلو وضع الثواب موضع الوجه، لكان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: وأعوذ بثوابه العظيم، وبهذا القول نجعل النبي صلى الله عليه وسلم يبيح الاستعاذة بغير الله وهذا شرك، وبذلك يرد على المعتزلة النفاة الذين ينفون الصفة، وتصفوا لنا الأدلة بأن لله وجهاً، ووجه الله جل وعلا ذو جلال وإكرام وذو أنوار ولا يسأل بوجه الله إلا الجنة.
أما اعتراضهم بقول الله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ [البقرة:115]، فإن هذه الآية كما ذكر علماء التفسير نزلت خاصة في السفر، ومعلوم أن السياق من المخصصات؛ فإنهم إذا كانوا على الراحلة في السفر صلوا إلى غير القبلة، فحيثما توجهت الراحلة فثمة القبلة، والنبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر، وكان على راحلته لم يشترط استقبال القبلة، بل حيثما توجهت به الراحلة صلى، فنزلت الآية لترفع الحرج عن المؤمنين في السفر وتبيح لهم أن يصلوا حيثما توجهت بهم الراحلة أو ما يقوم مقامها اليوم من طائرة أو عربة أو غيرهما، قال الله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115] وفي هذه الآية قولان للسلف:
القول الأول: أن معنى وَجْهُ اللَّهِ : قبلة الله، ويستدلون على ذلك بأن السياق الذي نزلت فيه الآية يفسر المقصود من الآية.
القول الثاني وهو القول الراجح من أقوال السلف: أن قول الله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أي: هناك وجه الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا قام يصلي فإن الله قبل وجهه)، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبصق المصلي أمامه أو عن يمينه؛ لأن الملك عن يمينك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإما في ثيابه أو عن يساره) فنهى أن يبصق المصلي أمام وجهه؛ لأن الله قبل وجهه، فقول الله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ معناه: أنك لو كنت في صحراء وحضرت الصلاة وأنت مأمور أن تقصد الكعبة، وما استطعت أن تعرف اتجاه الكعبة، ثم اجتهدت في الجهة فصليت وأخطأت هذا المقصد أو هذا الاتجاه، وقد اجتهدت قدر استطاعتك عملاً بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]؛ فإن الله جل وعلا يقبل صلاتك وهو قبل وجهك، فيكون معنى قوله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ : إثبات لصفة الوجه لله جل وعلا وزيادة إخبار بأن الله يكون قبل وجهك حتى لو اجتهدت ولم تستطع تحديد الجهة الصحيحة للكعبة.
فقوله تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ ، ورد فيه لفظة (كل) وكل نص في العموم ومع ذلك قال تعالى: فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ، فالمساكن لم تدمر، فيكون معنى الآية: كل شيء قابل للتدمير بالريح، فالريح لا تدمر المساكن وهي غير الأعاصير التي تحدث للكفرة في أيامنا هذه، إذ إن هذه آية من آيات الله جل وعلا، فمعلوم أن الأصل في الرياح أنها لا تدمر المساكن لقوله تعالى: فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ .
ومن نظائر ذلك أيضاً قول الله تعالى عن الملكة بلقيس: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23]، فليس المعنى أنها أوتيت من كل شيء، فهي مثلاً لم تعط ما خص به الرجال عن النساء من لحية وغيرها، وإنما أوتيت من كل ما يمكن لملكة أن تعطاه، وبذلك يعلم أن قول الله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88] ليس على عمومه، بل هناك أشياء تبقى منها ذات الله المقدسة والوجه وثمانية أشياء خلقت للبقاء وسبق ذكرها.
وقوله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27] يدل على بقاء وجه الله، وإذا بقي وجه الله جل وعلا لزم أن تبقى ذات الله جل وعلا، وأيضاً يستلزم من ذلك أن العمل الصالح لا يفنى، بل يبقى حتى يثاب عليه المرء؛ لأن أي عمل ابتغي به وجه الله يأخذ نفس الحكم ويبقى حتى يثاب عليه المرء الثواب العظيم.
الشرط الأول: الإخلاص، والشرط الثاني: متابعة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا [الكهف:110] أي: متبع فيه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110] أي: مخلص لوجه الله الكريم. كما يستنبط من قوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ [الكهف:28]، الحرص على مصاحبة الجليس الصالح، والنفور عن جليس السوء؛ لأن الجليس الصالح إما أن يذكرك بآية أو بحديث أو يرشدك لعلم قد جهلته أو يتعلم منك علماً جهله هو، فتفوز أنت ويفوز معك، بخلاف جليس السوء الذي يقودك إلى المعصية والرذيلة.
ويستنبط أيضاً من هذه الآية أنك إذا خاللت فينبغي أن لا تخالل إلا العالم السلفي ولا تخالل المبتدع ولا الذي لا يتخذ كتاب الله جل وعلا ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم منهجاً له؛ لأنك إما أن تبتدع كما ابتدع ثم لا تقبل توبتك عند الله جل وعلا؛ لأن الله جل وعلا حجب التوبة عن كل مبتدع، وإما يحيّزك عن كتاب الله، وإما أن لا يربطك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر