أما بعد:
فحديثنا عن بدر والعشر وواقع العصر؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد جعل لنا في تشريعاته وفيما قضى وقدر فيما سلف من الأيام والتواريخ عبراً وعظات ينتفع بها العبد.
فبدر حدث عظيم وفي تاريخ الإسلام، يوم الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، والحديث فيها يطول، غير أنّا نقف وقفات نستلُّها من بين تلك الأحداث، ونربطها بما نرومه ونتطلع إليه ونقبل عليه في العشر المرتقبة في ختام هذا الشهر، ونصل ذلك كله بواقع أمتنا ومسلك حياتنا، وما هي أحوالنا في كل ما نتصل به من أمر ربنا وفرائضه، وما نتصل به من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وسننه، وقفة مع الفداء بلا امتنان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين تكلموا بألسنتهم، وعقدوا العزائم في قلوبهم، وصدقوا ذلك بأفعالهم، ومزجوه بدمائهم، وسطروه في تاريخهم، يوم استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عندما تعين القتال بعد إذ لم يكن، حين تحولت المسألة من ثروة إلى ذات شوكة، فقال عليه الصلاة والسلام: (أشيروا عليّ أيها الناس)، فتكلم أبو بكر فأحسن، وتكلم عمر فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال مقالته الشهيرة: يا رسول الله! امض لما أراك الله فنحن معك، فوالله ما نقول لك ما قالت بنوا إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، ولكنا نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالله لو سرت بنا إلى برك الغماد فجالدت بنا لسرنا معك حتى تبلغه. ثم قال عليه الصلاة والسلام: (أشيروا عليّ أيها الناس)، فقام سعد بن معاذ سيد الأنصار فقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. فقال سعد يعبر بلسان الإيمان وبكلام اليقين وبموقف الثبات وبرؤية ما وراء هذه الحياة: آمنا بك وصدقناك، وشهدنا على أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة. ثم قال: صل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، واترك ما شئت، وما أخذت منا أحب إلينا مما تركت لنا، وما أمرتنا بأمر إلا ونحن تبع لأمرك، فامض بنا -يا رسول الله- لما أردت، فنحن معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا، وإنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فانفر على بركة الله.
(لعل الله يريك منا ما تقر بها عينك) هذه التضحية قالها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في ميدان الجهاد والسيوف تبرق، وعلائم الموت تخفق، والصفوف على وشك أن تلتحم، عندما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى مواجهة جيش عدته ثلاثة أضعافهم، فما وهنوا لما أصابهم وما ضعفوا وما استكانوا، وما تراجعوا وما ترددوا، ولكن أقدموا وعزموا وجزموا، وأعلنوا الفداء والتضحية بلا منة، بل المنة ذكروها لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم (فصل من شئت، واقطع من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، واترك ما شئت، وما أخذت من أموالنا أحب إلينا مما تركت لنا) وصدقوا ذلك، فكم نحن في حاجة إلى أن نصدق الله عز وجل في كل ميادين التضحية، ليس في مجرد أذكار نذكرها، ولا ليال بالقيام نعمرها، ولا مجرد خلوة لله عز وجل وعليه نقصرها، وكل ذلك خير، غير أن البذل والفداء والتضحية في سبيل الله وفي سبيل نصرة دين الله وفي سبيل الذود عن عباد الله المؤمنين أمر له في الإسلام مقام رفيع ومكان سام ومنزلة عظيمة، فينبغي أن لا نقتصر في المنازل والمراتب في السير إلى الله وابتغاء رضاه على مجرد الأذكار والصلوات والعبادات والدعوات، فهذه ميادين وتلك ميادين، هذا يستمد من هذا وهذا يؤيد هذا، دون أن نقتصر على صورة محدودة ننفصل بها عن ديننا وننقطع بها عن أمتنا، ولا يكون في همنا ولا في فكرنا ولا فيما يشغل بالنا مصير أمتنا ومواجهتها لأعدائها وحاجتها إلى النصرة والفداء والبذل دون منِّ أو استكثار، كما رأينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ألسنا نريد ذلك في عشرنا التي نرتقبها؟! ألسنا نريدها في كل أعمال الطاعات والعبادات؟! ارقبها وانظر إليها في صور وضيئة مشرقة نادرة عزيزة المثال في حياة البشر، انظر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى مسلم من حديث أنس رضي الله عنه وهو يتحدث عن غزوة بدر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض) وليس القيام هنا إلى تلك الجنة بقيام ليل ولا بتلاوة قرآن، ولكن بمجاهدة عدوٍ وإعزاز دين ورفع رايةٍ، (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فسمع
ترجمت تلك المعاني إلى سباق حقيقي إلى الجنان ببذل المهج والنفوس والأرواح، لا بمجرد الاقتصار على جزء من الطاعات والعبادات دون غيرها.
وتأمل وتدبر في حادثة أخرى لعلها أقل شهرة، وربما لا يعرفها كثير من الناس، ذكر ابن حجر في الإصابة عن ابن شهاب في مغازيه أن خيثمة وابنه سعد أنهما استهما في يوم بدر للخروج -كان لا بد من أن يخرج أحدهما ويبقى الآخر؛ لأن لهما من شئونهما ومن واجبهما تجاه أهلهما ما يحتاج إلى بقاء أحدهما- فاستهما قرعة، فجاء السهم لـسعد الابن، فأراد أن يخرج، فقال له أبوه: ألا تؤثرني بذلك يا سعد ؟! فرد سعد بكلام فيه التوقير والإجلال والاحترام: لو كان غير الجنة يا أبي. فمضى سعد واستشهد في بدر، ومضى من بعده خيثمة في أحد ومضى شهيداً). فاته بدر فلم تفته أحد.
فهل رأينا صورة أروع من هذه الصورة تصديقاً للإيمان وبرهاناً على اليقين ونصرة للدين؟! لم يكن أحدهما يتأخر والآخر يتقدم، بل كانا يتسابقان، فلم يجدا إلا قرعة تفصل بينهما، فلما خرجت القرعة للابن أراد الأب أن يستغل مكانه ومقامه وقدره واحترامه فقال: آثرني بها يا سعد ! ولو كان الأمر في ميدان آخر لتأخر الابن وقدم أباه، لكنه قال: لو غير الجنة يا أبي لآثرتك بها. أي أن هذا ميدان لم يعد فيه مجال لإيثار، وأي ميدان هذا؟ إنه ليس ميدان صف الأقدام في القيام، ولكنه ميدان قعقعة السيوف وضرب السهام، ميدان إزهاق الأرواح وإفضائها إلى ربها ومولاها سبحانه وتعالى، فكم نحن في حاجة ونحن نستبق إلى مرضاة الله ونطلب جنانه في عشرنا الأواخر إلى أن ندرك أن دورنا جميعاً ودور أمتنا أن ترفع راية الجهاد في سبيل الله والذود عن دين الله، وأن تكون جبهة واحدة في وجه أعداء الله عز وجل، ليس مجرد تلك العبادات وحدها، فإن من هذه العبادات ما نعلم أنه ذروة سنام الإسلام، ألا وهو الجهاد في سبيل الله.
في يوم بدر يوم تعين القتال بعد أن كان أمر الغنيمة وأمر الثروة السهلة التجأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه ومولاه ورفع يديه يدعو الله سبحانه وتعالى: (اللهم! أنجز لي ما وعدتني، اللهم! نصرك الذي وعدتني. حتى قال له
ثم من بعد ذلك كانت رؤيا لـجهيم بن الصلت من بني هاشم قبيل المعركة، وكان فيها أن رجلاً أقبل فما زال يقول: قتل فلان وفلان وفلان. وسمى من سمى من صناديد قريش، ثم قال: فنظرت إليه فإذا به يطعن لبة بعيره ثم يكون من دمه ما أصاب كل أحد.
وهذا أبو جهل زعيم الكفر في بدر، ويمكن أن نصوره في عصرنا بألد الأعداء وأشرسهم ممن يناوئون دين الله عز وجل ويحاربون أهل الإسلام، تأمل فيما قال أبو جهل وهو ينكر هذا، وهو يستعظمه، وهو يتندر به في شأن عاتكة للعباس : ما كفانا منكم -بني عبد المطلب- حين تنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم.
يستهزئ ويسخر، ثم قال عندما روجع في ذلك حتى يرجع عن هذا القتال وقد مضت قافلتهم وسلمت أموالهم وانقضى السبب الذي لأجله خرجوا قال: والله لا نرجع حتى نرد بدراً -وكانت بدراً موسماً يجتمع فيه العرب في بعض الأوقات- فنقيم عليها ثلاثاً فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا ومقامنا، فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها، فامضوا واثبتوا.
ويقول في موضع آخر سعى حكيم بن حزام إلى عتبة وقال له: قد نجت القافلة، وإنما نطلب محمداً بدم ابن الحضرمي، وإنه حليفك فتحمل عنه دمه. فقال: أفعل. اذهب بهذا إلى ابن الحنظلية -يعني أبا جهل- وقل له. فقال أبو جهل في هذا الأمر ما قال.
ثم كذلك جاء موقف ثالث في أحداث السيرة يبين لنا صورة أخرى سنربط بها واقعنا هذا فعندما تعين القتال وأصر عليه أبو جهل وساق الناس إليه سوقاً وحشدهم إليه حشداً وثبتهم فيه رغماً عنهم استفتح أبو جهل كما ورد في الصحيح وظل يدعو الله عز وجل، وهذا من العجائب أن يكون كافراً بالله محارباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعادياً للدين الحق ثم يدعو فيقول: اللهم! أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة.
أي: من كان منا أقطع للرحم، ومن جاء بما لا نعرف وأساء إلينا فاجعل هلكته اليوم. وفي ذلك تنزلت الآيات: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ [الأنفال:19] فما الحكمة وما السر في دعاء أبي جهل هذا؟ إنه يريد أن يقول لمن معه: ليس محمد صلى الله عليه وسلم وحده متصلاً بالله، بل نحن كذلك موصولون بالله، ولأن كان محمد يستنجد ويستنصر بربه فنحن كذلك نستنجد ونستنصر بالله. يريد أن يجعل للمسألة بعداً دينياًًً ومفاضلة عقدية، كما يقول زعماء الكفر في عصرنا: إن الله أمره اليوم بأن يقاتل هنا أو هناك.
وهو لا يعلم أنه على ضلال كبير وكفر عظيم، بل هو رأس من رءوس الكفر، بل ربما رأسه الأكبر الذي تولى كبر حرب الإسلام والمسلمين، نسأل الله عز وجل أن يجازيه بما يستحق.
عندما نتأمل في هذا المعنى نضيف إليه -أيضاً- مقالة ووقفة أخرى مع أبي جهل تربطنا بواقعنا لنرى كيف كان الأمر، فعندما جاء خفاف بن إيماء الغفاري -وقيل: أبوه- ومر قريباً من مكة قبيل مسير الكفار إلى بدر وقد علم بالخبر، فأرسل إليهم جزائر -أي: بعض الجزور والإبل هدايا لهم- وقال: إن شئتم أن أمدكم بسلاح ورجال فعلت. فردوا له مع ابنه شاكرين له، وقالوا: وصلت الرحم، ولئن كنا نقاتل محمداً بالناس فإنا لمنتصرون، ولئن كنا نقاتل الله مع محمد كما يزعم فما لأحد بالله من طاقة.
لقد كان أبو جهل أعقل من كفار اليوم الذين تحدوا حتى الرب سبحانه وتعالى في مقالتهم وأفعالهم.
صحيح أنهم قالوا ذلك تهكماً وقالوه إنكاراً وجحوداً لما كان يقوله محمداً صلى الله عليه وسلم، ولكنه في الوقت نفسه دلالة على شيء من التوازن الذي أراد به أبو جهل وغيره أن يسوقوا الناس إلى المواجهة والقتال بنوع من الحمية الجاهلية ونوع من الإسناد المعنوي العقدي الديني ليحشدوا الناس في مواجهة خاسرة، مواجهة الباطل مع الحق والشر مع الخير، والعاقبة للمتقين، ولتعلمن نبأه بعد حين، فقد وعد الله سبحانه وتعالى أن ينصر من نصروه، وأن يكون مع من آمنوا به، وأن ينجي الذين آمنوا بإذنه سبحانه وتعالى، فمن قدم العهد وصدق الوعد جاءه بإذن الله عز وجل نصر الله سبحانه وتعالى وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ [الأنفال:48] فغرهم الشيطان بحشدهم وبجمعهم وبقوتهم وبتزيينه لهم أنهم ينصرون، ثم تخلى عنهم فكانت الهزيمة ماحقة؛ لأن الصف الآخر كان مؤمناً، ولأن القلوب كانت بالله معلقة، ولأن النصر استمد من الله لا من قوة الأرض ولا من أسباب المادة ولا من كثرة العدد ولا من حسن الأسلحة بحال من الأحوال، وذلك فقه الإيمان الذي ينبغي أن نعرفه وأن نتقنه.
وكل هذا في سباق إلى الجنان، وإلى طاعة الرحمن سبحانه وتعالى.
إذاً لنعلم أن الميادين كلها في دين الله عز وجل تنتظم هذه المعاني، فلا ينبغي أن نغض الطرف عن بعضها وأن ننسى الحديث عنها، بل يجب علينا أن نذكر من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه الدعاء إلى الفداء والتضحية ورفع راية الإسلام ومواجهة أعدائه وإعزاز دين الله سبحانه وتعالى كما كان ذلك في يوم بدر.
لندرك تلك المعاني الإيمانية، ولندرك النواحي الروحية، ولندرك آثار العبادات والطاعات، لكن مع ترجمتها إلى سلوكيات، وإلى منهج تغييري في الحياة تمثل ذلك الشمول الذي كان في سيرة وهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
روت عائشة رضي الله عنها (أن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر أحيا ليله، وأيقظ أهله، وشد المئزر) وما كانت أم المؤمنين لتذكر هذه الكلمات لو كان هذا أمراً دائماً بوصفه وحاله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، إنما ذكرت قولاً له خصوصية في هذه العشر دون غيرها، فهي صور موجودة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنها هنا مميزة.
قال بعض أهل العلم في قولها: (أحيا ليله): أحيا ليله كله فلا ينام. وقال أكثر أهل العلم: المقصود ما غلب على الليل. فكان غالب ليله في هذه العشر قائماً ذاكراً عابداً.
وقولها (وأيقظ أهله) قالوا: كان يخص هذه العشر بتقصد الإيقاظ لإدراك الفضيلة العظمى وإدراك ليلة القدر وما فيها من عظيم الأجر.
قولها (وشد المئزر) قالوا: إنه كناية عن اعتزال النساء مع إباحة ذلك في ليالي رمضان؛ لأنها أيام وليالٍ خصها النبي صلى الله عليه وسلم بمزيد من الطاعة والعبادة، فهي مختلفة عن غيرها من أيامه ولياليه المملوءة بطاعة الله عز وجل وعبادته، فإن المصطفى صلى الله عليه وسلم ما ترك قيام الليل في سفر ولا حضر منذ أن خوطب بقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1- 2] لأن كل أمر في حقه يستمر ولا ينقطع، وكل سنة يبتدئها يداوم عليها ولا يتركها صلى الله عليه وسلم، فالأمر هنا فيه خصوصية زائدة، فلئن كنت تصلي بالليل فأنت تزيد التهجد، ولئن كنت تخرج وترتاح فأنت تقيم وتعتكف.
إذاً ثمة صور مختلفة، أيام غير تلك الأيام، وليال غير تلك الليالي، وأحوال غير تلك الأحوال التي نكون فيها في رمضان، فضلاً عما نكون فيه في غير رمضان.
أيام نقتطعها من عامنا كله، عشرة أيام من ثلاثمائة وخمسة وخمسين يوماً نجعلها لله عز وجل لنحقق هذه الصلة، ولنرجو الله عز وجل أن يفيض علينا من الخير وأن يحقق لنا ما وعد من الأجر، وليكون لنا ذلك زاداً لنصحح مسيرتنا في هذه الحياة وفق أمر الله وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال سفيان الثوري رحمه الله: أحب إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أن يجتهد المسلم في الطاعات.
أي أن يتهجد فيها، وأن يوقظ أهله إلى الصلاة؛ لأن ذلك أمر مؤكد خاص، فقد ورد فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكرت فيه عائشة صفته.
وكانت امرأة حبيب بن زيد تقول في مثل تلك الليالي: قد ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد، وزاد قليل، وقوافل الصالحين سارت قدامنا، وبقينا ونحن وحدنا.
ثم كان ذلك النداء الذي يحثنا ويحضنا على أن يكون حظنا من تلك الليالي مختلفاً عن غيرها:
يا نائم الليل كم ترقد قم يا حبيبي قد دنا الموعد
وخذ من الليل وأوقاته ورداً إذا ما هجع الرقد
من نام حتى ينقضي ليله لم يبلغ المنزل أو يجهد
قل لذوي الألباب أهل التقى قنطرة العرض لكم موعد
وكانت عائشة رضي الله عنها تحرص على ذلك وتبينه، وتبين حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الشأن.
قال ابن رجب في فعل النبي صلى الله عليه وسلم واعتكافه والحكمة من هذه السنة: فيه قطع لأشغاله، وتفريغ لباله، وتخلَّ لمناجاة ربه وذكره ودعائه، وكان صلى الله عليه وسلم يحتجر حصيراً فيتخلى فيه عن الناس، فلا يخالطهم ولا يشتغل بهم.
ولهذا ذهب الإمام أحمد إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس، حتى ولا تعليم علم أو إقراء قرآن؛ لأن الغرض هو أن ينفرد بنفسه لمناجاة ربه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يمن علينا في هذه العشر بالقيام بحقها وإدراك ليلة القدر ومحو الوزر؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.
ولا شك أن من خصائص وغرر هذه العشر ليلة القدر التي أخبر الحق جل وعلا أنها خير من ألف شهر، وأن الملائكة تتنزل فيها، وأن الخير فيها من الله عز وجل عظيم، كما أخبر به أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) ليلة واحدة تغفر ذنوب عمر مضى بإذنه عز وجل وفضله سبحانه وتعالى، فما بالنا لا ندرك عظمة مثل هذه الأجور والإقبال على الطاعات؟!
وللأسف فإن واقعنا الذي ذكرناه مخالف لما عليه أهل بدر في الجملة فداء وتضحية وجهاداً ونصرة، كذلك في جانب الطاعة والعبادة والذكر والتلاوة ثمة صور مناقضة ومعارضة ومخالفة ومحزنة ومؤلمة، فبدلاً من أن تمتلئ في هذه الليالي المساجد بالناس نجد الامتلاء في الأسواق، وبدلاً من الانشغال بالأذكار والدعوات يكون الانشغال بالصفق في الأسواق، وبدلاً من قطع العلائق بالخلائق تزداد هذه العلائق وتمتد، إلا ممن رحم الله، وبدلاً من صور الطاعات نجد صوراً جديدة من المعاكسات والمغازلات وغيرها تنتشر، خصوصاً في هذا الشهر الكريم، وللأسف الشديد أن بعضها يكون ملاصقاً لبيوت الله، بل لبيت الله الحرام، وفيما يحيط به من تلك الأسواق وغيرها، يعجب المرء كيف يصلي الناس في الحرم في الليل في هذه الليالي العشر وفي الوتر التي يبتغى فيها ليلة القدر وهناك من لا يسمع صوتاً ولا يصيغ سمعاً ولا يحرك قلباً ولا يتحرك بقدم ولا يلتفت إلى شيء مطلقاً، وبينه وبين البيت الحرام أذرع أو خطوات يسيرة، إنه الحرمان الذي -والعياذ بالله- من وقع فيه حرم الخير الكثير.
نقول: عجباً! إذا جاء موسم طاعة وعبادة وموسم دنيا وتجارة أيهما نغلب؟! لا أقول هذا في أعيان الأفراد، بل أقوله للمجتمع كله، ولأهل الحكم والسلطان، ألا يجعلون حداً حتى يفرغ الناس لتلك العبادات، بدلاً من أن نغير أوقات أعمالنا ثم لا يكون لنا حظ من طاعتنا ولا حظ من قيامنا بأمر دنيانا كما يجب.
صورة عظيمة نجد فيها غفلة للقلوب، ونجد فيها انصرافاً عن الخير الذي يتعاظم ويتكاثر من الناس.
إننا كلما مضى الشهر ينبغي أن نزداد من الخير، وأن تعظم الهمم، وأن تزداد الأعمال، لكننا نرى عكس ذلك، وخير شاهد على هذا أنه كلما مضى الشهر رأينا الناس يتخلفون وينامون، فيبدأ الخطيب في آخر جمع رمضان وليس في المسجد إلا أقل من ربعه، والناس يسرعون خطاهم كأنما قد ضرب الشيطان على آذانهم فناموا، كيف يكون ذلك وهم في يوم جمعة أغر؟! كيف يكون ذلك وهم يستقبلون العشر؟! كيف يكون ذلك وهم يريدون أن يستزيدوا من الخير؟!
أختم بمقالة ابن رجب، وهي نداء إيماني تذكيري، يقول فيها: إخواني! المعول على القبول لا على الاجتهاد، والاعتبار بعمل القلوب لا بعمل الأبدان، رب قائم حظه من قيامه السهر، كم من قائم محروم وكم من نائم مرحوم، هذا نام وقلبه ذاكر، وهذا قام وقلبه فاجر.
فلنحرص على أن نجمع الخيرين، وعلى أن نطابق ما بين أعمالنا في ظاهرها وقلوبنا وما تنطوي عليه في باطنها، وأن لا نجعل للشيطان فرصة ليسرق من أوقاتنا الثمينة الغالية، بل من دقائقنا وثوانينا في هذه الليالي؛ فإنها معدودة، وإن كل واحدة منها إذا مرت وانقضت لا ترجع إلا أن يشاء الله إذا أحيانا لعام قادم، فكيف نفرط؟! وكيف نضيع؟! وكيف نمضي لنشتري حذاء أو كساء ونترك تضرعاً ودعاء، ونترك إصابة وموافقة لوقت عظيم وفضل عميم من الله سبحانه وتعالى؟! لا يفعل ذلك إلا من قل عقله أو حرم الخير، أو انصرف إلى دنيا فضلها وآثرها على الأخرى.
نسأل الله عز وجل كما بلغنا الشهر أن يبلغنا العشر الأواخر من منه، وأن يعظم لنا فيها الأجر، وأن يبلغنا ليلة القدر، وأن يمحو عنا فيها الوزر.
ونسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يعيننا على ما بقي من رمضان، وأن يختمه لنا بالمغفرة والقبول والرحمة والرضوان والعتق من النيران، وأن يدخلنا الجنة من باب الريان؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم! إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم! طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وأحسن أقوالنا، وهذب أخلاقنا، وأصلح أعمالنا، وأخلص نياتنا، وضاعف أجورنا، وامح أوزارنا، وارفع درجاتنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا.
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه.
اللهم! مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد.
اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم عدداً، واقتلهم بدداًًًً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم! لطفك ونصرك وعزك وتأييدك لعبادك المؤمنين المضطهدين المعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاًً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء.
اللهم! اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء سخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح! اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
اللهم! احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، اللهم! احفظ عليها سلمها وإسلامها، وأمنها وإيمانها، وسعة رزقها ورغد عيشها.
اللهم! يا أرحم الراحمين! انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، خصوصاً على أجلهم قدراً وأرفعهم ذكراً، ذوي المقام العلي والقدر الجلي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
اللهم! صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر