إسلام ويب

دراسة جدوى حياة مسلمللشيخ : أبو إسحاق الحويني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الإنسان الكيس والتاجر الحصيف إذا أراد أن يدخل في مشروع من المشاريع فإنه يقارن بين ما سينفقه في هذا المشروع وما سيعود عليه من مكاسب منه، ولا يقبل بالمكسب القليل فضلاً عن الخسارة. والإنسان المسلم في هذه الحياة إنما مثله كمثل التاجر، فينبغي عليه أن يكون تاجراً حاذقاً؛ فلا يقبل بأقل من ربح حياته الأخروية التي لا انقطاع لمداها ولا إحاطة بمنتهاها، ولا يحتاج منه لأجل ذلك إلا العمل لها في حياته الدنيا ذات السنين المحدودة، والأنفاس المعدودة.

    1.   

    قياس الأعمار بالأعمال

    إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلاله، وكل ضلالةٍ في النار.

    قال الله عز وجل: كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:21-24].

    فما هي هذه الحياة التي ندم الكافر على تضييعها حين وقف على شفير النار، ورآها يحطم بعضها بعضاً؟

    هذه الحياة هي التي عناها الله عز وجل بقوله: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64]، و(الحيوان): مصدر حياة، أي: هي الحياة الحقيقية، وهي الحياة الدائمة التي لا تنقطع.

    هذه الحياة هي التي ندم الكافر على تضييعها، ولا يحسب من عمر المرء حقاً إلا ما كان ذاكراً فيه لله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من ساعة يضيعها ابن آدم لا يذكر الله عز وجل فيها إلا ندم عليها يوم القيامة) .

    فإذا كانت الحياة الحقيقية هي طاعة الله عز وجل، فتعالوا لنتأمل في دراسة جدوى حياة إنسان يعيش ستين سنة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يتجاوز ذلك) فنسبة الوفيات الكبرى من أعمار هذه الأمة تكون ما بين الستين إلى السبعين عاماً، وقليل هو الذي يصل إلى الثمانين، وأقل من ذلك من يصل إلى المائة، وأقل القليل من يتجاوز المائة.

    1.   

    حين تكون تجارتك مع الله

    دراسة جدوى حياة الإنسان.. إذا أراد أي تاجر أن يفتتح محلاً تجارياً، فقبل أن يقدم على هذه الخطوة فإنه يصنع ما يسمى بدراسة الجدوى، فينظر إلى المكان، وينظر إلى القوى الشرائية في هذا المكان أهي عالية أم لا، ثم ينظر إلى حاجة المشتري حتى يعين نوعية البضاعة التي يبيعها، فإذا هو لم يحسب هذه الحسابات كلها كان تاجراً خاسراً.

    فدراسة الجدوى شيء أصيل عند بني آدم لمحبتهم للبيع والشراء، ولذلك قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111] اشترى: أي أن القضية عبارة عن صفقة وعقد بيع، وقال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:86]، وقال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [البقرة:175]، وقال تعالى: فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ [النساء:74] (يشرون) أي: يبيعون.

    فهذه المعاني أوصلها الله عز وجل لنا في صورة عقد بيع وشراء؛ لأن العباد بطبيعتهم جبلوا على حب البيع والشراء، فتعالوا لنغرس أعظم رأس مال للإنسان، وهو حياته وأوقاته، لنرى هل يخرج من هذا السوق مغبوناً أم خاسراً، فالذي ضيع وفرط في حياته الماضية ينبغي عليه أن يفيق؛ فإن العمر يمر.

    أنت الآن اقتربت من الموت خطوة عن الأمس، وبالأمس كنت أبعد عن الموت يوماً، وأنت الآن أيضاً أبعد عن الموت منك في غدٍ -إذا حفظ الله حياتك إلى غد- وهكذا.

    إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم يقربنا من القبر

    حياة الإنسان ستون سنة:

    أولاً: هو ينام عشرين سنة، لأن ثماني ساعات في اليوم في ستين سنة محصلتها عشرون سنة، فهو بهذا لا يحاسب على عشرين سنة من حياته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة، منها: النائم حتى يستيقظ) ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا ينامون).

    ثم هو لا يؤاخذ حتى يصل إلى سن البلوغ، وسن البلوغ ينحصر بين عشر سنين وخمس عشرة سنة، فبإضافة خمس عشرة سنة مع عشرين سنة يكون مجموعها خمساً وثلاثين سنة، وهو لا يؤاخذ من يوم أن يولد حتى يبلغ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في ذات الحديث: (رفع القلم عن ثلاثة، منها: عن الغلام حتى يحتلم).

    كم بقي من الستين عاماً؟ خمسة وعشرون سنة، وقد يطول نومك فتزيد سنوات النوم، وقد تمرض وتلزم الفراش عشر سنوات أو خمس سنوات أو سنة أو شهرين أو ثلاثة أو أكثر أو أقل، لكننا إذا افترضنا أن المرء كان صحيح البنية، لم تعترضه الآفات فالعمر الحقيقي الذي يؤاخذ به أمام الله خمسة وعشرون عاماً فقط، وهذه هل تستحق أن يضيع المرء من أجلها حياته الأبدية؟! أين القصور من عهد عاد..؟!

    1.   

    كم من حسرات في بطون المقابر

    من المعروف أن القبر هو أول منازل الآخرة، وهذه الخمسة وعشرون سنة! تعد (تأهيلة) فبعض الناس يقضي خمسة وعشرين عاماً في السجن على ظهر الحياة، ثم يخرج ليستأنف حياته من جديد.

    أين الذين ماتوا من عهد عاد؟ عشرات القرون ومئات القرون مرت على أناس يعذبون، وهم في أول منازل الآخرة، وتلك الأعوام لا تقاس بخمسة وعشرين عاماً فقط من الحياة على الأرض؟! فما أشد غربة المفقود إذا لم يكن له زاد يتزود به.

    وآية ذلك تصور أنك في غرفة بمفردك ولا أقول: تحاسب أو تعذب أو تؤاخذ، فلا أحد يطرق عليك الباب، ولا أحد يتصل بك، ولا أحد يكلمك، وظللت على هذا مائة عام، أضف إلى ذلك أن الإنسان جبل على حب الخلطة، فإذا لم يكن له أنيس من نفسه وصبّر نفسه ووطّنها على ذلك فإنه يصاب بالملل والضجر، وإنما سمي الإنسان إنساناً لأنه يأنس، وتأمل قول الله عز وجل: إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:15] إذا انقطع عنك حبل أهلك، وحبل ولدك؛ شعرت بحجم الغربة، فهذا الميت يا له من غريب!

    كم من حسرات في بطون المقابر!!

    لو أذن لكل ميت أن يتكلم لقال: أهلكتني (سوف) و(السين) سأتوب.. سوف أتوب .. سأتصدق.. سوف أتصدق، سأصلي.. سوف أصلي.. وهكذا.

    مات كثير من الناس ولم يحققوا أمنياتهم، فمات وفي نفسه غصة، لكنه بكى سنين عدداً يؤاخذ على خمسة وعشرين سنة، والنبي صلى الله عليه وسلم أعلمنا ما يستقبلنا إذا مات الإنسان.

    قال صلى الله عليه وسلم: (إن الميت ليسمع وقع نعالهم إذا انصرفوا عنه) وتأمل! رجل صار فريداً يسمع وقع نعال ذويه وهم يغادرونه ويتركونه، ويسأل السؤال المعتاد الذي أعلمنا به النبي صلى الله عليه وسلم، ثلاثة أسئلة هي محصلة خمسة وعشرين سنة: من ربك؟ ما دينك؟ ما تقول في الرجل المبعوث فيكم؟

    لقد ظل حياته كلها لا يفكر في الإجابة عن هذه الأسئلة، والعجيب أنه في ساحة العرض، وإذا بعث العباد جميعاً، وخافوا جميعاً، يقول بعضهم لبعض: ألا منقذ ينقذنا مما نحن فيه؟ فقال بعضهم لبعضٍ: هلم إلى الأنبياء.. سبحان الله! ألم تر إلى هذا اللؤم؟ تذهب للنبي الآن تريد شفاعته، وقد ظللت طيلة حياتك لا تعرج على سنته، وتكتب ضد الذين يلتزمون بسنته، وتحيك المؤامرات ضد هؤلاء الذين يقتدون بسنته! تريد شفاعته الآن..؟! هذه هي طبيعة اللئيم.

    يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ [المعارج:11] أيها المرتشي الذي ارتشيت: لماذا قبلت الرشوة؟ يقول: أطعم أولادي؟ لماذا تاجرت بالمحرمات؟ يقول: لأولادي. فلماذا تضحي بولدك الآن؟ أنت لا تعرضه لشيء يسير، أنت تعرضه لنار جهنم، التي قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها: (يؤتى بأنعم أهل الأرض -الذي ما ذاق بؤساً قط، ولا مرضاً قط، وكان سيداً مطاعاً، تعقد عليه الخناصر، يؤتى بهذا الرجل- فيغمس في النار غمسةً واحدة فقط ثم يخرج، فيقال له: هل مر بك نعيم قط -أرأيت في حياتك كلها يوم راحة-؟ يقول: لا، وعزتك ما مر بي نعيم قط) فكيف إذا كان من الكافرين؟! وهذه ما هي إلا غمسةٌ واحدة فقط، فما بالك الآن أيها المجرم تعرض ولدك لدخول النار، يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ [المعارج:11]، قال: رب! إذا لم يكف ولدي وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ [المعارج:12] خذوا امرأتي وخذوا أخي، وإذا لم يكف ولدي ولا امرأتي ولا أخي وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ [المعارج:13] خذوا الأسرة بكاملها، وإذا لم تكف الأسرة بكاملها، وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [المعارج:14] اطرحهم جميعاً في جهنم، المهم أن أنجو أنا.

    فانظر إلى الأنانية! هل الأنانية لم تكن موجودةً عنده؟ بلى كانت موجودةً في الدنيا لكن لم يظهر مقتضاها، بدليل أن هذا الإنسان لو وقف رجلٌ أمامه لداسه، وكل إنسان عنده نموذج من الغبن وقلة الوفاء، لكن لم يظهر مقتضى لهذا المجرم حتى يضحي هذه التضحية، لكن لها ثمرة في الآخرة، والله تبارك وتعالى يقول عن هذا اليوم العظيم ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ [هود:103-104].

    1.   

    كيف تعد للسؤال جواباً؟

    إن حياتك الحقيقية إنما هي في طاعتك لله عز وجل، كل دقيقة تمضي بغير ذكر فإنها خسارةٌ على العبد، ألزم نفسك في هذه اللحظات بما يقربك إلى الله عز وجل، من ذكرٍ أو تأملٍ، أو أمرٍ بمعروفٍ أو نهيٍ عن منكر، أو سدّ حاجة إنسان، أو تعليم جاهل، لا تضيع لحظاتك؛ فإن اللحظات هي العمر، وقد علمنا أن خمسة وعشرين عاماً فقط يسأل العبد فيها: من ربك؟ ما دينك؟ ما تقول في الرجل المبعوث فيكم؟ بعض الناس يتصور أنه يستطيع أن يقولها، لأنها كلمة مذللة وسهلة، ولكن هذه الكلمة هي التي عناها الله عز وجل بقوله: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، هذه التربة شربت من دماء الأبرار بسبب هذه الكلمة، الذين ماتوا وضحوا وجاهدوا وتعرضوا للرهق بسبب هذه الكلمة، فهي ثقيلةٌ جداً، ولو كانت خفيفة ما أعرض عنها أكثر العباد؛ لأن لها تبعات، إنها تجعل المرء غريباً في أهله، تفقده الأنيس وهو حي في أهله، ولذلك سماها الله عز وجل أمانة، وهذا يعني أن الذي لم يأت بها خائن لميثاق العبودية الذي أخذه الله عز وجل على العبد يوم خلقه، كما قال تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172] فقال لهم: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172]، فإنما أخذ الله شهادة المرء على نفسه حتى لا تكون له حجة، قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ [الأنعام:149].

    ولذلك سيأتي المجرم الأحمق يوم القيامة، الذي أغلق على نفسه الباب وهو يفعل المعصية، وظن أن الله لا يعلم كثيراً مما يفعل، فجاء يوم القيامة وقد ظن أنه بعدما استتر أن لا حجة عليه، فلما وقف أمام الله عز وجل ليحاسبه قال العبد الأحمق مبادراً ربه: رب! ألم تجرني من الظلم؟ قال: بلى. قال: فإني لا أجيز علي إلا شاهداً من نفسي. لأنه لما فعل المعصية كان وحده، وهو يظن أن الله عز وجل لا يستطيع أن يقيم عليه الحجة، لذلك بادر الله بهذا القول. فقال الله عز وجل: لك ذلك، وختم على فمه، فنطقت يده، ونطقت رجلاه، ونطق فخذه بما كان يعمل، فقال: تباً لكُن، فعنكن كنت أجادل وأدافع قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149].

    فكلمة التوحيد بتكاليفها أمانة، فلم تفرط وأنت على ربك قادم؟؟ الله عز وجل هو الملجأ لعباده، فلا يكون الفرار منه إلا إليه.

    إنك إذا خفت ظالماً فررت إلى من يمنعك منه، لكن الله عز وجل لا يُفرُ منه إلا إليه، فهو الذي قد أحاط بك، وأحكم قبضته عليك، وأنت تعلم أنك إليه راجع، فلماذا التمادي في العصيان وأنت ترجع إلى ربٍ غفورٍ ودود؟!

    وتأمل -أيها المسلم- هذا الحديث الرائع الذي رواه الإمام البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه، لتعلم قدر رحمة ربك، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (آخر رجلٍ يخرج من النار ويدخل الجنة رجلٌ يمشي مرة، ويحبو مرة -أي: ينكفئ على وجهه مرة- وتلفحه النار مرة، فهو ينادي ربه عز وجل ويستغيث به، قائلاً: رب قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها، فأخرجني منها. فيقول الله عز وجل له: لئن أخرجتك من النار تعاهدني على ألا تسألني شيئاً بعد ذلك؟ فيقول: وعزتك لا أسألك غيرها، فيخرجه من النار، فما إن خرج حتى التفت إليها وقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من العالمين، فرفعت له شجرة...) الحديث.

    أنت في اليوم الشديد الحر تأوي إلى الظل، وتشعر بقيمة هذا الظل في الحر، فما بالك بمجرم خارج من النار أعاذنا الله وإياكم منها، فإن أعظم يوم حر على وجه الأرض قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه (هو نفس من جهنم) لأن جهنم اشتكت إلى ربها، قالت: رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين، مثل القدر الذي يغلي، فأنت تجعل فيه ثقباً حتى لا ينفجر القدر من البخار، فالنار يأكل بعضها بعضاً، فاشتكت إلى الله، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، قال عليه الصلاة والسلام: (فنفس الصيف هو أشد ما تجدونه من الحر، ونفس الشتاء هو أشد ما تجدونه من البرد)

    فالرجل خرج من النار ووجد شجرة، فلما رآها ما أطاق ولا تحمل، فنسي العهد الذي أعطاه ربه منذُ قليل، (وقال: رب! أدنني من هذه الشجرة، لأستظل بظلها، وأشرب من مائها. فقال الله عز وجل: ما أغدرك يا ابن آدم! أولم تعاهدني على ألا تسألني شيئاً بعد ذلك؟! وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه.

    فيقول له: لئن أدنيتك من هذه الشجرة تعاهدني على ألا تسألني عن شيء بعد ذلك؟ فيقول: إيه، وعزتك لا أسألك غيرها، فيدنيه من الشجرة)، فيشعر بالبرد، ويشرب من الماء البارد الذي حرم أهل النار منه؛ لأن الماء الساخن لا يروي، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اللهم اجعل حبك أحب إلي من الماء البارد) ولا يطلب أن يكون حب الله أحب إليه من شيء إلا لأنه أعظم شيء، الماء الساخن لا يروي أبداً، فكيف إذا كان ماءً مغلياً؟ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف:29] وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15]، فكان هذا الرجل محروماً من نعمة الماء البارد، فأول ما رأى؛ عين ماءٍ تجري، ورأى ظلاً وارفاً لم يحتمل، ونقض العهد والميثاق، فأدناه الله من الشجرة (فاستظل بظلها وشرب من مائها، ولكن سرعان ما رفع إليه شجرة هي أعظم من الأولى، فنسي الرجل -أيضاً- العهد والميثاق، وقال: رب! أدنني من هذه الشجرة، لأستظل بظلها وأشرب من مائها. فقال الله عز وجل له: ما أغدرك يا بن آدم! أولم تعاهدني على ألا تسألني عن شيئاً بعد ذلك، وربه يعذره)، وتأمل هذه الكلمة! بعد كل نقض يقول: (وربه يعذره!)

    كذلك لو نقض العبد العهد والميثاق في الدنيا ومضى في غيه وضلاله سنين عدداً، واعتذر إلى الله عز وجل ورجع لعذره الله؛ لأنه لا أحد أحب إليه العذر من الله، لذلك أرسل الرسل حتى يعذر الناس.

    فقال: ما أغدرك يا ابن آدم! أولم تعاهدني على ألا تسألني عن شيء بعد ذلك؟! وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فقال الله عز وجل له: عبدي! لئن أدنيتك من هذه الشجرة تعاهدني على ألا تسألني عن شيء بعد ذلك؟ يقول: إيه، وعزتك لا أسألك غيرها، فيدنيه من الشجرة، ثم يفتح له باب إلى الجنة، وإذا المؤمنون يتضاحكون ويسامر بعضهم بعضاً، والرجل وحيد، فيريد أن يدخل الجنة، لكنه تذكر أنه نقض العهد مرتين فسكت، لكن غلبه ما يجد ولم يتحمل، فنقض العهد، وقال: (رب! أدخلني الجنة، فإنه لا يضرك. فقال الله عز وجل: ادخل الجنة، ولك مثل الدنيا).

    فالرجل أول ما سمع كلمة (مثل الدنيا) لم يصدق، فكأنه يقول بلسان الحال: وأنا ظللت طيلة حياتي أكافح لتوفير راتب هزيل آكل به أنا وعيالي، ومضيت من الدنيا ولم أتمتع بأسهل متعها!! لم يصدق الرجل، كيف امتدت عينه إلى نعمٍ أنعم الله بها على أناس، لعل الله عز وجل نهاه وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا [طه:131] وسماها زهرة؛ لأن عمر الزهور قليل، لا روح للزهور، لو تركتها ساعتين لذبلت، زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131] فكيف أمَّل؟ وكم أرسل قلبه إلى نعم، ومضى من الدنيا ولم يتمتع بأكثرها! وإذا به الآن يسمع أن له مثل الدنيا!! لذلك لم يصدق، فلما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك ضحك،فقال لأصحابه: (ألا تسألوني مم أضحك؟ قالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: أضحك من ضحك رب العزة، لما قال له الرجل: أتستهزئُ بي وأنت رب العالمين؟! -أي: أنت تعدني بكل هذا وأنت لا تعطيه، فإذا وعد الرجل أخاه ولم يعطه كأنما استهزأ به، يقول: أتستهزئُ بي وأنت ربُ العالمين؟- فيضحك الله عز وجل من قول العبدِ (أتستهزئُ بي؟!) فيقول له: أما إني لا أستهزئُ بك، ولكني على ما أشاء قادر، ادخل الجنة ولك عشرة أمثالها) إذا كان (مثل الدنيا) فقط كاد أن يطير رأسك من عدم التصديق، فأنا أتحفك بعشرة أمثالها، فلو جاز أن نقول: إن في الجنة فقيراً لكان أفقر رجل في الجنة له مثل الدنيا عشرة أمثالها.

    فأنت أيها الإنسان تعيش خمساً وعشرين سنة، ولن تكون أغنى الناس، ولن تكون أقوى الناس، ولن تكون أترف الناس، ولو سلمنا أنك ملك الناس في الدنيا، وأغنى وأترف الناس، فما هي إلا خمسة وعشرون سنة فقط، ولذلك قال الله عز وجل لأمثال هؤلاء: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا [الزمر:8] (قليلاً)؛ لأنه عندما يعيش لا يحاسب عن ستين سنة، إنما يحاسب عن خمس وعشرين سنة فقط قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر:8]، نسأل الله تبارك وتعالى أن يعيذنا وإياكم منها.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

    1.   

    ثبات العبد عند السؤال في القبر على قدر تمسكه بالحق في الدنيا

    الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

    أول عقبة كئود تعترض الرجل بعد موته وبعد دفنه هو السؤال، إذا أحب الله عز وجل عبداً ألهمه الإجابة:

    - من ربك؟

    - ربي الله.

    - ما دينك؟

    - ديني الإسلام.

    - ما تقول في الرجل المبعوث فيكم؟

    - هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

    بعض الناس قد يجيبُ صواباً ولكنه لا يعتقده، يعني تأتي معه المسألة هكذا، أحياناً يأتي للمرء سؤال فيجيب إجابةً سديدةً بغير أن يعرف أن هذه هي الإجابة السديدة، فالناس مؤمنٌ كامل الإيمان هذا يجيب، وكافرٌ لا يجيب، وبين بين، والإشكال في هذا الصنف الأخير، إذا سئل هذه الأسئلة الثلاثة وأجاب إجابةً صحيحة فهل تظنون أنه سلم له؟ ليت الأمر كان كذلك، لكن الأمر ليس كذلك، إن الملكان يشككانه في الجواب، وينتهرانه أشد الانتهار، وقد ورد في بعض الأحاديث: (أن ملكي الموت أصواتهما كالرعد القاصف، وعيونهما كالبرق الخاطف) وهذا عبد ضعيف أمام هذه القوة الهائلة، فينتهرانه ويصرخان فيه، ويعيدان الأسئلة مرةً أخرى، فاليقين الذي لم يتحقق بـ(لا إله إلا الله) في الدنيا لن يكون موجوداً في تلك اللحظة، فيقول العبد في نفسه: إذا كانت الإجابة صحيحة لم ينتهرني الملكان؟! أكيد أنني أجبت خطأً، فيبدل الجواب وهذه هي الفتنة العظيمة التي بكى الصحابة لها، حتى إن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها لما روت هذا الحديث قالت: فلم أسمع كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نحيب الصحابة، لما قال لهم: (إنكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال، أو قريباً من فتنة الدجال) لم تستطع أسماء أن تسمع بقية الكلام قالت: فقلت لرجلٍ بجانبي: ماذا قال؟ فقال: إنه يقول: (إنكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال، أو قريباً من فتنة الدجال) أتعرف فتنة الدجال؟ إنها باختصار كما قال عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما بين آدم إلى قيام الساعة لا توجد فتنة كفتنة الدجال).

    رجل معه جنةٌ ونار، فجنته نارٌ، وناره جنة، يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تخرج كنوزها فتتبعه كيعاسيب النحل، ويأتي على الرجل فيقطعه إرباً إرباً، ثم يقول له: قم؛ فيتهلل ضاحكاً..!

    أضف إلى ذلك أنه كلما اقتربنا من الساعة كلما غابت علوم النبوة، يظهر الجهل ويقل العلم، فتصور أناساً جهلة وأتتهم هذه الفتنة..!

    أنا أعرف أناساً افتتنوا برجلٍ كان يستعين بالجن، فظنوا أن هذا الرجل على كل شيءٍ قدير، وسلموا له كل شيء، وهذا مذكور، وما جند له الجن إلا بعدما فتن وخرج من دينه، فتصور ظهور الدجال ومعه كل هذه الإمكانات، ثم لا يكون عند الناس من العلم والإيمان ما يعصمهم من هذه الفتنة، فيتبعه أكثر الناس ويظنونه إلهاً، لما يملك من هذه السنن الخارقة، فما يتعرض العبد له في قبره كمثل فتنة الدجال أو قريباً من فتنة الدجال، فالصحابة خافوا على أنفسهم حين سمعوا هذا الوصف لفتنة القبر، فحينئذٍ أنزل الله عز وجل قوله: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27] (في الآخرة): أي في القبر، إذا انتهره الملكان وشددا عليه لا يغير جوابه، بل يعيد الجواب السديد مرةً أخرى، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إبراهيم:27] عنها، لا يقولونها أبداً؛ لأنهم لم يعملوا بمقتضاها في الدنيا وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].

    ثم يخرج العبد في قبره يوم العرض وقد غضب الله عز وجل غضباً شديداً حتى خاف الأنبياء على أنفسهم، ورفضوا الشفاعة لأقوامهم، كل نبي يسأل الشفاعة، فيقول: نفسي نفسي، إن الله غضب اليوم غضباً ما غضبه قط، ولا يغضب بعده مثله قط، فجاءه كل إنسانٍ بعذره ووزره .. جاءه الذين قال بعضهم: أنا ربكم الأعلى كفرعون، وكل نفسٍ فيها داعية الربوبية، لو أمكن للإنسان أن يقول: أنا ربكم الأعلى؛ لقالها، لكن فرعون قدر فأظهر، وغيره عجز فأضمر، لو أمكن الإنسان أن يستعلي لاستعلى، لا يحجبه إلا الإيمان، وإلا فكل نفس فيها داعية الألوهية وداعية الربوبية كفرعون تماماً، فجاءه كل هؤلاء بعدما صبر الله عز وجل عليهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أحدٌ أصبر على أذى سمعه من الله) لو أن بعضنا تعرض لسماع جزءٍ يسيرٍ مما يسمعه الله القادر لما تحمل.

    إنهم ليدعون أن له ولداً، وأنه لا يحيي الموتى، وأنه لا يرزقهم ويعافيهم، فالله عز وجل يكون غاضباً في ذلك اليوم حتى يقنط الرسل ويخافون من مواجهته، ولا يصبر على ذلك إلا من مكنه الله عز وجل وهو نبينا عليه الصلاة والسلام، ويقف العبد خمسين ألف سنة على قدمه، ينظر إلى العباد يساق ببعضهم إلى النار ويساق ببعضهم إلى الجنة، والهمُّ يقتله: ترى من أي طريق يساق؟ فهو ينتظر دوره على مدى خمسين ألف سنة، ثم بعد ذلك يسحب إلى الجحيم.

    كل هذا مقابل خمسة وعشرين سنة فقط يعيشها الإنسان في الدنيا؟! أهذه هي دراسة الجدوى أيها التجار؟! إن التاجر لو دخل السوق فخسر درهماً واحداً لكان عليه حزيناً! أهذه هي دراسة الجدوى؟! أهوال قادمة بخمسة وعشرين عاماً فقط يعيشها المرء، تمر كأنها أضغاث أحلام، فقد آن لنا أن نرجع إلى الله عز وجل أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16]؟!

    نسأل الله تبارك وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يتوب علينا وأن يغفر لنا ذنوبنا، وأن يجزينا بأحسن الذي كنا نعمل.

    اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

    اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.

    اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.

    رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

    اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756022030