يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
فكنا نتكلم عن صفات للمولى تبارك وتعالى تثبت بالسمع ولا شك أنها تثبت بالعقل كذلك، فصفة الكلام -مثلاً- لله عز وجل لا بد للعقل أن يتصور أن الله يتكلم، فلو فرض أنه لم يأت نص سمعي يثبت أن الإله يتكلم بحرف وصوت للزم أن يتصور العقل أن هذا الإله لابد أن يكون متكلماً، بخلاف الصفات الأخرى فإنها لا تثبت بالعقل، بل تثبت بالسمع فقط. أي: بالمنقول أو بالخبر؛ ولذلك يسميها أهل العلم: الصفات الخبرية، أو الصفات السمعية؛ لأن إيماننا بها يتوقف على السمع، والسمع هو النص -أي: المنقول- بخلاف العقل؛ ولذلك يسمي أهل العلم الصفات الذاتية لله عز وجل بالصفات السمعية والخبرية، يعني: لا تثبت عن طريق العقل، وإنما تثبت عن طريق النص، وتثبت عن طريق السمع، كصفة اليد والعين والرجل والقدم والأصابع.. وغير ذلك من الصفات الذاتية للمولى عز وجل لا يمكن أبداً أن أثبتها لله تعالى صفة ذاتية أصلية من مصدر الاجتهاد؛ وذلك لأن العقل محرم عليه أن يتصور ذات الإله وصفاته الذاتية، وإلا وقعت في تشبيه الله عز وجل بأحد مخلوقاته، فلابد أن أتوقف في إثبات هذه الصفات إلا إذا ورد في ذلك النص، فإذا أثبت النص أن لله وصفاً أثبتناه، وإذا نفى النص عن الله عز وجل وصفاً نفيناه؛ لأننا لم نر الله عز وجل.
إذاً: يتوقف إيماننا بصفات الله تعالى الذاتية على الخبر، وعلى النص الوارد إلينا؛ ولذلك نقول: إن صفات الله عز وجل الذاتية صفات خبرية بحتة لا مجال للعقل فيها، بخلاف صفات أخرى كصفة الكلام، فهب أنه إذا لم يرد نص أن الله تعالى يتكلم فإنه لابد أن يتصور العقل أن الإله لابد أن يكون متكلماً، فصفة الكلام تثبت بالسمع وبالعقل، وهذه الصفة صفة ذات وصفة فعل.
صفة الكلام صفة ذات وصفة فعل؛ لأن الله تبارك وتعالى أثبت لنفسه صفة الكلام فهي صفة ذاتية له، إذا شاء تكلم وإذا شاء لم يتكلم، وهذا معناه: أنها صفة فعلية. بمعنى: إذا شاء فعل الكلام وإذا شاء لم يفعل، له ذلك وله ذلك.
فإن الله تعالى يتكلم في أي وقت شاء، وبأي كلام شاء، وله ألا يتكلم في وقت، وأن يتكلم في وقت آخر سبحانه وتعالى، يفعل ما يشاء.
فالكلام صفة ذاتية وصفة فعلية. أي: لها تعلق بفعله تبارك وتعالى، وفعله يختلف عن أفعال المخلوقين، فإذا قلنا: إن الله تعالى يتكلم بحرف وصوت لا يلزم من ذلك أنه يتكلم ككلامي هذا الذي يخرج من لساني ومن فمي بحرف وصوت، فالحرف معلوم لديكم والصوت أنتم تسمعونه، أما الله عز وجل فإنه يتكلم بحرف وصوت ليس بحرف كحرفي وصوت كصوتي، ولكنه يتكلم بكيفية لا يعلمها إلا هو تبارك وتعالى؛ لأنني لو قلت: إن المولى عز وجل يتكلم ككلامي أو ينطق بنفس الطريقة التي أنطق بها للزم من ذلك أن نثبت أن لله تعالى فماً؛ لأنه لو لم يكن لي فم ما استطعت أن أتكلم، ولو لم يكن لي لسان ما استطعت أن أتكلم، وإن الله عز وجل لم يتكلم عن إثبات صفة الفم أو اللسان له سبحانه، فيحرم على المرء أن يثبت للمولى عز وجل صفة لم يثبتها لنفسه؛ ولا أنفي ذلك ولا أثبته؛ لأن النص سكت عنه.
فإن قيل: إذا لم يكن له فم ولا لسان فكيف يتكلم؟
الجواب: أنه يتكلم حيث شاء وكيف شاء، ولا يلزم من كلامه المماثلة والمشابهة بين كلامه وكلام المخلوقين، فإنه يتكلم بكيفية وطريقة لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى، ولما كان الكلام صفة من صفات المولى عز وجل لزم أن نؤمن بهذا كما ورد، ولا نخوض في الكيفية، والكلام في صفة الكلام كالكلام في بقية الصفات، فالله عز وجل أثبت لنفسه صفة اليد، وأثبت لنفسه العين والأصابع والقدم وأثبت أنه يضحك، وأثبت الساق.. وغير ذلك.
ولذلك عقد المصنف اللالكائي عليه رحمة الله هذا الباب لإثبات هذه الصفات من جهة السمع والخبر، وأفردها بباب مستقل، كأنه يشير إلى أن هذه الصفات على جهة الخصوص لا تثبت إلا من قبل السمع، لا من قبل العقل، بخلاف الصفات السابقة التي كنا نتكلم عنها فإنها تثبت بالعقل وغيره.
نقول: لو كان وجه الله عز وجل كوجهك للزم أن يكون من ذلك أن ذاته كذاتك، فهل تقول بذلك؟ لابد أنه سيقول: لا. إن ذات الإله عز وجل تختلف عن ذوات المخلوقين جميعاً من بني آدم وغيرهم. فنقول: وكذلك صفاته تختلف عن صفات المخلوقين، ومنها الوجه. ولذلك الذين أولوا الوجه بالنعمة ليس لديهم حجة ولا برهان، والذين قالوا: إن الوجه هو الذات: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27] قالوا: المراد هنا بالوجه: الذات العلية. نقول لهم: إن هذا تأويل باطل وفاسد كذلك؛ لأنك إذا قلت: إن الوجه هو الذات لابد أنك تنفي عن الله عز وجل حقيقة الوجه؛ لأن الوجه عندك هي الذات، ولو قلت بذلك للزمك أن تنفي عن الله عز وجل صفة الوجه، وهذا طبعاً كلام لا يقول به إلا خلفي متأول، أما السلف فإنهم أثبتوا لله تبارك وتعالى الوجه وقالوا: المراد بالوجه هو وجه الرحمن تبارك وتعالى، فأثبتوا الوجه على النحو الذي يليق بجلاله وكماله، ولم ينفوه بتأويل الخلف أن الوجه هو الذات؛ لأن الذي يقول: الوجه هو الذات يقول: لا وجه؛ لأن الوجه عبارة عن ذات الإله، وهم ظنوا أنهم ينزهون المولى عز وجل عن مشابهة المخلوقين.
فما الذي حدا بهم إلى هذا التمثيل وهذا التشبيه؟ وما الذي يمنعهم أن يثبتوا لله تعالى ما أثبته لنفسه على الوجه اللائق به سبحانه، ويؤمنون بذلك.
صفة الوجه ثابتة بالله عز وجل، ليس كوجوه المخلوقين، وليس الوجه هو ذات الله عز وجل؛ لأن هذا تأويل الخلف، فيحرم أن تصرف صفة من صفات الله عز وجل عن معناها وعن حقيقتها التي أرادها المولى عز وجل منك، كما يحرم عليك أن تؤولها وأن تلوي عنقها لتصرفها عن ظاهرها.
قال: [ وقال الله عز وجل: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88] ]. فأثبت كذلك في هذه الآية أن له وجهاً سبحانه وتعالى.
يقولون نفياً ليدي الله عز وجل: اليد بمعنى: القدرة. واليد بمعنى: النعمة. وهذا كلام بعيد جداً، وفيه غلو كما أن فيه تعطيلاً، فروا بزعمهم مما يسمى تشبيهاً فوقعوا في التعطيل. أي: جردوا الذات العلية من تلك الصفات الخبرية السمعية.
فالله عز وجل قال لإبليس: ما منعك أن تسجد لآدم الذي خلقته بيدي؟
فإذا كانت اليد هنا بمعنى النعمة فليس لآدم فضل على بقية المخلوقات؛ لأنه في هذه الحالة لابد أن الله خلق الخلق جميعاً بنعمته، فلم يقول عن آدم بالذات -خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]- إذا كانت اليد هي النعمة؟ كما تقول: فلان له علي يد -يعني: له علي جميل ونعمة- وهذا معروف في كلام العرب.
وهذا الذي أوقع الخلف في صرف النص عن ظاهره، فاعتمدوا فقط على بعض ما ورد في كلام العرب من أن اليد يقصد بها النعمة، وقالوا كذلك: اليد هنا بمعنى القوة. فمعنى: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أي: خلقت بقوتي؛ لأنه ثنى اليد: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] ولم يقل: بيدِي، وإنما قال: بيدَيَّ.
فإذا قلنا: إن اليد بمعنى القوة -كما يقول الخلف- فيلزمنا أن يكون التأويل هكذا: ما منعك أن تسجد لما خلقت بقوتيَّ. ولم يقل أحد: إن لله قوتين؛ حتى يكون التأويل: خلقت بقوتيَّ. ثم إن الله تبارك وتعالى أثبت لنفسه اليد وأثبت لنفسه القدرة والقوة، فكونك تجعل صفة مركبة على صفة أخرى فإنه يستلزم تعطيل الصفة التي حملتها على الثانية، فأنت تقول: اليد بمعنى القدرة أو اليد بمعنى القوة، وإذا كان الله تعالى أثبت لنفسه القوة والقدرة واليد، فكونك تؤول اليد بالقدرة والقوة، فالقدرة والقوة من الأساس موجودة وثابتة لله عز وجل، ولكن تأويلك اليد بالقدرة والقوة ينفي صفة اليد عن المولى عز وجل، وستأتي معنا نصوص لإثبات أن هذا التأويل الخلفي تأويل باطل كذلك.
قال: [ وقال عز وجل: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64] ]. فهل يستقيم أن نقول: بل نعمتاه مبسوطتان؟ أو بل قوتاه مبسوطتان ينفق كيف يشاء؟ هذا كلام لا يستقيم حتى في لغة العرب.
قال: [ وقال تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] ]. فأثبت العين. قال: [ وقال تعالى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا [هود:37]. وقال تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] ]. إثبات لصفة اليد كذلك.
قال: [ وعن القاسم بن محمد : أنه سئل بوجه الله فقال: لا يفلح من رده ]. أي: لا يفلح من رد سائلاً سأل بوجه الله. وهذا يعني: أن صفة الوجه ثابتة لديهم.
قال: [ قال له آدم: (أنت موسى اصطفاك الله بكلامه) ]. وهذا إثبات لصفة الكلام لله عز وجل، وأن الله كلم موسى تكليماً من وراء حجاب، فموسى سمع كلام الله عز وجل بنفسه لا عن طريق الوحي، ولا عن طريق جبريل عليه السلام، وإنما سمع موسى كلام المولى عز وجل.
والجعد بن درهم -ذلك المبتدع الأثيم- أنكر أن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وأن الله كلم موسى تكليماً، وقام خالد بن عبد الله القسري في عيد الأضحى وخطب الناس، ثم نزل من على سلم المنبر وقال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله منا ومنكم، فإني مضح بـالجعد بن درهم ؛ لأنه أنكر أن الله تعالى كلم موسى تكليماً، وأنه اتخذ إبراهيم خليلاً. فذبح الجعد بن درهم عند أصل المنبر. أي: عند أول عتبة المنبر، مع أن الجعد استجار بعد ذلك؛ وكأنه يريد أن يعتذر من مقالته خوف القتل، ولكن خالد القسري لم يأبه لذلك وقال: إن هذه مقولة صار لها أتباع، وصار لها متقولون يتقولون بها ويجهرون بها. فقتله لخطورته، كما أن الذي أتى به الجعد هو كفر بواح، فلو قتله لكفره اجتهاداً لكان هذا اجتهاداً سائغاً، ولو قتله لعظيم بدعته التي انتشرت في العامة والخاصة لكان قتله كذلك لمنع الفتنة أمراً جائزاً في الشرع، فعلى الوجهين قد أصاب خالد بن عبد الله القسري .
قال: [ قال آدم لموسى: (أنت موسى، اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده) ]. والضمير يعود على يد الله عز وجل. أي: أن الله تعالى هو الذي كتب التوراة بيده، وهذا هو الأمر الثاني الذي فعله الله عز وجل بيده الشريفة، خلق آدم بيديه، وكتب التوراة بيده.
وقال في رواية أخرى: (يا موسى! ألم تعلم أن الله تبارك وتعالى خط التوراة بيده قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال: بلى). وهذا إقرار من موسى عليه السلام أن الله كتب التوراة في الأزل قبل أن يخلق آدم وقبل أن يخلق الخلق.
ومعلوم أن بين آدم ونوح عشرة قرون، وقبل نوح -بل وقبل الخلق أجمعين بأربعين سنة- خط الله عز وجل التوراة بيده، وكتب في التوراة الخطيئة التي ستقع من آدم، وأن آدم بعد عصيانه سيتوب ويستغفر وينيب إلى ربه.
فقال له: وأن الله خط لك التوراة بيده، وكتب فيها ما قد وقع مني، وأنه أمر قدره علي قبل أن يخلق السماوات والأرض بأربعين سنة.
قال: [ (تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟) ].
إن كتاب التوراة هو الكتاب الذي أرسل به موسى، وبين موسى وآدم عشرة قرون، وقبل خلق آدم بأربعين سنة خط الله عز وجل التوراة بيده ويمينه، ثم أثبت في هذه التوراة أن آدم سيعصي، وسيتبع شيطانه فيما يسول له ويجمل من الأكل من شجرة في الجنة؛ طلباً للخلد، فعصى آدم ربه فغوى. ثم قال آدم لموسى: أتلومني على ذلك؟ هذا أمر قدره الله عز وجل علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة! فلو أننا اعتبرنا أن القرن (100) عام إذاً: قبل (1040) سنة كتب الله عز وجل في التوراة أن آدم سيعصي ولكن هذا على سبيل المثال.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: [ (فحج آدم موسى) ] يعني: فارتفعت حجة آدم على حجة موسى.
قال: [ أخرجه البخاري ومسلم ]. ولكن ربما ينطبع في أذهان الحاضرين أنه يجوز للمرء أن يحتج بالقدر على المعصية، فيقول: آدم نفسه قال: (أتلومني على أمر قدره الله عز وجل علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟). يعني: هذا مكتوب في اللوح المحفوظ. فنقول: إن إجماع أهل السنة والجماعة على أنه لا يجوز لأحد أن يحتج بالقدر على المعاصي.
الأمر الثاني: الفارق بين من يحتج بالقدر على المعصية وبين آدم: أن آدم لما عصى تاب إلى الله عز وجل، وهذا لم يتب.
الأمر الثالث: أن آدم قال ذلك وهو ليس في دار التكليف، وأنت تحتج بالقدر على المعصية وأنت في دار التكليف.
فمن هذه الفوارق لا يجوز لأحد أن يعتمد على القدر في استباحة واستجازة معاصيه، وهذا الأمر محل اتفاق بين العلماء في عدم الجواز.
الإمام المازري قال: اليد هنا بمعنى: القبول. يعني: ليست هي اليد الحقيقية، وإنما اليد بالنسبة للمولى عز وجل بمعنى قبول توبة العبد إذا تاب إلى الله عز وجل.
إذاً: يكون التقدير هكذا: إن الله تعالى يقبل توبة عبده الذي عصى بالنهار إذا تاب في الليل، ويقبل توبة عبده بالليل إذا عصى في النهار. وهذا كلام لا يستقيم مع معتقد أهل السنة والجماعة في اليد، فاليد هي اليد الحقيقية لله عز وجل التي تثبت على الوجه الأكمل اللائق به تبارك وتعالى، ولو قلنا: إن اليد عبارة عن قبول التوبة، أو أن اليد هي النعمة أو هي القدرة، فلابد أن يكون هذا الحديث في نهاية الأمر لا معنى له.
والإمام النووي عليه رحمة الله ينقل عن المازري، لم يكن ضليعاً في مسائل الاعتقاد. لا أقول: إنه أشعري وإن كان يتبنى مذهب الأشاعرة في بعض الأحيان، وليس حال الإمام النووي بأحسن من حال ابن الجوزي ، فكلاهما مضطرب في أمر الاعتقاد، خاصة في باب الصفات، فهما تارة ينافحان ويدافعان عن مذهب السلف بكل ما أوتيا، ويقولان: نؤمن بهذه الصفات ونمرها كما جاءت، ولا نخوض فيها بتأويل ولا تعطيل، بل نثبتها على الوجه اللائق بالله عز وجل، وتارة يقولان: لابد من تأويل هذه الصفة؛ لأن الأمر لا يستقيم في أذهانهم على المنهج الأول وهو منهج السلف.
وتارة نسمع أن مذهب السلف أسلم وأن مذهب الخلف أعلم وأحكم، وهذا الكلام في غاية الخطورة؛ لأنه يجعل من التأويل وصرف النصوص عن ظاهرها علماً أزيد وحكمة أوسع مما كان عليه السلف رضي الله تبارك وتعالى عنهم، ولم يثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام تعرض لصفة من الصفات بالتأويل، أو صرفها عن ظاهرها المعلوم لدى النطق بها وسماعها لدى أصحابه الكرام رضي الله عنهم أجمعين، كما لم يثبت أن صاحباً من أصحاب رسول الله سأل عن معنى اليد أو العين أو الساق أو القدم لله عز وجل، وإنما آمنوا بها على حقيقتها اللائقة بالله عز وجل، وأمروها دون أن يخوضوا فيها؛ لعلمهم أن ذات الإله تختلف عن ذوات المخلوقين، فأثبتوا هذه الصفات لله على الوجه الذي يليق بذاته العلية تبارك وتعالى، فقال: (إن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار حتى تطلع الشمس من مغربها).
قال: [ (ويخفض القسط ويرفعه) ] وهذه الثانية. والقسط: هو الميزان. ويرفعه. أي: يجعل الميزان العام الذي توزن به أعمال العباد يوم القيامة تارة عليهم وتارة لهم. يفعل ما يشاء: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].
قال: [ (ويرفع إليه عمل الليل قبل النهار) ]. يرفع إليه عمل الليل في وقت الفجر قبل أن تطلع الشمس، ويرفع إليه عمل النهار قبيل المغرب، أو في صلاة المغرب. وقيل: في صلاة العصر. والراجح: قبل دخول الليل.
قال: [ (يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل) ]. وقوله: (يرفع إليه) يدل على أن الله تبارك وتعالى في السماء؛ لأن الرفع لا يكون إلا إلى جهة العلو والفوقية. ثم قال: [ (حجابه النار أو النور) ] أي: أن الله عز وجل جعل بينه وبين خلقه حجاباً، هذا الحجاب من نار أو من نور، على اختلاف في الروايات وكلاهما ثابت للمولى عز وجل.
قال: [ (حجابه النار -أو النور- لو كشفه -أي: لو كشف هذا الحجاب- لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره أو ما انتهى إليه بصره من خلقه) ]. يعني: لو أن الله عز وجل كشف هذا الحجاب بينه وبين خلقه في الدنيا لأحرق جميع المخلوقين؛ لأنهم لا يقوون على رؤية المولى تبارك وتعالى، ولو كانوا يقوون على ذلك لكان أولاهم بهذه القوة موسى عليه السلام، فقد طلب موسى أن يرى الله تبارك وتعالى جهرة؛ لأن اليهود طلبوا منه ذلك، فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153]، فموسى حاك في نفسه ذلك فطلب من ربه أن يراه، ولكن الله عز وجل أخبره بعجزه ونقصه البشري وأنه لا يقوى على ذلك، وكذلك الخلق أجمعون، لو أن الله عز وجل كشف الحجاب الذي بينه وبينهم لاحترقوا جميعاً؛ لأنهم لا يقوون على هذا إلا بإذن الله تبارك وتعالى في دار الآخرة لا في دار الدنيا؛ ولذلك فإن الصحابة رضي الله عنهم لما علموا يقيناً أنهم لا يقدرون على رؤية المولى عز وجل سألوا عن مدى وإمكانية رؤيتهم للمولى تبارك وتعالى في الآخرة. قالوا: (يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟). لأنهم علموا أنهم لا يستطيعون رؤيته في الدنيا. قالوا: إذا كان موسى عجز عن ذلك، فهل نرى ربنا يوم القيامة؟ (قال النبي عليه الصلاة والسلام: أرأيتم القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ولا غمام، ورأيتم الشمس في رابعة النهار لا يحول بينكم وبينها غيم ولا غمام؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه ضيم). أي: أنكم لا تضامون، لا يحصل لكم ضيم ولا غيم ولا شك في رؤية المولى تبارك وتعالى في دار الآخرة، وأن الله تبارك وتعالى يحجب نفسه العلية وذاته العلية عن الكافرين، ويمكن المؤمنين من رؤيته تبارك وتعالى.
وهذا يثبت أن الرؤية مستحيلة في حق المخلوقات في الدنيا، وأنها ثابتة في الآخرة على خلاف ما ذهب إليه المعتزلة من أن الرؤية مستحيلة في الدنيا والآخرة، وهم بذلك كأنهم كذبوا القرآن الكريم.
قال: (وهي -أي: هذه الأنهار- تشخب من جنة عدن في جوبة ثم تصدع بعد الأنهار). أي: أن هذه الجنات كأنها تنزف نزيفاً عظيماً، وتسيل سيلاناً عظيماً، ثم تنشأ الأنهار من تلك الجنات الأربع.
قال: [(يمين الله ملأى لا يغيضها شيء)] أي: لا ينقصها شيء مهما أنفق، لا ينقص مما في يمينه شيء.
قال: [ (سحاء الليل والنهار) ] سحاء تفيد: شدة العطاء وكثرته. أي: يعطي بقوة وسرعة. وهذا يدل على شدة عطاء المولى تبارك وتعالى بالليل والنهار لعباده.
قال: [ (أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض) ]. أرأيتم ما أنفق الله عز وجل منذ أن خلق السماوات والأرض؟ فبسبب هذا الإنفاق الكثير لابد أن تفنى تلك الخزائن، لكن هذا لا يكون إلا في قياس المخلوقين، أما في قياس الخالق فلا؛ لأن خزائن الله عز وجل تختلف عن خزائن البشر، فالبشر مهما بلغت خزائنهم لابد أنها تفنى، أما خزائن المولى تبارك وتعالى فمهما أنفق منها عز وجل فإنها لا تتأثر إلا كما يتأثر البحر إذا أدخل فيه المخيط.
يعني: تصور أنك تأتي بإبرة وتدخلها في البحر، ثم تخرج هذه الإبرة مرة أخرى. ما الذي تعلق بها؟ لا أقول: نقطة ماء، بل نقيطة ماء. فهل هذه النقطة ومهما عظمت هل تؤثر في ماء البحر؟ أو هل تؤثر في وزن البحر، أو في حجم الخير الذي في البحر؟ أبداً.
فمهما أنفق المولى تبارك وتعالى، وسحت يده بالليل والنهار فإن ذلك لا ينقص من خزائنه شيء إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر، وهذا يدل على أنه لا تنقص هذه الخزائن أي نفقه ينفقها المولى عز وجل، وخزائنه بيده ينفق منها كيف يشاء.
قال: [ (أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم ينفق ما في يمينه) ] أي: لا يزال الخير الذي وضعه في يمينه رغم أن هذا الخير يغط فيه الخلق أجمعين من بني آدم وطير وحيوان وحشرات.. وغيرها، فإن الخزائن لا تزال موجودة بتمامها وكمالها في يمين المولى تبارك وتعالى.
قال: [ عن عبد الله بن عمرو ويبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: (المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور -والمقسط هو العادل- عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين) ] هذا أمر في غاية الإعجاز. هذا أمر يجعل المرء يحار، ولابد في النهاية أن يسلم المرء بأن ذات الله وصفاته تختلف عن ذوات المخلوقين وصفات المخلوقين. كيف تكون يداه الاثنتان يميناً، ومعلوم أن اليمين دائماً تكون أقوى في المخلوقين من الشمال؟ نقول: ليس علينا معرفة الكيفية، ولا يعرفها أحد من المخلوقين، لا نبي مرسل ولا ملك مقرب؛ ولذلك فإن الأدلة التي وردت بأن لله عز وجل يداً شمالاً كما قال: (ويطوي السماوات بيمينه ويقبض الأرضين بشماله) هذه الرواية وإن كانت في مسلم إلا أنها شاذة؛ لأنها من رواية عمر بن حمزة ، وعمر ضعيف.
وأما مسلم فقد احتج به لتوثيق عمر عنده، مع أن جميع النقاد على أن عمر بن حمزة ضعيف، وعيب على مسلم إخراجه لحديث عمر بن حمزة ، سواء هذا الحديث أو غيره.
فالرواية في مسلم لا تأخذ الحصانة إذا كانت في جنب الله عز وجل، وقد أعرض البخاري عن هذه الرواية، بل اتفق معه مسلم على أن (كلتا يدي الرحمن يمين). فهذه الرواية هي المتفق عليها، والرواية الثانية وإن أتت من ثلاث طرق إلا أنها من طريق عمر بن حمزة وهو ضعيف، وجاءت من طريقين كل منهما في إسناده رجل متروك، فالرواية شاذة غاية الشذوذ، بل منكرة غاية النكارة؛ لأن الحديث المنكر: هو مخالفة الضعيف للثقة. بخلاف الحديث الشاذ فإنه مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، أو لمجموع الثقات، فهذا الحديث في غاية النكارة، وقد ثبت لله عز وجل كما اتفق على ذلك البخاري ومسلم أن كلتا يديه يمين.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: [ (المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور، عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم وما ولوا). أخرجه البخاري ومسلم ] .
فهذا يدل على أن لله تبارك وتعالى يدين: اليمين واليد الأخرى، والأخرى ليست شمالاً كما فهم الخلف، وإنما هي يمين كذلك؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (وكلتا يديه يمين).
وقال: [ (يقبض الله الأرض بشماله، وتكون السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك) ]. هذه رواية شاذة، هذه الرواية الثالثة، وأنا أحذر منها كل الحذر؛ لأنها وردت في صفات الله تبارك وتعالى وفيما يتعلق بالذات العلية؛ ولذلك ينبغي الحذر والتحذير منها، وهي رواية ضعيفة، وكل الروايات التي وردت في إثبات أن الله تعالى له يسار أو شمال ضعيفة جداً، وإذا أراد أحدكم أن يحقق في هذه القضية فليفعل.
[ عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يطوي الله السماوات فيقبضها، ويقبض الأخرى بيده ويقول: أنا الملك. أين الملوك؟ أنا الجبار. أين الجبارون؟) ].
قال: [ وهو يضعها في يد السائل، ثم قرأ: أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ [التوبة:104] ]. إذاً: من الذي يأخذ الصدقات؟ الله عز وجل.
قال: [ (إذا كان يوم القيامة جعل الله السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، والماء والثرى -التراب- على إصبع، وذكر كلمة كلها على إصبع -يعني: ذكر مخلوقات أخرى على إصبع الرحمن- ثم يهزهن المولى تبارك وتعالى، ثم يقول: أنا الملك أنا الملك. فضحك النبي عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواجذه تعجباً مما قال الحبر تصديقاً له) ] فالحجة ليست في خبر الحبر، وإنما في إقرار النبي عليه الصلاة والسلام.
[ ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]) ]، يعني: مع علم اليهود بذلك إلا أنهم لم يقدروا الله تعالى حق قدره، فضحك النبي عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواجذه من الحق الذي سمعه من ذلك الحبر، ولكنه عاب على اليهود أنهم ما قدروا الله حق قدره.
قال: عن عبد الله قال: (جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام رجل من أهل الكتاب فقال: يا أبا القاسم! أبلغك أن الله تعالى يحمل الخلائق على إصبع، والسماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع؟ فضحك النبي عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواجذه، فأنزل الله عز وجل: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67] إلى آخر الآية). واللفظ لـأحمد ، أخرجه مسلم من هذا الطريق والبخاري من حديث الأعمش ].
[ عن عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء)؛ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم يا مصرف القلوب! صرف قلبي إلى طاعتك) ]. وذلك لأنها بيد الله عز وجل يقلبها كيف يشاء.
فقلوب العباد جميعاً كقلب رجل واحد في يد الله عز وجل؛ لأنه قال: (إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد). يعني: كأن الله جمع القلوب جميعاً فجعلها في قلب واحد، وجعل هذا القلب بين أصبعيه يصرفه ويقلبه كيف شاء.. إلى الطاعة.. إلى المعصية.. إلى الجنة.. إلى النار.. إلى الحب.. إلى البغض.. وغير ذلك مما يشاء تبارك وتعالى، ويفعل ذلك لحكمة عظيمة لا يعلمها إلا هو.
ولذلك يقول بعض أهل العلم: الضمير في صورته يعود على الله عز وجل اعتماداً واتكالاً على حديث: (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن) وهذه الرواية صريحة.
ثم يقولون: (إن الله خلق آدم على صورته) أي: على هيئته التي خلقه عليها يوم خلقه. فالضمير يعود على آدم. وهناك تأويل ثالث: (إن الله خلق آدم على صورته) أي: على صورة ذلك المضروب. (فلا تقبح)؛ لأنك لو قبحته كأنك قبحت وجه أبيك آدم، ولكن الكلام عن حديث الصورة سنخصص له محاضرة كاملة.
قال: [ (خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً، فلما خلقه قال له: اذهب فسلم على أولئك النفر، وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك، فإنه تحيتك وتحية ذريتك. قال: فذهب فقال: السلام عليكم. فقالوا: وعليكم السلام ورحمة الله. قال: فزادوا: رحمة الله. قال: فكل من يدخل الجنة على صورة آدم طوله ستون ذراعاً) ]. يعني: كل الذين يدخلون الجنة يكونون على صورة آدم، طوله في السماء ستون ذراعاً، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن. يعني: الله تبارك وتعالى لما خلق آدم خلقه وطوله في السماء حوالي (45) متراً، تصور أنك ستدخل الجنة وطولك (45) متراً، طبعاً أنت تنتظر هذا اليوم، ولن تدخل الجنة من أجل أن تنظر صورتك وأنت طويل هكذا!
وقد وردت بعض الآثار أنهم يدخلون في عمر متوسط (33) عاماً، فعمر سيدنا عيسى عليه السلام (33) عاماً، وفي الحقيقة هذه أمور كلها وإن جاز في العقل تصورها إلا أننا نقول: نؤمن بها كما جاءت.
قال: [ عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قاتل أحدكم أخاه) ] يعني: إذا ضرب، من المقاتلة والمفاعلة. أي: وقع شجار. [ قال: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليتجنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته) ]. الضمير يعود على المضروب.
وفي حديث: [ (إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه لا يقولون: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته) ].
وعن ابن عمر مرفوعاً: [ (لا تقبح الوجه؛ فإن الله تعالى خلق آدم على صورته) ].
ما هي علامته؟ قال: (ألا إنه الأعور
قال: [ (وإن ربكم ليس بأعور) ]. وهذا يدل على أن صاحب العين الواحدة أعور، وأن الله تبارك وتعالى ليس بأعور. إذاً: هذا يثبت لله تبارك وتعالى عينين.
قال: [ (مكتوب بين عينيه -أي:
قال: [ عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اختصمت الجنة والنار) ]. يعني: احتجت الجنة والنار [ (فقالت النار) ]. وهل هناك نار تتكلم؟ نعم. الذي خلقها قادر على أن ينطقها، النار تتكلم، والجنة تتكلم، كما أن الموت يوم القيامة يتكلم، والموت مخلوق كما تعلمون: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2] فالموت مخلوق والحياة مخلوقة، وكل مخلوق لابد أن يموت، وفي الحديث: (وإن الله تعالى يجعل يوم القيامة الموت على صورة كبش حتى يؤتى به فيذبح). يعني: الموت في نهاية الأمر يجعله الله في صورة كبش فيذبح بين الجنة والنار؛ لأن الموت آخر من يموت، فكل المخلوقات تموت على يد ملك الموت، حتى لا يبقى إلا ملك الموت، فيأمر المولى عز وجل الموت أن يميت ملك الموت، فإذا مات لا يبقى إلا الموت، فيصوره الله عز وجل ويخلقه في صورة كبش، فيقضي عليه بالموت فيموت فلا يبقى إلا الله عز وجل، وبعدها تقوم الساعة.
قال: [ (اختصمت الجنة والنار، فقالت النار: يدخلني الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: يدخلني ضعفاء الناس وسقاطهم، فقال الله عز وجل للنار: أنت عذابي أصيب بك من أشاء وقال للجنة: أنت رحمتي أصيب بك من أشاء، ولكل واحد منكم ملؤها -الجنة لها ملؤها والنار لها ملؤها- وإذا كان يوم القيامة لم يظلم الله أحداً من خلقه شيئاً ويلقى في النار، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع الله قدمه فيها، فهناك تملأ، ويزوى بعضها إلى بعض -يعني: تنضم أركانها وأبعادها إلى بعض- وتقول: قط قط) ] أي: كفى. والحديث كذلك أخرجه مسلم.
وجاء [ أن ابن عباس قال في قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42] قال: عن بلاء عظيم ]. فعبر عن الساق بالبلاء العظيم والشدة والكرب.
وهذا التفسير من ابن عباس لم يوافقه عليه أحد من أصحابه، وأنتم تعلمون أن قول الصاحب حجة إذا لم يكن له مخالف، فإذا خالفه جميع الأصحاب فالحجة في قولهم.
كل الذي ذكرناه الآن من اليدين والعينين والقدم والساق والأصابع والصورة سنفرد لكل واحدة تباعاً في الدرس القادم بإذن الله محاضرة تامة كاملة، حتى نستوعب الأدلة التي وردت في كل صفة، وإذا كان هناك شبهة في بعض الأدلة أوضحناها بإذن الله تبارك تعالى اعتماداً واتكالاً على كلام أهل العلم عليهم رحمة الله.
قال: [ عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: (لما نزلت هذه الآية: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ [الأنعام:65]، قال عليه الصلاة والسلام: أعوذ بوجه الله) ]. وهذا إثبات لصفة الوجه.
إن الإمام اللالكائي لم يرتب النصوص ترتيباً دقيقاً، فبعد أن يتكلم عن الوجه، يتكلم عن العين، ثم يتكلم عن الوجه مرة أخرى، ثم يتكلم عن اليد ثم عن الصورة ثم عن اليد مرة أخرى، والأصل أن يسرد كل النصوص الواردة في صفة تلو بعضها، ولكنه لم يفعل ذلك، وربما أنه أراد أن يرتب بعد الجمع، فوافته المنية قبل أن يرتب، كما هو الشأن في كثير من أهل العلم، صنفوا كتباً وقبل أن يرتبوها وافتهم المنية، فبقيت كتبهم على هذا النحو، فهل يجوز لمن أتى بعدهم أن يرتبوها؟
الجواب: يجوز بشرط أن يُعلم أن هذا الترتيب من ترتيب فلان، كـالعلائي رتب كتاب ابن حبان على الأبواب الفقهية، فهو من حيث الكلم ومن حيث الأدلة والأسانيد من جمع ابن حبان ، لكن لم يرتبه ابن حبان على هذا النحو الذي بين أيدينا، وإنما رتبه على نحو آخر، وترتيبه هذا كان فيه مشقة علينا حتى إن الحافظ ابن حجر قال: من أراد البحث في صحيح ابن حبان أضناه. لأنك ممكن قد تجد حديثاً في الوضوء وهو في نفس الوقت موجود في الجنائز، أو موجود في الحدود، فكان صحيح ابن حبان كتاباً عظيماً جداً في بابه، إلا أنه لم يرتب، فلما رتب عظمت به المصلحة.
قال أشعب : [ دخلت على القاسم بن محمد في حائط له وكان يبغضني في الله وأحبه فيه ].
انظروا إلى الصراحة، أشعب دخل على القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال: وكنت أحبه في الله؛ لأن القاسم مستقيم، لكن أشعب كان فيه انحراف. قال: وكنت أحبه في الله ويبغضني فيه، لكن بغض القاسم لـأشعب لم يمنع أشعب أن يحبه في الله؛ وذلك لأنه على الاستقامة. [ فقال: ما أدخلك علي؟ اخرج عني. قلت: أسألك بوجه الله لما جذذت لي عذقاً ]. يعني: لو قطعت لي عنقوداً من العنب أو شيئاً من هذه الثمار، فإنني أسألك بوجه الله العظيم. [ قال: يا غلام! خذ له عذقاً فإنه سأل بمسألة لا يفلح من رده ]. وهذا فيه إثبات الوجه لله عز وجل.
قال: [ عن ابن عمر قال: احتجب من خلقه بأربع -أي: أن الله عز وجل احتجب من خلقه بأربع-: بنار وظلمة ونور -ولم يذكر الرابعة- وخلق أربعاً بيده: آدم والعرش والقلم وجنة عدن ].
وأنتم تعلمون أنه تبارك وتعالى كتب التوراة بيده، فإما أن يقصد ابن عمر أن الله تعالى كتب التوراة بيده. أي: حيث أمسك الله تبارك وتعالى القلم بيده فكتب التوراة، أو أنه كتب التوراة بيده كيف شاء، والذي يترجح إلي الثاني دون الأول.
قال: [ (وقال لسائر خلقه: كن فكان) ]. يعني: خلق الله تبارك وتعالى بيده أربعاً ثم قال لسائر خلقه: (كن) أمر، فكان.
[ قال عبد الله : خلق الله أربعاً بيده: العرش وآدم والقلم وعدْن، وقال لسائر خلقه: كن فكان ]. وهذا طبعاً يوافق قول عبد الله بن عمر .
وقال وكيع: [ إذا سئلتم: هل يضحك ربنا؟ فقولوا: كذلك سمعنا ]. لأن صفة الضحك صفة فعل، إذا شاء ضحك وإذا شاء لم يضحك، بخلاف صفة الذات، فالضحك ليست صفة ذات، وضحك المولى عز وجل ليس كضحكنا؛ لأننا لو قلنا بذلك لكان هذا يستلزم الفم والثغرين والأسنان على حسب حال الضحك من المخلوقات، فمنهم الذي يضحك فيبتسم في وقار، ومنهم الذي يضحك ويفتح فمه، فالمولى تبارك وتعالى لا يقاس بخلقه ولا يشبههم قط؛ بل نثبت له صفاته وأفعاله على الوجه اللائق به تبارك وتعالى.
قال: [ إذا سئلتم: هل يضحك ربنا؟ فقولوا: كذلك سمعنا ]. أي: أن الضحك لا يثبت إلا بالسمع، ولا يثبت بالعقل؛ لأننا لم نر الله عز وجل، وصفة الفعل تثبت بالعقل والسمع تارة، وتثبت بالسمع تارة، فصفة الضحك تثبت بالسمع؛ لأننا لم نره تبارك وتعالى.
قال: [ نا بقية : قال لي الأوزاعي : يا أبا محمد ! ما تقول في قوم يبغضون حديث نبيهم؟ ] يقصد حديث النبي عليه الصلاة والسلام المتعلق بالصفات.
[ قال: قلت: قوم سوء ]. الذين يبغضون حديث النبي صلى الله عليه وسلم قوم سوء. [ قال: ليس من صاحب بدعة تحدثه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام بخلاف بدعته إلا أبغض الحديث ]. وهذه علامة من علامات أهل البدع، أنك ما حدثته بآية ولا بحديث يخالف بدعته وهواه إلا أبغض الآية وأبغض الحديث وإن لم يظهر ذلك عليه، وإن لم يصرح لغيره ببغضه الآية والحديث، فصاحب الهوى إذا حدثته بآية تخالف هواه أو بحديث يخالف هواه تحير وتكلف الرد على الآية والرد على الحديث؛ لأنه يقدم هواه على المفهوم والمنقول.
قال الفضل بن زياد: [ سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة ]. يعني: يجب الإيمان والتسليم المطلق لله عز وجل ولرسوله.
وقال مخلد بن الحسين: [ قال الأوزاعي : يا أبا محمد ! إذا بلغك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام حديثاً فلا تظنن غيره ]. أي: فلا تعتقد غيره. [ فإن محمداً عليه الصلاة والسلام كان مبلغاً عن ربه ].
وإذا كان هو الذي يبلغ عن ربه فهو أعلم، وهذه البلاغات التي أبلغنا بها عليه الصلاة والسلام مصدرها الوحي، والله عز وجل أعلم بنفسه، يضحك، يغضب، يرضى، يسخط.. هو أعلم؛ لأنه يخبرنا عن نفسه التي لم نرها نحن تبارك وتعالى، فإذا كان الله عز وجل أثبت لنفسه الغضب فكيف أصرفه أنا، أو كيف لا أؤمن به؟ مع أن الذي أخبرني بهذا هو المولى تبارك وتعالى، فإذا أتاك الخبر عن الله وعن رسوله فآمن به ولا تعتقد غيره.
وقال بقية: [ثنا الأوزاعي قال: كان الزهري ومكحول يقولان: أمروا الأحاديث كما جاءت ]. أي: أحاديث الصفات بالذات المتعلقة بصفات الله تبارك وتعالى، أمروها كما جاءت ولا تتعرضوا لها، ولا تخوضوا فيها بتأويل أو تحريف أو تمثيل أو تشبيه.
وقال سفيان بن عيينة: [ كل شيء وصف الله به نفسه في القرآن فقراءته تفسيره، لا كيف ولا مثل ]. أي: أن مجرد قراءته يُعد تفسيراً، فلا تتكلف أن تفسر: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]: أن قوة الله فوق قوتهم؛ فإن هذا تكلف وصرف للنص عن ظاهره، بل وعن مراد الله عز وجل.
والله عز وجل بإمكانه أن يقول: قوة الله فوق قوتهم. هل كان يعجزه ذلك؟ قال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64] أي: أنه لم يفت عليه شيء سبحانه وتعالى. فإذا كانت اليد بمعنى: القوة لقال: قوة الله فوق قوتهم.
وقال حنبل لـأبي عبد الله -وهو ابن أخ أحمد بن حنبل- قال: [ يكلم الله عبده يوم القيامة؟ قال أحمد : نعم. فمن يقضي بين الخلق إلا الله ]. يعني: أنه لابد أن يكملهم؛ لأن القاضي يحتاج إلى الكلام، فإن الله عز وجل يكلم عباده. قال: [ يكلمه الله عز وجل، ويسأله الله عز وجل. متكلم لم يزل ]. قال: (متكلم) يعني: يصف المولى عز وجل بأنه متكلم (لم يزل). أي: منذ الأزل بلا أول قال: [ بما شاء، ويحكم وليس لله عِدْلٌ -يعني: شبيه- ولا مِثْلٌ تبارك وتعالى كيف شاء وأنى شاء ].
وجاء: قرأ على أحمد بن حنبل رجل قوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]. قال: [ ثم أومأ الرجل بيده كأنه قال: والسماوات مطويات بيمينه، وفعل بيمينه هكذا. فقال أحمد : قطعها الله، قطعها الله، قطها الله، ثم حرد وقام ]. أي: ثم ترك المجلس وانصرف.
فكان أحمد بن حنبل لا يجلس في مكان فيه بدعة، ولا فيه معصية تدار أبداً. هذا أحمد رحمه الله، مع أنه نفسه يقول: إن الله يحمل الأرضين على أصبع والسماوات على أصبع وهكذا، ويشير إلى أصابعه.
لكن أقول: لماذا دعا أحمد بن حنبل على هذا الرجل عندما أومأ بيمينه؟ الجواب: لأنه رجل من أهل البدع أراد تشبيه الخالق بالمخلوق، لكن إذا أتت من رجل من أهل السنة على وجه الاعتقاد اللائق بالمولى عز وجل فإنه لا حرج، وتشهد له النصوص التي ذكرناها.
قال محمد بن الحسن الحنفي : [ اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في صفة الرب عز وجل من غير تغيير ولا وصف ولا تشبيه، فمن فسر اليوم شيئاً من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة، فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتو ]. قالوا: إن لله يداً، وإن لله وجهاً، وإن لله أصابع، وإن لله رجلاً، وإن لله ساقاً.. وغير ذلك وسكتوا؛ لأنهم لم يتكلفوا التأويل ولا التكييف؛ لأن ذلك يصرف النص عن ظاهره وعن المراد منه.
قال: [ فمن قال بقول جهم -أي: الجهم بن صفوان إمام المعطلة- فقد فارق الجماعة؛ لأنه قد وصفه بصفة لا شيء ]. أي: قد قال: ليس لله يد ولا رجل ولا وجه ولا عين ولا ساق ولا..
إذاً: جعل الله عدماً بلا صفات، فإن الجهم بن صفوان عطل المولى تبارك وتعالى عن صفاته؛ فجعله كالمعدومات.
الجواب: هذه المسألة محل خلاف حتى بين السلف؛ ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: وهذه الفرعيات في الاعتقاد التي اختلف فيها السلف لا يبدع فيها المخالف. كأنه أراد أن يقول: إن اختلاف السلف في بعض مسائل الاعتقاد من الأمور السائغة والمعتبرة، والذي يترجح لدينا: أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ير ربه، وإنما رأى نوراً؛ لأنه لما سئل: (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه؟) أي: حجبني النور عن المولى عز وجل، فكيف أراه مع وجود هذا الحجاب؟
الجواب: لا يجوز.
الجواب: إذا كان عجز فلا شيء عليه.
الجواب: لا يجوز له أن يصلي؛ لأننا لو قلنا بقول بعض أهل العلم أن رفع الحدث الأكبر يرفع معه الأصغر وإن لم يباشر غسل الأعضاء؛ فإنهم يلتزمون أن يكون ذلك الاغتسال بنية رفع الحدث الأكبر والأصغر، فإذا نوى رفع الحدثين فله أن يصلي بهذا الوضوء.
والذي يترجح لدي أن الترتيب كاد يكون واجباً من واجبات الوضوء، وأنا أعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام خالف الترتيب مرة، وهذه المخالفة ربما يكون لها تأويلات وصرف عن ظاهرها، ولو أخذنا بظاهرها لقلنا: إن الترتيب ليس واجباً، وإنما هو مستحب؛ لمداومة النبي عليه الصلاة والسلام عليه، وهو سنة مؤكدة من سنن الوضوء عنه عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك فإن الذي لم يباشر الوضوء فقد خالف النبي عليه الصلاة والسلام في الاغتسال، فإنه كان يغسل فرجه ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يصب الماء عن يمينه ثم عن شماله، ثم يعمم بدنه بالماء. هذا صفة غسله، لكن لو افترضنا أنك دخلت في الماء بكليته دون هذا الترتيب وهذا الهدي فإن الجنابة ترتفع بالنية. يعني: إذا نوى رفع الجنابة ارتفعت بذلك، وكذلك إذا نوى رفع الحدثين أو رفع الجنابة وحدوث الوضوء كما نوى أن يصلي، وإذا لم ينو لا هذا ولا ذاك فإن الجنابة لا ترتفع. يعني: إذا أجنب رجل ودخل في الماء لا بنية رفع الجنابة، وإنما بنية التبرد فقط فإنه لا ترتفع الجنابة حتى وإن اغتسل، ومن باب أولى لا تصح صلاته بهذا الاستحمام، والله أعلم.
الجواب: على أية حال هذا أمر يهون كثيراً عمن ترك الصلاة بالكلية، فإن الذي نعتقد من خلال الأدلة الواردة في الجماعة أن الجماعة سنة مؤكدة، وأذهب إلى عدم الوجوب، ولكن ليس معنى أن الجماعة سنة مؤكدة: أن يتركها المرء، فإن الجمهور الذين قالوا بأن الجماعة سنة مؤكدة لم يثبت أنهم تركوها مرة، ولكن من حيث ترتيب الحكم الشرعي هي ليست واجبة.
وهذه المسألة نحن ذكرناها هنا في محاضرة كاملة لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات، وذكرنا فيها أربعة مذاهب لأهل العلم، وترجح لدينا في ذلك الوقت ما لم يكن راجحاً لدينا في قلوبنا؛ لأننا رجحنا في المحاضرة الوجوب. قلنا: إن الذي يترجح لدينا هو الوجوب؛ لما نرى من تفريط الناس وتفريط الإخوة في حضور الجماعة.
فكل يرجح من باب المصلحة هذا الحكم، مع أن الذي كان يستقر في نفسي أنه ليس براجح، لكن دعت المصلحة الشرعية للمستمعين أن ألقيها بين ظهرانيهم وأنها واجبة.
فلذلك لما اضطررت إلى ذكر ما أعتقد في القضية صراحة قلت: هي سنة مؤكدة. ولما سمعها مني من سمع تخلف عن الجماعة على اعتبار أنها سنة، ولا يأثم بتركها، وأنا في الحقيقة لم أندم على تصريحي بأنها سنة مؤكدة؛ لأن الذي يريد أن يفوت عن نفسه الخير لا تأس عليه ولا تحزن؛ لأن الخير بيد المرء أن يأخذ سبعاً وعشرين درجة في كل صلاة، ما بين الدرجة والدرجة مسيرة خمسمائة عام في الجنة.
فالذي يريد أن يفوت هذا الخير على نفسه فأنا على يقين من أنه لن يفوت جنيهاً إذا دعي في الميكرفون: إن الإمام يوزع جنيهاً لكل من أتى المسجد، فأنا أؤكد أن النصارى سيأتون إلى الصلاة.
ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولو دعي إلى مرماتين عظيمتين لأتاهما ولو حبواً). يعني: لو نادى المنادي: إننا سنوزع عظماً ليس لحماً، فإنك ستجد النساء والأطفال والرجال كلهم قد أتوا إلى المسجد، كل طوائف المجتمع جاءت المسجد من أجل أن تأخذ العظم!
فما بالهم لا يفقهون أن صلاة الجماعة لها ثواب ودرجات في الجنة؟! لكن سبحان الله! لا يعقل هذا الفضل إلا العالمون، ويغفل عنه الغافلون، بل إن الله تبارك وتعالى يطمس على قلوبهم فلا يعقلون هذا الفضل؛ لأنهم لا يستحقونه، أما من تخلف عن الجماعة بعذر فلا شيء عليه، ومتى صلى فصلاته صحيحة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر