اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الحج: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الحج:58].
أخبر الله سبحانه وتعالى عن فضله على عباده الذين هاجروا في سبيله، وأوذوا فقاتلوا وقتلوا في سبيل الله، أو أنهم أوذوا فهاجروا ثم ماتوا فوعدهم الله عز وجل بالرزق الحسن منه، وهو خير الرازقين، ورزقه الحسن جنات تجري من تحتها الأنهار.
وإن كان مصدراً فالمعنى: دخولاً يرضونه في جناته سبحانه.
قال تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [الحج:59] فذكر صفة له سبحانه وهي العلم، وصفة أخرى وهي الحلم.
وفي هذه الآية ذكر الله سبحانه ما يفعله بالمؤمنين، وذكر اسمين ثم في الآية التي تليها ذكر اسمين له سبحانه، وفي الآية الثالثة ذكر اسمين آخرين من أسمائه الحسنى، وهذا الموضع الوحيد في القرآن الكريم الذي ذكر فيه من أسمائه الحسنى ثمانية أسماء في آيات متتالية.
فذكر: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [الحج:59].
وبعدها: إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [الحج:60].
وبعدها: وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:61].
وبعدها: وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج:62] فبدأ بالعلم والحلم، والمعنى: إن الله لعليم يعلم ما يفعله العباد، ويعلم من الذي يستحق منهم الثواب والعقبى الحسنة، ومن الذي يستحق العقاب والعاقبة السيئة، والله حليم يحلم عن عباده، فهو بعلمه سبحانه، يعلم أن هذا يستحق الرحمة، وإن كان الآن في وقت يعصي فيه ربه سبحانه، ولكن سيأتي عليه وقت يتوب، فيحلم عليه سبحانه، ثم يتوب العبد، ويكون من أهل رحمة الله سبحانه وتعالى، فالله عليم بنياتهم وأعمالهم، حليم عن عقابهم.
ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين لقوا بعض مشركي مكة لليلتين بقيتا من شهر الله المحرم أحد الأشهر الحرم، فأراد الكفار قتال المسلمين قبل أن ينتهي شهر المحرم، وقالوا: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يكرهون القتال في الشهر الحرام، فاحملوا عليهم، والكفار كذلك كانوا لا يقاتلون في الأشهر الحرم إلا أنهم كانوا ينسئون فيها.
والأشهر الحرم ذكرها الله تعالى في قوله: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة:36] وهي: ثلاثة سرد وواحد فرد، فالفرد شهر رجب، والسرد ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، هذه اختصت بالحج فيذهب الحاج لأداء نسكه فلا يؤذى، ولا يتعرض له أحد من العرب.
أما في شهر المحرم وشهر رجب فكانوا يمتنعون من القتال تعظيماً لمن يذهب إلى العمرة فيهما.
إلا أن الكفار كانوا يتلاعبون بهذه الأشهر، فيجيء شهر المحرم فيقولون: سنؤخر الحرمة إلى صفر ونجعل له حرمة الشهر الحرام، فلما لقوا المسلمين قال بعضهم لبعض: إن المسلمين لا يقاتلون في هذا الشهر فاحملوا عليهم واقتلوهم.
فحملوا عليهم، فناشدهم المسلمون ألا يقاتلوهم في الشهر الحرام، فأبى الكفار إلا القتال فحملوا عليهم، فثبت الله عز وجل المسلمين ونصرهم على المشركين، فالباغي أبى الله إلا أن يقهره يوماً من الأيام.
قال تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ [الحج:60] فهذا وعد من الله سبحانه بالنصر للإنسان المظلوم الذي بغي عليه لينصرنه الله، وهذا جواب قسم، وأصله: والله لينصرنه الله سبحانه.
فلما انتصر المسلمون على المشركين قالوا: قتلتم في الأشهر الحرم، فأنزل الله عز وجل: ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ [الحج:60] أي: جازى على العقوبة، بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ [الحج:60] بدأ المشركون فانتصر المسلمون بفضل الله عز وجل، قال: ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ [الحج:60] فبغى المشركون في الفعل، وبغوا في القول، وقالوا: هؤلاء تعدوا في الأشهر الحرم، والله عز وجل وعد المؤمنين بالنصر.
ثم قال: إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [الحج:60] يعني: عفا عن قتالكم في الشهر الحرام؛ لأنكم مطلوبون، ولأنكم تدافعون عن أنفسكم.
وقيل: بل نزلت في قوم من المشركين مثلوا بقوم من المسلمين يوم أحد، فعاقبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هنا يعرض ربنا سبحانه وتعالى بالعفو، يعني: الله يعفو عنكم فكونوا أنتم أيضاً من العافين عمن ظلمكم.
ذكر الله تعالى في الآية الأخرى: وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الشورى:41-42] ثم ذكر سبحانه: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43] والمعنى: أن المظلوم يجوز له أن ينتصر وينتصف من ظالمه، ولكن إن قدر فعفا، فهذا أفضل عند الله سبحانه وتعالى.
وقد بدأ الله بذكر الانتقام والمعاقبة، ولكن في النهاية ذكر العفو من الله سبحانه تعريضاً للمؤمنين أنه إذا قدرتم فاعفوا، قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [الحج:60] أي: عظيم العفو والتجاوز عن إساءات الخلق ومعاصيهم، وغفور يمحو ويستر سبحانه وتعالى الذنوب، فعفا عن المؤمنين في ذنوبهم وقتالهم في الشهر الحرام.
ويميز سبحانه وتعالى بين الليل والنهار، كما أنه يميز بين الحق والباطل، فالله الذي قدر على ذلك جعل الليل سكناً وستراً، وجعل النهار وضوحاً وجلاء، فأظهر الحق، وأبطن الباطل سبحانه وتعالى.
فهذا الذي قدر أن يأتي بالليل والنهار أليس بقادر على أن يظهر ظلم هؤلاء الظلمة؛ فيأخذهم سبحانه وتعالى ويعاقبهم، ويظهر الإيمان وضوءه ونوره العظيم ويظهر أهله وينصرهم؟! فلا أحد يقدر على ما يقدر عليه الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:61] سميع يسمع ما يفعله العباد، وبصير يرى ما يصنعونه، فلا شيء يحجب عن سمعه وعن بصره، فهو قادر على أن يغير الليل والنهار، ويغير القلوب، ويبدل الناس بغيرهم، وهو على كل شيء قدير.
قال تعالى: وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62] فيها قراءتان: (وأن ما يدعون) قراءة الجمهور، وقراءة نافع ، وأبي جعفر ، وابن عامر ، وشعبة عن عاصم : وَأَنَّ مَا تَدْعُون؛ فالخطاب للمشركين: وأن ما تدعون من دون الله سبحانه هو الباطل، فهم يدعون ما لا ينفعهم، ولا يضرهم، وذلك هو الضلال البعيد.
قال تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج:62] فذكر هنا اسمين له سبحانه، العلي أي: المتعالي الذي لا شيء مثله سبحانه، فهو عالٍ على كل شيء بقدرته سبحانه، عالٍ عن الأشباه والأنداد، مقدس عما يقوله الظالمون من صفات لا تليق بجلاله سبحانه وتعالى.
العالي فوق خلقه فله العلو: علو الكمال، وعلو الذات، وعلو القهر، وعلو الصفات.
وهو يملك كل شيء، ويدبر أمر كل شيء، عالٍ عن أن يصل إليه دنس العباد وأذاهم.
وهو الكبير سبحانه، وهي صفة أخرى من صفاته العظيمة.
ولما ذكر الليل والنهار بأشياء عظيمة، وذكر لنا أن الله سبحانه هو الحق، وأن ما يدعون من دونه باطل هزيل سيضمحل، أخبر أنه هو وحده الكبير سبحانه، فمهما رأى الإنسان من شيء كبير من الأرض أو من السماء أو من الأجرام أو من الجبال، بل أي شيء يراه في نفسه عظيماً كبيراً؛ فالله أعظم وأكبر وأجل منه.
فلذلك حين يعلو الإنسان فوق جبل يقول: الله أكبر، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا نزلت من الجبل إلى الأرض قلت: سبحان الله.
وهذا مناسب للحال فإذا ارتفع الإنسان قد يظن أنه علا وبغى فيقول: الله أكبر من كل شيء.
وإذا نزل الإنسان يستشعر التواضع في النزول والانخفاض فيقول: سبحان الله، أي: لا ينحط أبداً سبحانه وتعالى، ولا ينزل نزولاً يدل على نقص، بل نزوله إلى السماء بكماله، وجلاله وقدرته وهو العلي الكبير، لا يعتريه نقص، ولا شيء مما يعتري الخلق.
قوله: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23] أي: الموصوف بالعظمة والجلال وكبر الشأن.
وقيل: الكبير من الكبرياء فله الكبرياء، والكبرياء: الكامل في ذاته سبحانه، وله الوجود العظيم الذي لا يشبهه شيء من خلقه.
قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [الحج:63] وكل إنسان يرى ذلك، فينزل من السماء الماء، قال تعالى: فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً [الحج:63] تجد أرضاً ينزل عليها من السماء المطر بالليل، فإذا بها بالنهار قد بدأت خضرتها أو أنها تكون أرضاً بوراً ثم بعد فترة ينبتها الله سبحانه.
فإما أن يكون الإصباح حقيقاً على هذا النحو، أو بعد ذلك يصير مآلها إلى الإخضرار بسبب ما أنزل الله عز وجل من الماء.
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [الحج:63] فالله لطيف خبير يعلم كل شيء، وهو لطيف بعباده عليم بخفاياهم.
فاللطف معناه: العلم الدقيق، ومن معناه: الرحمة الخفية منه سبحانه وتعالى، فقد يلاقي الإنسان في الدنيا الظلم والصعوبة والشدة ثم يلطف الله عز وجل به ويغفر لمذنبه.
وتأمل المناسبة الجميلة بين أسماء الله الحسنى، وبين ما يذكره الله سبحانه وتعالى من بديع خلقه، فالإنسان في قاحل من الأرض، وهو محتاج للماء ليشرب، وفجأة أنزل الله عز وجل من السماء ماء فارتوى الإنسان وأنبتت الأرض، فنقله بلطفه سبحانه وتعالى من حال عسر صعب شديد إلى حال فيه يسر، وفيه فضل من الله وفيه غنى؛ فيحمد العبد ربه سبحانه وتعالى عليه.
فهو اللطيف بعباده، وهو خبير، وعلمه دقيق يعلم ما خفي من أمر العباد، فقد يكون في قلب العبد اليأس والقنوط حين تأخر نزول المطر، فيعلم الله عز وجل ذلك، ويعجب من قنوط العبد، وقرب تفريجه سبحانه وتعالى لهذا الحال.
فإذا كاد العبد أن ييئس فجأة ينزل المطر بلطف الله سبحانه تبارك وتعالى، فينبت الزرع ويشرب الإنسان!
والله لطيف بأرزاق عباده، فيخرج لهم النبات من الأرض، ويعطيهم ما يحتاجونه من أشياء على قدر ما يحتاجون.
والله الحميد المستحق للحمد، والمحمود على إحسانه وإنعامه، والمحمود على جلاله وإكرامه، والمحمود على جماله وأفعاله.
فلا يحتاج إلى شيء لغناه، وهو المحمود سبحانه في كل حال، يحمده العبد في السراء فيقول: الحمد لله رب العالمين، ويحمده في الضراء فيقول: الحمد لله على كل حال، فهو المستحق للحمد؛ لأنه أهل لذلك.
نسأل الله بأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر