اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد:
قال الله عز وجل في سورة فصلت:
لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ [فصلت:49-54].
هذه الآيات الأخيرة من هذه السورة الكريمة سورة فصلت، يخبر الله عز وجل فيها عن طبيعة في كل إنسان، أنه لا يسأم، أي: لا يمل من دعاء ربه بالخير، فيدعوه طالباً للخير، وطالباً للمال، وطالباً للصحة والعافية، وطالباً للعز والسلطان، وطالباً ما يتمكن به في الأرض، وطالباً للأتباع والولد، وطالباً من الدنيا ما يريده ويشتهيه، فلا يمل أن يسأل ذلك ربه سبحانه، بل إنه يطلب منه المال والزوجة والمنصب والولد، وغير ذلك، فلا يمل من دعاء الخير، أي: من طلب المال ونعيم الدنيا، قال تعالى: لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ [فصلت:49] أي: أي شيء من الشر الذي يُرى أنه شر، وإن كان كل ما قضى الله عز وجل لعباده من قضاء فهو خير، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216] ؛ فالمقصود بالشر هنا هو ما يراه الإنسان شراً في زعمه ونظره، كأن يبتليه الله بالمرض، فهو يرى أن هذا شر أصابه، والله عز وجل يبتلي العباد إما ليكفر عنهم سيئاتهم، أو ليرفع لهم درجاتهم سبحانه تبارك وتعالى، فيبتليهم ربنا سبحانه بما قد يتألمون منه، رحمة بهم في الآخرة، سبحانه تبارك وتعالى، والعبد لا يدري أنه رحمة به، وإنما إذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ [فصلت:49] ويئوس أي: كثير اليأس، وعظيم اليأس من رحمة الله، فهو سيئ الظن بالله سبحانه تبارك وتعالى، وقد انقطع أمله في ربه سبحانه، فلا يطلب خيراً بعد ذلك، وقنوط أي: انكسر وظهر عليه أثر هذا اليأس، وأثر هذا الانكسار، والقنوط شدة اليأس، والتكرار هنا مع صيغة المبالغة بقوله: َيَئُوسٌ قَنُوطٌ أي: شديد اليأس، عظيم القنوط، وقد بدا أثر هذا اليأس على مظهر هذا الإنسان.
قال تعالى: لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً أي: أنه يتبجح الآن وينكر يوم القيامة، ويقول: ولا أظن بأنني سأرجع إلى الله، يقول: وإن فرضت بأنني سوف أرجع إلى الله فإن لي عنده الحسنى، قال تعالى عن قوله هذا: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى أي: أنه سيعطيني كذلك يوم القيامة! (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي) هذه قراءة الجمهور، وقراءة قالون وأبي عمرو وأبي جعفر : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّيَ إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى).
(فَلَنُنَبِّئَنَّ) هذا قسم، والمقسم به محذوف، والمعنى: والله لننبئنه، والذي دل على هذا القسم لام التوكيد في أول الفعل المضارع، والنون المثقلة في آخره.
(فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا) أي: فلنجازيهم، ولنكبتنهم ولنوبخنهم على ما قالوا وما عملوا.
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ، أي: شديد لا يطيقونه يوم القيامة.
وهذه الآية فيها قراءتان: َنَأى بِجَانِبِهِ ، وهذه قراءة الجمهور، بمعنى: مال بجانبه، و(نَاء بِجَانِبِه) بمعنى: بعد، وهذه قراءة ابن ذكوان وأبي جعفر ، فعلى قراءة: نأى بِجَانِبِه [فصلت:51]، فيها التقليل والإمالات لأصحاب التقليل والإمالات، فيقرؤها الأزرق عن ورش بالفتح والتقليل، ويقرؤها خلف عن حمزة والكسائي بإمالة النون وبإمالة الهمزة أيضاً، ويقرؤها خلاد عن حمزة وَنَأى بِجَانِبِهِ [فصلت:51] والمعنى على ذلك: إن الإنسان يميل بجانبه، أو يبعد بجانبه، والمعنى: تأكيد إعراض الإنسان عن ربه عندما يرى نفسه في رخاء، فتأمل حال الكثيرين من الناس في وقت الرخاء تجدهم معرضين عن الله، وإن زعموا أنهم قريبون من الله ففي وقت البلاء تجده مقبلاً على الله يدعوه، مصلياً متقرباً إلى الله بأنواع الطاعات، وأما وقت الرخاء فإنه ينسى نفسه وينسى ربه، وإن زعم أنه قريب منه، فيترك الصلاة بالكلية، ويبطر فيما آتاه الله، ويجالس أصدقاء السوء، ويذهب إلى الملاهي، ويفعل ما حرم الله سبحانه تبارك وتعالى؛ إعراضاً عن الله سبحانه، وينأى بجانبه عن ربه سبحانه.
قال سبحانه: وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ [فصلت:51] أي: عندما نؤدبه بشيء من البلاء فإنه يرجع، كما قال الله: فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [فصلت:51] أي: ينادي: يا رب يا رب، يا رب يا رب، ويرفع يديه إلى الله، ويطيل في الدعاء، وفي سؤال ربه سبحانه، أما في وقت الرخاء فإنه ينسى الله ويعرض عنه، فإذا أصابه البلاء دعا ربه سبحانه، وهذا قد يستجيب له ربه وقد لا يستجيب له.
وإذا أردت أن يستجيب الله لك في وقت بلائك، فأكثر من الدعاء في وقت رخائك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يستجاب له في وقت البلاء فليكثر من الدعاء في الرخاء) فأكثر من دعاء الله عز وجل في وقت الرخاء، وعود نفسك على أن تستمتع بالدعاء، وعلى أن تستشعر الذل بين يدي الله عز وجل، وأنك محتاج إليه، فإن الدعاء نعمة، فارفع يديك إلى الله، وادعه سبحانه تبارك وتعالى وإذا كان أكثر دعائك بالآخرة فقد من الله عز وجل عليك من فضله وكرمه، فمن الناس من تشغلهم الدنيا، ومنهم: مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:200] فكل همه سؤال الدنيا، وليس له نصيب في الآخرة.
قال الله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:201-202].
إذاً: على المؤمن أن يكثر من الدعاء في كل وقت، وأما الفاجر والشقي والكافر فإنه لا يذكر ربه إلا في وقت البلاء، فإنه يكون حينئذ ذا دعاء عريض وطويل، فهو يكثر منه في وقت البلاء.
و قُلْ أَرَأَيْتُمْ، يقرؤها نافع وأبو جعفر بالتسهيل، ويقرؤها ورش بالمد الطويل، فإذا وصل ورش فيها يقول: (قُلْ أَرَاَيْتُمْوآ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّه)، ويقرؤها الكسائي : (قُلْ أَرََيْتُمْ) بهمزة واحدة.
قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ [فصلت:52] أي: كيف يكون حالكم؟ يعني: فالإنسان لا بد أن يفكر في هذا الأمر، فيا أيها المشركون المعرضون عن الله سبحانه! أخبروني عن حالكم إذا كان هذا حقاً من عند الله وأنتم كافرون به، ماذا يكون ظنكم في الله سبحانه وتعالى؟ فلقد زعمتم أنه ليس من عند الله وقلتم: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24] وهذا فرض منكم، فافترضوا أنه حقيقة من عند الله، فماذا يكون حالكم إذا قابلتم ربكم سبحانه؟ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [فصلت:52] أي: من أشد ضلالاً من هذا الذي في شقاق بعيد، وشقاق: مأخوذ من الشق وهو الجانب، فجانب الدين في مكان وهم في شق آخر بعيدين عنه، فإذا كان هذا الشق يتسع ويبعد إلى ما لا نهاية، فإنه لن يرجع، ولا يتوقع لهذا الذي سار في شق بعيد أن يرجع إلى الحق في يوم من الأيام، فمن أضل من هذا الذي عرف طريق الله فأخذ طريقاً سواه، وسار فيه في بعد بعيد إلى أن هوى في النار والعياذ بالله، فمن أضل من هذا؟!
والجواب: لا أحد أضل من هذا الذي هو في شقاق بعيد، وفي بعد عن دين الله سبحانه وتعالى، وهو محارب ومعاد لله ولرسوله وللمؤمنين.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
سبحانه وتعالى، وسنريهم هذه الآيات في أنفسهم، كيف يأكلون ويشربون، وكيف ينظرون ويسمعون، وكيف يشمون ويحسون الأشياء، وكيف يفكرون بعقولهم، فيرون آياتنا في أنفسهم وخلقهم، قال: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى [الأعلى:2-5].
وقال: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:17-20].
فقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ أي: هؤلاء الكفار، والعجب أن أكثر من يظهر هذه الآيات ويطلع عليها هم الكفار، فتجد علماء الفلك منهم يطلعون على أشياء بعد أن تعبوا جداً حتى وصلوا إليها، وفي الأخير يجدونها مسطورة في كتاب الله سبحانه وتعالى!
وقد نقل أن هذا الرجل أسلم بعد ذلك، بعد أن أعرض عن كتاب الله سبحانه وتعالى لما سمع هذه الآيات: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، وقال: إن القمر موجود كما هو، فمتى انشق؟ وأنكر ذلك، ثم بعد ذلك اطلع على برنامج تلفزيوني ورأى المذيع وهو يسأل رواد الفضاء ويقول لهم: أنتم أنفقتم ملايين الدولارات من أجل الصعود إلى القمر في أشياء لا تعود بأي فائدة على البشرية، وقد كان الأولى أن تطعموا بها المساكين والفقراء! فقال له رائد الفضاء: نحن أنفقنا ملايين ووصلنا إلى معلومة تساوي أكثر من الذي أنفقنا، لقد اكتشفنا أن القمر انشق في يوم من الأيام، فسأله المذيع: كيف عرفتم ذلك؟ فقال: لقد صورنا القمر فوجدنا فلقة في القمر تدل على أنه في يوم من الأيام في هذا المكان انشق القمر كله، والتحم مرة ثانية، فأعاد قول رائد الفضاء هذا لهذا الذي كفر صوابه، فإذا به يرجع إلى كتاب الله، ويقرؤه ويتأمل فيه بآية رآها الكفار سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا [فصلت:53].
وكم من الآيات اطلع عليها هؤلاء الكفار وقالوها، فوجدوا مصداقها في كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى، ومن ذلك آيات خلق الإنسان من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة، فأخبر سبحانه أن الإنسان يكون مضغة، ولما ناقش الشيخ الزنداني بعض علماء الأجنة من الأجانب فيها، وقال له: ماذا تسمي هذا الطور الذي سماه ربنا مضغة؟ ولم يخبره أن الله سماه مضغة، وقد كانوا يسمون هذه المراحل أطواراً، ويقولون: الطور رقم واحد، والطور رقم اثنين، فلما سأله: إذا وصفنا هذه المرحلة فبماذا نصفها؟ فإذا بهذا الكافر يقول له: أقرب وصف لها أنها اللبانة التي تمتضغ، فقال له: وفي القرآن سماها الله عز وجل مضغة! فتعجب الرجل وقال: وهل اطلع محمد على الجنين وهو في بطن أمه؟ نحن نصور هذه الأشياء بالمناظير، فأين رأيتموها أنتم؟ فهذا لا يكون إلا من عند الله سبحانه تبارك وتعالى، يُري هؤلاء الكفار آياته فيطلعون عليها.
ويخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء الرجل وماء المرأة، وقد كان علماء الطب إلى نهاية العهد الحديث لا يعرفون ماء المرأة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، وهم يكذبون بهذا الحديث إلى أن اكتشف الكفار أن المرأة لها ماء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا علا ماء الرجل أذكر بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة آنث بإذن الله) والذي اكتشف بعد ذلك علماء الكفار وليس علماء المسلمين.
وكذلك في خلق الإنسان قال علماء الكفار: يخلق العظم أولاً، وبعده بقليل يكون اللحم، ويوجد هذا في كتاب الله، فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا [المؤمنون:14].
وكم من الآيات في كتاب الله عز وجل ولعل من أكثر الأشياء التي نعرفها ما قاله تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ [الرحمن:19-20]، أي: برزخ بين النهر وبين البحر، فلا يتملح ماء النهر ولا يحلو ماء البحر، فبين المائين منطقة وسط، لها كائناتها ولها طبيعتها ولها طعمها، خلاف هذه وخلاف هذه، ويخبر الله عز وجل بذلك، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وليس عنده نهر يصب في البحر من أجل أن يراه النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرف هذا الشيء، وإنما يري الله عز وجل الآيات لخلقه حتى يتبين لهم ويتأكدوا أن هذا كتاب الله عز وجل وأنه الحق من عند الله كما قال تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53] وكفى بالله شهيداً، فهو يشهد على العباد بما في قلوبهم مما لا ينطقون بألسنتهم به، والله يشهد على ذلك فهم يعرفون أنه الحق ويكتمون أنه الحق، ويعرفون ذلك ولا يتكلمون به وقد عرف الكفار ذلك، وذهبوا ليسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما يقرؤه من كتاب الله، ويرجع أبو جهل وأبو سفيان وغيرهم ويحلفون أن لا يرجعوا لسماع النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، ثم يرجعون مرة ثانية ليستمعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقد شهد الوليد بن المغيرة أن القرآن ليس بقول بشر، فلما ضغطوا عليه ليرجع عن كلامه قال: إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ [المدثر:24] فكتموا ما عرفوا من أنه الحق من عند الله، فقال الله: كفى أننا نشهد عليهم بذلك، بأن هذا الحق من عند الله، ونشهد عليهم بما في قلوبهم، وإن كذبوا وأعرضوا أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53]، بلى.
أَلا إِنَّهُ [فصلت:54] أي: الله عز وجل بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ [فصلت:54] أي: أحاط بكل شيء علماً، وأحاط بكل شيء قدرة، وأحاط وعلم عدد كل شيء سبحانه تبارك وتعالى.
ومحيط مأخوذة من الحيطة التي تحيط بالقوم، وتحيط بالبيت، فالله محيط، والإحاطة إحاطة علم وإحاطة قدرة، والمعنى: إنه يحيط بكم علماً وقدرة عليكم، فأين تذهبون من الله سبحانه تبارك وتعالى؟! ففيها من التهديد ما فيها، فقد علم الله كل شيء عنكم، وقد أحاط بكم قدرة وعلماً، وسترجعون إلى الله، فترون ما يكون من عذاب الله.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصلي اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر