-
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم...)
-
تفسير قوله تعالى: (ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم)
-
تفسير قوله تعالى: (قل إن الموت الذي تفرون منه...)
-
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي...)
-
تفسير قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة ...)
قال تعالى:
فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10].
قوله: (( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ )) أي: إذا أديت وفُرغَ منها.
(( فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ )) الأمر هنا في قوله: (فَانتَشِرُوا) ظاهره الوجوب، لكن هناك قرائن تفيد الإباحة، وهي أنه جاء بعد نهي، مثل قوله تعالى:
وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2] بعد النهي عن الصيد في حال الإحرام أتت الإباحة.
قوله: (( وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )) قال
سعيد بن جبير : الذكر طاعة الله تعالى، فمن أطاع الله فقد ذكره، ومن لم يطعه فليس بذاكر، وإن كان كثير التسبيح.
(( وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )) أي: اذكروا أمره ودينه وشرعهُ دائماً، لتصير ملكة لكم تظهر آثارها على أعمالكم وأخلاقكم، فتفلحوا بسعادة الدارين.
وقال
ابن جرير : أي: اذكروه بالحمد له، والشكر على ما أنعم به عليكم من التوفيق بأداء فرائضه لتفلحوا، فتدركوا طلباتكم عند ربكم، وتصلوا إلى الخلد في جنانه.
-
تفسير قوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها...)
قال تعالى:
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة:11].
(( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً )) سبب نزولها: أنه كان بأهل المدينة فاقة وحاجة، فأقبلت عير من الشام والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً.
(( أَوْ لَهْوًا )) أي: ما تلهو به النفس عن الحق والجد النافع.
(( انفَضُّوا إِلَيْهَا )) أي: أسرعوا إلى التجارة خشية أن يسبقوا إليها وإنما أوثر ضميرها فقال: (( انفَضُّوا إِلَيْهَا )) ولم يقل: (انفضوا إليهما) ولا قال: (انفضوا إليه)؛ لأن التجارة هي الأساس، أما اللهو فهو شيء تابع.
يقول الشيخ
عطية سالم رحمه الله: في عود الضمير على التجارة وحدها مغايرة لذكر اللهو معها.
قال
الزمخشري : تقديره: إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً انفضوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه.
وذكر قراءة أخرى: (انفضوا إليه) بعود الضمير إلى اللهو، وهذا التوجيه قد يسوغ لغة كما في قول
نابغة ذيبان:
وقد أراني ونعماً لاهيين بها والدهر والعيش لم يهمم بإمرار
فهنا ذكر الدهر والعيش وأعاد عليهما ضميراً منفرداً؛ اكتفاء بأحدهما عن الآخر للعلم به، وهو كما قال
ابن مالك :
وحذف ما يعلم جائز
أي: وحذف ما يعلم من السياق جائز.
فلم يقل: (يهمّا)، فهو كقوله:
سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل:81] أي: تقي الحر وتقي البرد، فاكتفى بذكر أحدهما لدلالته على الآخر.
لكن المقام هنا خلاف ذلك، وقد قال الشيخ
الشنقيطي رحمه الله تعالى عن هذه الآية في دفع إيهام الاضطراب: لا يخفى أن أصل مرجع الضمير هو الأحد الدائر بين التجارة واللهو.
أي: أن الضمير يعود إلى أحد الأمرين التجارة أو اللهو.
قال: بدلالة لفظة (أو) على ذلك.
أي: فإنه قال: (( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا )) أي: إذا رأوا أحد الأمرين.
قال: ولكن الضمير رجع إلى التجارة وحدها دون اللهو، فبينه وبين مفسره بعض منافاة في الجملة.
والجواب: أن التجارة أهم من اللهو، وأقوى سبباً في الانفضاض عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم انفضوا من أجل العير، واللهو كان من أجل قدومها.
مع أن اللغة يجوز فيها رجوع الضمير لأحد المذكورين قبله، أما في العطف بـ(أو) فواضح، كقوله تعالى:
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا [النساء:112]، وأما (الواو) فهو فيها كثير مثل قوله تعالى:
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا [البقرة:45].
وقوله تعالى:
وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ [التوبة:62].
وقوله تعالى:
وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:34].
قوله تعالى:
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا [النساء:112] الخطيئة والإثم متساويان في النهي والعصيان.
وكذلك قوله:
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45] فالصبر هو حبس النفس على الطاعة، والصلاة هي جزء من الصبر، ووجود الأخف يقتضي وجود الأعم؛ لأن الصلاة وسيلة للصبر: (
وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة).
كذلك قوله:
وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا [التوبة:34] فالضمير في قوله: (ولا ينفقونها) عائد على الفضة؛ لأن كنز الفضة أكثر، وصورة الكنز حاصلة فيها بصفة أوسع لدى كثير من الناس، فكان توجيه الخطاب إليهم بها أولى، والقيمة النقدية للفضة أقل والذهب أعظم، فكأن هذا تنبيه بالأدنى على الأعلى، فكأنه أشمل وأعم وأشد تخويفاً للناس!
أما الآية هنا فإن التوجيه الذي وجهه الشيخ رحمه الله تعالى لعود الضمير على التجارة، فإنه في السياق ما يدل عليه، وذلك في قوله تعالى بعدها: (( قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ )) فذكر السببين المتقدمين لانفضاضهم عنه صلى الله عليه وسلم، ثم عقبه بقوله تعالى، بالتذييل المشعر بأن التجارة هي الأصل بقوله تعالى:
وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة:11] والرزق ثمرة التجارة.
ونقل
أبو حيان عن
ابن عطية : تأمل إن قدمت التجارة على اللهو في الرؤيا؛ لأنها أهم، وأُخرت مع التفضيل؛ لتقع في النفس أولاً على الأبين.
يريد بقوله: (في الرؤيا) قوله: (( وَإِذَا رَأَوْا )) وبقوله: (مع التفضيل) قوله: (( قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ )) أي: لأن اللهو أبين في الظهور.
يقول: والذي يظهر والعلم عند الله تعالى أنه عند التفضيل ذكر اللهو للواقع فقط؛ لأن اللهو لا خير فيه مطلقاً فليس محلاً للمفاضلة، وأخر التجارة لتكون أقرب للرزق؛ لارتباطهما معاً؛ لأن التجارة من الأصلح كونها عند الله خيراً من اللهو.
فلو قدمت التجارة هنا لكان ذكر اللهو فاصلاً بينها، فلو قال: (قل ما عند الله خير من التجارة ومن اللهو والله خير الرازقين). لكان أنسب أن تؤخر التجارة حتى تكون ملتصقة بما هو مرتبط بها وهو الرزق.
وقال
الشهاب في قوله تعالى: (( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً )): كما قلنا إنها التجارة.
(( أو لهواً )) أي: ما تلهو به النفس عن الحق والجد والنفع.
(( انفَضُّوا إِلَيْهَا )) أي: أسرعوا إلى التجارة خشية أن يسبقوا إليها، وإنما أوثر ضميرها لأنها الأهم والمقصود.
(( وَتَرَكُوكَ قَائِمًا )) على المنبر.
(( قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ )) أي: من الثواب المرجو بسماع الخطبة والعظة بها.
(( خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ )) ؛ لأن الثواب مخلد نفعه، بخلاف ما يتوهمونه من التجارة فثوابها نافذ.
وقال
الشهاب أيضاً: وتقديم اللهو؛ لأنه أقوى مذمة، فناسب تقديمه في مقام الذم.
(( وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ )) لأنه يرزق من يؤمن به ويعبده، ويرزق من يكفر به ويجحده، فهو يعطي من سأل ويبتدئ بالإعطاء من لا يسأل، وغيره إنما يرزق من يرجو منفعته ويقدر على خدمته، ويقبل على خدمته، حتى الذي يعطي شخصاً فقيراً صدقات مثلاً فهو يعطيه هذه النفقة لأجل منفعة، وهي أنه يقصد بذلك الثواب والأجر في الآخرة، أما الله سبحانه وتعالى فهو الغني الحميد، والله غني عن عباده، فقوله تعالى: (( وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ )) أي: اعملوا الأعمال الباقية عنده، فإنها خير من الأمور الفانية عندكم، وفوضوا أمر الرزق إليه بالتوكل والثقة بفضله فإنه خير الرازقين.
-
تنبيهات وأحكام تؤخذ من سورة الجمعة
التنبيه الأول: قد عرفنا الارتباط الموضوعي بين الآيات في الجزء الأول من السورة:
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ *
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة:2-4] ، ثم قال:
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ [الجمعة:5]
وتكلمنا عن الارتباط بين هذه وبين ما قبلها:
كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة:5] .. إلى قوله تبارك وتعالى: (( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا )) ، ثم قال تعالى بعد قوله:
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ.. [الجمعة:8] إلى آخر الآية، ثم (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ )).
يقول
الرازي : وجه تعلق آية الجمعة بما قبلها، هو أن الذين هادوا يفرون من الموت بمتاع الدنيا وطيباتها، والذين آمنوا يبيعون ويشرون بمتاع الدنيا وطيباتها كذلك، فنبههم الله تعالى بقوله: (( فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ )) إلى ما ينفعهم في الآخرة وهو حضور الجمعة؛ لأن الدنيا وما فيها فانية، والآخرة وما فيها باقية، قال تعالى:
وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:17].
ووجه آخر في التعلق، قال بعضهم: قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث: افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه، فكذبهم بقوله: (( فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ))، وافتخروا بأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم، فشبههم بالحمار يحمل أسفاراً، وافتخروا بالسبت وأن ليس للمسلمين مثله فشرع الله للمسلمين يوم الجمعة.
قال
المهايمي في وجه المناسبة: بيَّن تعالى أن مقتضى الإيمان الاجتماع على الخير، لاسيما الشكر على الإنسانية؛ لئلا تنقلب حمارية أو بهيمية، في مقابلة اجتماع أهل الكتاب على الشر الذي جرهم إلى الحمارية أو البهيمية.
التنبيه الثاني: وقال
السيوطي في الإكليل في قوله تعالى: (( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ )): فوائد الآية باختصار : مشروعية صلاة الجمعة والأذان لها، والسعي إليها، وتحريم البيع بعد الأذان، واستدل بالآية من قال: إنما يجب إتيان الجمعة على من كان يسمع فيها النداء، واستدل بها من قال: لا يحتاج إلى إذن السلطان؛ لأنه تعالى أوجب السعي ولم يشترط إذن أحد، ومن قال: لا تجب على النساء لعدم دخولهن في خطاب الذكور.
وقال في الإكليل في قوله تعالى: (( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ )) فيها إباحة الانتشار عقب الصلاة فيستفاد منه تقديم الخطبة عليها.
ونحن نعرف أن صلاة الجمعة لابد لها من خطبة، والدليل على وجوب الخطبة من السورة قوله تعالى:
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [الجمعة:11] لولا أن حضور الخطبة والإنصات إليها واجب، لما عاب الله تركهم للخطبة؛ لأن قوله: (( وَتَرَكُوكَ قَائِمًا )) أي: قائماً في حال الخطبة.
وأيضاً يؤخذ من هذا: أن الأصل في الإمام أن يخطب خطبة الجمعة قائماً.
كذلك يؤخذ منها: تقديم الخطبة على الصلاة، بدليل قوله تعالى: (( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ )) بخلاف صلاة العيد فإن الخطبة تأتي بعد الصلاة.
في الجمعة تكون الخطبة أولاً ثم الصلاة ثم الانتشار، وهذا هو الذي يفهم من الآية: (( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ )) أي: يفهم أن الخطبة تكون مقدمة على الصلاة؛ لأنه لا يشرع بعد أدائها صلاة ما، غير أنه صلى الله عليه وسلم كان يتنفل بعدها في بيته ركعتين أو أربعاً، وأما اعتقاد فرضية الظهر بعدها إذا تعددت فتعصب مذهبي لا برهان له.
يقول
القاسمي : الحاجة في هذه الأوقات تدعو إلى أكثر من جمعة، إذ ليس للناس جامع واحد يسعهم ولا يمكنهم إقامة جمعة واحدة أصلاً، إلا أن خروجها إلى حد أن لا فرق بينها وبين بقية الصلوات في كثير من المساجد الصغيرة، التي لم تشيد لمثلها قد هول فيه
السبكي في فتاوية؛ لأنه مما تأباه مشروعيتها وما مضى عليه عمل القرون الثلاثة، بل تسميتها جمعة على وزن وصيغة (فُعلة) في اللغة للمبالغة، وبالجملة فالجوامع الكبار التي تؤمها الأقوام يوم الجمعة، ويحتاج لإقامتها فيها حاجة بينة لمجاوريها، هي التي لا خلاف في جوازها مهما تعددت والتي لا تعاد الظهر بعدها.
التنبيه قبل الأخير: يدل قوله تعالى: (( وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ )) على عدم مشروعية تعطيل يوم الجمعة، ففيه تعريض بمجانبة التشبه بأهل الكتاب في تعطيل يومي السبت والأحد، والأصل أن كل ما لم ينص عليه الكتاب الحكيم ولا الهدي النبوي فهو تشريع ما لم يأذن به الله، وإذا رفع الله بفضله عنا الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا، فما بالنا نستدرها إلينا بالأسباب الضعيفة، اللهم غفراً.
إذاً: التحذير من التشبه باليهود أو بالنصارى وبالذات اليهود في موضوع يوم السبت؛ لأن بعض المسلمين قد يلزم نفسه بأشياء أو يمتنع عن فعل أشياء يوم الجمعة تعظيماً ليوم الجمعة، مثلاً: بعض النساء قد تمتنع من غسيل الملابس أو تنظيف البيت يوم الجمعة، فهذا فيه تشبه باليهود الذين يمتنعون عن الأعمال يوم السبت، ويجعلون ذلك من تعظيم يوم السبت، فمن ثم استحب بعض العلماء الشروع في التجارة والعمل عقب صلاة الجمعة مباشرة؛ امتثالاً لقوله تعالى: (( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ )).
التنبيه الأخير: قال في الإكليل في قوله تعالى:
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [الجمعة:11]: يؤخذ منه مشروعية الخطبة والقيام فيها واشتراط الجماعة في الصلاة، وسماعهم الخطبة، وتحريم الانفضاض، وفي الصحيحين عن
جابر رضي الله عنه قال: (
قدمت عير مرة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فخرج الناس وبقي اثنا عشر رجلاً، فنزلت: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [الجمعة:11]).
وروى
ابن جرير عن
جابر قال: (
كان الجواري إذا نكحوا يمرون بالكبر والمزامير ويتركون النبي صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر وينفضون إليها، فأنزل الله تعالى: (( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا ))).
هذا آخر ما تيسر في تفسير سورة الجمعة، والله أعلم.