-
تفسير قوله تعالى: (الر تلك آيات الكتاب الحكيم)
-
تفسير قوله تعالى: (أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم...)
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ [يونس:2].
هذا تعجب من تعجبهم، ولذلك هذا الاستفهام تعجبي ((أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا)).
((أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ)) هل هذا شيء يستحق أن يتعجبوا منه، بل هذا منهم أعجب!
((وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) الهمزة لإنكار تعجبهم، وللتعجيب من هذا الإنكار، وإنما أنكر ذلك لكون سنة الله جاريةً على هذا الأسلوب في الإيحاء إلى الرجال، كما قال عز وجل في الآية الأخرى:
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:9] أي: لست أول رسول من البشر يرسل إليه من عند الله سبحانه وتعالى، وإنما هذه سنة الله سبحانه وتعالى، وقوله عز وجل:
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7].
وإنما كان تعجبهم لبعدهم عن مقامه، وعدم مناسبة حالهم لحاله ومنافاة ما جاء به لما اعتقدوه.
(( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ )) (قدم صدق) أي: السبق باعتبار أن القدم هي آلة السبق.
فليس المقصود بالقدم هنا القدم الجارحة، وإنما المقصود السبق؛ لأن السبق لا يكون إلا عن طريق الأقدام، كما يطلقون اليد على النعمة، يقال: فلان له عندي أيادٍ كثيرة، أو: لولا يد لك عندي لم أجزك بها لرددت عليك، كما قال المشرك لـ
أبي بكر رضي الله تعالى عنه في صلح الحديبية، وذلك لأن الإحسان غالباً ما يكون باليد، وكما تطلق العين على الجاسوس؛ لأنه يستعمل عينه للتجسس، كذلك الرأس تطلق على الرئيس.
ثم إن السبق مجاز عن الفضل والتقدم المعنوي إلى المنازل الرفيعة، هذا هو الاحتمال الأول.
وقيل: القدم بمعنى المقام كقوله تعالى:
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:55].
بإطلاق الحال، وإرادة المحل، وإضافته إلى الصدق من إضافة الموصوف إلى الصفة فقال: (قدم صدق).
وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق، وتنبيه على أنهم إنما نالوا ما نالوا بصدقهم ظاهراً وباطناً.
(( قَالَ الْكَافِرُونَ )) أي: هؤلاء المتعجبون (( إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ )) كما هي قراءة
حفص عن
عاصم، على أن الإشارة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أما إذا قرأناها (إن هذا لسحر مبين) أي: أن هذا القرآن سحر مبين.
وهذا دليل عجزهم وأنهم كانوا كاذبين في تسميته سحراً؛ وذلك لأن التعجب أولاً، ثم التكلم بما هو معلوم الانتفاء قطعاً حتى عند المعارض، هو دأب العاجز؛ لأنه ليس عنده أي حجة يواجه بها هذا الحق، فهو يتعجب!
-
تفسير قوله تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض...)
-
تفسير قوله تعالى: (إليه مرجعكم جميعاً وعد الله حقاً...)
-
تفسير قوله تعالى: (هو الذي جعل الشمس ضياءً...)
قال تعالى:
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس:5].
نبه تعالى للاستدلال على توحيده في ربوبيته بآثار صنعه في النيرين، وهما الشمس والقمر، والاستدلال بما مر من إبداع السماوات والأرض، فقال عز وجل: ((هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً))[يونس:5] (ضياءً) أي: للعاملين بالنهار.
((وَالْقَمَرَ نُورًا)) أي: بالليل، والضياء أقوى من النور.
((وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ)) إما أن الضمير هنا يعود على الشمس والقمر بتأويل كل واحد منهما، أي: قدر الشمس منازل وقدر القمر منازل، أو أن الضمير يعود فقط على أقرب مذكور وهو القمر.
وخص القمر دون الشمس بأنه قدر منازل، كما قال تبارك وتعالى في الآية الأخرى:
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:39] لكون منازله معلومةً محسوسة، وتعلق أحكام الشريعة به، وكونه عمدةً في تواريخ العرب.
((لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)) أي: حساب الشهور والأيام مما نيط به المصالح في المعاملات والتصرفات.
((مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ)) أي: بالحكمة البالغة.
((يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) أي: يبين الآيات التكوينية أو التنزيلية؛ لأن الآيات إما تكوينية مبثوثة في السماوات والأرض، وإما آيات تنزيلية مما يأتي في الوحي الشريف.
فهو يبين الآيات التكوينية أو التنزيلية المنبهة على ذلك.
((لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) الحكمة في إبداع الكائنات، فيستدلون بذلك على وحدانية مبدعها.
قال
السيوطي : هذه الآية أصل في علم المواقيت والحساب، ومنازل القمر والتاريخ.
-
تفسير قوله تعالى: (إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون ...)
لقد نبه للاستدلال على وحدانيته سبحانه أيضاً بقوله عز وجل:
إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس:6].
((إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)) أي: في تعاقبهما، وكون كل منهما خلفةً للآخر.
((وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) أي: من الشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب والجبال والبحار وغير ذلك.
((لَآيَاتٍ)) أي: لآيات عظيمةً دالةً على وحدانية مبدعها وكمال قدرته وحكمته.
ومعنى
((لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ)) أي: يتقون الله ويخافون العاقبة.
وخص المتقين؛ لأنهم المنتفعون بنتائج التدبر فيها، فإن الداعية إلى النظر والتدبر إنما هو تقواه تعالى، والحذر من العاقبة.
وفي هذه الآيات إشارة إلى أن الذي أوجد هذه الآيات الباهرة، وأودع فيها المنافع الظاهرة، وأبدع في كل كائن صنعه، وأحسن كل شيء خلقه، وميز الإنسان وعلمه البيان، يكون من رحمته وحكمته اصطفاء من يشاء لرسالته؛ ليبلغ عنه شرائع عامة، تحدد للناس سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم في الآخرة.
-
تفسير قوله تعالى: (إن الذين لا يرجون لقاءنا... بما كانوا يكسبون)
-
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم)
-
تفسير قوله تعالى: (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام...)
قال تعالى:
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10].
((دَعْوَاهُمْ فِيهَا)) أي: دعاؤهم ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ)).
ومعنى قوله: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ)) أي: اللهم إنا نسبحك، كقول القانت: اللهم إياك نعبد، يقال: دعا يدعو دعاءً ودعوى، كما يقال: شكا يشكو شكايةً وشكوى، فإذاً دعواهم هنا تساوي الدعاء، ويجوز أن يراد بالدعاء العبادة، ونظيره قوله تعالى:
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مريم:48] أي: وما تعبدون من دون الله.
((وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ)) أي: تحيتهم التي يحيي بها بعضهم بعضاً هي أنهم يسلم بعضهم على بعض.
أو أنها تحية الملائكة إياهم بالسلام، كما في قوله تعالى:
وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ *
سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ [الرعد:23-24].
أو هي تحية الله عز وجل لهم، كما في قوله تعالى:
سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58] والتحية التكرمة بالحالة الجلية، أصلها أحياك الله حياةً طيبة، والسلام: بمعنى السلامة من كل مكروه.
((وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ)) أي: وخاتمة دعائهم هو التحميد بقولهم: ((أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) يعني: أن أول دعائهم (سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام) وآخر دعائهم ((أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) فهم يختمون دعاءهم بحمد الله سبحانه وتعالى.
والمراد من الآيات أن دعاء أهل الجنة وعبادتهم هو قولهم: سبحانك اللهم وبحمدك كما في الحديث الصحيح، مع أنهم في دار ليست دار تكليف وليست بدار عبادة، لكنهم يلهمون التسبيح كما تلهمون النفس، فالذي ينام ليس هو الذي يتولى تنظيم تنفسه، وضربات قلبه، وخلجات عضلاته، فكذلك أهل الجنة ليسوا في دار تكليف، فلذلك هذا التسبيح يخرج منهم إلهاماً من الله سبحانه وتعالى.
في كثير من النصوص يقرن التسبيح بالتحميد، فإن قلت: سبحان الله وبحمده، أو سبحانك اللهم وبحمدك، فمعنى سبحانك: هو تنزيه الله سبحانه وتعالى عما لا يليق أن ينسب إليه.
أما الحمد فهو إثبات ما يليق من صفات الكمال والجمال والجلال.
وفي القرآن الكريم يربط التسبيح بالتحميد كما في قوله تعالى:
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44] لكن الصيغة الغالبة هي سبحانك اللهم وبحمدك. أي: أقول ذلك متلبساً بحمدك.
فهنا عدل عن هذه الصفة كما يقول
القاسمي هنا.
والمراد من الآيات أن دعاء أهل الجنة وعبادتهم هو قولهم: سبحانك اللهم وبحمدك، وإيثار التعبير عن (وبحمدك) بقوله: ((وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) رعايةً للفواصل، واهتماماً بالحمد وما معه من النعوت الجليلة.
والآية تدل على سمو هذا الذكر؛ لأنه دعاء أهل الجنة، ولأنه ذكر الملائكة كما قالوا:
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30] ولذلك يفضل الإمام
أحمد أن يقال بعد تكبيرة الإحرام في دعاء الاستفتاح: (
سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)؛ لأن فيه ثناءً محضاً، وفيه الاشتغال بالثناء على الله سبحانه وتعالى، وهو أفضل من الاشتغال بالسؤال، وفي كل خير.
قال
الرازي : لما استسعد أهل الجنات بذكر سبحانك اللهم وبحمدك، وعاينوا ما فيه من السلامة عن الآفات والمخافات، علموا أن كل هذه الأحوال السنية والمقامات القدسية، إنما تيسرت بإحسان الحق سبحانه وتعالى وإفضاله وإنعامه، فلا جرم لم يشتغلوا إلا بالحمد والثناء، هذا هو دعاؤهم أوله: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ)) وآخره: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).
الحكمة من تأخير العذاب إلى يوم القيامة
-
تفسير قوله تعالى: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير...)
-
تفسير قوله تعالى: (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه... لننظر كيف تعملون)
-
تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات....)
قال تعالى:
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [يونس:15].
يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش بحيث إذا قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الله وحججه الواضحة قالوا له: ((ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا)) أي: جئنا بغيره من نمط آخر ((أَوْ بَدِّلْهُ)) إلى وضع آخر، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي)) أي: ليس ذلك إلي، إنما أنا مبلغ عن الله تعالى.
ويلاحظ أن الجواب انصب على التبديل فقط، أي: أما هذا الذي تطلبونه فشيء مستحيل وغير ممكن على الإطلاق، وبالتالي لا ننشغل بالرد عليه؛ لأن طلبهم ((ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا)) لا يستأهل أن يلتفت إليه فأهمل هذا الطلب.
وهم في الحقيقة لا يسألون استرشاداً وطلباً للهداية، وإنما يسألون تعنتاً، فما دامت الحجة قد قامت عليهم والبراهين موجودة، لا يجيبهم الله إلى كل ما طلبوه؛ لأن طلب المزيد من الآيات والمزيد من الاقتراحات على الله سبحانه وتعالى وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم لا يزيدهم إلا عتواً ونفوراً، فاكتفى بالجواب عن التبديل، للإيذان باستحالة ما اقترحوه في قولهم: ((ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا)) فبطلانه من الظهور بحيث لا حاجة إلى بيانه.
إن التصدي لذلك من قبيل المجاراة مع السفهاء، والقرآن الكريم لا يجاريهم في كل ما يطلبونه، فهذا من باب الإعراض عن السفهاء، وعدم مجاراتهم في سفاهتهم؛ لأن مثل ذلك الاقتراح: ((ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا)) لا يمكن أن يصدر من إنسان عاقل، إنما يصدر من سفيه مغرق في السفاهة والضلال، ولأن ما يدل على استحالة الثاني يدل على استحالة الأول بطريق الأولى، فإذا كان التبديل غير ممكن للرسول عليه الصلاة والسلام من تلقاء نفسه، فالإتيان بغيره أولى ألا يمكن، فما بالكم تطلبون بأن يأتي بقرآن آخر غير هذا القرآن؟
فهذا نفي للاحتمال الأول بطريق القياس الجلي أو بقياس الأولى، فهو جواب عن الأمرين بحسب المآل والحقيقة.
((إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي)) أي: بالتبديل والنسخ من عند نفسي، ((عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)).
قال
الزمخشري : فإن قلت: فما كان غرضهم وهم أدهى الناس وأمكرهم في هذا الاقتراح؟ قلت: الكيد والمكر، أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ففيه أنه من عندك.
أي: هذا كلام خبيث يقصدون به: ما دام أنك فأنت الذي تأتي بقرآن ائت بقرآن، كما يقول المستشرقون والكفرة أعداء الإسلام: قال محمد في القرآن الكريم.
فهؤلاء يعتبرونها قضية تأليف.
ثم يقول
الزمخشري : وأنك قادر على مثله، فأبدل مكانه آخر، وأما اقتراح التبديل والتغيير، فللطمع ولاختبار الحال، وأنه إن وجد منه تبديل، فإما أن يهلكه الله فينجوا منه، أو لا يهلكه فيسخروا منه، ويجعلوا التبديل حجة عليه وتصحيحاً لافترائه على الله.
-
تفسير قوله تعالى: (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم...)
لما بين بطلان ما اقترحوا الإتيان به واستحالته، أشار إلى تحقيق أحقية القرآن وكونه من عنده تعالى بقوله :
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [يونس:16].
((قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ)) قال
الزمخشري : يعني: أن تلاوته ليست إلا بمشيئة الله وإحداثه أمراً عجيباً خارجاً عن العادات، وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم، ولم يستمع، ولم يشاهد العلماء ساعةً من عمره، ولا نشأ في بلد فيه علماء فيقرأ عليكم كتاباً فصيحاً يقهر كل كلام فصيح، ويعلو على كل منثور ومنظوم، مشحوناً بعلوم من علوم الأصول والفروع، وأخبار مما كان وما يكون، ناطقاً بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله ولا يخفى عليكم شيء من أسراره عليه الصلاة والسلام، وما سمعتم منه حرفاً من ذلك ولا عرفه به أحد من أقرب الناس منه وألصقهم به.
((وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ)) أي: ولا أعلمكم به على لساني.
((فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ)) أي: من قبل نزول القرآن الكريم لا أتعاطى شيئاً مما يتعلق بنحوه، ولا كنت متواصفاً بعلم وبيان فتتهموني باختراعه.
((أَفَلا تَعْقِلُونَ)) أي: أفلا تتدبرون؟! ألا تعملون عقولكم وتتفكرون، فتعلموا أنه ليس إلا من عند الله لا من مثلي؟
ثم قال
الزمخشري : وهذا جواب عما دسوه تحت قولهم: ((ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا)) من إضافة الافتراء إليه.
وتعبير
الزمخشري تعبير دقيق.
ورأى
أبو السعود أن الأنسب ببناء الجواب فيما سلف على مجرد امتناع صدور التغيير والتبديل عنه عليه الصلاة والسلام؛ لكونه معصية موجبة للعذاب العظيم
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15] واقتصار حاله عليه الصلاة والسلام على اتباع الوحي؛ لأنه أجابهم بقوله: ((قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)) أي: أنا متبع ولست مبتدعاً.
وامتناع الاستبداد بالرأي من غير تعرض هناك ولا هاهنا؛ لكون القرآن في نفسه أمراً خارجاً عن طوق البشر؛ لأن من وجوه الرد على هذا الطلب أن القرآن فوق طاقة البشر، ولم يتعرض أيضاً لكونه عليه الصلاة والسلام غير قادر على الإتيان بمثله.
فالقرآن الكريم في هذه الآية يرد على هذا الافتراء منهم، وذلك بدعوتهم إلى إعمال عقولهم في التدبر بجانب هذه الاعتبارات التي ذكرناها، ليتدبروا في حاله، هل أنتم لا تعرفونه قبل النبوة؟ أنتم تعرفونه جيداً.
فهو يستشهد هنا على المطلوب بما يلائم ذلك من أحواله المستمرة في تلك المدة المتطاولة، من كمال نزاهته عما يوهم شائبة حضور الكذب والافتراء عنه في حق أحد كائناً من كان: ((فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ)) أي: عشت فيكم أربعين سنة أو أكثر من أربعين سنة، وما جربتم علي كذباً قط، حتى إنهم كانوا يسمونه: الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام، والله تبارك وتعالى قال لهم أيضا:
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [المؤمنون:69] أي: فهو لم يظهر فيهم بين عشية وضحاها، بل هم يعرفون جيداً أنه أمي، وأنه في الفترة التي عاش بين ظهرانيهم لم يؤخذ عليه أبداً أي شائبة كذب أو افتراء في حق أي مخلوق من الناس كائناً من كان.
يقول تعالى:
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ [يونس:17].
في هذه الآية تظليم الذي يفتري على الله الكذب، أو يقول: ((أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ))، أي: أن أقبح معصية في الوجود أن يكذب على الله، فإذا كان صلى الله عليه وسلم يتنزه عن الكذب على الناس وأنتم تشهدون بصدقه، فهل يتصور عاقل أن شخصاً يترك الكذب على الناس ثم يكذب على الله ويدعي أنه رسول كذباً وافتراء؟! هذا لا يمكن أن يقع، ولذلك استدل هنا بسيرته السالفة فيهم: ((فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ)) تعرفون خلقي، وتعرفون نزاهتي عن الكذب، وقد لبثت فيما بين ظهرانيكم قبل الوحي لا أتعرض لأحد قط بتحكم ولا جدال، ولا أحوم حول مقال فيه شائبة شبهة فضلاً عما فيه كذب أو افتراء، ((أَفَلا تَعْقِلُونَ)) أن من هذا شأنه مستحيل أن يفتري على الله، فلا يعقل أن يفتري الرسول على الله شريعة يترتب عليها سلب الأموال وسفك الدماء.. وغير ذلك من عند نفسه، إنما الذي أتى به وحي مبين، تنزيل من رب العالمين لا شك في ذلك.
وهذا هو المعنى الذي اقتصر عليه
ابن كثير ، ثم استشهد بقول
هرقل ملك الروم لـ
أبي سفيان ، حيث أوقف خلفه من كان مع
أبي سفيان من تجار المشركين فقال
هرقل لهم: إذا جربتم عليه أي كذب فنبهوني بأنه يكذب، فقال
أبو سفيان : فوالله لولا الحياء من أن يؤثر علي الكذب لكذبت عليه.
فقال له
هرقل: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال. أي: من أنه رسول من عند الله؟
قال
أبو سفيان فقلت: لا.
وكان
أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين، ومع هذا اعترف بالحق، والفضل ما شهدت به الأعداء.
فقال له
هرقل بعد ذلك: أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم ليكذب على الله.
فـ
هرقل كبير النصارى وعظيمهم، ومع ذلك شهد بالحق، وكذلك
أبو سفيان نفى عنه الكذب فكلاهما نزهاه عن الكذب والافتراء.
وقال
جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة: بعث الله فينا رسولاً نعرف صدقه ونسبه وأمانته، وقد كانت مدة مقامه بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة.
وعن
ابن المسيب أنها كانت ثلاثاً وأربعين سنة، والصحيح المشهور الأول.
فمن أجل ذلك قال تبارك وتعالى: ((قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)).
-
تفسير قوله تعالى: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً...)
-
تفسير قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم...)
قال تعالى:
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس:18].
((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ)) أي: الأوثان التي هي جماد لا تقدر على نفع ولا ضر، والمقصود أن المعبود من شأنه أن يقدر على النفع والضر، وهؤلاء يعبدون ما لا ينفعهم وما لا يضرهم، إذاً لا يستحقون العبادة.
((وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ)) أي: أتخبرونه بكونهم شفعاء عنده؟ وهو إنباء بما ليس بمعلوم لله، يعني: هل تخبرون الله بشيء هو لا يعلمه؟
إن هذا الشيء الذي تقولونه معدوم لا وجود له، فلذلك يقول تعالى هنا: ((قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ)).
الله سبحانه وتعالى لا يغيب عنه شيء، وهو عليم بكل شيء، وهو العالم المحيط بجميع المعلومات.
فإن قلت: كيف أنبئوا الله بذلك؟ قلت: هو تهكم بهم؛ لأنهم لم يقولوا: نحن نخبر الله بأن هؤلاء شفعاؤنا عند الله، أو نعلم الله بما لا يعلمه، لكن الأسلوب تهكم، أي: أنكم تفترون على الله، فمن أين لكم أن هؤلاء يشفعون لكم عند الله؟ أهو أخبركم بذلك أم عندكم علم ليس عند الله؟! فهو تهكم بهم وبما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام، وإعلام بأن الذي أنبئوا به باطل.
وقوله: ((قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ)) تأكيد لنفي هذا الزعم الذي يزعمونه، وهو غير موجود لا في السماوات ولا في الأرض، فإذاً هو شيء منتفٍ معدوم لا وجود له.
((سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) أي: عن الشركاء الذين يشركونهم به، أو عن إشراكهم.
-
تفسير قوله تعالى:(وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا...)
-
تفسير قوله تعالى: (ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه...)
-
تفسير قوله تعالى: (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء منهم ...)
أكد تعالى ما هم عليه من العناد واللجاج، مشيراً إلى أنهم لا يذعنون ولو أجيبوا لمقترحهم، بما يعهد منهم من عدولهم عنه تعالى بعد كشف الضر عنهم إلى الإشراك فقال عز وجل:
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ [يونس:21].
فهذه عادتهم المضطربة أنهم يلجئون إليه سبحانه وتعالى عند الشدائد، ثم إذا كشف عنهم الضر عادوا لسيرتهم الأولى، فهذا أمر معتاد منهم.
وقوله: ((مَسَّتْهُمْ)) أي: خالطتهم حتى أحسوا بسوء آثارها فيهم.
((إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا)) أي: يتبين مكرهم ويظهر كامل شركهم، فهم في وقت الضراء في الإقبال عليه تعالى لكشفها كالمخادع الذي يظهر خلاف ما يبطن، ثم ينجلي أمره بعد، فيمكرون بآيات الله سبحانه وتعالى:
((قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا)) أي: أن عذابه أسرع وصولاً إليكم مما يأتي منكم في دفع الحق، وتسمية العقوبة بالمكر؛ لوقوعها في مقابلة مكرهم وجوداً أو ذكراً.
((إِنَّ رُسُلَنَا)) أي: الذين يحفظون أعمالكم.
((يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ)) أي: مكركم، وهو تحقيق للانتقام، مع أن ما دبروا في إخفائه غير خاف على الحفظة فضلاً عن العليم الخبير الذي لا يغيب عنه شيء من ذلك.
-
تفسير قوله تعالى: (هو الذي يسيركم في البر والبحر ... )
-
تفسير قوله تعالى: (فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق...)
قال تعالى:
فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [يونس:23].
((فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)) أي: يفسدون في الأرض بغير الحق، ويسارعون إلى ما كانوا عليه من الشرك ونحوه.
والحقيقة أن الإنسان يعجب ممن يواقعون الشرك في زماننا ممن ينتسبون للإسلام، كم نسمع قصصاً وأساطير وخرافات أنه لما غرق مركب شخص قال: يا سيدي
عبد القادر لو أنجيتني سأعمل كذا وكذا، فلما دعا السيد
عبد القادر هذا أنجاه!
ثم ينشر مثل هذه الأكاذيب والأساطير وتروج في الناس.
وتمر مثل هذه الشركيات ولا كأن هؤلاء ناس موحدون يشهدون أن لا إله إلا الله، بينما المشركون الوثنيون يخلصون الدعاء لله عند الشدة، أما هؤلاء فهم يشركون بالله سبحانه وتعالى في الشدة، فهذا مما حذا ببعض العلماء إلى أن يقول: إن مشركي الزمان الأول كانوا أفضل من مشركي زماننا، أي لأن هؤلاء حينما يقعون في الشدة يدعون
الدسوقي و
البدوي و
الحسين وغير هؤلاء.
كل بلد لها قصة وأساطير يتداولونها ويزينها الشيطان لهم؛ حتى يضلهم عن التوحيد.
يوجد في مسجد قبر لشخص اسمه
سيدي العوام، وهو بحار يوناني غرق في المركب فقذفت به الأمواج على الشاطئ، وهو الآن يعبد من دون الله في مدينة مطروح، ومسجد العوام أكبر مسجد.
بعض الناس كما حكى بعض العلماء في كتبهم: أنه في المحكمة يأتي الشخص ويحلف كذباً يميناً غموساً باسم الله سبحانه وتعالى وبمنتهى السهولة، وإذا قيل له: احلف بالولي الفلاني يتلعثم ويقول الحق وينفي ما قاله من قبل.
الحقيقة هناك مظاهر من الشرك في غاية الخطورة.
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) أي: الناسين نعمة الخلاص بالإخلاص، نسيتم نعمة النجاة التي حصلت لكم بسبب أنكم دعوتم الله وحده مخلصين له الدين، ونعمة استجابة الدعاء الذي زعمتموه.
((إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)) هذا الفساد الذي اقترفتموه وباله عليكم ((مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) فقط، ((ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)) أي: في الدنيا، وهو وعيد بأن الله سوف يجازيهم على هذا البغي.
أقوال المفسرين في قوله تعالى: (إنما بغيكم على أنفسكم...)
قال
القاشاني معلقاً على عن قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:23] البغي ضد العدل، فكأن العدل فضيلة شاملة لجميع الفضائل، وهيئة وحدانية لها فائضة من نور الوحدة على النفس، فالبغي لا يكون إلا عن غاية الانهماك في الرذائل، بحيث يستلزمها جميعاً، فصاحبها في غاية البعد عن الحق ونهاية الظلمة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (
الظلم ظلمات يوم القيامة) فلهذا قال: ((إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)) أي: أن الجزاء من جنس العمل.
الإنسان إذا ظلم وبغى فهو في الحقيقة لا يظلم المظلوم، لكنه يظلم نفسه، ولذلك لما قال
الحجاج لـ
سعيد بن جبير : انظر يا
سعيد ! أي قتلةٍ تريد أن أقتلك بها! قال له: اختر لنفسك يا
حجاج ! فوالله ما تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها يوم القيامة. وهذا في صحيح
مسلم.
فهذا معنى ((إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)) كما تدين تدان، كما تفعل بالناس يفعل بك.
إذاً: المقصود من قوله: ((إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)) أن بغيكم يعود عليكم، لا على المظلوم وحده، والمظلوم يسعد ثم يشقى الظالم غاية الشقاء، ولذلك لما سئلت
أسماء ذات النطاقين رضي الله تعالى عنها، حيث سألها
الحجاج عن مصير ابنها الذي قتله وصلبه قالت: (أراك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك) أي: أفسدت عليه دنياه بالقتل، لكن هو أفسد عليك آخرتك بالوبال وبالعذاب الذي ستلقاه يوم القيامة.
فالمظلوم يسعد ويثاب، والله سبحانه وتعالى يستجيب دعوته، أما الظالم فإنه يشقى ببغيه وظلمه غاية الشقاء، وهو ليس إلا متاع الحياة الدنيا، إذ جميع الإفراطات والتفريطات المقابلة للعدالة تمتعات طبيعية ولذات حيوانية تنقضي بانقضاء الحياة الحسية التي مثلها في سرعة الزوال وقلة البقاء مثل تزين الأرض بزخرفها من ماء المطر، ثم فسادها ببعض الآفات السريعة قبل الانتفاع بنباتها.
((ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)) أي: سنجازيكم به مما يتبعه من الشقاوة الأبدية والعذاب الأليم الدائم، وفي الحديث (
أسرع الخير ثواباً صلة الرحم، وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة) لأن صاحبه تتراكم عليه حقوق الناس، فلا تحتمل عقوبته المهل الطويل الذي يحتمله حق الله تعالى.
يقول
القاسمي: وسمعت بعض المشايخ يقول: قلما يبلغ الظالم والفاسق أوان الشيخوخة، فالله يعاجلهم بالأخذ؛ وذلك لمبارزتهم الله تعالى في هدم النظام المصروف عنايته تعالى إلى ضبطه، ومخالفتهم إياه في حكمته وعدله.
-
تفسير قوله تعالى: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء...)
-
تفسير قوله تعالى: (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25]، لما ذكر تعالى الدنيا وسرعة تقضيها رغب في الجنة ودعا إليها وسماها دار السلام، أي: دار السلامة من الآفات والنقائص، بينما الدنيا معرضة للآفات كما مر.
فإذاً وصف الله سبحانه الدنيا بدار الآفات لأن الجنة تقابلها، فالله وصفها بأنها سليمة من الآفات، وذلك بقوله: ((وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ)) أي: التي ليس فيها آفات ولا نقائص ولا تكدير ولا تنغيص ولا مرض، ولا نصب، ولا شيخوخة، ولا عناء، ولا أذى، إنما هي كمال في كمال، وسالمة من كل الآفات والنقائص، ((وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)).