إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الحجر [6]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الذي يحجر عليه لمصلحة نفسه لا يدرك مصلحته، ولهذا أوجبت الشريعة أن يكون هناك من يتولى أمره ومصالحه حتى يستطيع أن يتولاها بنفسه، ولكن هذا الولي لا يتصرف بما شاء، وإنما يتصرف بحدود مصلحة موليه؛ لأن هذا هو المقصود من وضعه في هذا الملف، ولهذا جعل العلماء عدة ضوابط لتصرفات الولي.

    1.   

    وقت فك الحجر عن السفيه والصبي

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فقد ذكر المصنف -رحمه الله- هذه الجملة لبيان فك الحجر عن السفيه والصبي، وذلك بثبوت الرشد في كل منهما، وقد بينّا أن الرشيد في ماله هو الذي يحسن الأخذ لنفسه والإعطاء لغيره.

    ومعنى ذلك أنه إذا اشترى أو استأجر أو أخذ شيئاً فإنه لا يغبن كما ذكر المصنف رحمه الله، فلا يباع عليه الشيء بأكثر من قيمته؛ ولا يبيع الشيء بأقل من قيمته.

    فإذا كان على هذه الحالة أكثر من مرة، واختبر فبان أنه يتصرف على هذا الوجه: يحسن الأخذ لنفسه ويعطي لغيره على وجه معروف؛ فإنه يفك الحجر عنه.

    ضابط الرشد عند السفيه والصبي

    قال رحمه الله: [والرشد] أي: حقيقة الرشد وضابط الرشد في الشرع ما ذكره [بأن يتصرف في ماله مراراً فلا يُغبن غالباً].

    قوله: (مراراً) فلو أعطى ولي اليتيمة اليتيمة مالاً فباعته أو اشترت به مرة وأصابت فإنه لا يحكم برشدها، بل لا بد من أن يتكرر ذلك أكثر من مرة؛ لاحتمال أن تكون أصابتها في المرة الأولى بدون قصد، كأن تكون حصلت موافقةً.

    وعلى هذا فلا بد وأن يختبر أكثر من مرة قبل بلوغه -كما ذكرنا- أو عند بلوغه، وإذا أراد أن يختبره أعطاه مالاً وقال له: خذ بع هذا أو اذهب واشتر بهذا المال لك ثياباً أو طعاماً أو نحو ذلك، فإذا كرر البيع وكرر الشراء وكان على المعروف والسنن حُكم برشده.

    قال رحمه الله: [ولا يبذل ماله في حرام]

    الرشد يشترط فيه ألا يبذل صاحبه المال في غير طاعة الله عز وجل، أو يبالغ في إنفاق المال في الشهوات.

    فالمصنف ذكر المعصية وهي الحرام، لكن أيضاً يضاف إليها أن ينفق ماله ويكثر من الإسراف في المباحات، كرجل يدفع المال الكثير لقاء النزهة أو الفسحة، ويكون ذلك المال الذي أنفقه في سفره للنـزهة والفسحة كبيراً وكثيراً، فإنه يحكم بسفهه وبزوال الرشد عنه، وإذا ثبت عليه ذلك عند القاضي حكم بالحجر عليه.

    فإذاً لابد وأن يكون تصرفه على الوجه المعروف، وذلك بإحسانه للأخذ لنفسه والإعطاء لغيره، وعدم إنفاقه للمال في الحرام أو إسرافه في المباحات كما قال بعض العلماء:

    والسفه التبذير للأموال في لذة وشهوة حلال

    وخرّج العلماء على الوصف الأخير الذي ذكرناه -وهو إنفاق المال في الشهوة الحلال- أن يكون شراؤه للأشياء بأكثر مما تستحقه أو بما لا تملك بمثله، كأن يكون مثلها يشترى بمائة فيبالغ ويشتريه بمائتين أو بثلاثمائة.

    أو يكون يحتاج إلى سيارة ومركب، وتكفيه سيارة بمائة ألف -مثلاً- فيذهب ويشتري سيارة بمائتين أو بثلاثمائة، فمثل هذا إذا أنفق المال وزاد وبالغ في المباحات فأسرف فيها، فإنه يُحكم بكونه سفيهاً.

    قال رحمه الله: [أو في غير فائدة]

    كذلك لو أنفق المال في غير فائدة، كأمور اللهو التي لا تعتبر محرمة ولا مندوبة، وذلك اللهو المندوب الإنسان مع فرسه من أجل أن يتعود الفروسية، أو لهوه بسلاحه من أجل أن يتعود ويعد نفسه للجهاد في سبيل الله ونحو ذلك من المقاصد الشرعية؛ فاللهو الذي يكون لا فائدة فيه ويدفع المال فيه فإنه يُحكم بسفهه.

    فلو دخل لكي ينظر إلى مناظر طبيعية بالغ أصحابها في قيمتها كأن لا يدخل لرؤية هذه المناظر إلا بمائة ريال، فدخل ودفع المائة وذهب ينظر في هذه المناظر، فما الفائدة التي يعود بها! فحينئذٍ إذا أنفقها فيما لا فائدة فيه فإنه يحكم بكونه سفيهاً.

    وجوب اختبار الصبي قبل دفع المال إليه

    قال رحمه الله: [ولا يدفع إليه حتى يختبر قبل بلوغه بما يليق به]

    ولا يدفع المال إلى الصبي إذا كان محجوراً عليه حتى يختبر ويمتحن كما ذكرنا؛ لأن الله أمر بذلك فقال سبحانه: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6] فأمرنا الله سبحانه وتعالى أن نختبر اليتامى وذلك عند بلوغهم، فإذا حصل أو ثبت رشدهم فإنه يحكم بإعطاء الأموال إليهم.

    وإنما حكم العلماء بلزوم الاختبار؛ لأننا لا نحكم برشده إلا بعد ثبوت ذلك الرشد بالاختبار.

    1.   

    الأحق بالولاية على السفيه والصبي أثناء الحجر عليهم

    قال رحمه الله: [ووليهم حال الحجر الأب ثم وصيه ثم الحاكم]

    إذا كان الصبي محجوراً عليه فإن الذي يتولى أموره وحفظ ماله هو والده، وهو أحق الناس بذلك.

    وهذا إنما يتأتى إذا كان للصغير مال، كأن تموت أمه وتترك له إرثاً، كصبي -مثلاً- ماتت أمه وتركت له مائة ألف، فالواجب على أبيه أن يأخذ هذا المال وأن يحفظه، حتى إذا بلغ الصبي دفع إليه ماله.

    هذا بالنسبة للأشخاص الذي لهم حق الولاية، وبعبارة أخرى: من هو الولي الذي ينصب على اليتيم؟

    فذكر رحمه الله أن أولى الناس بالولاية الأب، ثم وصي الأب إذا كتب الإنسان وصيته وخاف على أولاده، كأن يكون عنده ذرية ضعيفة -أطفال- ويخشى عليهم أنه لو مات عنهم أنهم يضيعون، فيجب عليه شرعاً أن يعهد ويوصي من يثق بدينه وأمانته أن يحفظهم.

    فلا يجوز للمسلم إذا كان عنده أطفال أن يأمن الموت؛ لأن الموت يأتي الإنسان دون أن يشعره ويعلمه، وكم من ضاحك قد نسجت أكفانه.

    فالواجب على المسلم إذا كان عنده أطفال وذرية أن يكتب وصيته، وأن يكتب في وصيته أن أولاده وأبناءه وبناته يليهم فلان، سواءً كان من القرابة أو من غير القرابة، إلا أن الوصية من القرابة أولى وأحق.

    فإن كان هناك من أبناء العم أو العشيرة أو القبيلة من يُعرف فيه الدين والأمانة والحفظ والرعاية فإنه ينصبه على أولاده ليقوم عليهم ويرعى شئونهم ونحو ذلك.

    فهذا الوصي الذي يوصي إليه الأب هو أحق بالولاية على أولاده إذا توفي، فيقوم هذا الوصي مقام الأب، وإنما قُدِّم الأب؛ لأن أكمل الناس شفقة على الإنسان هم الوالدان، ولا شك أن شفقة الأم أعظم من شفقة الأب، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم حينما ضرب المثل لعظيم رحمة الله عز وجل، وأراد أن يبيّن للعباد عظيم حلمه جل جلاله ورحمته بعباده، ضرب لهم ذلك بالأم حينما لقيت ولدها وقد خافت أن يكون قتيلاً في الحرب، فلما لقته أخذته وضمته إلى صدرها، فقال صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا. قال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها) .

    فالوالدان أسكن الله في قلوبهما الرحمة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم حينما دمعت عيناه على ابنه إبراهيم وبكى عليه الصلاة والسلام وعجب الصحابة وقالوا: ما هذا يا رسول الله؟ قال: (رحمة أسكنها الله في قلوب عباده) .

    فالوالد في قلبه رحمة لولده، والأم لا تستطيع أن تتولى أمور البيع والشراء والأخذ والعطاء على الأيتام، ولذلك الأب مقدم، وفي الأب من النصيحة لأولاده ما لا يخفى، فهو المقدم على غيره في ولاية أمور الصغار.

    وكذلك أيضاً يليه الوصي؛ لأن شفقة الأب وحنانه تجعله لا يوصي بأبنائه بعد موته إلا لشخص يرى أنه يحل محله، وأنه يكون مثله أو أفضل منه.

    فالواجب على الأب أن يفعل ذلك إذا علم أن هناك أيتاماً، وخاصة إذا وجد من القرابة -نسأل الله العافية والسلامة- من يعرف بالظلم واغتصاب الأموال وأذية الأيتام، ولا يبالي بالحقوق، فخاف عليهم من قرابتهم، فإنه يجب عليه أن ينصب الأصلح الذي يخاف الله عز وجل ويتقيه فيهم، كما قال تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9] فأمرنا الله إذا كان عندنا ذرية ضعيفة أن نتقيه فيهم، والذرية الضعيفة هم الأطفال، ومعنى ذلك أن كل إنسان عنده أطفال ينبغي أن ينظر هذا النظر، وألا يأمن الموت، وأن يكتب وصية لمن يقوم على أولاده في حالة موته.

    هذا الوصي الذي توصي إليه أول شيء ما تنظر إليه فيه: دينه، فالدين هو عماد الخير كله، وينظر إلى تقواه لله سبحانه وتعالى؛ لأن المتقي أمين إذا استؤمن، وصادق إذا تكلم، وفيه من الحفظ والرعاية ما ليس في غيره.

    ثم بعد ذلك تنظر إلى خلقه من ناحية أخلاقه ومعاملاته، بأن يكون رجلاً ديناً فيما بينه وبين الله يخافه ويتقيه ويحفظ حقوق الله، وذا خلق فيما بينه وبين الناس؛ لأنه ربما كان إنساناً ديناً لكنه عصبي وأخلاقه شرسة لا يستطيع أن يأمن نفسه؛ وتكون فيه حدة الطبع، فإذا جاء اليتيم يستعطفه في مال أو شيء ربما كهره، وربما أساء إليه وأغلظ عليه وربما قهره، وقد يكون ذلك بدون شعور منه، فينبغي أن ينظر إلى الخُلُق.

    وثالثاً: ينظر إلى عقله، فقد يكون إنساناً فيه دين وصلاح، لكنه ناقص العقل، بمعنى: أنه أخرق لا يحسن التقدير للأمور، ولا يحسن النظر ولا الاجتهاد، فينبغي أن ينظر إلى عقله وبعد نظره وحسن تدبيره للأمور، حتى إذا طرأ شيء على أموال اليتامى أحسن التصرف، وكان عنده من الفطنة والذكاء والحذر والحزم ما يحفظ به أموال هؤلاء الضعفاء.

    فإذا استجمع هذه الشروط فإنه يعهد إليه ويوصي إليه، وحبذا لو أنه يستدعيه ويذكره الله فيما بينه وبينه حتى يكون ذلك أبلغ في حفظه لماله ورعايته لأيتامه.

    فالأب ومن اختاره الأب لأولاده يقدم على من سواه، وإن نصبه القاضي؛ لأن الأب أدرى بولده، وينصب الأب من يختار على أيتامه سواءً كانوا ذكوراً أو إناثاً، وله الحق أن يوصي بالذكور والإناث ويقول: فلان يلي أمور أيتامي، ويشمل ذلك ذكورهم وإناثهم.

    قال رحمه الله: [ثم الحاكم]

    وذلك لأن الله جل وعلا جعل ولي الأمر كالوالد للناس، يعطف عليهم ويقوم على شئونهم ويرعى مصالحهم، فالولاة نصبوا على الناس حتى ينظروا الأصلح والأقوم والأهدى سبيلاً فيتبعوه ويأخذوا به.

    وعلى هذا فلو مات إنسان وترك أيتاماً ولم يوص بهم لأحد، فإنه يرفع أمرهم إلى القاضي؛ لأنه يقوم مقام ولي الأمر، ولأن له ولاية النظر في المصالح، وهو منصب من ولي الأمر للنظر في مثل هذه الأمور.

    فيقوم القاضي ويسأل عن قرابة الميت: هل فيهم رجل فيه من الدين والعقل والأمانة فيقدمه على غيره؛ فإذا لم يجد في قرابة الميت من هو أهل للقيام على أموال اليتامى، فإنه ينظر من سائر الناس من هو كذلك، فينصبه على هؤلاء الأيتام، ويوصيه بتقوى الله عز وجل، ويعظه ويذكره هذه الأمانة، ثم يفوض إليه الأمر بالنظر في مصالح هؤلاء الأيتام.

    1.   

    كيفية تصرف ولي أمر السفيه أو اليتيم أو المجنون لهم

    قال رحمه الله: [ولا يتصرف لأحدهم وليه إلا بالأحظ]

    بعد أن بيّن رحمه الله من الذي يولى على الأيتام، شرع في بيان تصرف الولي، فإذا كان الولي ينصب على اليتيم والمجنون والسفيه، فماذا ينبغي عليه؟

    قال رحمه الله: (ولا يتصرف) أي: الولي، والتصرف يشمل البيع والشراء والأخذ والعطاء من سائر المعاملات، فلا يتصرف هذا الولي في مال اليتيم إلا بالأحظ، والأحظ أفعل تفضيل بمعنى: أن يتصرف التصرف الذي هو الأفضل لمصلحة مال المحجور عليه.

    وبناءً على ذلك: نفهم من هذا أنه ليس من حق الولي أن يتصرف تصرفاً يضر بالمال كله أو ببعضه، إلا في مسائل مستثناة.

    فمن هنا: لا يصح للولي أن يتصدق بالمال، فلو أنه تصدق بالمال ضَمِن، ويجب عليه أن يضمن المال كاملاً، ولا يصح منه أن يتبرع بهذا المال، فلو قال: أنا وليهم أتبرع بهذا المال لأمهم، لم يكن من حقه ذلك.

    فليس له أن يتصرف بما فيه ضرر، فيتلف المال كله أو يتسبب في ذهاب منفعة المال، بل عليه أن ينظر الأحظ.

    وإذا كان ملزماً بالنظر بالأحظ، فيشمل ذلك أن يتصرف بالبيع ويتصرف بالإجارة ويتصرف بغير ذلك من مسائل المعاملات.

    فعلى هذا: لو كان اليتيم توفي عنه أبوه وترك له عمارة، وهذا اليتيم بقي له ثلاث سنوات ويبلغ، والعمارة لو بقيت ثلاث سنوات ستنـزل قيمتها وتصبح قيمتها رخيصة، وسأل أهل الخبرة فقالوا: إن العمارة سعرها الآن أفضل، فرأى المصلحة والأحظ أن يبيعها، فيجوز له أن يبيع؛ لأنه يلتمس الأصلح والأحظ.

    كذلك العكس: لو أنه توفي وترك لأيتامه أرضاً، وهذه الأرض في مكان بعيد، وليس لها قيمة الآن، وقيمتها -مثلاً- عشرة آلاف لو بيعت الآن، وعلم عن طريق أهل الخبرة أو عن خبرته ومعرفته، أنها لو بقيت سيصل إليها الناس وتصبح قيمتها أكثر فيمسكها ويمتنع من بيعها.

    ولاحظ الفرق بين الحالة الأولى والحالة الثانية: فإنه في هذه الحالة إذا غلب على ظنه أن الأصلح بقاء الأرض أبقاها وأمسكها، ففي حال البذل بالبيع وفي حال الإمساك إنما يروم ويقصد الأصلح للأيتام، فإذا نظر وعلم الأصلح والأفضل فإنه يقدم عليه ويعمل به.

    ومثال آخر: في الإجارة: لو كان عند الأيتام عمارة، إذا أجرت فإنها تدر عليهم أموالاً، وهذه الأموال أنفع وأصلح لهم، خاصة وأنهم قد يتوفى أبوهم ولا يترك لهم سيولةً، فيحتاج ولي الأيتام إلى شيء ينفق منه على الأيتام، لشراء طعامهم وشرابهم ونحو ذلك، فرأى من المصلحة ألا يبيع العمارة وإنما يؤجرها فأجرها، فإنه حينئذٍ تصرف بالأحظ والأصلح.

    لكن لو كانت هذه العمارة تؤجر على قوم يدفعون -مثلاً- عشرة آلاف، وآخرون يدفعون ثمانية آلاف فإلى أيهم نؤجر؟

    الجواب: ينظر إلى من سيدفع العشرة أهم أحفظ لمصالح العمارة أكثر ممن سيدفع الثمانية أم لا، فقد يؤجر إلى أناس يتلفون مصالحها ويضرون بها، ثم بعد خروجهم يحتـاج إلى إنفاق أموال لإصلاح ما أفسدوه وضيعوه، مع أنه شرعاً يجب على الأجير إذا أتلف شيئاً في العمارة ألا يخرج إلا وقد أصلحه.

    وهذه من الأخطاء التي يخطئ فيها أولياء الأيتام ونظار الأوقاف، أن الأجير يخرج وقد أتلف المصالح والأعيان، وهذا لا يجوز؛ لأن هذا من إضاعة المال، وفي الشرع لو أن ناظر الوقف تساهل وخرج المستأجرون وتركهم يخرجون دون أن يضمنوا ما أتلفوه، فإنه يدفع من ماله وجيبه ما يصلح به ما أفسدوه؛ لأنه هو الذي مكنهم من ذلك، وقصر ولم يطالبهم بإصلاح ما أفسدوه.

    فالمقصود: أن الولي لليتيم والناظر للوقف ونحوهم كلهم ينظر الأصلح للمال، سواءً كان ذلك ببيعه أو استئجاره أو إجارته أو نحو ذلك.

    كذلك أيضاً: لو كان للأيتام مائة ألف، وهذه المائة ألف لو بقيت في البنك أو عند الصبي فإنها تأكلها الزكاة؛ لأن عليها زكاة؛ فحينئذٍ ينقص المال ولا يبلغ إلا وقد نقص المال، فنظر إلى أن الأفضل والأحظ أن يتاجر بهذا المال فنقول له: تاجر بهذا المال.

    إذاً: القاعدة عندنا: أن ينظر الأصلح والأحظ، وكيف يتوصل إلى الأصلح والأحظ؟ نقول له: سل الناس إذا كنت تجهل، أو اجتهد على قدر علمك ووسعك إذا كان عندك علم وخبرة تتمكن عن طريقها من معرفة الأصلح والأحظ للمال.

    حكم اتجار ولي اليتيم بمال اليتيم لمصلحة اليتيم

    قال رحمه الله: [ويتجر له مجاناً]

    أي: ويتجر في مال اليتيم مجاناً، فلا يأخذ أجرة مثله إلا في مسائل ستأتي عند الحاجة، أما إذا اتجر بمال اليتيم فإنه لا يتعامل مع اليتيم، فلا يشتري من مال اليتيم، ولا يستأجر مال اليتيم؛ لأنه محل التهمة.

    وعند بعض العلماء لا يصلح أن يكون مؤجراً أو مستأجراً أو بائعاً لليتيم أو مشترياً منه في آن واحد، لكن هذه العلة الثانية ضعيفة؛ لأنه يمكن أن يتزوج اليتيمة إذا عدل وأقسط إليها كما هو مقصود التنزيل واختارته أم المؤمنين عائشة وقال به الجماهير، أن ولي اليتيمة إذا عدل بمهرها وأقسط فلا بأس عليه، فهو ولي وهو زوج.

    وأياً ما كان فمسألة الاجتماع قد لا تخلو من نظر كما ذكرنا، لكن ولي اليتيم يتاجر بمال اليتيم، أما مشروعية التجارة له ففيها حديث ضعيف، والصحيح أنه موقوف على عمر رضي الله عنه، فقد قال رضي الله عنه في خطبته: ( اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة ) فأمرهم أن يتاجروا بأموال اليتامى لئلا تأكلها الصدقة؛ لأن كل سنة عليها زكاة، فالمال ينقص، وحينئذٍ ينبغي على ولي اليتيم أن يحتاط لذلك، وبذلك أفتت وعملت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فكانت تلي أيتاماً لأخيها عبد الرحمن رضي الله عنهما، وكانت تتاجر لهم في أموالهم.

    فإن تاجر الوصي فيتاجر مجاناً، ولا يأخذ أجرة عمله، وعلى هذا فإنه يكون قائماً على مال اليتيم وأجره على الله، فإن من أعظم الأعمال أجراً وثواباً: الإحسان إلى اليتامى، ومن الإحسان: استصلاح أموالهم والسعي فيما يعود عليهم بالخير، فإن هذا أجره عند الله أعظم، وثواب الآخرة أكبر.

    وبناءً على ذلك فقد أجمع الصحابة على جواز التجارة بمال اليتيم؛ لأنه لا مخالف فيه، والعمل عليه عند أهل العلم رحمهم الله، وإذا ثبت ذلك فإنه يتجر بدون مقابل.

    حكم المضاربة في مال اليتيم

    قال رحمه الله: [وله دفع ماله مضاربة بجزء من الربح]

    قررنا أن ولي اليتيم يتصرف بالأحظ، وإذا كان يتصرف بالأحظ فله أن يتاجر في المال، لكن تبقى مسألة وهي: لو أنه تاجر في المال فاحتاج إلى عمال أو إلى أناس يقومون بالتجارة، فهل الذين يقومون بالتجارة لا يعطى لهم أجر؟

    الجواب: لا، فقوله: (مجاناً) راجع إلى الولي وليس إلى العمال الذين يستأجرهم ويطالبهم للعمل، وإلا لما أمكن أن يتاجر بأموال اليتامى؛ لأنه إذا كان الولي لا يأخذ والعمال لا يأخذون فلن تقوم تجارة أصلاً، بل أين يوجد هذا؟!

    لكن يجوز أن يستأجر أناساً بالمعروف ويعطيهم أجرة بالمعروف، وبما جرى عليه العرف، لا يزيدهم ولا يظلمهم، ويعطيهم من مال اليتيم كما يعطى غيرهم من الأجراء، وذلك جائز ولا بأس به.

    وإذا ثبت أن ولي اليتيم لا يجوز أن يضحي بشيء من مال اليتيم فيرد السؤال هنا: بعض العقود تبرم بين الشخص والآخر ويكون فيها نقص للمال، فأنت -مثلاً- إذا دفعت مال اليتيم إلى رجل ليتجر به وهو الذي يسمى بالمضاربة، -والمضاربة من الضرب في الأرض؛ لأن التجارة تحتاج فيها إلى السفر والضرب في الأرض- فلو أنك دفعت مائة ألف من مال اليتيم إلى رجل من أجل أن يتاجر فيها مضاربة، فإنه سيقول لك: أريد جزءاً من الربح؛ لأن المضاربة تدفع المائة ألف ويكون الربح بين صاحب المال وبين العامل، فلو أنه دفع مائة ألف إلى عامل، وقال له العامل: أنا آخذ نصف الربح، فحينئذٍ سينقص مال اليتيم، فبدل أن يكون الربح كله لليتيم سيكون نصف الربح له والنصف الآخر للعامل، فنقول: هذا جائز ولا مانع منه؛ لأنه جارٍ على سنن المضاربة.

    ولذلك نص رحمه الله على هذه المسألة فقال: له أن يضارب في هذا المال على جزء من الربح. يعني: يقول لشخص: خذ هذه المائة ألف واضرب بها وتاجر بها ونمَّ المال والربح بينك وبين اليتيم، أو ثلاثة أرباع الربح لليتيم وربعه لك، أو الثلثان لليتيم والثلث لك، أو العكس الثلث لليتيم والثلثان لك على حسب ما يرى فيه المصلحة.

    والحقيقة أن إتلاف جزء من المال لاستبقاء الكل صحيح شرعاً، فولي اليتيم أو ناظر الوقف إذا أتلف جزءاً من المال من أجل بقاء المال فإن المصلحة تقتضي هذا.

    ولذلك لما ركب موسى عليه السلام مع الخضر، وكسر الخضر لوح السفينة، أنكر عليه موسى عليه السلام، ولما بيّن له الخبر قال: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79] فهو قصد الإتلاف والإفساد حتى لا تفوت السفينة بكاملها؛ ولذلك أخذ العلماء من هذا القاعدة المشهورة: (يرتكب الضرر الأخف دفعاً للضرر الأعظم)، وفي معناها قولهم: (إذا تعارضت مفسدتان روعي ارتكاب أخفهما لدفع أعظمهما)، فحينئذٍ فوات السفينة أعظم، وذهاب اللوح من السفينة أخف، فلولي اليتيم أن يضحي بجزء من المال لاستبقاء الكل.

    وله كذلك أن يجعل الربح بين اليتيم وبين غيره بما يرى فيه المصلحة للمال ولليتيم.

    1.   

    حكم أكل الولي الفقير من مال موليه

    قال رحمه الله: [ويأكل الولي الفقير من مال موليه الأقل من كفايته]

    هذه المسألة مستثناة من الأصل الذي ذكرناه، وقد قلنا: إن العلماء رحمهم الله يقررون الأصل ثم يذكرون أفراد المسائل التي تستثنى، فهنا عرفنا أن الولي لا يأكل من مال اليتيم وبينّا هذا الأصل.

    ويرد السؤال: الولي الغني ليس بحاجة، ويستقيم أن يقال: أجره على الله، والقاضي إذا نصب شخصاً للنظر في مصالح اليتيم وصار ولياً عليه، فإنه سيتعطل عن مصالحه، وقد لا يجد وقتاً من أجل أن يطلب الرزق، فلو كان فقيراً واحتاج إلى أن يأكل من مال اليتيم فهل يجوز له ذلك؟

    الجواب: نعم، وهذا قول جماهير العلماء وأئمة السلف ودواوين العلم رحمة الله عليهم أجمعين، أن ولي اليتيم إذا كان فقيراً فإنه يجوز له أن يأكل بالمعروف؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6] فأحل الله عز وجل له أن يأكل بالمعروف.

    وعلى هذا قال العلماء: يأكل الأقل من أجرته وكفايته، أو يأخذ الأقل من أجرته وكفايته، والمراد بذلك: أنه إذا كان ولياً على يتيم وكان فقيراً واحتاج أن يأكل وهو قائم على مال اليتيم نقدر أجرة مثله، فلو كانت أجرة مثله في الشهر ألف ريال وكفايته في البيت ثمانمائة ريال فإنه يأخذ الثمانمائة ريال، ويأكل في حدود الثمانمائة.

    فعندنا سببان:

    الأول: كونه قائماً على المال، وهذا يقدر فيه أجرة المثل.

    والثاني: كونه محتاجاً وهذا يقدر فيه دفع الضرر عنه.

    فعندنا أمران:

    كونه فقيراً ومحتاجاً، وكونه تولى هذا المال وقام على حفظه ورعايته.

    فهذان سببان كلاهما يحل للشخص أن يأكل من مال اليتيم، لكن لا تخلو المسألة من ثلاثة أحوال:

    الحالة الأولى: أن يتساويا، فتكون أجرة مثله تساوي قدر كفايته.

    مثلاً: تولى المال وكان سيولة، ولم يتاجر به، فلو استأجرت شخصاً من أجل أن يحرس المال ويحفظه تقدر له -مثلاً- في الشهر خمسمائة ريال، فلو قدرت له خمسمائة ريال كأجرة، ونظرت إلى قدر كفايته في طعامه ونفقته في نفسه فوجدت أنه خمسمائة ريال، تقول: تساوت أجرة مثله مع حاجته؛ فحينئذٍ لا إشكال، فيعطى الخمسمائة وتتساوى الأجرة مع الحاجة.

    الحالة الثانية: أن تكون الأجرة أغلى من حاجته، كرجل -مثلاً- ينمي مال اليتيم ويتاجر فيه، فمثله لو قدر أجرة عمله فإنه يعطى -مثلاً- ثلاثة آلاف في الشهر، وكفايته ألف، فنقول: يعطى الألف إذا كانت كفايته أقل من أجرته، والعكس لو كانت أجرته أقل من كفايته، كرجل عنده أولاد وأسرة كبيرة ينفق عليهم، وكفاية مثله في أهله وولده: ألفان، وأجرة مثله: ألف؛ فحينئذٍ قدر كفايته أكثر من أجرة مثله، فيعطى أجرة مثله.

    ولذلك ينظر الأقل من السببين؛ لأنه يأكل بسبب الأجرة ويأكل بسبب الحاجة فيعطى الأقل منهما، وهذا نص عليه جمهور العلماء رحمهم الله؛ لأن الأصل حفظ مال اليتيم، وحل الأكل إنما هو لوجود الحاجة، وما أبيح للحاجة يقدر بقدره.

    فيرد السؤال: إذا كانت أجرة مثله أكثر من كفايته، لماذا لا نعطيه أجرة مثله؟

    الجواب: أن الشرع لم يجعل ولي اليتيم أجيراً، ولذلك لا نستطيع أن نضحي بمال اليتيم ونعطي من يقوم عليه الأجرة بدون نص وبدون أصل شرعي، وإنما قدرنا أجرته من أجل تعارضها مع كفايته، فمن حيث الأصل يحرم الأكل عليه، والأصل أنه يلي أمر اليتيم وأجره على الله، إذ لو فتح هذا الباب ربما أكلت أموال اليتامى وذهبت قبل أن يبلغ اليتامى.

    وعلى هذا: ننظر إلى الأقل من أجرته وكفايته فنعطيه، سواءً كانت الأجرة أو كانت الكفاية.

    قال رحمه الله: [أو أجرته مجاناً]

    هنا مسألة ثانية: لو أن شخصاً تولى على مال اليتيم وكان فقيراً، وأنفق على نفسه خلال ولايته على اليتيم سبعة آلاف ريال، ثم لما قارب اليتيم البلوغ أصبح الولي غنياً، فكان فقيراً فأكل ثم اغتنى بعد ذلك، سواءً عند البلوغ قبل أن يدفع المال أو بعد بلوغ اليتيم وقد دفع المال، فهل نقول له: رد لليتيم السبعة آلاف؟ أي: هل يضمن ما أكله؟

    قال رحمه الله: [مجاناً].

    للعلماء وجهان في هذه المسألة:

    بعض العلماء يرى أنه يدفع ويضمن ما أكله، وبهذا أفتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقولته المشهورة: (إني أنزلت نفسي من مال المسلمين كمنزلة ولي اليتيم، إذا اغتنيت تركته وإذا افتقرت أكلت، فإن أيسرت رددت ما أخذت).

    فدل على أنه يقضي بعد اليسر، فإذا يسر الله عليه واغتنى ضمن المال.

    والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور من أنه لا يقضي، وبعض العلماء يجعل أكل الولي من مال اليتيم في حال الفقر بشرط وهو: أن يكون المال في تجارة ونماء، أما لو كان المال لا يجري وليس في التجارة ولا في النماء فلا يفتي بجواز أكله منه.

    1.   

    الأحوال التي يقبل فيها قول الولي والحاكم بعد فك الحجر

    قال رحمه الله: [ويقبل قول الولي والحاكم بعد فك الحجر في النفقة]

    إذا ثبت أن الأصل عدم جواز التصرف في مال اليتيم، وبينّا المسائل التي يجوز للولي أن يأخذ فيها ويأكل فيها بالمعروف، يرد السؤال: إذا دفع المال إلى اليتيم بعد بلوغه وادعى اليتيم أن وليه أكل منه، أو أن وليه ظلمه في المال فأنفق فيما لا ينبغي أن ينفق فيه، أو دفع المال في شيء يشترى بالأقل فاشتراه بالأكثر، أو باع ما لا ينبغي بيعه، أو اشترى ما لا ينبغي شراؤه -لأن هذا كله وارد- فهل نقبل قول الولي أو نقبل قول اليتيم؟ هذه مسألة، كذلك أيضاً: إذا جاء وقت دفع المال إلى اليتيم عند البلوغ ووجدنا اليتيم رشيداً في تصرفه وحكم القاضي بدفع المال إليه، فسيحاسب الولي، ويقدم الولي بياناً لما دفعه على اليتيم من المصاريف في طعامه وشرابه وكسوته ومسكنه وملبسه إلى غير ذلك، فيقدمه ويقول: أنفقت عليه كذا وكذا، وكان ماله مائة ألف، فأنفقت عليه منها عشرة آلاف في طعامه ومسكنه وكسوته وغير ذلك، فيذكر الأمور التي أنفق فيها على اليتيم.

    هذه العشرة آلاف التي يدعي الولي أنه أنفقها هل نقول: نقبل قوله هكذا أو نطالبه بالدليل؟ هذه مسألة ثانية، فالمسألة الأولى: إذا ادعى اليتيم، والمسألة الثانية: إذا حضر وقت الدفع ورد المال إلى اليتيم، ففي كلتا المسألتين يقبل قول الولي، والقاضي يقبل من ولي اليتيم ما يدعيه، فقال رحمه الله: (ويقبل قول الولي والحاكم بعد فك الحجر في النفقة).

    فإذا كان الحاكم هو الذي يتولى أمر اليتامى، فإنه يقبل قول الولي والحاكم بعد فك الحجر عن اليتيم في النفقة، وإذا قلت: يقبل قوله، فمعناه: أنه يكون مدعىً عليه، ومعنى هذا: أنه لو حصلت خصومة وقضاء فسيكون الولي مدعىً عليه والقول قوله، لأنه إذا قيل: القول قول فلان فخصمه مدعٍ، والذي يُطالَب بالبينة خصمه ولا يُطالَب هو، فإذا جاء وقال: أنفقت عليه بعشرة آلاف فلا نقول له: أحضر شهوداً وأدلة على أنك أنفقت العشرة، بل يقبل قول الولي والحاكم.

    قوله: (في النفقة) أي: في طعامه وشرابه وكسوته ومصالحه التي احتيج إليها، وسميت نفقة من النفاق؛ لأنها تستنـزف المال وتأخذه.

    قال رحمه الله: [والضرورة]

    سبق وأن ذكرنا ضابط الضرورة، وتعريفات العلماء للضرورة، لكن الضرورة هنا لها معنىً خاص، فاليتيم ترك له أبوه عمارة قيمتها مليون، وترك له سيولة خمسة آلاف ريال، فأنفق وليه الخمسة آلاف، فاحتاج اليتيم أن يبحث عن دخل ومال من أجل أن ينفق عليه، فقام ولي اليتيم ببيع العمارة.

    في هذه الحالة لو سأله القاضي: لِمَ بعت العمارة؟ سيقول: اضطررت إلى البيع وألجأتني الضرورة أن أبيع هذه العمارة، فادعاؤه أنه مضطر لبيع العمارة أو أي مملوك لليتيم، كل هذا يصدق فيه؛ لأننا لو فتحنا الباب في عدم قبول قوله لفر الناس من الولاية وأصبح فيها ضرر عليهم.

    فالشاهد: أن اليتيم إذا قال: باع عمارة والدي وما كان ينبغي له أن يبيعها، فقال الولي: بل كان ينبغي بيعها. فكلمة: بل كان ينبغي، يعني: أنا مضطر إلى بيعها، والضرورة إذا ادعاها الولي يقبل قوله، وهكذا إذا ادعاها الحاكم فبنى عليها بيع شيء أو إجارة شيء.

    مثلاً: لو أن اليتيم ادعى على الولي أنه أنفق عشرة آلاف ريال عليه، فسأله القاضي: فيم أنفقتها؟ قال: أنفقتها في سكن. قال اليتيم: ما كان ينبغي أن يستأجر لنا سكناً، فيقول له: أين أذهب بهم يسكنون؟ في العراء! إنهم مضطرون لدفع العشرة الآلاف لإسكانهم، لكن لو ثبت عند القاضي أنه غير مضطر، فحينئذٍ يضمن الولي على التفصيل عند العلماء رحمهم الله، ويؤاخذه ويحاسبه القاضي على هذا إذ فيه ضرر على المال.

    فإذا باع الولي العمارة بحجة نفقتها على اليتيم، واليتيم ترك له والده عشرين ألفاً، ويكفي اليتيم منها في حدود عشرة آلاف، فإذاً وجود العشرين ألفاً يمنع من الضرورة لبيع العمارة، فحينئذٍ يكون الولي مخطئاً في بيعها، لكن لو ادعى ضرورة ثانية كأن يشتهر أنه -مثلاً- بعد سنة ستصبح هذه العمائر رخيصة فيقول: أنا مضطر إلى بيعها لمصلحتها لليتيم، فباعها فخالفت الظنون وأصبحت غالية، فادعى اليتيم على وليه أنه فرط في هذه العمارة يقول: أنا نظرت إلى الحال واجتهدت، وفي ذلك الزمان كنت مضطراً إلى البيع؛ لأنني وجدت أن هذا يضر بمصلحة مال اليتيم، وأقدمت على البيع من هذا الوجه، فحينئذٍ يقبل قوله.

    وقد يضطر الولي إلى البيع لخوف الكساد وهذا -مثلاً- في الأطعمة؛ إذا كان اليتيم ترك له والده بضاعة وكانت من الطعام، ولا يمكن أن تبقى شهراً دون فساد، فعرضها في السوق ولكنها لم تأتِ بقيمتها وإذا تركت تفسد فلا تأتي بشيء، فباعها بنصف القيمة، فحينئذٍ يخاصمه اليتيم أو القاضي ويسأله: كيف تبيع بضاعة قيمتها مائة ألف بخمسين ألفاً؟ يقول: نعم هذا البضاعة لم يتيسر بيعها إلا بخمسين ألفاً، ولو لم أبعها فستتلف، وأنا مضطر إلى ذلك؛ فهذه ضرورة صحيحة.

    كذلك أيضاً لو كان الميت ترك متاعاً، وهذا المتاع المراد به مثلما يحصل لبعض التجار يشترون بضاعة بمائة ألف -مثلاً- من أجل أن تباع في موسم الحج بمائتين، وشاء الله أن يموت في شعبان، فهذه البضاعة سيتولى أمرها الولي، فإذا تولى أمرها فمعناه أنه سيحفظ البضاعة إلى الحج، وحفظ البضاعة إلى الحج يحتاج إلى إجارة، فاستأجر لها مكاناً بثلاثين ألفاً ولم يجد إلا هذا المكان بثلاثين ألفاً، وإن بيعت البضاعة في وقتها بيعت بخسارة أو برأس مالها، وإن بقيت بيعت بالضعف فالأصلح لليتيم ألا تباع الآن، وتبقى حتى تباع بالضعف، ووجد أن استئجار مخزن لها بعشرة آلاف لا يمكن، فاستأجر مخزناً بثلاثين ألفاً وباعها بمائتين، فأصبح كاسباً سبعين ألفاً، فإذا سأله القاضي: أين أنفقت الثلاثين؟ قال: أنفقتها من أجل حفظ البضاعة. قال له: وهل كان حفظها لازماً؟ يقول: نعم. لأن السوق كان كاسداً ونحو ذلك من الأحوال، وهذا معنى قوله: (والضرورة).

    فكل ما يدعيه الولي من أنه مضطر وملجأ إليه من بيع أو شراء فإنه يقبل قوله.

    لكن إذا أنكر اليتيم وقاضاه، فبعض العلماء يقول: يقبل قوله مجرداً ولا يطالب باليمين، وقال بعض العلماء: يقبل قوله مع اليمين، وهذا ما يسمى بيمين التهمة، وهو أن يحلف من أجل التهمة الموجودة، فحينئذٍ قالوا: يقبل قوله مع اليمين.

    قال رحمه الله: [والغبطة]

    الغبطة: الذي هو الأصلح، فمثلاً إذا قال اليتيم: أخر بيع البضاعة إلى السنة القادمة، فهذا أضر بي؛ لأني دفعت من مالي أجرة المخازن وأجرة نقل السلع وأنفق أموالاً على ذلك، فقال ولي اليتيم: إنما ذلك من أجل الأحق وهي الغبطة، فحينئذٍ يقبل قوله.

    ومن الغبطة لو قيل له مثلاً: بعت العمارة بكم؟ قال: بعتها بمليون. قيل له: لماذا؟ قال: لأن هذا أعلى سعر، وإذا بقيت فستباع بنصف مليون أو بثلاثة أرباع مليون، فإذاً الغبطة في بيعها بمليون، فيقبل قوله.

    قال رحمه الله: [والتلف]

    إذا ادعى أن بعض المال تلف ولم يكن بتفريط منه فإنه يقبل قوله، مثلاً: لو أن يتيماً ترك له أبوه مائة رأس من الغنم، وجاء سيل واجتاح نصفها، فقال القاضي للولي: كم ترك والد اليتيم؟ قال الولي: المال الذي توليت اليتيم فيه مائة رأس، والآن يوجد خمسون رأساً منها، وخمسون أخذها السيل فيقبل قوله؛ لأنه -كما ذكرنا- يقبل قوله في الربح والغبطة، وفي الخسارة والتلف ونحو ذلك مما يدعيه.

    قال رحمه الله: [ودفع المال]

    هذه مسألة ثانية: رجل تولى على يتيم وكان ماله -مثلاً- مائة ألف، واختبره عند البلوغ فوجده رشيداً فدفع له ماله، وبعد سنة جاء اليتيم وادعى أنه لم يقبض مال أبيه، وأن وليه لم يدفع المال إليه، فهل نصدق اليتيم أو نصدق الولي، الولي يقول: دفعت. واليتيم يقول: ما أخذت. ففي الحقيقة إذا جئت تنظر إلى الأصل، الأصل أن المال عند الولي حتى يثبت أنه دفعه لليتيم، وفي هذه المسألة ومسألة التلف يقوي بعض العلماء فيها اليمين، واليمين هنا قوية وأميل إلى هذا القول؛ لأنه خلاف الأصل، والتهمة فيه قوية، وفي ذلك احتياط لمال اليتيم، فإذا دفع المال إليه ولم يشهد فهو الذي فرط.

    وحينئذٍ يقوى أن يقال: إنه يكون القول قول اليتيم أو لا يقبل قوله إلا باليمين.

    1.   

    حكم دين العبد وما أتلفه

    قال رحمه الله: [وما استدان العبد لزم سيده إن أذن له]

    العبد يتولى سيده أمر ماله، وهذا -كما ذكرنا غير مرة- مبني على حديث ابن عمر في الصحيحين: (من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع)، لكن ذكر هذه المسألة هناك لأن فيها شيئاً من الارتباط بمسألة الولاية على المال.

    قوله: (وما استدان العبد) إذا تعامل الرقيق مع الناس وأخذ منهم أموالاً ديناً، فسيده له حالتان:

    إما أن يكون أذن له في التجارة.

    أو أنه لم ياذن له.

    فإن أذن له فإن سيده يتحمل مسئوليته، وحينئذٍ يلزمه أن يدفع عنه، وإن لم يأذن له يكون في رقبة الرقيق.

    وسيأتي -إن شاء الله- بسط هذه المسائل في باب الرق.

    قال رحمه الله: [وإلا ففي رقبته]

    فلو أن العبد ذهب واستدان مائة ألف، ثم جاء صاحب المائة ألف يطالبه فإذا به ليس عنده مال، فالآن هل نقول: إن الرقيق لا يملك المال، ونقول لصاحب المال: ليس لك شيء، وتذهب أموال الناس بهذه الطريقة، أو نقول: خذ الرقيق، والرقيق ملك لسيده بملك الشرع؛ لأن الرق مضروب بحكم الشرع؟ فحينئذٍ حصل تعارض بين هذين الأصلين.

    فإذا كان السيد علم بجناية عبده أو باستدانته للمال، فإنه يخير بين أمرين -إذا لم يأذن له- الأمر الأول: إما أن يدفع عنه ويبقى له عبده، وإما أن يكون المال في رقبته، فيباع ويؤخذ منه المال، ويرد الباقي إلى سيده؛ لأننا لو فتحنا هذا الباب لكل رقيق أن يجني على مال الغير ثم بعد ذلك لا يؤاخذ بالجناية ولا يمكن أن يطالب سيده بها، لفتح باب الضرر على الناس، ولذلك تكون جنايته في رقبته.

    قال رحمه الله: [وأرش جنايته] وأرش جنايته كذلك.

    قال رحمه الله: [وقيمة متلفه] أي: وقيمة الشيء الذي أتلفه، فنقول لسيده: إما أن تدفع عنه وإما أن يبيع القاضي هذا الرقيق ويسدد دينه من رقبته، ثم بعد ذلك يدفع الباقي من المال -إن كان ثَمَّ باقي- إلى سيده الذي يملكه. والله تعالى أعلم.

    1.   

    الأسئلة

    حكم تولية المرأة على مال اليتيم

    السؤال: هل يجوز أن يجعل الأب امرأة تلي أبناءه بعد موته؟

    الجواب: باسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فوصاية المرأة على مال الأيتام في حجره أجازها طائفة من العلماء رحمهم الله، ولذلك كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تلي أمر أيتام عبد الرحمن أخيها، وقالوا: أن المرأة لها حق النظر في المال، فيجوز لها أن تتولى النظر في أموال اليتامى، ولا شك أن الرجل أكثر مخالطة للرجال وأعلم بأحوالهم، ولذلك هو أقرب للولاية من المرأة. والله تعالى أعلم.

    حكم أخذ ولي اليتيم الفقير من زكاة مال اليتيم

    السؤال: هل يجوز لولي اليتيم إن كان فقيراً أن يأخذ زكاة مال اليتيم الذي يتولاها؟

    الجواب: يجوز لولي اليتيم أن يأخذ زكاة مال اليتيم إذا كان مستحقاً لها، وذلك لأن المال مال غيره -اليتيم- وقد مكن الله عز وجل من الزكاة الأصناف الثمانية وملكها لهم فقال سبحانه: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60] الآية. فاللام للملك.

    ولذلك قال تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25] فأثبت أنه حق فهو يستحقه بوصف الفقر، والله عز وجل أعطاه بهذا الوصف حقه في الزكاة، فيجوز له أن يأخذ زكاة مال اليتيم.

    لكن بشرط ألا يقدم نفسه مع وجود الغير المستحق والذي هو أولى منه وإنما يكون ذلك بالمعروف، والله تعالى أعلم.

    حكم أكل ولي اليتيم من مال اليتيم

    السؤال: هل يجوز لهذا الولي الفقير أن يأكل من المال للحاجة؟

    الجواب: هذه المسألة تقدمت معنا، فإذا كان ولي اليتيم فقيراً فإنه يأكل بالمعروف.

    حكم تقديم مصلحة الأيتام على مصلحة الغرماء

    السؤال: أيهما يقدم: مصلحة الغرماء أو مصلحة الأيتام إذا مات والدهم ولم يترك ما يزيد عن سداد حقوق الناس؟

    الجواب: أما بالنسبة للمال فليس للأيتام فيه حق إلا بعد سداد ديون الميت؛ لأن الله تعالى جعل الإرث بعد سداد الدين، فقال سبحانه: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْن [النساء:12] وفي الآية الثانية: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12] وفي الآية الثالثة (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11].

    فهذا يدل على أن الإرث واستحقاق الإرث لا يكون إلا بعد سداد الديون، وذمة الميت مقدمة على ورثته في هذا؛ لأن الله نص على أن الإرث يكون بعد سداد الدين، فلا يجوز أن تبقى ذمة الميت معلقة بل ينبغي أن يبادر بسداد ديونه.

    لكن ينبغي على التجار والأغنياء أن يترفقوا بالأيتام، فإذا رأوهم أيتاماً محتاجين إلى المال لأمور ضرورية، فالأفضل لهم أن يوسعوا عليهم، وأن يحتسبوا ذلك عند الله عز وجل؛ لأن هذا من أفضل القربات وأحبها إلى الله سبحانه، فإن الإحسان إلى اليتامى أجره عظيم وثوابه كبير عند الله سبحانه؛ حتى قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) فكفالة اليتيم فيها إحسان، والصدقة على اليتيم إحسان، وكذلك أيضاً التوسعة على اليتامى إحسان، فالأفضل ألا يضيقوا على اليتامى، والله تعالى يبارك لهم في أموالهم ويوسع لهم من واسع فضله. والله تعالى أعلم.

    حكم تنصيب القريب لنفسه ولياً على الأيتام

    السؤال: إذا توفي الوالد ولم يوص لأحد بالولاية على أيتامه، فهل للقريب أن يتصرف في أموالهم بالأحظ لهم؟

    الجواب: من حيث الأصل: يكون النظر لليتامى للقاضي، فالقاضي ينظر من كان الأرشد والأتقى لله عز وجل من قرابته فينصبه عليهم.

    وإن وجد من قرابته كأعمام اليتامى وبني أعمامهم ونحو ذلك ممن هو أتقى لله عز وجل وأحفظ للمال فإنه يقدمه على غيره؛ لأن القريب أكثر شفقة وأكثر رعاية للمال وحفظاً له من غيره، ولأن اليتيم مع عمه وابن عمه يحس بشيء من الراحة فلا يستحي أن يطلب حاجته، ولا يستحي أن يسأل، فإذا كان من الأقرباء فهو أفضل وأولى.

    ولأن الولاية على اليتيم لا يخلو فيها الأمر من النظر إلى عورات، والاطلاع على بعض الأشياء الخاصة في اليتامى، فإذا كانت عوراتهم عند القريب فهو أولى أفضل، وينبغي على وليهم أن ينظر من هو الأولى من القرابة فيوصي إليه، وكذلك على القاضي أن ينظر إلى الأقرب فالأقرب لأنهم أولى من غيرهم.

    ولذلك قدم الله عز وجل القريب على الغريب، وعلى هذا قالوا: إن وجود القرابة يدعو إلى الشفقة والرحمة، والقريب يضحي أكثر مما يضحي الغريب؛ فالقريب إذا وجد مشقة من أولاد أخيه صبر عليهم وتحمل، وإذا وجد العناء أو أوذي بسبب القيام على مالهم وضاقت عليه الأمور احتسب الأجر، فعدها من صلة الرحم، فهذا لا شك أنه يحقق مصالح أكثر مما لو كان غريباً. والله تعالى أعلم.

    حكم ضمان ولي اليتيم إذا تاجر بمال اليتيم وخسر دون تفريط منه

    السؤال: إذا تاجر ولي اليتيم في ماله وخسر دون تفريط منه فهل يضمن؟

    الجواب: إذا تاجر ولي اليتيم في ماله وخسر فإنه لا يضمن إذا كانت التجارة بالمعروف ولم تكن هناك مخاطرة، أما إذا خاطر بالمال وغرر به فإنه يضمن؛ لأنه تعاطى سبب الضرر، وأما إذا كان الحال كما ذكر في السؤال من أنه لم يفرط فحينئذٍ لا ضمان عليه. والله تعالى أعلم.

    حكم إقراض الناس من مال اليتيم

    السؤال: هل يجوز للولي أن يعطي من مال اليتيم قرضاً لشخص آخر؟

    الجواب: مسألة الإقراض من مال اليتيم فيها وجهان للعلماء:

    بعض العلماء يقول: يجوز أن يقرض.

    وبعضهم يمنع وهو الأقوى، وهو الذي تطمئن إليه النفس من ولاية رب المال.

    لكن الذين قالوا بجواز القرض اختلفوا أيضاً على قولين:

    فمنهم من يقول بجوازه ويطلق.

    ومنهم من يقول: يجوز إذا أخذ الرهن واحتاط للمال، فإذا أخذ الرهن واحتاط للمال واستوثق جاز له أن يعطي القرض؛ لأنه قد حفظ مال اليتيم، والقرض فيه رفق بالناس وأجر لليتيم إذا بلغ.

    فقالوا: إنه أفضل وأكمل خاصة لما فيه من التوسعة على الناس، وخوف الضرر على اليتيم يمكن أن يتلافى بالرهن، ولكن الأول أشبه وأقوى. والله تعالى أعلم.

    حكم إعطاء العمال جزءاً من ربح مال اليتيم

    السؤال: إذا تاجر ولي اليتيم بماله فهل له أن يقول للعمال: لكم ربع الأرباح وهو المضاربة؟

    الجواب: هذه مسألة ثانية وهي مسألة المضاربة، تقول لشخص: خذ مائة ألف وتاجر بها والربح بيني وبينك، القراظ والمضاربة خارجة عن الأصول، ومعنى كونها خارجة عن الأصل: أنها تجارة جاءت على غير الوجه المعروف.

    وتوضيح ذلك أولاً: أن العمل مجهول والأجرة مجهولة وغير مضمونة، ففي القراض العمل مجهول؛ لأنك تعطيه مائة ألف وتقول له: اضرب بها في الأرض، فيمكن أن يشتغل بها شهرين ويمكن أن يشتغل بها سنة أو سنتين أو ثلاثاً فلا يعلم مقدار العمل ولا مدته، فالعمل مجهول والمدة مجهولة.

    ثانياً: الربح نفسه لا ندري كم سيكون قليلاً أو كثيراً، وإذا ثبت هذا -وهو جهالة العمل وجهالة الربح- قالوا: إذاً المضاربة خارجة عن الأصول، ومعنى كونها خارجة عن الأصول: أنه لا يقاس عليها غيرها، وكأنها جاءت رخصة وتوسعة، فيختص الحكم بها ولا يقاس غيرها عليها.

    وهذا مسلك طائفة من العلماء كما اختاره أئمة الحنفية والمالكية رحمهم الله وغيرهم، وهناك مسلك ثانٍ يقول: المضاربة إجارة ونوع من الشركة، فهو يستأجره ويشاركه في الربح، فيجوز على هذا القول أن تستأجر وتشارك وتجعل المضاربة نوعاً من الشركة.

    بناءً على القول الأول: لو قال لعامل في بقالة مثلاً: أعطيك أجرة الشهر ألف ريال وربع الربح، حينئذٍ يصح عندهم أن يقاس على المضاربة، ولكن على الوجه الصحيح من أن المضاربة خارجة عن الأصل، فيعتبر إجارة بالمجهول لأننا لا ندري كم ربع الربح، ولا ندري هل يربح كثيراً أو قليلاً.

    وبناءً على ذلك: لا يجوز الإجارة بالمجهول، والذي ذكرته في السؤال: إذا كان العمال الذين دفع المال إليهم على أساس أن يضاربوا بأنفسهم فلا إشكال أن لهم ربع الربح أو نصف الربح على ما اتفق عليه.

    لكن أن يقال لعامل يشتغل في مال اليتيم لك أجرة ثمانمائة ريال في الشهر وأعطيك ربع الربح أو نصف الربح -كما هو موجود الآن في بعض الأعمال- فلا يجوز؛ لأن إدخال المجهول على المعلوم يصير المعلوم مجهولاً، فهو وإن استأجره بألف ريال شهرياً -وهي معلومة- لكن ربع الربح أو ربع الناتج مجهول.

    وحينئذٍ يغرر بالعامل، فقد يظن العامل أن المحل سيربح كثيراً، فيدخل على أساس أنه سيأخذ ربحاً كثيراً، وإذا بالربع شيء يسير والمحل لا يربح كثيراً، فحينئذٍ يكون من الغرر.

    ولذلك الأشبه بالقواعد الشرعية والأصول الشرعية عدم صحة أن يقول لهم: اشتغلوا ولكم ألف وربع الناتج أو نصف الناتج، أو خذ هذه السيارة واعمل بها اليوم ونصف ما تنتجه بيني وبينك، لا يصح لأن هذا تغرير به، فيتعب يومه كله، وقد لا يجد إلا راكباً واحداً، والشريعة لا تريد هذا، إنما تريده أن يعمل ويأخذ عرق جبينه بالشيء الواضح.

    فإذا قلت له: خذ السيارة وأعطني مائة، هذا جائز؛ لأنها أجرة لك، ثم هو يملأ بنزينها ويعمل بها خلال ساعات اليوم، ويحدد له اثني عشر ساعة أو عشر ساعات، وتصبح إجارة للزمان ولا إشكال فيها وهي جائزة، لكن يقول له: خذها ويكون البنزين عليك ولك ربع الناتج أو نصف الناتج أو ثلث الناتج هذا يعتبر من المجهول ولا يصح؛ لأنه إجارة بالمجهول، وإجارة المجهول لا تجوز إجماعاً.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755765926