إسلام ويب

شرح العبودية [13]للشيخ : عبد الرحيم السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • هناك طوائف من الفرق الصوفية الضالة ينكرون الأسباب، ويجعلون الإنسان خالقاً لفعله، وبذلك ضلوا؛ لأنهم صادموا بين الأسباب ومسبباتها، وعقيدة أهل السنة والجماعة: الإيمان بالأسباب مع اعتقاد أنها ليست هي الفاعلة في الحقيقة، بل الفاعل هو الله، فالأسباب مخلوقة مثل المسببات، ولا يمكن أن تحصل المسببات إلا بتعاطي الأسباب، وهذا من خلق الله وتقديره.

    1.   

    طائفة الصوفية المتعبدة بترك الأسباب

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد الله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.

    أما بعد:

    فقد سبق الحديث عن الطائفة الثانية من طوائف الضالين في الحقيقة الكونية، وهي الطائفة التي قسمت الناس إلى عامة وخاصة، فأما العامة فهم ملزمون بأحكام الشرائع، وأما الخاصة فهم الذين سقط عنهم التكليف -كما يظنون- بسبب التعبد الذي تعبدوه.

    أما الطائفة الثالثة فهم أقل غلواً من الطائفة السابقة، فهم لا يرون أن التكاليف تسقط بالكلية عن كل الناس, بل إنهم يتميزون بأنهم يعملون الفرائض المشهورة، ويجتنبون المحرمات المشهورة، لكن فهموا أن القدر يقتضي سقوط الأسباب والتعامل معها، وفهموا أنهم يتركون الأمور بطبيعتها، وانحرفوا في فهمهم للأسباب كما سيأتي بيانه -إن شاء الله- في كلام الشيخ.

    يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن هؤلاء -يعني: من الضالين- طائفة هم أعلاهم عندهم قدراً] يعني: لمكانتهم، وهم الذين أضافوا إلى التصوف اشتغالهم بعلم الكلام النظري العقلي الجدلي.

    [وهم مستمسكون بما اختاروا بهواهم من الدين في أداء الفرائض المشهورة واجتناب المحرمات المشهورة, لكن يضلون بترك ما أمروا به من الأسباب التي هي عبادة, ظانين أن العارف إذا شهد القدر أعرض عن ذلك، مثل: من يجعل التوكل منهم أو الدعاء ونحو ذلك من مقامات العامة دون الخاصة، بناء على أن من شهد القدر علم أن ما قدر سيكون].

    سبب ضلال المتعبدين بترك الأسباب

    والسبب في ضلال هذا الشخص أو في ضلال هذه الطائفة هو أنهم ظنوا أن الإيمان بالقدر -ومنه الإيمان بخلق الله عز وجل- يقتضي ألا يُنسب إلى أحد تأثير بأي وجه من الوجوه, وقد سبق أن بينا أن مراتب القدر أربعة:

    المرتبة الأولى: العلم الشامل المحيط بكل شيء.

    المرتبة الثانية: كتابة الله عز وجل لهذه المقادير.

    المرتبة الثالثة: المشيئة النافذة.

    المرتبة الرابعة: خلق أفعال العباد.

    فهؤلاء عظموا مرتبة خلق الله عز وجل للأشياء إلى درجة أنهم جردوا المخلوق من قدرته ومن تأثيره، فهؤلاء جبرية، لكن مع هذا لم يكونوا من الغلاة الذين اعتقدوا بأن الجبر وعدم نسبة الفعل إلى العبد يقتضي سقوط التكاليف عنه, فالغلاة سبق الحديث عنهم، لكن هؤلاء أقل غلواً، فهم يقومون بالأعمال الواجبة المشهورة، ويتركون الأعمال المحرمة المشهورة، لكن في نفس الوقت يعتقدون أن الأسباب ليس لها تأثير، وبناء على هذا فهم لا يتعاطون الأسباب، فهؤلاء انحرفوا من جهتين:

    الجهة الأولى: من الجهة النظرية؛ حيث تصوروا أن الأسباب لا تأثير لها البتة.

    والجهة الثانية: أن هذه العقيدة الفاسدة أثرت على سلوكهم، لكن ليس تأثيراً تاماً كما هو الحال عند الجبرية الذين أسقطوا التكاليف كلها.

    فالفرق بينهما: هو أن الغلاة الذين سبق الحديث عنهم يسقطون التكاليف عموماً، ويقولون: العبد مجبور، والله عز وجل هو الذي خلق هذه الأفعال جميعاً، فليس للعبد مسئولية، وبناء على هذا فعندهم أن الكافر معذور، والمبتدع معذور، والفاسق معذور، والمجرم الذي يقتل الناس بغير حق معذور؛ لأن هذا هو الشيء الذي جبرهم الله عليه! فهؤلاء ضالون، حيث أسقطوا التكاليف عن البشر جميعاً.

    وجاءت طائفة أخرى فخففت الغلو وقالت: التكليف يسقط عن طائفة دون أخرى، فالعامة لا يسقط عنهم التكليف، والخاصة يسقط عنهم التكليف.

    وجاءت طائفة ثالثة فقالوا: التكليف لا يسقط، فالواجبات المشهورة نؤديها، والمحرمات المشهورة نتركها، لكنهم يعتقدون العقيدة الفاسدة التي أدت بالطائفة الأولى إلى ما توصلت إليه من سقوط التكاليف، وهي أنه ليس هناك تأثير للأسباب.

    1.   

    عقيدة أهل السنة في الأسباب والمسببات

    وأما نحن فنعتقد عقيدة أهل السنة والجماعة، وهي أن الله عز وجل خلق الخلق، ومما خلق الأسباب الموجودة في هذا الخلق، وهو سبحانه وتعالى يدبر مخلوقاته بعضها ببعض, فالأسباب وهي من مخلوقات الله عز وجل يدبر بها بعض مخلوقاته الأخرى.

    ونضرب مثالاً على ذلك: فقد خلق الله عز وجل المطر وخلق النبات، والنبات لا يحصل إلا بالمطر, فأنت عندما ترى الأرض هامدة ليس فيها نبات فينزل عليها سبحانه وتعالى المطر فينبت الزرع, تعرف أن الذي أنبت الزرع هو هذا المطر النازل من السماء, والمطر مخلوق لله، وهو السبب في إنبات الزرع، فهل الذي أنبت الزرع هو المطر؟! لا، بل هو الله عز وجل، لكن المطر سبب, أي: أن الله عز وجل جعل فيه خاصية معينة سببت الإنبات، وهذه الخاصية من خلق الله سبحانه وتعالى.

    وهكذا بقية حياة الإنسان، حيث جعل الله عز وجل هناك أسباباً ومسببات، فالأسباب خلقها الله عز وجل كما خلق المسببات، لكن لا يمكن أن تحصل المسببات إلا بتعاطي الأسباب، وهذا من خلق الله عز وجل وتقديره.

    1.   

    آثار تعطيل الأخذ بالأسباب

    ولما جاءت مثل هذه الطوائف التي أنكرت الأسباب كانت هي السبب في تأخر المسلمين زمناً طويلاً جداً عن الاكتشافات المعاصرة، فهل نظن أن الغربيين أذكى عقولاً، وأزكى نفوساً، وأكبر تصوراً من المسلمين؟! بل هم أقل شأناً منهم في الذكاء وفي الفهم وفي التصور.

    فالرجل الغربي ثلث عقله يضيع في المخدرات، وجزء آخر يضيع في الشذوذ الجنسي والأهواء والشهوات، ولا يفكر إلا بنسبة يسيرة من عقله، لكنه فكر بنسبة يسيرة من عقله تفكيراً سليماً، من ناحية أنه استفاد من الماديات المعاصرة، وفهم معنى الأسباب.

    ولما وجدت هذه الطوائف -مثل الصوفية ومثل الجهمية- وعمت مناهجها في حياة المسلمين، وصارت هي المهيمنة والمسيطرة، وصارت دول الإسلام قبل ظهور العالم الغربي تتبنى مثل هذه العقائد وتنشرها في الناس، لم يتعاط الناس هذه الأسباب، فماذا سيحصل في أمة ترى أن ترك الأسباب هو التوحيد؟!

    فهل تتصور أن مثل هذه الأمة سينشأ فيها علماء عباقرة يستطيعون أن يكشفوا الأحداث التي من حولهم ويستطيعون أن يخترعوا وأن يطوروا المخترعات؟! هذا بعيد؛ لأن من التوحيد ترك هذا الشيء، وهكذا عمل التصوف، ونخر في جسم الأمة الإسلامية إلى هذه الدرجة.

    فالدولة العثمانية قبل ظهور العالم الغربي -أي: قبل الحرب الكونية السابقة، الحرب العالمية الأولى والثانية- كانت تتبنى التصوف، وتتبنى العقيدة الماتريدية، وهي نفسها عقيدة الأشاعرة، والتصوف والماتريدية يجتمعان في إهمال الأسباب، ولهذا بقي العثمانيون سنين طويلة لا يتعاطون الأسباب في المخترعات المعاصرة، في الوقت الذي كان العالم الغربي فيه يتعامل مع الأسباب بشكل جدي، وليس منهج التصوف ومنهج الماتريدية هو منهج الإسلام، وإنما منهج الإسلام هو الاستفادة من الأسباب الموجودة في الأرض، واعتقاد أنها من مخلوقات الله عز وجل، ولا يعني كوننا نستفيد من هذه الأسباب أن ننسب لها الخلق، فالخلق لله عز وجل، وهذه الأسباب مخلوقة، لكن نعتقد أن هذا الكون مركب من أسباب ومسببات، والأسباب والمسببات هذه جميعاً من خلق الله عز وجل، فإذا تعاطينا السبب واستفدنا منه فلا يعني هذا أننا نسبنا إلى السبب الخلق والتأثير بأي وجه من الوجوه، فأنا أعتقد أن السبب مخلوق، فكيف أنسب له الخلق؟! فلا يمكن أن أنسب إليه الخلق، لكن أعتقد أن الله سبحانه وتعالى أمرني باتخاذ السبب والاستفادة منه، ولهذا يقول في قضايا الجهاد: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [الأنفال:60]، فما هو معنى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]؟! يعني: نموا أنفسكم، وقووا أنفسكم، وتعاطوا الأسباب، واصنعوا السلاح، ورتبوا أنفسكم، ونظموا أنفسكم بشكل صحيح، بحيث تقاتلون العدو فتنجحون بإذن الله عز وجل، لكن إذا ما تعاطينا الأسباب، فما اتخذنا القوة، وما تعاملنا معها بشكل صحيح، فلن نستطيع أبداً أن نهزم عدونا، وسيدخل علينا العدو ويقتلنا، ونحن لا نتعاطى شيئاً من هذه الأسباب.

    ولهذا كان للبدع تأثير عظيم جداً في حياة الأمة لا يدركه إلا من يدقق، ولا شك في أن الدولة العثمانية كانت لها جهود عظيمة جداً في حماية بيضة الإسلام العامة، وكان لها جهود عظيمة جداً في نشر الإسلام، وتوضيح الحق للناس إلى درجة كبيرة، لكن عندما توجد بدعة من البدع في المجتمع المسلم وتنخر فيه تكون هي السبب في الهزيمة، فإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم -على فضلهم وعلى مكانتهم وعلى منزلتهم العظيمة- هزموا يوم أحد بمعصية واحدة فقط، فما بالنا بغيرهم؟! ولهذا يقول الله عز وجل عنهم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، فيهزم الإنسان إذا فرط وإذا أخطأ، حتى ولو كان له فضل عظيم من جهة أخرى، وهذا يدعونا إلى الاجتهاد في البعد عن التفريط بكل صوره وأسبابه.

    1.   

    بيان الغلط العظيم في ترك الأخذ بالأسباب

    يقول الشيخ عن هذه الطائفة: [وهذا غلط عظيم]، وهذا الكلام كان قبل أن تنشأ الحضارة الغربية، وقبل أن تظهر اليوم، فهو يسمي ترك الأسباب غلطاً عظيماً، وهذا هو منهج السلف رضوان الله عليهم منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن تعاطي الأسباب منهج رشيد.

    ولهذا ظهر في المسلمين أشخاص يتبنون منهج الغرب، ويرون أنه لا نجاح للمسلمين ولا فلاح لهم ولا عز لهم إلا بتبني منهج الغرب تماماً؛ لأنهم نظروا إلى الغرب فوجدوا أنهم على حضارة مادية عظيمة، ونظروا إلى المسلمين في تلك العصور بسبب ظهور هذه البدع فيهم فإذا هم على مستوى هزيل جداً، فظنوا أن الإسلام هو السبب الذي جعل المسلمين على مستوى هزيل، وظنوا أن الإسلام هو السبب الذي أوصلهم إلى هذا المستوى، ولم يعرفوا أن المسلمين في تلك الفترة ما كانوا يمثلون الإسلام بصورته الصحيحة، ولا كانوا يمثلون الإسلام بصورته المثالية الحقة، وإنما كانوا على خطأ، فلما تصورا هذا التصور ارتموا في أحضان الغرب، وظنوا أن النجاة والفكاك من الانهزامية، والنجاة والفكاك من التأخر العلمي، والنجاة والفكاك من الضياع عند هؤلاء الغربيين، وما دروا أن القضية عكس ذلك.

    يقول: [فإن الله قدر الأشياء بأسبابها كما قدر السعادة والشقاوة بأسبابها].

    ولهذا كانت هذه طائفة متناقضة: فهم يصلون، ويصومون، ويحجون، ويزكون، ويتركون الزنا، ويتركون شرب الخمر، ثم يتركون الأسباب، فيقال لهم: لماذا تصلون وتصومون وتحجون؟! فيجيبون بأن ذلك يدخلهم الجنة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756011717