إسلام ويب

الغربةللشيخ : عبد الله الجلالي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد بدأ الإسلام غريباً، ثم انتهت تلك الغربة بأن نصر الله عز وجل دينه، وأعلى كلمته، وأيد أولياءه، وذلك حين صبر المسلمون، وجاهدوا في سبيل الله، وضحوا بأنفسهم وأموالهم من أجل هذا الدين، وفي هذه الأيام نشهد غربة عظيمة مستحكمة كالأولى، وقد تكون أشد وأقسى، ولن تنتهي هذه الغربة إلا إذا سلكنا طريق الغرباء الأولين، وحينئذ سنظفر بما ظفروا به، ويكون النصر والسؤدد حليفنا بإذن الله مولانا.

    1.   

    تعريف الغربة وواجب المسلم تجاهها

    الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونشهد أن لا إله إلا الله، حكم بالعزة له ولرسوله وللمؤمنين، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الذي جاهد في الله حق جهاده، فبلغ رسالة ربه، وأدى الأمانة ونصح الأمة، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيا أيها الإخوة في الله! إن الحديث عن الغربة حديث يؤلم القلب ويجرح النفس، لكنه حديث عن الواقع، ولذلك فإن المسلم لا يجوز له أن يكون نصيبه من هذا الدين هو التلاوم والتباكي على الواقع المرير الذي يعيشه العالم الإسلامي؛ لأن ذلك لن يحول بين الناس وبين عقوبة الله عز وجل، فالله تعالى يقول: فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [الأعراف:5]، وذكر بعد ذلك ما حل بهم من النكال والعذاب حيث قال: جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ [الأنبياء:15].

    فالتلاوم لا يغني من الله شيئاً، ولكن المسلم مطالب في أن ينظر في الواقع، ثم عليه أن يغير في نفسه وفي بيته وفي مجتمعه وفي الناس أجمعين؛ لأنه تحمل هذه الأمانة التي وضعها الله تعالى في عنقه.

    أما الحديث عن الغربة بمعناها اللغوي، فمعنى الغربة: أن يكون الشيء غير مألوف في مكانه أو في زمانه، ولذلك فإن غربة الإسلام معناها: أن يكون الإسلام غير مألوف في مكانه أو في أرضه أو في زمانه في فترة من الفترات، ولذلك فإن منطلقنا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء)، وفي رواية: (الذين يصلحون إذا فسد الناس)، وفي رواية أخرى: (الذين يصلحون ما أفسد الناس)، ولذلك فإن حديثنا عن هذا الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيكون الحديث في هذا الموضوع مكوناً من خمسة منطلقات:

    المنطلق الأول: الغربة الأولى.

    المنطلق الثاني: موقف سلفنا الصالح من تلك الغربة.

    المنطلق الثالث: كيفية اجتياز سلفنا الصالح لهذه الغربة.

    المنطلق الرابع: شدة الغربة وقسوتها في أيامنا الحاضرة.

    المنطلق الخامس: كيف نجتاز هذه الغربة؟

    1.   

    الغربة الأولى

    أما الحديث عن الغربة الأولى فهو حديث يتكرر في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي كتب السيرة، فحينما نقرأ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، والسلف الصالح المهديين؛ نجد غربة الإسلام واضحة، خصوصاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أول خلافة الخلفاء الراشدين، هذه الغربة نجدها ماثلة منذ أن قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس بدعوة الإسلام سراً، ولم يؤمن معه إلا عدد قليل من المسلمين الأوائل، حتى إذا أعلن دعوة الإسلام بعد نزول قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [الحجر:94] حينها صعد على الصفا ونادى بطون قريش: يا بني فلان! ويا بني فلان! ويا بني فلان! حتى إذا اجتمعوا حوله قال لهم: (أرأيتكم لو أخبرتكم أن عيراً من وراء هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما عهدنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد).

    ومنذ تلك اللحظة قامت المعركة بين الإسلام وبين الجاهلية، المسلمون يريدون أن يجهروا بكلمة التوحيد؛ امتثالاً لأمر الله عز وجل، واتباعاً لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، والكفر قد ألف عبادة الأوثان والأصنام، فقامت المعركة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جانب، وبين الكفر بجميع ملله وأشكاله من جانب آخر، ولقد أوذي المسلمون في تلك الفترة أذىً شديداً، عبر عنها القرآن العظيم في مواقع كثيرة من كتاب الله، تجد ذلك في قول الله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، ففي تلك المرحلة يستبطئ الرسول والمؤمنون معه النصر ويستعجلون النصر؛ لأن الأمر قد وصل بهم إلى درجة لا تطاق.

    وعبر عنها القرآن في موضع آخر بقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142].

    وفي موضع ثالث: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً [التوبة:16].

    وفي موضع رابع: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ [يوسف:110].

    وفي موضع خامس يقول الله تعالى: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3]، إلى آخر الآيات التي نزلت في مناسبة واحدة.

    وعلى كل فقد صور القرآن لنا المستوى الذي وصل إليه المؤمنون في تلك الفترة التي جهر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته، وهذه الصور تتكرر مع كل رسول مع أمته حينما يجهر بدعوته.

    وهذه الغربة تطورت حتى صورها لنا حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه حيث قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات مرة ما كنا نجده من أعدائنا -يعني: في مكة- فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً فقال: لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم فيوضع المنشار على مفرق رأسه إلى قدميه -يعني: يقسم قسمين- ولقد كان يمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه، ولكنكم قوم تستعجلون، ووالله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه).

    ويتحقق هذا الوعد في تلك الفترة العصيبة الحالكة من تاريخ الإسلام، ولقد وعد صلى الله عليه وسلم أن ينطلق الإنسان في الجزيرة العربية لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولقد كان الصحابة يصدقون وعد الله ووعد رسوله، فكانوا ينتظرون هذا الوعد وهم في أشد ظروف الحياة.

    1.   

    موقف سلفنا الصالح من تلك الغربة

    لقد بلغ الأذى بالمؤمنين في تلك الفترة وفي تلك الغربة ما لا تطيقه الجبال الرواسي، بل لقد كان المؤمنون أقوى من الجبال؛ لأن الله تعالى يقول عنهم: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم:46]، أي: وما كان مكر الماكرين لتزول منه الجبال، والمراد بالجبال الصحابة رضي الله عنهم.

    صور من صبر الصحابة على تعذيب المشركين وأذاهم لهم

    من صور التعذيب والأذى الذي حصل للصحابة: ما وقع لـبلال رضي الله عنه، فقد كان المشركون يخرجون بـبلال بن رباح رضي الله عنه في شدة الحر إلى بطحاء مكة المحرقة، فيبطح على بطنه، ثم يأتون بالحجارة الحارة فتوضع على ظهره، ويقول له سادته: لا نزيل عنك هذا العذاب حتى تكفر بمحمد، فلا يزيد على أن يقول: أحد أحد، أحد أحد، لا يصرفه ذلك عن دينه.

    ولقد أتي بـعمار بن ياسر رضي الله عنه وأمه وأبيه وجميع الأسرة، فوقعوا تحت عذاب المشركين في تلك الفترة، ولقد مات طائفة منهم تحت العذاب، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمر بهم فلا يزيد على أن يقول لهم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).

    ثم بعد ذلك يفكر المسلمون بالهجرة، وكان من بين المهاجرين الأتقياء صهيب الرومي رضي الله عنه، فيأخذ شيئاً من ماله ويلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعترض المشركون سبيله ويقولون له: يا صهيب! أنت رجل صانع فينا، أتيتنا فقيراً وأنت اليوم تملك هذه الأموال، فيقول لهم: وماذا تريدون مني وألحق بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نريد منك أن تدلنا على كل أموالك، فيقول: هذه أموالي كلها، خذوها واتركوني ألحق بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيسلمهم كل ما يملك؛ فراراً بدينه ولحوقاً بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلا يكاد يصل إلى المدينة المنورة حتى يسمع المسلمين يتلون فيه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، ويبشره الرسول صلى الله عليه وسلم بما نزل في شأنه وهو قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي [البقرة:207]، أي: يبيع نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207] هذه الآية نزلت في صهيب رضي الله عنه؛ لأنه باع نفسه لله عز وجل بكل ما يملك من أموال الحياة الدنيا.

    صور من الأذى الذي تعرض له الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الغربة

    يتطور الأمر ويصل العذاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغربة، فيقاسي من آلام العذاب ما لم يقاسه أحد، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحمل الأذى ويمسح الدم عن وجهه بسبب جراحات قومه ويقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، ويسيل الدم من عقبه وتكسر ثنيتاه، وتجرح وجنته، ويقول المجرم أبو جهل عليه لعنة الله إلى يوم القيامة ذات يوم: إذا رأيتم محمداً يصلي فأخبروني، حتى إذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة نادوه: يا أبا الحكم! هذا محمد يصلي، فيأتي ويقبل عليه ثم يدبر ثم يقبل عليه ثم يدبر، يريد أن يطأ على عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: ماذا جرى لك؟ فقال: والله لقد رأيت بيني وبينه فحلاً قد فغر فاه يريد أن يأكلني.

    ثم بعد ذلك ينزل الله تعالى في شأنه: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى [العلق:9-10].

    ثم بعد ذلك يتطور الأمر فيلاقي من أهله وذويه عليه الصلاة والسلام كل جفاء، فيبصق في وجهه أبي بن خلف عليه لعنة الله إلى يوم القيامة، وقصته معروفة: حينما دعا أبي بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مائدة طعام ذات يوم، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر طعامه حتى يشهد أبي أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم يشهد أبي أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم مائدته، ثم يلومه المشركون من قرناء السوء وأصحابه وجلسائه ويقولون: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟! والله لا نكلمك أبداً حتى تذهب وترتد عن الإسلام وتبصق في وجه محمد، ثم يذهب فيبصق في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرتد عن الإسلام، ويرد الله تعالى بصاقه إلى وجه أبي ، فتصبح علامة فيه إلى أن مات.

    هكذا تتطور الغربة وتزيد الغربة قسوة أن يحارب الرسول صلى الله عليه وسلم ويحارب المؤمنون معه من أهلهم وذويهم، وكما يقول الشاعر:

    وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على الحر من وقع الحسام المهند

    وعلى هذا فقد قامت كل المساومات لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليتنازل عن دعوته، ولكنه يرفض كل هذه المساومات، ويقول لعمه الذي كان مندوب هذه المساومة: (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه).

    1.   

    كيفية اجتياز السلف الصالح للغربة الأولى

    هذه هي المرحلة الأولى لغربة الإسلام؛ تصوروا قسوتها أيها الإخوان! وأنتم تعيشون اليوم غربة أخرى تزيد قسوة وضراوة على هذه الغربة في كثير من أحيانها، لكن كيف استطاع المؤمنون الأوائل أن يجتازوا تلك الغربة وأن يصلوا إلى ساحل النجاة والأمان؛ ليرتفع دين الله عز وجل وينتشر في الأرض، وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى؟ بأي شيء استطاعوا أن يجتازوا تلك الغربة؟

    لقد شمر القوم عن سواعد الجد، وعاهدوا الله عز وجل على الجهاد، ورفضوا كل الإغراءات والمساومات التي عساها أن تصرف اليوم كثيراً من الناس عن اجتياز غربتنا اليوم، لقد تركوا الوطن والأهل والعشيرة حينما فرض عليهم ذلك، وكانوا يتمنون تلك الساعة التي ينتقلون فيها إلى المدينة؛ ليقيموا دولة الإسلام، ولو خرجوا من أموالهم وأهليهم وكل ما يتمتعون به، لقد خرجوا وتركوا الوطن، وتحول الأغنياء إلى فقراء، وتركوا كل ما يملكون من متاع الحياة الدنيا وزينتها، تركوه في مكة وانتقلوا بإيمانهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.

    لقد أعلن الصحابة الجهاد في سبيل الله، وأبرموا العقد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجهاد، حينما أنزل الله عز وجل هذه الوثيقة التزموا بها، فوقعوا عليها وصدقوا الله ما عاهدوه عليه، هذه الوثيقة نقرؤها في سورة التوبة: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ [التوبة:111]، بل لقد فرح المسلمون بهذه البيعة، حتى قام عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لما سمع هذه الآية يتلوها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! ما لنا إذا قتلنا في سبيل الله؟ قال: الجنة، فقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه والمؤمنون من ورائه: يا رسول الله! ربح البيع، والله لا نقيل ولا نستقيل).

    لقد فرحوا بهذه البيعة التي لها ثمن ومثمن وبائع ومشتر:

    أما البائع فهو المؤمن، وأما المشتري فهو الله عز وجل، وأما الثمن فهو النفس والمال، وأما المثمن فهو الجنة، ولقد صدق الله عز وجل هذه الوثيقة في التوراة والإنجيل والقرآن؛ حتى لا يكون لأحد من الناس عذر في ألا يفي بهذه البيعة.

    إخوتي في الله! هكذا اجتاز سلفنا الصالح تلك الغربة، وشمروا عن سواعد الجد، وتحملوا الأذى في سبيل الله، وتركوا الأهل والوطن والعشيرة، وصدقوا الله عز وجل ما عاهدوه عليه، قال عز وجل: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ [الأحزاب:22-24].

    هكذا أيها الإخوان! يجتاز المؤمن الأمور الصعبة؛ لأن الأمور الصعبة لا يمكن أن يجتازها الناس بالنوم والراحة والمتاع والدعة؛ لأن الجنة كما أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم غالية نفيسة، يقول عليه الصلاة والسلام: (من خاف أدلج)، أي: مشى بالليل، والمراد بالإدلاج هنا: السعي الحثيث إلى الآخرة، (ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).

    نصر الله تعالى للمؤمنين وتمكينه لهم بعد تلك الغربة

    لقد اجتاز سلفنا الصالح تلك الغربة، وقدموا كل ما يملكون من نفس ونفيس، لقد قدموا الأرواح لله عز وجل، فدخلوا المعركة وهم يحملون أرواحهم على أكفهم، ابتغاء مرضات الله عز وجل، وطلباً للشهادة والجنة، لقد صدقوا الله عز وجل ما عاهدوه عليه، ولم ينكثوا ولم ينقضوا ذلك العهد، فأعطاهم الله عز وجل سعادة الدنيا والآخرة، وكان جهالهم يقولون في يوم من الأيام: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا [القصص:57]، والله عز وجل جعلهم يتخطفون من أرضهم؛ ليكونوا قادة العالم وسادة الحياة الدنيا، بعد أن قدموا عشرات الآلاف من القتلى والشهداء في سبيل الله عز وجل، فهذه بلدة واحدة -وهي بلاد الشام- لم يستطع المسلمون أن ينشروا الإسلام فيها إلا بعد أن قدموا خمسة وعشرين ألف شهيد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الثمن وإن كان كثيراً لكنه ثمن قليل بالنسبة لعزة الإسلام وقيام دولة الإسلام، ولذلك فقد كانت النتيجة مشرفة، وكان الأمر واضحاً، وكانت العزة -كما وعد الله عز وجل- لله ولرسوله وللمؤمنين.

    لقد شعر المسلمون بالعزة، ولقد تفيئوا ظلال هذه العزة وهم في عنفوان حياتهم، بعد أن أصبحت دولة الإسلام ترفرف أعلامها على عالم عظيم من أرجاء هذا الأرض، فامتدت دولة الإسلام من بلاد الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، إلى ما يقرب من باريس اليوم شمالاً، إلى أكثر هذا العالم جنوباً؛ لأن المسلمين صدقوا بوعدهم لله عز وجل فصدقهم الله عز وجل وعده، الذي سطره في سورة النور في قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ [النور:55]، وكأن هذه إشارة إلى الغربة الجديدة، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55].

    تأييد الله عز وجل للمؤمنين بالكرامات وخوارق العادات

    أيها الإخوان! لا تعجبوا حينما تقرءون في التاريخ خوارق للعادة! لا تعجبوا حينما تقرءون في تاريخ الإسلام أن نواميس الحياة وأنظمة الدنيا قد انقادت للمؤمنين الذين صدقوا في وعدهم لله عز وجل! لا تعجبوا يا إخوتي! حينما تسمعون أن سعد بن أبي وقاص في أيام عنفوان الدولة الإسلامية يتجمد له نهر دجلة ويعبر عليه، حينما انتهت معركة القادسية، وأراد أن ينتقل إلى المدائن عاصمة الفرس لم يكن لديه في ذلك الوقت سفن ولا قوارب يعبر فيها هذا النهر، فيسأل قومه: ماذا يقع أمامنا؟ فيقولون: المدائن والقصر الأبيض الذي يسكنه يزدجرد ، فيقول: والله لأعبرن على هذا الماء ولو على ظهور الخيل، فيتجمد نهر دجلة ويعبر من القادسية إلى المدائن، ويقبلون على أهل المدائن فيظن أهل المدائن أن هؤلاء شياطين وقد أقبلوا عليهم، فيقولون: جاءكم الشياطين -بلغتهم الخاصة- فيتركون المدائن، ويدخل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قصر المدائن القصر الأبيض -الذي هرب منه يزدجرد - وهو يتلو قول الله عز وجل: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ *كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [الدخان:25-28].

    لم يدخل بنشوة الطرب والغناء تتقدمه الراقصات والمغنيات، كما يفعله الذين يزعمون بأنهم من الفاتحين في أيامنا الحاضرة، وإنما يعترف لله عز وجل بالفضل والنعمة، وهو يردد أن هذه نعمة الله عز وجل.

    لا تعجبوا يا إخوتي! حينما تسمعون عبر التاريخ أن عقبة بن نافع رضي الله عنه، وهو يفتح في شمال أفريقيه في أيام عز الإسلام وذروته أيام دولة بني أمية، فيقبل على بلاد تونس الحالية ويريد أن يبني قاعدة للإسلام هناك، ثم يسأل: ما هذا المكان الذي يقع أمامنا؟ فيقولون: أيها القائد يرحمك الله! إنها غابة القيروان التي عجز الفاتحون كلهم عنها؛ لأنها مقر للوحوش الكاسرة المفترسة، فيقف عقبة بن نافع رضي الله عنه ويقول: أيتها الوحوش! نحن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جئنا لنشر الإسلام هنا.

    تصوروا أن الوحوش قد سمعت هذه المقالة، وأن الله عز وجل الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قد ألهمها ما يقول عقبة .

    يقول شاهد عيان: والله لقد رأينا الوحوش تحمل أولادها تخرج من الغابة، فيدخل عقبة بن نافع الغابة ويقيم فيها مدينة القيروان؛ لتكون مركزاً للمسلمين في شمال أفريقيا.

    ثم يواصل البطل المسلم سيره حتى وصل إلى حافة المحيط وقال: والله لو أعلم أن وراء هذا الماء بشراً لخضت إليهم على فرسي هذه.

    ولم تكن قد اكتشفت الأمريكتان في ذلك الوقت بعد.

    ثم أيضاً لا تعجبوا حينما نسمع قصة قتيبة بن مسلم رضي الله عنه، وهو يفتح بلاد ما وراء النهر، وقد أقبل على بلاد الصين بعد أن فتح لنا هذه المنطقة الواسعة التي تجتاحها الشيوعية في أيامنا الحاضرة -نسأل الله أن يرد المسلمين إلى دينهم لتعود لهم قوتهم الأولى- فيسأل قتيبة: ماذا يقع أمامنا من البلاد؟ فيقولون: بلاد الصين، فيقول: والله لا أرجع إلى وطني حتى أطأ بقدميَّ هاتين أرض الصين، وحتى أضع وسام المسلمين على أهل الصين، فيصل الخبر إلى ملك الصين وما يقوله قتيبة ، فيخاف ملك الصين من المسلمين، فيقول: هذه تربة في صحاف من الذهب، اذهبوا بها إلى قتيبة وهو في مكانه ليطأها وليبر بقسمه، وهؤلاء أولادي الأربعة ليضع عليهم قتيبة وسام المسلمين، وهذه الجزية ندفعها كل عام لـقتيبة ولا يدخل إلى بلادنا.

    هكذا ينصر المسلمون بالرعب حينما يصدقون مع الله عز وجل.

    أيها الإخوان! أما سمعتم حينما امتدت دولة الإسلام تسابق الشمس على مطالعها؛ وذلك عندما رفع هارون الرشيد -أحد خلفاء دولة بني العباس- رأسه إلى السماء ليخاطب قطعة من السحاب تمر من فوق رأسه ويقول: أيتها السحابة! أمطري أنى شئت، فسيأتيني خراجك ولو بعد حين. وذلك لأن هذه السحابة ستمطر في أي بقعة من بلاد الإسلام الواسعة.

    هكذا بلغت دولة الإسلام، وهكذا امتدت.

    1.   

    عودة الغربة وقسوتها في أيامنا الحاضرة

    يدور الزمان دورته، ويعيد التاريخ سيرته، وينام المسلمون على المتاع والراحة والدعة، ولا يستيقظون إلا وهم في غربة أقسى من تلك الغربة الأولى، ينام المسلمون حينما أتتهم الدنيا بشهواتها وملذاتها وهي راغمة، وحينما يغرق طائفة من المسلمين بالمتاع الحلال أو بالمتاع المشتبه، وما يدريك لعلهم قد غرقوا في كثير من المتاع الحرام.

    ثم رفع الله عز وجل يده عن هؤلاء الناس بعد أن كانت دولة الإسلام تمتد من الصين إلى المحيط الأطلسي، وهي دولة واحدة يحكمها رجل واحد، يسير فيها المسلم مرفوع الرأس، لا تستوقفه إدارة جوازات تسأل عن هويته، ولا تستوقفه مراكز شرطة وأمن تسأل عن إقامته أو عن جواز سفره أو عن جنسيته، أما المسلم اليوم فيعيش في دولة صغيرة من مائة دولة أو أكثر في أيامنا الحاضرة في هذه المساحة؛ لأن الله عز وجل يقول: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الأنفال:53]، ويقول تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11].

    ومن هنا تمزقت الدولة الإسلامية على أيدي أعداء المسلمين الذين يتربصون بهم الدوائر، ليتحقق في المسلمين قول الله عز وجل: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود:102-103] إنها دروس وعبر يرويها لنا التاريخ.

    ومن هنا فقد المسلمون كثيراً من بلادهم، بل لقد أصبحت مواطن الإسلام الأولى الآن تهتز عروشها في كثير من البلاد الإسلامية تحت أصحابها؛ لأن الله عز وجل قد عاقب هؤلاء الذين عاثوا في الأرض فساداً، والذين أصبحوا قد تجرد كثير منهم عن دينه، واتجهوا إلى الشرق والغرب في أفكارهم وفي مللهم، وفي أحكامهم وفي تشريعهم، فالله عز وجل عاقبهم، ولذلك تسمعون أخبار هذا العالم عبر الأثير وفي الصحف وفي المجلات، وهذا العالم قد غرق في دمه إلى الركب، تسمعون أخبار لبنان، وتسمعون ما يحدث في العراق وما يحدث في إيران، وما يحدث في مناطق كثيرة من بلاد الله عز وجل الواسعة؛ لأن هؤلاء قد عصوا الله عز وجل؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيما يروي عن ربه سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني).

    هذه الفتن تحل قريباً من دارنا، ولنا في ذلك عظة وعبرة، فليس بيننا وبين الله عز وجل عهد ولا ميثاق، فعلينا يا إخوتي! أن نستقيم على دين الله عز وجل، وأن نناصح القادة والمسئولين، وأن نقول لهم: اتقوا الله عز وجل، فإن ما يحدث قريباً منا ليس منا ببعيد، فعلينا أن نخشى الله.

    لقد عادت الغربة في واقع المسلمين، فنجد أن هذه الغربة لم تترك جانباً من جوانب الحياة عند المسلمين إلا وأثرت فيه، لقد غزت المسلمين في اقتصادهم وفي أخلاقهم وفي أنظمتهم الاجتماعية وفي سلوكهم وفي رجالهم وفي نسائهم وفي حكامهم وفي شعوبهم، وكما تكونون يولى عليكم.

    1.   

    مظاهر الغربة في هذا الزمان

    انتشار الربا بين المسلمين

    إن كل ما كان في جاهلية الأمس عاد في جاهلية اليوم، فنجد أن الربا الذي كان بالأمس نظاماً من أنظمة الجاهلية قد عاد اليوم بجميع أشكاله وأنواعه: ربا الفضل، وربا النسيئة.

    في البنوك يدفعون مائة ريال ليأخذوا مائة وعشرة، يحاربون الله عز وجل علناً، يقول عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:278-279]، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة قيل لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب) أي: حارب الله عز وجل، ومن يستطيع أن يحارب الله؟ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].

    وهناك ربا الحيل المكشوفة، كأن يقولوا: خذ هذه الكمية من الخام أو من الأرز وبعه في الحال، ثم خذ ثمنه، ثم اخرج بضع دقائق وائت بشيء من المال، فهذه حيل مكشوفة تلف بلفائف كاذبة، كأنهم يخادعون الله عز وجل وهو خادعهم.

    كذلك ربا الصاغة الذين يبيعون ويشترون الذهب بالكلام وبالتلفون وبدون نقد.

    وكذلك ربا العينة الذين يبيعون الشيء بثمن مؤجل ثم يشترونه بأقل منه حالاً.

    كل أنواع الربا واقعة، حتى ربا الأضعاف المضاعفة الذي هو أخبث أنواع ربا الجاهلية، الذي يقول الله عز وجل عنه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ [آل عمران:130]، وربا الأضعاف المضاعفة: هو أن يعطي إنسان إنساناً مالاً بزيادة، حتى إذا حل الدين قال: إما أن تسدد وإما أن نزيد، وهذا هو ما تستعمله البنوك في أيامنا الحاضرة علناً وفي وضح النهار، ويسجل في الدفاتر، ويستحق هؤلاء الذين يسجلونه لعنة الله ولعنة رسوله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم: (لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم في الإثم سواء)، وهذا من الحيل المكشوفة بحيث إذا حل الدين ولم تسدده يوجله عليك ويزيد.

    هؤلاء يتلاعبون بحرمات الله عز وجل وحدوده، ويظنون أنهم يخادعون الله تعالى فيها والله خادعهم.

    هذا الربا أصبح نظاماً اقتصادياً، وبدل أن يسمى رباً سمي: اقتصاداً، وأصبحت الحياة في مفهوم عالمنا اليوم لا تقوم إلا على هذا النظام الاقتصادي الربوي؛ لأن كل المعايير قد تغيرت، فسمي الربا اقتصاداً، وسمي النفاق مجاملة، وسمي الكذب دبلوماسية، وسميت الخمر مشروبات روحية، وسمي الغناء والرقص فناً، يريدون أن يجملوا هذه الأشياء بهذه الأسماء، فنقول: وإن غيرت الأسماء فلن تتغير هذه المسميات.

    انتشار الرشوة

    أيها الإخوان! إن هذه الغربة حلت في سويداء أنظمتنا كلها، حيث انتشرت الرشوة التي لعن الرسول صلى الله عليه وسلم فيها الراشي والمرتشي والواسطة، واستخف كثير من الناس بالأيمان وبشهادة الزور في سبيل مصالح مادية، وأكلت الأموال بطرق حرام متشتتة ومتعددة، تحقيقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان كلهم يأكلون فيه الربا).

    تفكك الأسر والمجتمعات

    لقد حلت هذه الغربة في أنظمتنا الاجتماعية فتقطعت أوصال الأسر، وأصبح العقوق منتشراً بين كثير من الناس، وقطعت الرحم بسبب مصالح مادية تافهة؛ بل لقد عاد الجار في كثير من الأحيان لا يعرف من هو جاره، وتمضي سنون وهو لا يعرف جاره؛ لأن جاره في الغالب لا يحضر الصلاة في المسجد، فيعيش سنين طويلة لا يرى في المسجد مرة واحدة، ولربما لا يدخل المسجد إلا حينما يقدم لتصلى عليه صلاة الجنازة، نسأل الله العافية!

    تقطعت الأوصال الاجتماعية بين الناس، وحلت هذه الغربة في الأنظمة الاجتماعية، فأصبح الأمر خطيراً.

    تفسخ الأخلاق وانتشار الرذيلة

    لقد حلت هذه الغربة في الأخلاق، حيث غزت هذه الغربة أنظمة الأخلاق؛ بل لقد تعمقت في هذه الأخلاق، فتفسخت المرأة وتبرجت وأخرجت كثيراً من مفاتنها، وصارت النساء الكافرات تجوب خلال الديار الإسلامية طولاً وعرضاً، لا يستطيع أحد من المسلمين أن يرفع رأساً وأن يقول: إن هذه امرأة يجب أن تقف عند حدودها، إلا ما شاء الله.

    لقد تبرجت المرأة المسلمة تقليداً للمرأة الكافرة، وأظهرت مفاتنها، وانتشر الفساد في البر والبحر، وانتشر الفساد أيضاً حتى في الجو يا إخوان! في الجو وعلى متن الهواء وعلى بعد آلاف الأمتار من الأرض يعصى الله عز وجل، حيث توضع نساء في الطائرات متبرجات أعظم من تبرج الجاهلية الأولى، تخرج سيقانها وركبها وشعرها وعضدها ونحرها وتقصد الركاب، وأهل الجاهلية الأولى قد كانوا خيراً منا في هذه الناحية، فقد كانوا إذا ركبوا في البحر دعوا الله مخلصين له الدين، يقول عز وجل عنهم: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:67]، ونحن على متن الهواء تعرض الأفلام الفاضحة الهابطة، والله لقد رأيت بعيني أفلاماً كلها جنس تعرض والناس بين السماء والأرض معلقين برحمة الله عز وجل، والمشركون وهم على الماء يدعون الله مخلصين له الدين في حال الشدة.

    إذاً: جاهلية اليوم أخطر وأخبث من جاهلية الأمس، فجاهلية الأمس كانوا يعرفون الله عز وجل في وقت الشدة ويغفلون عنه في وقت الرخاء، وفي أيامنا الحاضرة يغفل عنه كثير من المسلمين في أيام الرخاء والشدة.

    ثم إن المرأة قد قام لها أناس يطالبون بحقوقها وبحريتها، ولم يكتفوا بما وصلت إليه اليوم، فهاهم اليوم يقولون: نريد من المرأة أن تقود السيارة، ويقولون في الغد: نريد من هذه المرأة أن تأخذ كل ما يأخذه الرجل، وأن تختلط بالرجل في المعمل، وفي المكتب، وفي السوق، وفي المدرسة، وفي كل أمر من الأمور، هذه مطالب لا يقف أعداء الإسلام عند حد فيها، وهم الآن يتربصون بنا الدوائر، ويظنون أن دولة الإسلام شمس تكاد أن تأفل اليوم، فهم ينتظرون ساعة الصفر التي يعلنون فيها ما في قلوبهم من غل، ولكن الله عز وجل يقول: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:52].

    ولقد كانوا ينتظرون زوال فلان وفلان من الناس الذين هم حجر عثرة في سبيل تقدمهم كما يزعمون، ولكن خر عليهم السقف من فوقهم، ونجد والحمد لله في كل العالم اليوم صحوة إسلامية، تبين أن دولة الإسلام قد عادت كل العودة، وأن الغربة بدأت الآن ترتحل من أرض الله الواسعة لتترك مكانها لدين الإسلام.

    هذه الصحوة الإسلامية التي يتمتع بها شبابنا اليوم وفتياتنا، والذين يرفضون كل هذه التقاليد، ويرفضون كل تلك السموم، ويريدون أن تكون العزة لله عز وجل بحق، ويريدون أن تعود دولة الإسلام كما كانت في أيامها السابقة، ونسأل الله أن يحقق الخير على أيديهم.

    إخوتي في الله! إن غربة الإسلام اليوم قاسية، لكن لا نتناسى هذه الصحوة الإسلامية التي -والحمد لله- تعيش معنا اليوم ونعيش معها، ونسأل الله أن يثبت أقدامها، وأن يرزقها الاتزان والصبر والتحمل، لكن بالرغم من ذلك كله فما زلنا نعيش هذه الغربة، نعيشها في أخلاق الناس اليوم، وإني لأعجب كل العجب أن تصل هذه الغربة إلى أعماق رجولة الرجال، فقد رأينا كثيراً أو طائفة من الشباب يتنازلون حتى عن رجولتهم، وما كان ذلك في غربة الأمس؛ بل لقد كان العربي يعتز برجولته بالأمس بالرغم من أنه رجل جاهلي، ولكننا في أيامنا الحاضرة نجد كثيراً من الشباب بدءوا يتنازلون عن رجولتهم، يتأنثون كما تتأنث النساء، ويزاحمون النساء على موضاتهن وأشكالهن وصفاتهن في الابتسامة وفي الضحكة وفي الصوت وفي ضيق الملابس وفي شفافية الملابس، وربما يلبسون شيئاً من الذهب!

    وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم حينما سأله عمر عما سيحدث، فقال: (يا عمر ! ترك القوم الطريق وخدمهم أبناء فارس) انظروا إلى أبناء فارس الآن، هم الذين يقودون السيارات ببناتنا ويذهبون بهن إلى المدرسة وإلى الأسواق في كثير من الأسر؛ بل وبنات فارس الآن تعيش في قعر بيوت المسلمين من الفلبين ومن كوريا ومن كل بلاد الكفر، وبلاد الإسلام التي قد فقدت الإسلام الصحيح، وهب أنهم مسلمون ما داموا غير محارم لهؤلاء النساء فهذا عار وهذه مصيبة.

    وكذلك عندما يتزين الرجل منهم بزينة المرأة لزوجها، يتأولون كتاب الله، حيث يرددون قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ [الأعراف:32].

    أيها الإخوان! في جاهلية الأمس كان الرجل يعتبر أن من عرف اسم ابنته أو اسم أخته أو سمع صوتها عاراً، ويقول قائلهم:

    إياك واسم العامرية إنني أخشى عليها من فم المتكلم

    واليوم تسمعون وترون بأعينكم أخبار هؤلاء النساء إلا من رحم الله.

    1.   

    طرق ووسائل اجتياز المسلمين للغربة التي يعيشونها

    إن جاهلية اليوم أخبث بكثير من جاهلية الأمس، وغربة اليوم أقسى بكثير من غربة الأمس، وإذا كان في غربة الأمس يحارب الإسلام بـأبي جهل وأبي لهب وأبي بن خلف ، فإن في جاهلية اليوم يحارب الإسلام بعبد الله وعبد الرحمن وأحمد ومحمد، تحقيقاً لوعد أعداء الإسلام الذين قال قائلهم:

    إنكم لا تستطيعون أن تقطعوا شجرة الإسلام إلا بغصن من أغصانها.

    إن الذين يظنون أنهم سيحكمون المسلمين بقوة الحديد والنار مخطئون؛ لأن الإيمان أقوى من الحديد والنار، وإذا أردتم شاهداً على ذلك فانظروا إلى أفغانستان، لقد قدموا أكثر من مليون من الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، ومع ذلك ما لان القوم بقوة الحديد والنار؛ بل يقاتلون الأعداء بالحجارة وأعداؤهم يقاتلونهم بالمواد السامة وبأحدث أنواع الأسلحة.

    الإيمان أقوى من الحديد والنار، والذين يريدون أن يطوعوا المؤمنين بالترف والميوعة والفساد والمعصية مخطئون؛ لأن هذه الشعوب ستستيقظ في يوم من الأيام فلا تقبل هذا الترف ولا تقبل هذه الميوعة ولا تقبل هذا المتاع، لكن كيف نجتاز هذه الغربة التي نعيشها اليوم؟

    وبأي شيء نستطيع أن نحكم هذا العالم؟

    نحكمه بدين الله عز وجل، وحينئذ تمشي هذه الشعوب وتسير وراءنا بحق، وهكذا يستطيع القادة أن يحكموا العالم الإسلامي، ولذلك فإن التاريخ أكبر شاهد على ما نقول، فما استطاع أحد أن يحكم هذا العالم، وأن يذلل هذه الصعاب، وأن يجعل هذه البوادي وهذه الصحاري مدناً إلا حينما دعاها إلى دين الله عز وجل، ولعلنا نجد في سيرة الملك عبد العزيز رحمة الله عليه أكبر دليل على ذلك، فإنه ما استطاع أن يطوع هذه البوادي الجافة الجافية إلا بدين الله عز وجل، ولذلك فنحن نقول لخلفه من بعده: إنكم لن تستطيعوا أن تحكموا هذا العالم إلا بدين الله عز وجل، فنوصيكم بالثبات على دين الله عز وجل، وبتحكيم شرع الله عز وجل، ومن هنا نستطيع أن نجتازه هذه الغربة التي نعيشها اليوم.

    ثم أيضاً بالجهاد في سبيل الله نستطيع أن نجتاز هذه الغربة كما اجتازها سلفنا الصالح؛ وذلك حينما أعلنوا الجهاد في سبيل الله، وجعلوا حياتهم كلها في مرضاة الله عز وجل.

    أسأل الله تعالى أن يثبت الأقدام، وأن يرزقنا الاستقامة حتى نجتاز هذه الفتن التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها: (فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا).

    نسأل الله أن يحفظنا وإياكم من هذه الفتن، وأن يرزقنا القوة والصلابة في الدين، حتى نكون من المؤمنين الأقوياء من أجل أن نجتاز هذه الغربة، وحينئذ فإن الخير أمامنا بإذن الله كما كان أمام أسلافنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    1.   

    الأسئلة

    معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً ..)

    السؤال: أليس معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ) أنه سوف يعود إلى قوته وعزته الأولى كما كان ضعيفاً في بدايته، وذلك أننا نشاهد ولله الحمد الصحوة الإسلامية لدى الشباب اليوم؟

    الجواب: بالنسبة لمعنى الحديث هو لا يدل على أنه سيعود إلى قوة أخرى، وإنما يدل الحديث على ثلاث مراحل: غربة، ثم عودة القوة للإسلام، ثم غربة، وهذه المراحل الثلاث كلها مرت وعاشها الناس، لكن القوة الثانية في الغربة الثانية وإن لم يتعرض لها الحديث في لفظه وفي منطوقه لكنه تعرض لها في مفهومه؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: (فطوبى للغرباء) يدل على أن الغربة الثانية لها رجال، كما أن للغربة الأولى رجالاً اجتازوها.

    وعلى هذا فإن هؤلاء الرجال سيرجعون للإسلام عزته وقوته مرة أخرى، ومن هنا نستطيع أن نأخذ أن القوة الثانية بعد الغربة الثانية ستأتي على أيدي هؤلاء الغرباء الذين يجتازون الغربة الثانية، وعلى كل فإن هذه قد بدأت الآن بوادرها تظهر، كما يلاحظ في الصحوة الإسلامية الموجودة في أيامنا الحاضرة، التي سيكون فيها إن شاء الله خير كثير، وأيضاً قول الله تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، وإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الإسلام سيعود إلى عزته وقوته في أحاديث كثيرة، وأن المسلمين سيقاتلون اليهود ويختبئ اليهود وراء الشجر والحجر، هذه أدلة على قوة الإسلام وعزته.

    وعلى هذا فإن الغربة الثانية لها قوم يجتازونها، فيصلون بالإسلام إلى مرحلة القوة مرة أخرى.

    طرق إصلاح الأهل والأقارب

    السؤال: أنا شاب ملتزم ولله الحمد، أسأل الله لنا ولكم الثبات على ذلك، ولكنني أريد إصلاح أهلي وأقاربي، فكيف السبيل لذلك؟ وما هو أول شيء أبدأ به؟ جزاكم الله خيراً.

    الجواب: أما السبيل فهو الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فالله تعالى يقول: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]، وهذه الآية وإن كانت نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهله، لكن حكمها باق إلى يوم القيامة، فالإنسان أول ما يبدأ بأهله وأولاده وأهل بيته وأسرته، ثم يتوسع حتى يصل إلى كافة المجتمع، والسبيل إلى هذا الأمر هو استعمال طرق الدعوة الصحيحة، وأهمها: الحكمة، ومعاملة الأهل باللين والإحسان إليهم؛ حتى تستطيع أن تملك قلوبهم، ثم بعد ذلك توطن هذه الدعوة وتزيل الجفوة التي بينك وبينهم بإذن الله تعالى من هذا المنطلق.

    ثم أيضاً عليك أن تبدأ بالأهم فالأهم، فإذا كانت في بيتك أو في أهلك معاصٍ كبيرة فعليك قبل ذلك أن تقوي الإيمان في قلوب هؤلاء الأهل؛ لأنك حينما تقوي الإيمان ستزول هذه المعاصي وهذه الأشياء الممقوتة فيهم بطبيعتها؛ لأن ما حدث في بيوت المسلمين من المعاصي اليوم بسبب ضعف في الإيمان، وبسبب ضعف في اليقين، وبسبب ضعف في تصورهم لحقيقة هذا الدين وللحياة الآخرة، فعليك يا أخي! أن تقوي الإيمان، وأن تقوي اليقين في قلوبهم، وحينئذ بإذن الله ستستطيع أن تزيل ذلك بالتدريج.

    حقيقة ظهور الصحوة الإسلامية

    السؤال: نرى في هذه السنوات الأخيرة أن كثيراً من شباب اليوم -ولله الحمد والمنة- قد التزموا بدينهم، فبماذا تفسر هذه الصحوة؟

    الجواب: هذه الصحوة لم تأت فلتة، وإنما هي وعد من الله سبحانه وتعالى وعدنا بها حيث قال: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، وأخبرنا بأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأخبرنا الله عز وجل بأن الأيام يداولها بين الناس، فبمقدار ما نرى مما نكره سنرى ما يسرنا بإذن الله تعالى.

    وهذه الصحوة ليست وليدة عمل كبير، وإن كان هناك عمل، لكن هذه الصحوة وجدت في فترة استقرار وفترة خمول في كثير من الأحيان، وهذا دليل على أن دين الله سبحانه وتعالى ظاهر، سواء دعا الناس إليه واجتهدوا في العمل له أو لم يجتهدوا.

    علماً بأن هذه الصحوة والحمد لله لها خطباء استطاعوا أن يؤثروا على الناس، ولها موجهون ولها مربون.

    إذاً: هذه إرادة غالبة لله سبحانه وتعالى، حيث ظهرت الصحوة في هذه الفترة التي خاف فيها كثير من الناس على ضياع دين الله، والله عز وجل أعلمهم بدليل من الواقع يلمسونه بأعينهم ويشاهدونه بأن هذا الدين سينتصر، ورغم هذه الجفوة الشديدة التي أصيب بها المسلمون, ورغم هذا التسلط الشديد الذي مني به المسلمون على أيدي قادة كثيرين من العالم الإسلامي؛ ومع ذلك كله وجدت هذه الصحوة وفرضت نفسها في هذه البلاد الإسلامية والحمد لله؛ ولذلك لا تسافر إلى أي بلد من بلاد الله الواسعة -حتى في بلاد الكفر- إلا وتجد هذه الصحوة، بحيث لو ذهبت إلى أمريكا ستجد هذه الصحوة والحمد لله، وستجد كثيراً من شباب المسلمين يتمتعون بهذه الصحوة، نسأل الله تعالى أن يحفظهم، ولذلك فإنا لا نفسرها التفسير الحقيقي إلا أن الله أراد أن يظهر دينه، وأراد أن يعطينا درساً بأن هذا الدين باق، وأنه سيتغلب على كل الصعوبات وعلى كل المشاكل وعلى كل التحديات التي توجد في أيامنا اليوم.

    تفسير قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم...)

    السؤال: قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55]، أرجو شرح هذه الآية؟

    الجواب: شرح هذه الآية يحتاج إلى ليال، لكن ممكن أن نشرحها بإشارة يسيرة، يقول تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [النور:55] قوله: (مِنْكُمْ) خطاب للمسلمين خاصة، وهذا الوعد من الله سبحانه وتعالى له ثلاثة شروط وفيه ثلاث نتائج، إذا وفى المسلمون بالشروط الثلاثة حصلت النتائج الثلاث:

    الشرط الأول: (آمَنُوا).

    الشرط الثاني: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).

    الشرط الثالث: (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)، وكلمة: (شَيْئًا) في اللغة العربية نكرة جاءت في سياق النفي، والنكرة إذا جاءت في سياق النفي تعم، أي: باللات والعزة ومناة وهبل ونائلة وإساف، لكن يوجد الآن فلان وفلان من الناس يعبدون من دون الله في كثير من العالم الإسلامي، يوجد زعماء وضعوا أنفسهم مشرعين للبشر ويطيعهم الناس، حيث تركوا أوامر الله سبحانه وتعالى وتحاكموا إلى شرع هؤلاء الرجال.

    إذاً: هؤلاء الناس الذين يعبدون من دون الله من الشيء الذي قال الله عز وجل فيه: لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55].

    كذلك توجد الآن القبور التي تعبد من دون الله في كثير من البلاد الإسلامية، كذلك الدنيا تعبد من دون الله تعالى الآن، كذلك المال يعبد من دون الله تعالى الآن، كذلك الوظيفة تعبد من دون الله، بحيث تجد الشخص يتنازل عن دينه، حتى لا يحرم من وظيفته، ولو حلت عليه لعنة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يبالي ما دامت هناك وظيفة وما دام له مرتب، وما دام يستفيد من ذلك مادياً، هذا كله يخشى أن يكون داخلاً في الشرك الذي يقول الله عز وجل فيه: يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55].

    أما النتائج التي وعدها الله تعالى لهؤلاء الذين اتصفوا بالشروط الثلاثة فهي: (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ)، أي: تكون لهم الخلافة والقيادة في الأرض، ولذلك لما حقق سلفنا الصالح هذه الصفات تحققت لهم هذه النتيجة، فاستخلفهم الله تعالى، فكانت لهم الخلافة ولهم القيادة.

    وكذلك من النتائج: أن يمكن الله لهم دينهم الذي ارتضاه لهم، ومن النتائج: أن يبدلهم الله عز وجل بعد خوفهم أمناً.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755900811